علينا أن نتحدث عن المياه ونفادها في العالم
تاريخ النشر: 11th, March 2024 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
ثمة خلل في الخطة، وما هو بالخلل البسيط: إنما هو ثقب في حساباتنا بحجم الأرض كلها. ومن أجل أن نواكب الطلب العالمي على الغذاء، ينبغي أن ينمو إنتاج المحاصيل بنسبة 50% على الأقل بحلول عام 2050. ومن حيث المبدأ، وإذا لم يتغير أي شيء، فهذا ممكن، والفضل في ذلك يرجع جزئيا إلى التحسينات في زراعة المحاصيل وتقنيات الزراعة.
وحتى إذا ما نحينا جانبا جميع القضايا الأخرى من قبيل تأثيرات الحرارة، وتدهور التربة، والأمراض النباتية الوبائية التي تسارعت بسبب فقدان التنوع الوراثي، فإن هناك قضية واحدة قد تمنع سكان العالم من الحصول على الغذاء، دون مساعدة من أي سبب آخر. أعني الماء.
فقد قدَّرت دراسة نشرت في عام 2017 أنه من أجل أن يوازي إنتاج المحاصيل الطلب المتوقع، لا بد من زيادة استخدام المياه لأغراض الري بنسبة 146٪ بحلول منتصف القرن الحالي. لولا مشكلة بسيطة واحدة هي أن المياه قد وصلت إلى الحد الأقصى بالفعل.
بشكل عام، تزداد الأجزاء الجافة من العالم جفافا، ويرجع ذلك جزئيا إلى انخفاض هطول الأمطار، وجزئيا إلى انخفاض تدفق الأنهار بتراجع الجليد والثلوج الجبلية، وجزئيا بارتفاع درجات الحرارة بما يتسبب في زيادة البخر وزيادة رشح النباتات. وكثير من مناطق النمو الرئيسية في العالم أصبحت الآن مهددة بموجات «الجفاف المفاجئ»، حيث يقوم الطقس الحار والجاف بامتصاص الرطوبة من التربة بسرعة مخيفة. فلعل بعض الأماكن، من قبيل جنوب غرب الولايات المتحدة، التي تمر الآن بعامها الرابع والعشرين من الجفاف، قد تحولت بشكل دائم إلى حالة أكثر جفافا. وتعجز الأنهار عن الوصول إلى البحر، وتتقلص البحيرات وطبقات المياه الجوفية، وتنقرض سلالات تعيش في المياه العذبة بمعدل يقارب خمسة أمثال معدل الأنواع التي تعيش على الأرض، وتتعرض المدن الكبرى للتهديد بسبب الإجهاد المائي الشديد.
وتمثل الزراعة بالفعل 90% من استخدامات العالم للمياه العذبة. فقد قمنا بضخ الكثير للغاية من جوف الأرض لدرجة أننا غيرنا دوران الأرض. وببساطة باتت المياه اللازمة لتلبية الطلب المتزايد على الغذاء غير موجودة.
كان ينبغي لتلك الورقة البحثية المنشورة في عام 2017 أن تبعث الجميع إلى التدافع. لكنها تعرضت كالعادة لتجاهل صناع القرار ووسائل الإعلام. وفقط عندما تصل المشكلة إلى أوروبا، نعترف بوجود أزمة. لكن في حين أن هناك ذعرا مفهوما من جفاف كاتالونيا والأندلس، فثمة عجز شبه كامل من أصحاب المصالح القوية عن الاعتراف بأن هذا محض مثال واحد لمشكلة عالمية، هي المشكلة التي ينبغي أن تتصدر الأجندة السياسية.
وبرغم أن تدابير الجفاف أثارت احتجاجات في إسبانيا، فليست هذه بالنقطة الأكثر خطورة. فمياه نهر السند تشترك فيها ثلاث قوى نووية، هي الهند وباكستان والصين، والعديد من المناطق المنقسمة وغير المستقرة إلى حد كبير تعاني بالفعل من الجوع والفقر المدقع. واليوم، يتم استخراج 95% من مياه النهر في موسم الجفاف، ويستعمل معظمها في الري. ويزداد الطلب على المياه في كل من باكستان والهند بسرعة. ولن يمر وقت طويل قبل أن يبلغ العرض -الذي تعزز مؤقتا بذوبان الأنهار الجليدية في جبال الهيمالايا وهندو كوش- ذروته ثم يتجه نحو الانحدار.
وحتى في ظل السيناريو المناخي الأكثر تفاؤلا، فمن المتوقع أن يصل جريان المياه من الأنهار الجليدية الآسيوية إلى ذروته قبل منتصف القرن، وسوف تتقلص كتلة الأنهار الجليدية بنحو 46% بحلول عام 2100. ويرى بعض المحللين أن التنافس على المياه بين الهند وباكستان سبب رئيسي للصراعات المتكررة في كشمير. وما لم يتم التوصل إلى معاهدة جديدة بشأن مياه السند، مع أخذ انخفاض الإمدادات في الاعتبار، فقد يكون هذا القتال مجرد مقدمة لشيء أسوأ بكثير.
ثمة اعتقاد منتشر بأن هذه المشاكل قابلة للحل ببساطة عن طريق تعزيز كفاءة الري، حيث تهدر الزراعة كميات هائلة من المياه. فاسمحوا لي أن أعرض عليكم مفارقة كفاءة الري. في حين أن تطور التقنيات يضمن تقليل كميات المياه اللازمة لزراعة حجم معين من المحاصيل، يصبح الري أرخص. ونتيجة لذلك، يجتذب المزيد من الاستثمار، ويشجع المزارعين على زراعة نباتات أكثر احتياجا للمياه وأكثر ربحية، والتوسع في مناطق أكبر. وهذا ما حدث، على سبيل المثال، في حوض نهر جواديانا في إسبانيا، حيث أدى استثمار بقيمة 600 مليون يورو للحد من استخدام المياه من خلال تحسين كفاءة الري إلى زيادة استخدام المياه.
يمكن التغلب على هذا التناقض من خلال القواعد التنظيمية من قبيل قوانين الحد من استهلاك المياه الإجمالي والفردي. لكن الحكومات تفضل الاعتماد على التكنولوجيا وحدها. وفي غياب تدابير سياسية واقتصادية، لن ينجح ذلك.
وليس من المرجح أن يحل أصحاب التركيز على التقنيات هذه المشكلة. فالحكومات تضع مخططات هندسية ضخمة لتوصيل المياه من مكان إلى آخر. لكن انهيار المناخ وارتفاع الطلب يضمنان احتمالا للجفاف في العديد من المناطق المانحة للمياه أيضا. وفي العادة تكلف المياه الناتجة من محطات تحلية المياه خمسة أو عشرة أمثال تكلفة مياه الأرض أو السماء، في حين تتطلب عملية التحلية كميات كبيرة من الطاقة وتولد كميات كبيرة من المياه المالحة السامة.
نحن بحاجة في المقام الأول إلى تغيير نظامنا الغذائي. فينبغي لأصحاب الخيارات الغذائية المختلفة منا (أي النصف الأكثر ثراء من سكان العالم) أن يسعوا إلى تقليل البصمة المائية في غذائهم. ومع الاعتذار عن التهويل، فإن هذا يشكل سببا آخر للتحول إلى نظام غذائي خال من الحيوانات، بما يقلل الطلب الإجمالي على المحاصيل، وعلى استخدام المياه في أغلب الحالات. لقد أصبح الطلب على المياه لبعض المنتجات النباتية، وخاصة اللوز والفستق في كاليفورنيا، موضوعا رئيسيا في الحروب الثقافية، إذ يهاجم المؤثرون اليمينيون الأنظمة الغذائية النباتية. لكن برغم الإفراط في سقي هذه المحاصيل، إذ تحتاج أكثر من ضعف كمية مياه الري في كاليفورنيا لزراعة نباتات علف إطعام الماشية، وخاصة أبقار الألبان، فإن حليب الألبان يحتاج إلى كمية من الماء أكبر من أسوأ البدائل (حليب اللوز)، وهو أعلى بشكل فلكي من أفضل البدائل، من قبيل حليب الشوفان أو الصويا.
هذا لا يعني منح جميع المنتجات النباتية تصريحا مطلقا بالمرور: فالبستنة قد تفرض متطلبات هائلة على إمدادات المياه. وحتى في حدود النظام الغذائي النباتي، يجب أن نتحول من بعض الحبوب والخضروات والفواكه إلى أخرى. وينبغي أن تساعدنا الحكومات وتجار التجزئة من خلال مزيج من القواعد الأقوى والعلامات الإرشادية.
لكنهم يفعلون العكس. ففي الشهر الماضي، وبناء على طلب من المفوض الزراعي للاتحاد الأوروبي، يانوش فويتشيكوفسكي، حذفت المفوضية الأوروبية من خطتها المناخية الجديدة الدعوة إلى تحفيز مصادر البروتين «المتنوعة» (الخالية من الحيوانات). ولم تكن السيطرة التنظيمية أقوى مما هي عليه في قطاع الأغذية والزراعة.
وإنني لأكره أن أثقل عليكم أكثر مما أثقلت، لكن على البعض منا أن يحاولوا مواجهة التحيز اللانهائي في السياسة ومعظم وسائل الإعلام ضد ما له أهمية. وهذه قضية أخرى من القضايا الضخمة المهملة، وقد تكون أي قضية منها قاتلة للسلام والرخاء على كوكب صالح للحياة. فعلينا، بطريقة أو بأخرى، أن نستعيد تركيزنا.
جورج مونبيوت من كتاب الرأي في جارديان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: استخدام المیاه من قبیل
إقرأ أيضاً: