لأجل إعلام اجتماعي.. «الوسيط أهم من الرسالة»
تاريخ النشر: 11th, March 2024 GMT
لم يعد من الممكن الانصراف عن التطورات الهائلة التي تجذرت في السيسيولوجيا الجديدة والتي باتت تحيط بالظاهرة الاجتماعية وتعمل على الكشف عن دقائق الفعل الإنساني، وتبحث في طبيعة العلاقات التي تربط بين كل الفاعليات الاجتماعية كونها تحققت من جدارة «بينية» العلوم كدرس أبستمولوجي من غير المعقول الانسحاب من تبعاته أو التهرب من تجلياته، والحال كذلك فإن الخطاب الإعلامي تقوم وظيفته على تلخيص مضمون الحِراك الاجتماعي للكشف عن المنطق الداخلي والارتباطات المؤسسية المُحِيلَة أي نشاط لغوي إلى جُملة مفاهيم مُعاوِضة للبنى وجاعلة وظائفها أكثر محايثة للواقع وأنماطه المختلفة، وحاجتنا ماسة إلى محاصرة حالات الوثوقية في البنية الاجتماعية العامة والتي من مظاهرها تواضع إعلام الإنسان مما قد يقعد بعمليات التطور، ويجمّد الوعي ويطلق للتعصب والانكفاء علاماته المضيئة.
والخطاب الإعلامي يحمل في تجاويفه أغلب مظاهر الوعي الاجتماعي عابرًا بها من الصورة إلى الوظيفة، وقد توقف هذا الخطاب عن كونه مجرد ناقل إلى اعتباره جوهريًا في تتبع ورصد العلاقات بين البنى الاجتماعية المختلفة، وهذا هو مصدر المقولة الرائجة بأننا نعيش في «قرية كَونيَّة»، وهي عبارة دارجة في الأوساط العلمية والثقافية بعد الثورة التكنولوجية التي سهّلت عمليات الانتقال وَأَلغَت الحدود بين المجتمعات، ورغم أنها حققت هذا الفتح الكبير إلا أن مشكلة علاقة المعرفة بالهويات الاجتماعية المختلفة ظلت حاضرة وتضغط بتأويلها بصورة مستمرة، يحدث هذا مع تصاعد مدّ الليبرالية الجديدة والتي لم تكتف بصنع العالم على صورة واحدة بل انتهى جهدها إلى إعلان نهاية التاريخ البشري، وأن المتاح فقط هو إنزياحات جمالية مقهورة بالمعنى ومُطلَقْة الحريّة بقيّد اللفظِ لا الاختيار الحُر.
وفي ظل التعاظم الكبير الذي تمارسه التكنولوجيا في حياة الناس لم يعد الوسيط الإعلامي طامحًا إلى إعلان عمليات الإلغاء بل زادت حميّته ناحية اشتقاقات لا تسمح بالخصوصية مما جعل من الإعلام العالمي الجديد وبمختلف قوالبه طريقة لتفكيك التناسج الثقافي بل وتعدى طموحه إضعاف حقائق التنوع لصالح أغراض الوسيط المُحمل برسالة الآخر المطلق، وهذا ما حدا بالفيلسوف الفرنسي «ريجيه دوبريه -1940م» أن يعمل على اجتراح سُبل جديدة لمطاوقة المجال الذي تتحرك فيه المعرفة عبر/إلى المجتمعات، وهو يريد أن يفتح مسارات مفهومية أوصلت جهده إلى أن الشعار الكبير لنظريته حول الوسيط بالقول إن: «الوسيط أهم من الرسالة» وهو إذ يفعل ذلك فلأجل أن يلاحق التمددات المؤذية للخصوصيات الاجتماعية من قِبل اللّيبرالية وعقيدتها التي صارت أكثر ولعًا بالتنميط واكتسابها صفة العمومية بالقوة والتأثير، وهو ما بات يهدد المجتمعات المستهلكة للمعرفة ولا يسمح لها القيام بأدوارها لصالح ترسيخ بُنى الفهم وتعميق آثار الوعي المعبر عن حقائقها الاجتماعية، وذلك لأنها ببساطة لا تتحكم في الوعي بسبب أن العالم الأول يرسم لها خطاطات معينة كونه استطاع أن يجعل من الوعي رهينا للمدن المحمولة على البيانات.
وفي الراهن الذي نعيشه فإن الخطاب الإعلامي انتقل من مجرد آلية لتسويق المعرفة إلى قوة بناء المعرفة ذاتها، وبالتالي التحكم في تحويل الأفكار والمعارف إلى رؤية كونية قادرة على العمل والتأييد دون رقيب، ومن معالم الخطاب الإعلامي العالمي الراهن وهو يسير في كنف السيسيولوجيا الجديدة أنه يمارس القمع بالأرقام والإحصاءات، أما إنسان هذه المجتمعات فهو رهينة وينبغي عزله أكثر عن وسطه وقيمه لذا بات الإعلام غير معني بالاختلاف وتصعيد جدارات الحوار بين المجتمع ومؤسسات صناعة الرأي، وهنا فإن ما نحتاجه في عالمنا العربي أن يمارس الخطاب الإعلامي وظيفة الترويج والتأثير ولكن عبر بناء المعرفة، وليفعل ذلك فإنه مطالبٌ بالخروج من سوء الظن العريض بنفسه كونه ناقل فقط إلى تحقيق التنظيم والترويج والتأثير على الفاعل الاجتماعي.
إن الوسائط ليست بريئة فهي نتاج أيديولوجيا بعينها «أيديولوجيا العولمة» وتعميم الكوني على الخصوصي، ولذا فإن دراسة المحتوى في هذه الوسائط لا يمكن أن تتم بمعزل عن الأساس الثقافي الذي قامت عليه، ودور الإعلام الآن القيام بإعادة إنتاج ما تُصَدِره الأنظمة الاجتماعية والعمل على تعميم المضامين العُليا طمعًا في النفاذ إلى حقائق مجتمعاته لصالح عمليات الانتقال الإيجابي وتثبيت مفهوم أنسنة الخطاب الإعلامي، ويحتاج كذلك إلى الاتصال بالسيسيولوجيا والاعتراف بها كدرس إلزامي لفهم المجتمعات فوسائله المختلفة تحتاج أن يعاد النظر في وظيفتها والبحث عن طبائعها وأدوارها، وذلك لأجل معرفة التحولات الاجتماعية الكبرى التي تعيشها المجتمعات العربية هذا إن كانت وسائل الإعلام بمختلف أشكالها لا تزال بحاجة إلى تمديد حضورها داخل البنى الاجتماعية المختلفة لتستطيع القيام بدورها في فهم المجتمع وآفاقه المتماوجة وتقوم بعمليات التعبير عنه بصورة حقيقية.
إنه ولأجل القيام بهذه المَهمة، مهَمة تحديث الخطاب الإعلامي فإن ربطه بالفاعل الاجتماعي عبر آليات البحث الميداني وبناء إعلام الواقع والتركيز أكثر لا على الفعل بقدر الفاعل الاجتماعي سيرتفع بالخطاب إلى مستوى التمثيل، ومن المهام التي تنتظر المؤسسات الإعلامية أن تُعَظِّم حضور المجتمع لتؤسس خطابها على هدىً من واقع إنسانها وحقائقه الاجتماعية والاقتصادية، وهنا فإن الأجهزة الإعلامية مطالبة بتطوير وسائطها والخروج من القوالب التقليدية والتبويبات إلى صناعة إعلام تفاعلي يعيد للصحيفة والشاشة والصوت الموقع المؤثر في السياق الاجتماعي.
غسان علي عثمان كاتب وباحث سوداني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الخطاب الإعلامی
إقرأ أيضاً:
بلا عنوان!
لينا الموسوي
اقتربت السنة على الانتهاء وأنا أبحث لها عن عنوان، إنِّها سنة متنوعة الأحداث مليئة بالمنعطفات والانحدارات في جميع المستويات وعلى جميع الأفراد في مختلف المجتمعات تقريباً.
إنها سنة على رغم الصعوبات التي تعرضت لها بعض المجتمعات من حروب وآلام وضغوطات وأهوال وأحداث. لكنها لم تخلو من الانفراجات والإشراقات كبصيص أمل يضيء لهم القادم من الطرقات.
أصبح العالم في الحقيقة يدور في مسار واحد حول نفسه رغم اختلاف مجتمعاته وثقافاته، يتأثر بالأحداث التي تحدث من حوله لأي مجتمع من المجتمعات سلباً وإيجاباً وهذا يعود إلى الإعلام التقني الذي أصبح يؤثر وبقوة شديدة على نفوس وعقول أفراد المجتمعات فيُغير توجهاتهم وأحيانا مخططاتهم إلى القادم من الحياة، حيث إن قوة التواصل التقني والحرية المتكاملة في نشر المواضيع والأفكار أصبحت تؤثر سلباً أو إيجابا على حياة الأفراد؛ حيث يتأثر الفرد في اللاشعور بما يُقال وما ينشر من حوله، فينعكس ذلك بالطبع على حياته الطبيعية وإنتاجه وقراراته ومزاجه فنجده إما يعطي ويتقدم أو يفقد شغفه ويتأثر بما يدور من حوله فينجرف مع الأمواج أحيانا.
ما حدث خلال السنوات الأخيرة من أحداث غيرت معالم لوحات سنوات حياتنا في رأيي لتجعلها لوحات تجريدية متنوعة الألوان خالية من المعالم المحددة الدقيقة الواضحة الأفكار، نقرأها أو نفهما حسب ما تراه عقولنا ونفوسنا ومفاهيمنا وشخصياتنا. فلا نستطيع أن نحدد من خلالها وجهات نظر معينة أو مسارات قادمة مترقبين متفائلين لما ستقودنا إليه عقولنا.
من الصعب على الإنسان أن يعيش من غير أفكار أو معالم معينة يحدد بها عناوين لوحات حياته القادمة مهما تكن تلك الأفكار بسيطة أو مجردة، وإن تغيرت أحيانا المسارات وأخذت الفرشاة ترسم في زوايا أخرى من تلك اللوحات لكنها تبقى تبحث عن الأسلوب أو المسار الذي تتخذه تلك الفرشاة لرسم تلك الأفكار بالقوة الداخلية الموجودة داخل روح الإنسان والتي تغذى بالإيمان واليقين بالله.
لذلك علينا أن نتحكم جاهدين بما نتعرض له من اضطرابات نفسية سواء مفرحة أو محزنة وأن نتأكد من المنقولات سواء كانت كلمات أو مقولات وأن نحذر الشائعات والخزعبلات التي تعرض أنفسنا وصحتنا إلى اضطرابات قد تكون قوية وذات وقع شديد علينا وتأثر سلبا على إنتاجنا واتخاذ قرارات حياتنا فتعمى أعيننا عن رؤية الإيجابيات وما تجلبه لنا الحياة من أفراح ومسرات، وأن نحدد عناوين وملامح وأفكار لوحات سنوات حياتنا القادمة فتكون مبنية على فكر معين ومسار واضح، وإن اندمجت الألوان وتنوعت الخلطات لكننا لا نعلم بما هو آت من أفراح ومسرات هدية لنا من الرحمن.