ماذا يعني انتصار المقاومة الفلسطينية؟
تاريخ النشر: 12th, March 2024 GMT
ذهبت غالبية الأنظمة العربية والإسلامي فيما يخص الإجرام الصهيوني الأمريكي على الأشقاء في ارض غزة وفلسطين، إلى تأييد حرب الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وإدانة المقاومة الفلسطينية وأبرزها حركة حماس، وهي ذاتها المواقف -لو لم تكن حماس- لأن المهم أن لا تنتصر القضية الفلسطينية، بل أن يستمر الاحتلال ويسيطر ويقضي على كل شيء، والسبب في كل ذلك راجع إلى أن هذه الأنظمة بمختلف مسمياتها يعتمد وجودها مع المنظومة الاستعمارية الجديدية بقيادة أمريكا والمتحالفين معها، والتي يمثل الكيان الصهيوني أحد مكوناتها على الإطلاق.
فالتخادم الواضح بين أدوات السيطرة الممثلة بالأنظمة العميلة، والتحالف الصليبي الصهيوني، هو الذي صنع الأسطورة الصهيونية، ودمر الجيوش في كل مواجهة، وضمن لها التفوق والانتصار حتى قبل بدء المواجهة، في المجال العسكري، وهو الذي دمر الاقتصاد والتكامل والتوحد وزرع بذور الخلاف والشقاق بين الكيانات القطرية بعضها ضد بعض، وهي خطة يتم تنفيذها بعناية، أعدها “كامبل بترمان” 1905م وتمت مناقشتها حتى إقرارها عام 1907م، ومن أهم بنودها زرع الكيان الصهيوني على ارض فلسطين، والاستئثار بثروات الوطن العربي والإسلامي وجعل الكيانات القطرية هي الأساس.
لقد كشفت الأحداث على مدى الأيام الماضية أن غالبية الأنظمة العربية تدعم الإجرام الصهيوني الأمريكي، سراً وعلانية، وقبل ذلك دول الاستعمار القديم والحديث، وأن غزة لا يدعمها سوى القليل سراً أو جهراً، لكن اليمن تدعمها وتقف معها سراً وجهراً في السراء والضراء.
الإجرام بكل أشكاله وصوره يتصاعد، والشهداء يتزايد أعدادهم كل يوم، غالبيتهم أطفال ونساء وشيوخ وعجائز، وكلما انتهت مذبحة جاءت أعظم منها، يشاهد العالم ويتحرك الأحرار ويصمت العملاء والخونة، وكلما اتجهت الإرادة الأممية لإصدار قرار بوقف الإجرام يكون الفيتو الأمريكي بالمرصاد، ويؤيد ويدعم بالأسلحة، ويسكت الأنظمة العميلة، ويدعوها لمزيد من البذل لصالح المشروع الإجرامي ضد الأبرياء والمستضعفين في ارض الرباط.
لم يترك المجرمون الصهاينة جريمة من جرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، التي تضمنتها كل الوثائق والمعاهدات الدولية، إلا وارتكبوها وأضافوا إلى ذلك المسؤولية الفردية، والجماعية من أصغر جندي في الميدان إلى رئيس الوزراء، وكل المسؤولين فرادى وجماعات، وهي ذاتها توجهات السياسة الأمريكية، في فلسطين والعراض وأفغانستان وكل بلدان العالمين العربي والإسلامي.
إن أهم شيء يمكن الحديث عنه في معركة طوفان الأقصى هو أنها عرَّت معظم الأنظمة وكشفت حقيقتها أمام الرأي العام المحلي والعالمي، بعد أن كانت تدَّعي أنها مع دعم نضال الشعب الفلسطيني حتى تحريره من الاحتلال الصهيوني، ليتضح جلياً أن غزة تملك قرارها وأن تلك الأنظمة لا تملك أي شيء، بل إنها خاضعة وذليلة لمن أوجدها، ومن أوصلها إلى مراكز القيادة والسيطرة في بلدانها لخدمة أهدافه وتوجهاته.
ولذلك فإن حصار الأشقاء في ارض غزة ومنع وصول الأدوية والأغذية وكل مقومات العيش والصمود، هو من أجل تحطيم الإرادة لدى المقاومة والمساندة والمساعدة على تحقيق أهداف الحلف الصهيوني الصليبي الجديد، الذي يسعى لإبادة الأشقاء في أرض غزة أو تهجيرهم، حتى يتسنى له توطين قطعان المستوطنين الذين يتم استقدامهم من الدول الأخرى.
الكيان الصهيوني يمارس اليوم إجرامه ولا يخشى الأنظمة أو الشعوب، لأن من يقودون تلك الأنظمة هم يدينون بالولاء له، أما الشعوب فقد تم تدجينها بواسطتهم، وتقييد تحركاتها وتوجيهها إلى أهداف وغايات أخرى، تتناسب مع توجهات الحلف السابق.
إذا انتصرت المقاومة على أرض فلسطين، فإن الشعوب ستتحرك لإسقاط تلك الأنظمة العميلة والخائنة التي تعمل جاهدة على دعم اليهود بكل ما تملك، ولا استغرب أبدا إجابة المفكر العربي الراحل عبدالوهاب المسيري -رحمة الله- حينما سُئل عن النتائج التي تترتب على انتصار المقاومة على الكيان الصهيوني؟ حيث قال: إن الشعوب العربية والإسلامية ستتجه إلى محاكمة كل الأنظمة العميلة والخائنة.. وهذه هي الحقيقة التي أكدت عليها معركة طوفان الأقصى.
خلال السنوات السابقة من عمر الاحتلال وجدنا الهالة التي صنعها العملاء والخونة والحلف الصهيوني الصليبي، سواء لأمريكا أو لإسرائيل أو غيرهما من الدول، حيث عم تحطيم الجيوش العربية في النكسة والنكبة وتدمير المفاعل النووي العراقي، وشن الغارات على أقطار عدة واغتيال الكثير من الشخصيات السياسية والاجتماعية وغيرها، وتدمير البلدان العربية والإسلامية، وقبل ذلك تحطيم الإرادة والمقاومة لدى الشعوب والأنظمة، ما جعلها فريسة سهلة، بينما التاريخ يقول إن الشعوب لا تهزم إذا امتلكت إرادتها وحريتها، فقد استطاع الفيتناميون هزيمة أمريكا واستطاع الأفغان هزيمة الاتحاد السوفيتي وهكذا تصنع الإرادات النهايات العظيمة.
وحتى يفهم البعض حقيقة ما يراد من الحرب على غزة بتلك البشاعة والإجرام، يكفي أن نورد ما صرحت به السفيرة الأمريكية في القاهرة آن باترسون بأن عودة اليهود من الشتات ومن كافة بلدان العالم إلى الأرض الموعودة من النيل إلى الفرات، صارت وشيكة، وليس ذلك فحسب، بل إنها تحمّل المعتدى عليهم المسؤولية في ما يحدث لهم من إبادة، لأن هذه الحرب ستكون “هرماجدون” ستشارك فيها أمريكا وبريطانيا وحلف الناتو وكافة الدول المحبة للسلام لأجل إعادة الحقوق لأصحابها.
ولن تقف السفيرة بوقاحتها عند ذلك الحد، بل تتهم العرب والمسلمين بأن (طبيعتهم عنيفة ويميلون إلى الهمجية والإرهاب ويغارون من اليهود لأنهم أكثر تحضرا وتقدما وثراءً منهم والصراع سيكون من أجل البقاء والبقاء سيكون للأقوى)، إن هذه الأكاذيب التي تسوق لتبرير إجرام اليهود ضد الإنسانية بشكل عام وضد الأشقاء في أرض فلسطين، لم تعد تلقى رواجا، لأن هناك من أصبح يعي ويفهم المشكلة الفلسطينية بحقائقها لا بالأكاذيب حتى أن ما بين ثمانين إلى تسعين في المائة من الجيل الأمريكي الجديد، يرون أن الحل يكمن في استعادة دولة فلسطين وزوال الكيان الصهيوني المحتل.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
نحو منظور جديد للديمقراطية التمثيلية
معتصم الحارث الضوّي
23 ديسمبر 2024
مقدمة
إحدى مشكلاتنا المزمنة منذ أمد بعيد أننا نسخنا ديمقراطية وستمنستر في معظم ملامحها وتمظهراتها؛ ظانين أننا التحقنا بركب الحضارة واستلهمنا أفضل ما طرحه علماء السياسة من نظم الحكم.
تتحمل النخب السودانية التي تصدرت المشهد منذ ثلاثينيات القرن المنصرم هذه الجريمة، فنسبة لا يُستهان بها من ذلكم النفر تعرضت للقولبة الفكرية فتشوهت مداركها انسلاخا من الواقع المعيش، وتماهت مع المنظومة الفكرية البريطانية كاملة دون نقصان، وكانت النتيجة أنها تعالت على الإرث الثقافي المحلي، ولفظت أسه وأساسه، وتأففت من روابطها به، فكانت بحق مسوخا "ميتافورسيسية" كما حلا لكافكا تسميتها؛ لم تدرك أبعاد البرطنة "نسبة إلى بريطانيا"، ولم تعِ أبعاد الحصاد الوطني.
تلك علة أودتنا مدارك الردى، وصبغت واقعنا بعلقم مرير يتجرعه جيل الشباب بشكل خاص (أكثر من 60% من إجمالي السكان) صِرفا، وكانت ثانية الأثافي أن نشوء الأحزاب السياسية كان إثر صراعات سياسية مقيتة ثم مصالحات معيبة بين الطائفية والمتعلمين (ما يزال الكثيرون يخلطون بين المثقف والمتعلم!)، فكانت النشأة تعتورها الركاكة، والمنبت مثخنا بجراح التآمر، مشوبا بطرائق التحايل والاحتيال، والنتيجة هزائم مريرة في غير مُعترك.
أضحى نظامنا السياسي كائنا مسخا، يستمد صلفه، ويتغذى على أميبا حزبية لا تحذق العمل من أجل الوطن، بل حبك المؤامرات ونسج الدسائس، ودونك إن شئت كتاب د. فيصل عبد الرحمن علي طه الموسوم "الحركة السياسية السودانية والصراع المصري - البريطاني بشأن السودان : 1936-1953"، ومذكرات عبد الرحمن مختار المعنّونة "خريف الفرح أسرار السودان 1950- 1970"، وخلافهما كثير.
كانت النتيجة تأسيسا لمدرسة راسخة شملت الأحزاب من أقصى اليمين إلى اليسار، وكان جوهرها أن السياسة غش وخداع، وأن الممارسة الحزبية تلوّن ونفاق، وأن المسطرة هي المصلحة الشخصية ثم الحزبية، وأن الوطن والمواطن كم مهمل لا يُستدعى إلا لأغراض الكسب السياسي، ولا يُلقى إليه بال إلا عندما تدق صناديق الاقتراع أجراسها، ليُساق المواطنون زُرافات ووحدانا ليلقوا بطاقاتهم الانتخابية لصالح مرشح قد يجهلونه، ولكن الولاء الأعمى لمرشح الحزب والحمية القبلية وأوامر السيد/ الشيخ يجبرهم؛ حتف إرادتهم، على مرشح بعينه.
استمر الوضع المغلوط عبر العقود الماضية، ولم تفلح السلطة/ النخبة عبر الدورة الشيطانية للديمقراطية الخائبة والعسكر المتسلط في استنباط منظومة جديدة تستلهم واقعنا، وتنهل من موروثنا الثر، وتعبّر صادقة عن رغبات السواد الأعظم من الشعوب التي تتعايش داخل جغرافيا السودان.
حقّ علينا الآن، وخاصة في سياق التأسيس المبكر لمرحلة ما بعد الحرب أن نصطنع منظومة جديدة لتؤطر تعريف دولتنا، وأسس إدارتها، والمنطلقات الاستراتيجية لعلاقاتها الخارجية، والمبادئ الحاكمة لسوس مواطنيها، وقولبة العلاقات بين مكوناتهم بما يحقق المصلحة العليا للوطن.
كيف نؤسس لنظام عادل
السودان دولة متعددة الأعراق والثقافات، وبحكم الموقع الجغرافي كان بوتقة لانصهار ما يزال في سفر التكوين بين مكوناته الثقافية والحضارية، ولعجبي أن البعض يستبطئ تلك الصيرورة، ويستعجل النتيجة. يتمثل ذلك في الأسئلة المتكررة حد السقم من أمثال: هل السودان دولة عربية أم إفريقية؟ وهل شعبها إفريقي أم عربي؟
للإنصاف، ينطلق الكثيرون في طرحهم لهذه الأسئلة الحدّية والمعادلات الصفرية من رغبة صادقة بحسم الانتماء والهوية بُغية تحديد المنطلقات الأساسية تمهيدا للعمل على النمو السليم؛ سياسيا ومجتمعيا وثقافيا واقتصاديا.. إلخ. لكن أولئك النفر الكريم يغفلون عن حقيقة أساسية مفادها أن التحولات الاجتماعية والتلاقح الثقافي نحو وعاء جمعي لا يحدث بين عشية وضحاها، بل يستغرق قرون، ويتطلب جهودا مدروسة، ودونك إن شئت أمثلة أمريكا وماليزيا في تأسيس الشعوب، والهند وسنغافورة في إدارة التنوع والتأسيس الصلد لقيم التسامح والتعايش السلمي والقبول بالآخر، وفي كل الحالات تحدث تجاوزات من حين لآخر بلا شك، فالكمال لله وحده، ولكن الفيصل هو سلامة المبدأ وإيجاد الأرضية السليمة وتوفير العزيمة السياسية مصحوبة بإرادة شعبية يؤسس لها التعليم والإعلام ومنظمات المجتمع المدني (أسميتُهُ "ثالوث الانعتاق" في مقالة سابقة).
إذن، التأسيس لنظام حكم عادل في بلادنا مهمة شاقة، فالواقع –دون تجميل أو تزويق- يشير إلى تباينات مريعة في مستويات التعليم، وبالتالي الوعي، بين ربوع الوطن، ويشيرُ أيضا إلى أن المكونات القبلية والعرقية يلفظ كل منها الآخر، وينظر إليه نظرة دونية في سُلمٍ للتمييز العنصري ما يزال سائدا، بل حاكما، في مجتمعنا بالغ التعقيد والرجعية معا.
في هذا السياق من الجلي أن الأجيال الصاعدة قد استطاعت نسبيا كبح غلواء تلك النزعات العنصرية، وتجاوزت ذلكم الخطاب التقليدي، ولكن فئة الشباب، ورغم تناميها، ما زالت عاجزة عن اختراق الصروح التي شيدتها المجتمعات التقليدية في الأصقاع النائية، والتي ما يزال التأثير الأكبر فيها للشيخ المقبور، أو "الفكي" المحضور، أو زعيم القبيلة، أو غيره من قوى تُجذّر التخلف التي تسعى بلا كلل لتعطيل حاسة العقل، والإبقاء على أوضاع متخلفة لا تواكب مسيرة الحضارة، فهذا المجتمع بالغ التعقيد تتنازعه قوى الحداثة وجحافل الظلام، ويتناوش أفراده الحيرة والتأرجح بين الانضمام إلى ركب الحضارة أو الانغلاق في منظومات للتجهيل المطبق.
ثمة حاجة ماسة لاجتراح نظام سياسي ينطلق من ثوابتنا، ويستوعب اختلافاتنا، ويخطط لمستقبلنا بروية وحكمة، ويضع الحلول المسبّقة لكل القنابل الموقوتة، ويحقق تطلعات الجميع في الرخاء والسلام والتنمية، ويصوغ جدرانا قانونية صلدة تحول دون العبث بمقدرات الوطن أو بمصلحة أو مستقبل شعوبه.
هذا النظام لا يصح أن يطوّره البعض، بل يجدر أن تكتفي النخبة فيه بدور التعريف والتأطير والإدارة، وتدع الشعوب تُعرب عن رأيها الصريح: دون فوقية أو إملاءات، ودون تزييف للإرادة الجمعية.
هذا النظام يجدر أن يستلهم رأي الشعب في كل المسائل المصيرية عبر طروحات يسيرة الفهم، مصحوبة بحملات تعريف وتوعية عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حتى يكون الرأي الفصل ليس لحفنة من البرلمانيين حتى وإن كانوا مُنتخبين، بل الفاروق هو رغبة الشعوب التي تضمها هذه الجغرافيا، حتى وإن كان الثمن انفصال البلاد والذي ينظر إليه الكثيرون بأنه قد أصبح حتميا، بل وبدأت بالفعل جذوره تنبت على سطح الأرض.
هذا النظام يجب أن يتأسس على أن السياسي والمسؤول خادم للشعب (civil servant)، وأنه ليس مبعوثا للعناية الإلهية كما يعتقد البعض، وأن المصلحة الحكومية التي يرأسها أحدهم ليس عزبة تمتلكها أسرته، وأن سيوف المتابعة والمراجعة والمساءلة والثواب أو العقاب مُسلّطة على الجميع بلا استثناء بصرف النظر عن مناصبهم، وأن الدستور ومنظومة القوانين ليست لعبة يعدلها من شاء كيفما ومتى شاء وفق أهواءه ومصالحه الشخصية والحزبية.
هذا النظام هو ابن المعرفة التقنية الحديثة؛ يستلهم مفاهيمها ومنطلقاتها، ويطبق مناهجها وطرائقها في التعريف والتوعية ورصد الآراء، فقانون مقترح على سبيل المثال لا بد أن يُعرض على كافة قطاعات الشعب في كل أصقاع البلاد؛ تُعرّف وتُبشّر به وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وتُصوّت عليه الجماهير بوسائل إلكترونية وتقليدية حسب المتاح، بعد فهم شامل لمنطلقاته وأهدافه عبر وسائل حديثة مبتكرة (29% تقريبا من السكان يستخدمون الإنترنت، أي ما يقارب 14 مليون نسمة) إضافة إلى الوسائل التقليدية، وبالتالي يكون الحكم فعليا للشعب؛ في أنصع صوره وأكثرها تمثيلا للإرادة الشعبية.
هذا النظام لا محل فيه للمحسوبية، فكل شيء وإن صغُر يخضع للمراقبة، وكل مسؤول يعلم علم اليقين أن التجاوزات ستنقله على جناح السرعة من الكرسي الوثير إلى المقعد الخشبي في محكمة عادلة.
هذا النظام سيبني للمستقبل بخطى وخطوات راسخة، ويُعزز مبدأ أن القوانين هي التي تُعيد صياغة العقل الجمعي الخرب، وتنزع عنه درن التخلف، وفي الحالة السودانية فإن ذلك متطلب أساسي وعاجل، خاصة وأن نظام القتلة واللصوص (الإنقاذ إن شئت) قد دمّر نظام الدولة المدنية، ونشر من القيم الزائفة قدرا ملحوظا.
هذا النظام سيفرض قيمة التخطيط الاستراتيجي الشامل في قمة الأولويات، ويجعل من إدارات البحث والتطوير (R & D) ثوابت في كل مرافق الدولة وجزءا أصيلا من هياكلها، ومن منظومة الرقابة الإدارية عامل تطوير وتجديد مستمر لشريان الخدمة العامة.
هذا النظام لن ينطلق من العدم، فلا حاجة لإعادة اختراع العجلة، ولذا فإنه سيحتقب تجارب سياسية سابقة: سوفيتات البلاشفة، وتجارب جوزيف بروز تيتو، واللجان الشعبية في ليبيا، وإرث الحركة التعاونية الدولية، وعطاء مايكل ألبرت في الاقتصاد التشاركي "Participatory Economics"، وغيرها كثير من العطاء الإنساني المفيد عبر الزمان والجغرافيا والثقافة، ويُزاوج بينها ونتائج التشخيص المتقن لواقعنا بكل معطياته المتأزمة والمتشظية؛ مستبطنا ما يصلُح من الإرث الشعبي والثقافة السائدة، إضافة إلى عطاء المفكرين والمثقفين والتكنوقراط الشرفاء من داخل وخارج البلاد. لذا سيكون من الخطل وصمُهُ بالتلفيقي أو التوفيقي، بل الأقرب إلى الدقة وصفه بالانتقائي العقلاني (أو الاصطفائي الانتخابي).
هذا النظام لن يكون ديمقراطيا أو رأسماليا أو اشتراكيا أو ليبراليا.. إلخ بالتعريفات القياسية المتعارف عليها، بل المقام الأرفع فيه للقيمة الوظيفية ولتحقيق الغاية مع الالتزام الأخلاقي (أي بعيدا عن الماكيافيللية، باستثناء العلاقات الخارجية)، وليس الإغراق والاستغراق في متاهات فكرية متقعرة، فالأصل في الأمور البساطة، وقيل قديما إن الفكرة الفلسفية التي لا يمكن شرحُها في خمس دقائق لا تستحق عناء التفكير والبحث!
هذا النظام سيطرح منظورا مختلفا، فهو مُبتكر يستند إلى الحكمة والإنصاف، ويُعلي من صوت العقل والمنطق، وينحاز ضد التخلف وكل معاول التجهيل والتجريف الاجتماعي، ليؤسس لدولة (أو ربما دول!) سِمتها العقل في السلم والحرب، والإنصاف في كل الأحوال، والعقلانية في شتى المواقف.
هذا النظام؛ عندما تتفاعل الجهود وتتلاقح العقول النيّرة على اجتراحه من علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع وشتى العلوم، سيكون هاديا للركب وحاديا للمسيرة، وإضافة غير مسبوقة إلى المعرفة الإنسانية، ليُثبت بالدليل الملموس أن العقل لا غرو سيهدم أصنام الأفكار المعطوبة والإلهة الزائفة، وأن البقاء في ناموس الشعوب للأصلح فكريا والأحذق علميا والأفطن سياسيا.
moutassim.elharith@gmail.com