الإسلام وأهل الكتاب.. النشأة الإبراهيمية
تاريخ النشر: 11th, March 2024 GMT
رمضانَ الجاري.. أعرض فيه خمسة مقالات عن العلاقة بين الإسلام وأهل الكتاب، كثيرون كتبوا حول هذه العلاقة، بيد أن كتاباتهم مستمدة من التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي، أو بالتحليل التأريخي وفقًا لرؤية أيديولوجية مركبة من حقول معرفية مختلفة، وقليل مَن انطلق مِن النص القرآني الخالص.
المقال.. يقرأ هذه العلاقة من القرآن وحده، فإن قلتَ: أليس أيضًا هذا اجتزاء معرفي؟ قلتُ: عملي هذا.
                
      
				
وجد نبي الإسلام محمد بن عبدالله في بيئة بها أكثر من ديانة، وكان أكثرها تأثيرًا والأقرب للتوحيد -مع الحنفاء- اليهودية والنصرانية، فلم يعمل على القطيعة العقدية التامة معهما، كما فعل مع الوثنية، وإنما بنى على معطياتهما باعتبارهما رسالات أوحي لأنبيائها من عند الله.
اليهودية والنصرانية.. تقدمان نفسيهما بأنهما تنتسبان إلى النبي إبراهيم، ليس باعتباره مرسلًا من الله فحسب، وإنما أيضًا باعتباره أبًا دمويًا ينتسب إليه بنو إسرائيل بكونهم حاملي الرسالة الإلهية من بعده، والمتمثلة في التوراة والإنجيل.
ومن المهم أن أبيّن بأن هناك فرقًا بين النصرانية؛ وهي الجماعة المنتسبة لدين المسيح في جزيرة العرب وما جاورها، وتتبع غالبًا المذهب النسطوري، وقت تنزُّل الوحي، وهؤلاء انقرضوا بمرور الزمن، إما بدخولهم الإسلام، أو بتحولهم إلى مذاهب أخرى.
وبين المسيحية؛ وهي المذاهب التي حصلت فيها تحولات عقدية بيّنة في الدولة الرومانية لتنشأ منها الكاثوليكية والأرثوذكسية، وأخيرا البروتستنانية.
ومن نافلة القول: إن اليهود لا يعترفون بالإنجيل لعدم اعترافهم بنبوة عيسى بن مريم، والنصارى يعترفون بالتوراة باختلاف بين طوائفهم في قبول بعضها ورفض الآخر، كما أن مفهوم النبوة في اليهودية يختلف عنه في الإسلام، وقد اعتمدت هنا المفهوم القرآني.
معتقد أهل الكتاب.. احتكار النبوة في نسل إسحاق بن إبراهيم، ولا يعترفون بها في غيرهم، ومن إسحاق كان يعقوب المعروف بـ«إسرائيل»، وعُرِف أبناؤه بالأسباط وهم اثنا عشر سبطًا كوّنوا بني إسرائيل، ولكنهم كانوا يعترفون بأن للنبي إبراهيم ابنًا أكبر من إسحاق هو إسماعيل، ومن المفترض أن ينال هو «العهد النبوي» بعد أبيه، إلا أنهم أبعدوه لأن أُمَّه -كما يعتقدون- أَمَة.
هذا معتقد يقوم على أساس عرقي بحت، اصطفاهم بأن يكونوا «شعب الله المختار»، وقد عالج القرآن هذا المعتقد بتقرير الآتي:
- اعتماد إبراهيم «إمامًا للناس»، بما يتجاوز الأبوة النَسَبية والاحتكار الديني والديانة المنغلقة بالشعب الإسرائيلي، الحاصل في اليهودية: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) البقرة:124 .
- تجريد العهد النبوي من الارتباط النَسَبي الذي اعتقده أهل الكتاب، فهو ليس حكرًا على نسل محدد، فعندما يفسد هذا النسل فليس لهم عند الله عهد: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة:124 . فـ(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) الأنعام:124 .
- رغم أن القرآن جرّد «الأبوة الإبراهيمية» من العنصرية النَسَبية التي اعتقدها بنو إسرائيل، إلا أنه -باعترافهم بأن إسماعيل هو الابن الأكبر للنبي إبراهيم وأب للعرب- أكد على هذه الأبوة للعرب أيضًا: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل) الحج:78 .
- إبراهيم.. لم ينزل فلسطين وحدها، وإنما نزل كذلك مكة، وله فيها مقام: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) آل عمران:96-97 .
- نزّه القرآن إبراهيم من الطائفية الدينية، فهو ليس يهوديًا ولا نصرانيًا، واستبدل بذلك الإسلام الحنفي: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، هَأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) آل عمران:65-67 .
وكل أنبياء بني إسرائيل من سلالته هم مسلمون: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) البقرة:132 . سيتحول الإسلام لدى المسلمين كذلك إلى «طائفة دينية»، لكن ليس هنا محل الحديث عن ذلك.
- كسر القرآن احتكار أهل الكتاب النبوةَ، فالنبوة.. بدأت من النبي نوح السابق على إبراهيم، ثم وجد أنبياء من بعد نوح وقبل إبراهيم، وهناك أنبياء عرب كصالح وشعيب وهود، بل هناك أنبياء لم يقصصهم الله، وبالتالي؛ محمد نبي يوحى إليه كأنبياء بني إسرائيل: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورا، وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) النساء:163-163 .
- بتجريد إبراهيم من اليهودية والنصرانية، وتقرير أن التوراة والإنجيل أنزلتا بعده، وأن الإسلام هو دين الأنبياء؛ لأنه دين إبراهيم، فإن أولى الناس به مَن اتّبعه، ومَن اتّبع الإسلام الحنفي «ملة إبراهيم» كالنبي محمد وأتباعه: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) آل عمران:67 .
- مع ذكر القرآن تفضيل بني إسرائيل على العالمين؛ لأن النبوة تسلسلت فيهم، إلا أنه نفى عنهم كونهم «شعب الله المختار»، فهم.. منهم المحسن والظالم كغيرهم من البشر: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) الصافات:112-113 ، ولذلك؛ أنكر الله عليهم اتكالهم على «التفضيل النَسَبي»، فما هم إلا بشر كغيرهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) المائدة:18 .
وخلاصة «النشأة الإبراهيمية» التي تربط بين الإسلام وأهل الكتاب، ظهرت بوضوح في كون إبراهيم أبًا أعلى للنبي محمد، وأنه كان حنيفًا مسلمًا، ولم يعترف القرآن بالتوراة والإنجيل مرجعًا لمعرفة النبي إبراهيم للمحاجة فيه، بل اعتبر من يقرر حقيقة إبراهيم هو الوحي الذي يأتي إلى الأنبياء؛ ومنهم النبي محمد.
وقد اقتصر القرآن في قصة إبراهيم لتأكيد هذه العلاقة على وجوده في مكة لرفع قواعد البيت، والتي رفعها هو وابنه إسماعيل، ولم يذكر القرآن صراحة بأن الذبيح هو إسحاق، فتخلخل الطرح التوراتي بهذا الشأن، واختلف المسلمون فيمن هو الذبيح بين إسماعيل وإسحاق، بل غلب التصور لديهم بأنه إسماعيل: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ... وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الصافات:102-112 . ولم يحكِ القرآن عن وجود إبراهيم في فلسطين، لتترسخ صورته في مكة التي بها بيت الله، وجعله أساس التوحيد.
وهكذا.. لم ينفِ القرآن علاقة بني إسرائيل بالنبي إبراهيم، فهم أهل الكتاب؛ التوراة والإنجيل، لكنه نقل محوريته منهم إلى «العرب الأميين»، ولذلك؛ وصف النبي إبراهيم بأنه «أُمَّة»: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) النحل:120 ، لتصح نسبة النبي محمد إليه، ويلزم بني إسرائيل اتباعه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) الأعراف:157، وستتحول «الأمية» التي يلمز بها أهلُ الكتاب العربَ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) آل عمران:75 ، إلى منقبة لهم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الجمعة:2 .
خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النبی إبراهیم بنی إسرائیل أهل الکتاب آل عمران
إقرأ أيضاً:
أحمد علي سليمان: الصحابة احترموا آثار مصر وأكرموا أهلها
قال الدكتور أحمد علي سليمان، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، إنه حينما أشرقت أنوارُ الإسلام على أرضِ الكنانة، مصر التي امتدحها الله -سبحانه وتعالى- صراحة وكناية، في كتابه العظيم -القرآن الكريم-، ودخلها الصحابةُ الفاتحون، لم يحملوا معهم معاولَ الهدمِ أو الكراهية؛ بل جاءوا برسالةِ التوحيدِ، والرحمةِ، والعلم،ِ والخير، والعمرانِ، والبناء، والتعايش، والسلام.
وأضاف «سليمان» في تصريح له: «قد تعلَّمنا في رحاب الأزهر الشريف قيم الإسلام السمحة، وتعلَّمنا فيه أن الصحابة الكرام -وهم أقرب الناس لسيدنا رسول الله (ﷺ)، وهم مَن عايشوا أنوار تنزل الوحي الشريف- هؤلاء الصحابة حينما دخلوا مصر رأوا الآثار المصرية القديمة والباهرة، ومن بينها: الأهرامات، وأبو الهول، والمعابد، والتماثيل، والمسلات، والبرديات الباهرة وغيرها، لم تمتد أيديهم إليها بالهدم أو التخريب أو الاستهانة؛ بل تعاملوا معها بوعي ورشد حضاري، باعتبارها تراثًا لحضارة نابغة في شتى المجالات... لم ينظروا إليها على أنها أصنام تُعبد من دون الله كلا... ولو كانت كذلك لمَا تركوها.
وتابع: وشتان بين الأصنام التي تُعبد من دون الله، وبين الآثار التي تتضمن في كثير منها النقوش والكتابات التي والمعلومات التي أفادت البشرية وما تزال تفيدها، كما حدث عندما تم فك رموز حجر رشيد؛ فهي إذنْ إرث حضاري ومعرفي يضيء الطريق أمام الفكر البشري، ويعرفنا بالتاريخ القديم وتطورات الحياة، ويثري الحضارة الإنسانية، وينقل الخبرات عبر العصور.
وأكمل: ومن هنا أؤكد للعالم كله أنّه لم يرد أي نصّ أو خبر يُفيد بأن أيّ أحد من الصحابة الكرام (رضي الله عنهم) تعدى على آثار مصر، كما فعلت بعض الأمم عند غزوها للبلاد، مثل: التتار والمغول الذين دمروا ما وصلوا إليه، بل وصل بهم الأمر إلى أن جعلوا المخطوطات جسورًا نعم جسورا وضعها في الأنهار ليعبروا عليها.
مدير معهد الآثار الألماني بالقاهرة: افتتاح المتحف المصري الكبير حدث مذهل يليق بعظمة الإنجاز
أنوشكا لـ (أ ش أ): افتتاح المتحف المصري الكبير يعكس قوة مصر وريادتها
وواصل: أما الصحابة الكرام، فقد تركوا هذه الآثار شاهدة على حضارة عظيمة سبقَتهم، ولتكون للعظة والاعتبار والتعلم واستلهام القوة والمنعة والعلوم والاتقان، ولم يقتصر احترامهم على الآثار فحسب، بل شمل أيضًا دور العبادة الخاصة باليهود والمسيحيين، فأبقوها كما هي، وحموها، وحثوا المسلمين على احترامها، وحمايتها، ومراعاة مكانتها التاريخية والدينية.
واستطرد: لقد نظر الصحابة -الذين شرَّفوا مصر- إلى هذه الآثار كبقايا من التاريخ الإنساني، وحضارة سامقة تميزت في القيم والمُثل والطب والهندسة والصناعات اليدوية والأنشطة الزراعة والتحنيط والفلك والفنون والعمارة... وغيرها، وفهموا روح الإسلام التي تُقدّر العلم والعمران، وتحترم التراث الإنساني، وتُعلي من شأن "الخلافة في الأرض"، كما جاء في قول الله تعالى: (...هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...) (هود: 61)، أي طلب منكم عمارتها وتنميتها وتحقيق رقيها وتنميتها.
وأردف: لقد أثبت الصحابة العالم -عمليًّا- أنّ الإسلام جاء ليُكمِل لا ليبيد، وليبني لا ليهدم، فتعاملوا مع أهل مصر معاملةً راقية، فاحترموا عقيدتهم، وصانوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم، ورمموا ما يحتاج من كنائسهم، وأعادوا بناء ما هدمه الرومان بمشورة كبار العلماء. 
وتابع: وهكذا دخل المسلمون مصر فلم يظلموا أهلَها، ولم يهدموا بناءً، ولم يبدِّلوا معلمًا من معالمها، بل تركوا آثارها قائمةً تُذكّر بعظمة من مضى.. وهكذا ظلَّت الأهراماتُ والمعابدُ والمسلاتُ شاهدةً على تسامح الإسلام وعدلِ الفاتحين، وعلى أن الحضارةَ الإسلاميةَ لا تُبنى على أنقاضِ غيرها؛ بل تنهلُ من تجاربِ الأمم وبما يتوافق مع صحيح الدين والفطرة، وتُضيف إليها روحَ التوحيدِ والرحمةِ والعلم والسلام.
وأشار إلى أنّه منذ دخول مصر في الإسلام، لم يثبت أن أحدًا عَبَدَ أثرًا أو تمثالًا فرعونيًّا على أرض مصر، ولن يكون، ولن تسمح مصر أبدًا بذلك، فالعالم يأتي من كل صوب وحدب ليشهد شموخ الحضارة المصرية القديمة، ولم يأتِ أحد لعبادة الأصنام كما يدعي الجهلاء والسفهاء.
ونوه بأن مصر التي شيَّدت الأهرامات، هي نفسها مصر التي أنشأت الأزهر الشريف الذي نشر نور الإسلام في أرض الله.. مصر التي فتحت العالم بالإسلام، ومنها انطلقت دولة تلاوة القرآن إلى أنحاء العالم، حافظت على الدين الحنيف ونشرته في كل أصقاع الأرض. ولا تكاد توجد بقعة على وجه الأرض إلا وفيها خريج أزهري ينشر الإسلام الصحيح، وينشر السلام والوئام في كل مكان من أرض الله.
وأكد أن مصر لم ولن تفعل ما يخالف شرع الله، تحمي تراثها، وتكرم ضيوفها، وتطور مواردها؛ لتحسن حياة الناس وتقليل البطالة، مشيرًا إل أن مصر ترسل رسالة تاريخية وحضارية للعالم، مفادها: أنَّ حضارتها العظيمة قامت وترعرعت على ضفاف نهر النيل، وتشهد لها بها الأمم جميعُها، وأنَّها لن تفرط في قطرة من حقوقها، وستظل منارةً لنشر السلام من أرضها، أرض السلام، وستواصل حفظ تراثها، ونشر قيم المحبة في كل مكان.
مصر بلد التسامح والتعايش
وذكر أن في مصر، أرض الحضارات والتسامح والسلام، كان التعايش بين مكونات الوطن نبراسًا للناس. ولذلك، حين قام أحد الولاة بهدم كنائس، رأى الإمام الليث بن سعد –شيخ مصر وإمامها وفقيهها ومحدِّثها– أنَّ ذلك بدعة تخالف تعاليم الإسلام، فكتب للخليفة فاستجاب الخليفة لطلبه بإعادة بناء الكنائس، وإضافة كنائس جديدة، تأكيدًا على روح العدل والعمران وحفظ التراث.
وألمح إلى أن أمير الشعراء أحمد شوقي (رحمه الله) يصوّر في قصيدته "قبر الوزير" حالة عظيمة من التسامح والتعايش، مستلهمًا التعددية والتنوع والقواسم المشتركة بين الناس في مصر. فالشاعر، بفصاحته وعمق رؤيته، وحكمته يذكّرنا بأن الرسالات السماوية لا تدعوان إلى الفرقة، بل إلى الاعتراف بحرية المعتقد، واحترام حقوق الجوار، ومواجهة الشدائد بروح من التعاون والتعاضد والمحبة والسلام. بقوله:
إنّ الذي خلقَ الحياة وضدَّها * جعلَ البقاءَ لوجههِ إكراما
قد عِشْت تُحدِثُ للنصارى أُلْفة ً * وتُجِدُّ بين المسلمين وئاما
الحقُّ أبلجُ كالصَّباح لناظرٍ * لو أَنّ قومًا حَكَّموا الأَحلاما
أَعَهِدْتَنَا والقِبْطَ إلاَّ أُمّة ً * للأَرض واحدة تَروم مَراما؟
نعلي تعاليمَ المسيحِ لأجلهم * ويوقِّرون لأجلنا الإسلاما
الدِّينُ للدَّيّانِ جلَّ جلالُه * لو شاءَ ربُّكَ وَحَّدَ الأَقواما
يا قومُ، بانَ الرُّشدُ فاقْصُوا ما جرى * وخُذوا الحقيقة، وانبذوا الأَوهاما
هذي ربوعكمُ، وتلك ربوعنا * مُتقابلين نعالج الأَياما
هذي قبوركمُ، وتلك قبورنا * مُتجاورينَ جَماجمًا وعِظاما
فبحُرمة المَوْتَى، وواجبِ حقِّهم * عيشوا كما يقضي الجوارُ كراما.
ولفت إلى أنه أمس السبت 1 نوفمبر 2025م –وفي عصر سطوة الذكاء الاصطناعي– شاهدنا حدثًا تاريخيًّا استثنائيًّا في القرن الحادي والعشرين، حيث أبهرتها مصر، أم الدنيا -التي جاءت ثم جاء بعدها التاريخ- بجمعها بين الماضي والحاضر والمستقبل، باحتفال مهيب لافتتاح المتحف المصري الكبير (لحضارة واحدة هي حضارة مصر القديمة)، بحضور عالمي من قادة وملوك وحكام معظم دول العالم.
ونبه على أن هذا المتحف هو رمز حضارة مصر العريقة، التي شيدت الأهرامات، وصانت التعددية والمكونات الاجتماعية، ونشرت الإسلام الحنيف في كل مكان؛ لتؤكد أن الحضارات تكمل بعضُها بعضًا، وأنَّ مصر ستظل منارة للعلوم والثقافة والآداب والتسامح عبر العصور.
وختم برسالة قائلاً: «تحية لكل من فكَّر وخطَّط ونفَّذ وجهَّز لهذا الحدث العالمي الكبير، بقيادة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ورجال مصر المخلصين... تحيا مصر وتحيا الإنسانية».