لجريدة عمان:
2025-03-06@14:03:26 GMT

الإسلام وأهل الكتاب.. النشأة الإبراهيمية

تاريخ النشر: 11th, March 2024 GMT

رمضانَ الجاري.. أعرض فيه خمسة مقالات عن العلاقة بين الإسلام وأهل الكتاب، كثيرون كتبوا حول هذه العلاقة، بيد أن كتاباتهم مستمدة من التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي، أو بالتحليل التأريخي وفقًا لرؤية أيديولوجية مركبة من حقول معرفية مختلفة، وقليل مَن انطلق مِن النص القرآني الخالص.

المقال.. يقرأ هذه العلاقة من القرآن وحده، فإن قلتَ: أليس أيضًا هذا اجتزاء معرفي؟ قلتُ: عملي هذا.

. ليس تكوين رؤية ناجزة عن الموضوع، وإنما هو محاولة فهم الوضع القائم زمن النبوة، وأزعم بأننا كنا نقرأ القرآن بمعتقداتنا لا بما نطق به القرآن، ولعل هذه القراءة تضعنا على سكة الوعي بالنص الديني.

وجد نبي الإسلام محمد بن عبدالله في بيئة بها أكثر من ديانة، وكان أكثرها تأثيرًا والأقرب للتوحيد -مع الحنفاء- اليهودية والنصرانية، فلم يعمل على القطيعة العقدية التامة معهما، كما فعل مع الوثنية، وإنما بنى على معطياتهما باعتبارهما رسالات أوحي لأنبيائها من عند الله.

اليهودية والنصرانية.. تقدمان نفسيهما بأنهما تنتسبان إلى النبي إبراهيم، ليس باعتباره مرسلًا من الله فحسب، وإنما أيضًا باعتباره أبًا دمويًا ينتسب إليه بنو إسرائيل بكونهم حاملي الرسالة الإلهية من بعده، والمتمثلة في التوراة والإنجيل.

ومن المهم أن أبيّن بأن هناك فرقًا بين النصرانية؛ وهي الجماعة المنتسبة لدين المسيح في جزيرة العرب وما جاورها، وتتبع غالبًا المذهب النسطوري، وقت تنزُّل الوحي، وهؤلاء انقرضوا بمرور الزمن، إما بدخولهم الإسلام، أو بتحولهم إلى مذاهب أخرى.

وبين المسيحية؛ وهي المذاهب التي حصلت فيها تحولات عقدية بيّنة في الدولة الرومانية لتنشأ منها الكاثوليكية والأرثوذكسية، وأخيرا البروتستنانية.

ومن نافلة القول: إن اليهود لا يعترفون بالإنجيل لعدم اعترافهم بنبوة عيسى بن مريم، والنصارى يعترفون بالتوراة باختلاف بين طوائفهم في قبول بعضها ورفض الآخر، كما أن مفهوم النبوة في اليهودية يختلف عنه في الإسلام، وقد اعتمدت هنا المفهوم القرآني.

معتقد أهل الكتاب.. احتكار النبوة في نسل إسحاق بن إبراهيم، ولا يعترفون بها في غيرهم، ومن إسحاق كان يعقوب المعروف بـ«إسرائيل»، وعُرِف أبناؤه بالأسباط وهم اثنا عشر سبطًا كوّنوا بني إسرائيل، ولكنهم كانوا يعترفون بأن للنبي إبراهيم ابنًا أكبر من إسحاق هو إسماعيل، ومن المفترض أن ينال هو «العهد النبوي» بعد أبيه، إلا أنهم أبعدوه لأن أُمَّه -كما يعتقدون- أَمَة.

هذا معتقد يقوم على أساس عرقي بحت، اصطفاهم بأن يكونوا «شعب الله المختار»، وقد عالج القرآن هذا المعتقد بتقرير الآتي:

- اعتماد إبراهيم «إمامًا للناس»، بما يتجاوز الأبوة النَسَبية والاحتكار الديني والديانة المنغلقة بالشعب الإسرائيلي، الحاصل في اليهودية: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) البقرة:124 .

- تجريد العهد النبوي من الارتباط النَسَبي الذي اعتقده أهل الكتاب، فهو ليس حكرًا على نسل محدد، فعندما يفسد هذا النسل فليس لهم عند الله عهد: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة:124 . فـ(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) الأنعام:124 .

- رغم أن القرآن جرّد «الأبوة الإبراهيمية» من العنصرية النَسَبية التي اعتقدها بنو إسرائيل، إلا أنه -باعترافهم بأن إسماعيل هو الابن الأكبر للنبي إبراهيم وأب للعرب- أكد على هذه الأبوة للعرب أيضًا: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل) الحج:78 .

- إبراهيم.. لم ينزل فلسطين وحدها، وإنما نزل كذلك مكة، وله فيها مقام: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) آل عمران:96-97 .

- نزّه القرآن إبراهيم من الطائفية الدينية، فهو ليس يهوديًا ولا نصرانيًا، واستبدل بذلك الإسلام الحنفي: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، هَأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) آل عمران:65-67 .

وكل أنبياء بني إسرائيل من سلالته هم مسلمون: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) البقرة:132 . سيتحول الإسلام لدى المسلمين كذلك إلى «طائفة دينية»، لكن ليس هنا محل الحديث عن ذلك.

- كسر القرآن احتكار أهل الكتاب النبوةَ، فالنبوة.. بدأت من النبي نوح السابق على إبراهيم، ثم وجد أنبياء من بعد نوح وقبل إبراهيم، وهناك أنبياء عرب كصالح وشعيب وهود، بل هناك أنبياء لم يقصصهم الله، وبالتالي؛ محمد نبي يوحى إليه كأنبياء بني إسرائيل: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورا، وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) النساء:163-163 .

- بتجريد إبراهيم من اليهودية والنصرانية، وتقرير أن التوراة والإنجيل أنزلتا بعده، وأن الإسلام هو دين الأنبياء؛ لأنه دين إبراهيم، فإن أولى الناس به مَن اتّبعه، ومَن اتّبع الإسلام الحنفي «ملة إبراهيم» كالنبي محمد وأتباعه: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) آل عمران:67 .

- مع ذكر القرآن تفضيل بني إسرائيل على العالمين؛ لأن النبوة تسلسلت فيهم، إلا أنه نفى عنهم كونهم «شعب الله المختار»، فهم.. منهم المحسن والظالم كغيرهم من البشر: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) الصافات:112-113 ، ولذلك؛ أنكر الله عليهم اتكالهم على «التفضيل النَسَبي»، فما هم إلا بشر كغيرهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) المائدة:18 .

وخلاصة «النشأة الإبراهيمية» التي تربط بين الإسلام وأهل الكتاب، ظهرت بوضوح في كون إبراهيم أبًا أعلى للنبي محمد، وأنه كان حنيفًا مسلمًا، ولم يعترف القرآن بالتوراة والإنجيل مرجعًا لمعرفة النبي إبراهيم للمحاجة فيه، بل اعتبر من يقرر حقيقة إبراهيم هو الوحي الذي يأتي إلى الأنبياء؛ ومنهم النبي محمد.

وقد اقتصر القرآن في قصة إبراهيم لتأكيد هذه العلاقة على وجوده في مكة لرفع قواعد البيت، والتي رفعها هو وابنه إسماعيل، ولم يذكر القرآن صراحة بأن الذبيح هو إسحاق، فتخلخل الطرح التوراتي بهذا الشأن، واختلف المسلمون فيمن هو الذبيح بين إسماعيل وإسحاق، بل غلب التصور لديهم بأنه إسماعيل: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ... وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الصافات:102-112 . ولم يحكِ القرآن عن وجود إبراهيم في فلسطين، لتترسخ صورته في مكة التي بها بيت الله، وجعله أساس التوحيد.

وهكذا.. لم ينفِ القرآن علاقة بني إسرائيل بالنبي إبراهيم، فهم أهل الكتاب؛ التوراة والإنجيل، لكنه نقل محوريته منهم إلى «العرب الأميين»، ولذلك؛ وصف النبي إبراهيم بأنه «أُمَّة»: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) النحل:120 ، لتصح نسبة النبي محمد إليه، ويلزم بني إسرائيل اتباعه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) الأعراف:157، وستتحول «الأمية» التي يلمز بها أهلُ الكتاب العربَ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) آل عمران:75 ، إلى منقبة لهم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الجمعة:2 .

خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: النبی إبراهیم بنی إسرائیل أهل الکتاب آل عمران

إقرأ أيضاً:

مفتي الجمهورية يكشف أهم أخلاقيات الحرب في الإسلام

كشف الدكتور نظير عيَّاد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، عن أخلاقيات الحرب في الإسلام. 

وأشار "عياد"، خلال لقائه اليومي ببرنامج "اسأل المفتي" الذي يقدمه الإعلامي حمدي رزق على “صدى البلد”، إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوصي أصحابه بعدم الاعتداء على غير المحاربين، وعدم قتل الأطفال والنساء والرهبان، وعدم هدم دور العبادة.

آلاف المصلين يؤدون العشاء والتراويح بالجامع الأزهر في الليلة السادسة من رمضانشيخ الأزهر يشرح معنى اسم الله «الودود» في القرآنعلي جمعة يحذر من تصديق العرافين: الجن قد يتدخلشاهد.. صلاة العشاء والتراويح من الجامع الأزهر ليلة 6 رمضان

 وتابع مفتي الجمهورية، أن النبي عندما رأى التمثيل بجثمان عمه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- توعد في البداية بالانتقام، لكنه عاد وامتثل لأمر الله في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، فاختار الصبر ورفض الانتقام، ضاربًا بذلك أعظم الأمثلة في العفو عند المقدرة.

وختم فضيلة المفتي حديثه عن السيرة النبوية بقوله: "أين نحن اليوم من هذه القيم العظيمة؟! العالم يشهد حروبًا لا تراعي للإنسانية حرمة، بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع لنا دستورًا أخلاقيًّا في الحرب والسلم، يدعو للعدل والرحمة والتسامح".

مقالات مشابهة

  • (نص) المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد القائد 1446هـ
  • نص المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1446هـ
  • عصام الروبي: جبر الخواطر وقضاء حوائج الناس طريق لراحة البال
  • مفتي الجمهورية يكشف أهم أخلاقيات الحرب في الإسلام
  • وزير الثقافة: معرض الكتاب حقق إيرادات 954 مليون جنيه
  • وفاة الفنان الأردني إبراهيم أبو الخير
  • ما حكم التبتل؟.. نائب رئيس جامعة الأزهر يجيب
  • في رحاب نبي الله إبراهيم (ع)
  • الأمانة العامة لمجلس السيادة تنعي الأستاذة سمية إبراهيم عبدالرحمن