د. زاهى حواس يكتب: قصر الباشا.. أعظم قصور الزمن الجميل.. تراث غزة يتحدى الاحتلال!
تاريخ النشر: 11th, March 2024 GMT
هو واحد من أعظم قصور الزمن الجميل.. وإذا أردنا أن نعطيه حقه، فإنه أحد أجمل وأهم القصور الإسلامية التي تعود إلى العصر المملوكى، وأهميته ترجع إلى كونه القصر الوحيد الباقي من قصور مدينة غزة التي لا تزال تئن تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي ومن بعده الحصار الدامي من قبل إسرائيل، والذي يقف حاليًا عائقًا أمام ترميم هذا القصر الشامخ.
أيضًا يعاني القصر مثلما تعانى قصور مماثلة في بلادنا العربية، وخاصة في مصر من استعمالها كمدارس، وقد كان قصر الباشا مستعملًا كمدرسة يطلق عليها "مدرسة الزهراء الثانوية للبنات"، وقد استعملوا بعض غرف القصر كمكاتب إدارية للمدرسة، وذلك منذ أن كانت غزة خاضعة للحكم المصري.
ويطلقون على قصر الباشا العديد من الأسماء التي سمي بها عبر العصور المختلفة منذ زمن بنائه وإلى الآن، فكان القصر يعرف باسم قصر "النائب" لأن نائب غزة كان يتخذه مقرًا له خلال العصر المملوكي، وأطلق عليه كذلك قصر "نابليون" لأن القائد الفرنسي أقام به لمدة ثلاثة أيام وهو في طريقه لغزو عكا، ولعل من أجمل أسماء القصر "قصر الرضوان" نسبة إلى أحد حكام غزة، وكذلك أطلق عليه "دار السعادة" و"الدار العظيمة".. وكان القصر مستخدمًا كمقر للشرطة أثناء فترة الانتداب البريطاني.
وإذا دخلنا القصر نجده يتكون من طابقين، الطابق السفلى يضم ثلاث قاعات رئيسية تسمى بأسماء المدن الفلسطينية، فهناك قاعة القدس، وهذه قاعة يافا، وتلك قاعة حيفا.. أما قاعتا عكا والرملة فتقعان في الطابق العلوى، إضافة إلى عدد من الردهات والمبانى الخدمية داخل القصر والذى تحول الآن إلى متحف يضم آثارًا من مختلف العصور الإسلامية وبعضها يرجع إلى العصور القديمة.
وأهم الآثار التي يضمها القصر تعود إلى العصر اليونانى الرومانى والبيزنطى والعصر الإسلامي خاصة الفترة الأيوبية والمملوكية والعثمانية. وأهم زخارف القصر نجدها في الواجهة المميزة ذات العقود والزخارف التي تسمى في مصر بزخرفة الوسائد، وفى بلاد الشام بزخارف "كعاب الكتب".. وتشبه عمارة القصر عمارة الحصون ولذلك تم تشبيهه بالحصن، وقد تعرض قصر الباشا إلى عدد من النكبات سواء طبيعية ممثلة في الزلازل ومياه السيول، أو البشرية حيث تعرض لحريق متعمد أشعله بعض المستوطنين اليهود وكذلك تأثرت بنايته خلال الاجتياح الأخير لغزة.
وقد أعيد بناء وترميم قصر الباشا عدة مرات قديمًا خلال العصر المملوكي والعثماني.. ومنذ عام ١٩٤٧ والقصر أصبح مكانًا يرتاده السائحون إلى أن خضعت غزة للإدارة المصرية ويستعمل القصر كمدرسة تحمل اسم "الأميرة "فريال" ابنة الملك فاروق، وتغير الاسم إلى مدرسة الزهراء بعد قيام ثورة يوليو عام ١٩٥٢.
وحاليًا فإن دائرة الآثار والتراث فى غزة هى الجهة المسئولة عن الحفاظ على هذا الأثر الفريد بالإمكانيات البسيطة جدًا المتاحة لها.. وقد نجحت الدائرة في إعادة جمال القصر وهيئته الأثرية خاصة بعد أن تم فصل المباني الحديثة للمدرسة عن القصر.
وفي اعتقادي أن ما يقوم به قطاع الآثار فى غزة وموظفيه ملحمة حقيقية لإبقائه على قيد الحياة.. لابد من أن نكتب عنها، فهؤلاء الرجال يعملون بما يتوافر لهم من إمكانيات تكاد تكون منعدمة بكل حب وإخلاص من أجل إنقاذ آثار المدينة الحزينة للأجيال القادمة لعلها تكون أكثر حظًا وتستمتع بتاريخ وتراث مدينتهم.. هل يعقل مثلًا ألا يجد المسئولون فى غزة عن الآثار ما يحفظون فيه آثارهم فيضطر أحدهم كما حكى لي أن يحتفظ بصناديق الفاكهة الفارغة لكى يضع فيها آثارا هى كل ما تبقى من تراث عظيم.. يا له من زمن!.
د.زاهي حواس: من أهم الأثاريين المصريين، وزير سابق للآثار، يحاضر فى العديد من الدول الغربية حول الآثار الفرعونية وتاريخ قدماء المصريين. له مؤلفات بالعربية والإنجليزية فى هذا المجال.. يكتب عن قصر الباشا ذلك الأثر الفلسطينى الذى يتحدى الاحتلال فى مدينة غزة الصامدة.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: د زاهي حواس قصر الباشا الزمن الجميل العصر اليوناني العصر الإسلامي الآثار قصر الباشا
إقرأ أيضاً:
سامح قاسم يكتب | فتحي عبد السميع.. الكتابة من الجهة التي لا يلتفت إليها الضوء
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
ثمة أصوات في الشعر لا تُشبه أحدًا، تمضي بصمت، تتفادى الأضواء، لكنها تُقيم في جوهر الشعر نفسه، في طينته الأولى، قبل أن تمسه الأيدي وتُزَينه الصناعة. من بين تلك الأصوات، يقف الشاعر فتحي عبد السميع، لا يطلب الحفاوة ولا يمدّ يده لجمهور عابر، بل ينقّب، يحفر، يُفتّش في الظلال، ويترك القصيدة تمشي كما لو كانت نبتة برّية نَمَت من شق في الجدار.
ليست تجربته الشعرية محض انفعال جمالي، ولا تنتمي إلى تيار بعينه، ولا تتوسل الموجة، ولا تلتصق بصيغة واحدة. بل هي ضربٌ من الحفر البطيء في الذاكرة، وفي الجغرافيا، وفي اللغة، وفي خريطة الوجود البشري ذاته. إنّها قصيدة العزلة المختارة، حيث تتحول المفردة إلى أثر، والصورة إلى قلق، والمعنى إلى سؤال.
حين نقرأ فتحي عبد السميع، لا نُفكر في الجنوب كجهة، بل كوعي. الجنوب في قصيدته ليس موقعًا على الخريطة، بل شجرة أنساب، حيث ينبت الشعر من رماد الأسطورة، ومن صدأ الأيام، ومن الذكرى التي لا تموت. نشأته في محافظة قنا، بين أطياف القرى وجراح المدن الصغيرة، صاغتْ فيه هذا التوازن العجيب بين الحنين والحذر، بين التعلق بالجذور، والارتياب من ظلالها الطويلة.
هو لا يمارس الفولكلور، ولا يستعيد الجنوب بصفته مادة خامًا، بل يُعيد كتابته من الداخل، كما لو كان الجنوب نفسه من يكتب، عبر صوته، مرثيته للزمن. ولهذا نجد في قصائده تواترًا للمكان لا بوصفه حقلًا للحنين، بل كمجالٍ للكشف، وإعادة النظر. لا نجد الجنوب في النخيل فقط، بل في صمت النسوة، في عرق الفلاح، في مكر الأمثال، في غبار الطرقات، في ضحكات العجائز الملتبسة.
إنّ الجنوب عند عبد السميع ليس ديكورًا، بل ذاكرة كونية تُختزل في لقطة: باب مغلق، ظل على الجدار، عكاز في الزاوية، مشهد يُغني عن ألف رواية.
القصيدة عند فتحي عبد السميع لا تبدأ من اللغة، بل من الصمت. ولعلّ هذا ما يمنحها تلك الهالة الخفيّة، ذلك التردد الحزين الذي يسكن خلف الصور، ويمرّ في الخلفية كما يمرّ شبح في مرآة. كأنّ الكتابة عنده ليست فعل كلام، بل طقس إصغاء. الإصغاء إلى ما لم يُقل، إلى ما اختبأ في العادي واليومي والمُهمل.
هو شاعر التفاصيل الصامتة، لا يرفع صوته، لكنه يرفع وعينا. لا يُكثر من الزينة البلاغية، ولا يستعرض عضلاته اللغوية، بل يقدّم بيت الشعر كمن يُقدّم ماءً نقيًّا خرج توا من بئر مهجورة. الشعر لديه لا يحتفل بالعاطفة، بل يراقبها، ولا ينفعل، بل يُدبّر، ولا يبني أمجاده على الخراب، بل يُنصت إليه ليعرف كيف يُشفى.
هذه النزعة إلى الإنصات تمنح شعره خصوصية ما، وتُبعده عن خطابات الشعر الجاهزة: لا رثاء أجوف، لا بطولة، لا صراخ، بل إعادة اكتشاف للبساطة كقيمة، وللعادي كمأساة.
فتحي عبد السميع ليس شاعرًا فقط، بل هو عارف، بالمعنى الصوفي للكلمة. تتجلى هذه المعرفة في اشتغاله الطويل على الأمثال الشعبية، وقدرته النادرة على تفكيكها، لا باعتبارها أقوالًا ساذجة، بل كنصوص مكثفة اختزلت أعمارًا وتجارب.
الحكمة عنده ليست خاتمةً جاهزة، بل مسارٌ للانتباه. وهو حين يقترب من الموروث، لا يحنطّه ولا يتباهى به، بل يُزيل عنه الغبار، ويُعيد إليه دفء الاستعمال، ويُخضعه لأسئلته الخاصة. ولهذا فإنّ قصيدته في جوهرها، تكتب الذات وهي تتأمل الجماعة، وتستدعي الجماعة وهي تُنصت للذات.
قلما نجد شاعرًا معاصرًا يمنح اللغة كل هذا الاحترام الهادئ. عبد السميع لا يتعامل مع اللغة كوسيلة، بل كقيمة. لا يستعجل الصورة، بل يُنضجها على نار النظر الطويل، ولا يُراكم المجاز، بل ينتقيه كمن يقطف عنقودًا واحدًا من عنبٍ كثير. في الوقت الذي يُحتفى بالجرأة الفارغة والانزياح المستهلك، تبدو لغته نظيفة، كأنّها خرجت لتوّها من الغسيل، محمّلة برائحة قديمة.
في قصائده، الأشياء تُسمّى كأنها تُنادى باسمها الأول: الباب، القمر، الغيم، الحجر، النخلة، الظل. لكنه لا يكتفي بالاسم، بل يكشف عن الروح التي تسكنه. يُعيد للأشياء براءتها المفقودة، كما لو أنّه يربّت عليها، ويُطمئنها: ما زال هناك من يراها.
ليس كثيرًا أن يكون الشاعر ناقدًا، لكن القليل منهم من يستطيع الفصل بين الصوتين. فتحي عبد السميع يفعل ذلك بتوازن لافت. نقده لا يُخضع الشعر للمنطق، بل يحاور الشعر من داخله، يستنطقه، ويضيء زواياه الخفية. وهو حين يكتب عن شعراء آخرين، لا يمارس سلطة، بل يُشبه من يُنصت، ثم يُعلّق بصدق، ولو على حساب التواطؤ النقدي السائد.
هذه المزاوجة بين التجربة الشعرية والرؤية النقدية، منحت نصّه اتزانًا فريدًا، وصيرته شاعرًا لا يمشي خلف موضة، ولا يُعاد إنتاجه. بل ظل وفيًّا لصوته، لهذا النبع السريّ الذي لا يجري في نهرٍ واحد.
في شعره، نلمح الحكاية التي لم تُروَ، النخلة التي لم تُرَ، القمر الذي لم يُكتَب، والأم التي تمشي في الحقل من دون أن تنتبه أنها قصيدة تمشي. في شعره، ينسى القارئ أنه يقرأ، ويشعر فقط أنه يصغي، وأنّ هناك شيئًا حقيقيًا يحدث، شيء نادر، لا اسم له، لكنه يُشبه الحياة حين تصير أكثر جمالًا مما ينبغي.