الظفر بالعقول كان ومازال جزءا لا يتجزأ من الآلة الحربية، بل كان بديلا للحرب العسكرية في كثير من الأحيان، ولعل أبرزها الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الشيوعي والتي أدت إلى انتصار الولايات المتحدة وانهيار الاتحاد السوفييتي بدون حرب عسكرية ولكن بفعل الدعاية والتأثير الإعلامي. وشهد العالم في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي تطورات وتحركات سياسية كبيرة ساهمت في تعزيز دور الوسائل والأساليب الإعلامية والاتصالية من أجل تحقيق غاياتها وأهدافها وتعميق مبادئها والترويج لأيديولوجيتها.

إلا أن معركة العقول بدأت مع ظهور وسائل الإعلام الجديد وبروز أدوار الفاعلين الجدد في المشهد السياسي الدولي، حيث يتضح جليا الدور الذي يؤديه الإعلام الجديد في الحروب الدائرة. وبالتالي فإن النظر إلى متغيرات ومفارقات الممارسات والسياسة الإعلامية في الحرب ولاسيما في منطقة الشرق الأوسط يتطلب استطرادا لأهم نكبتين تاريخيتين في المنطقة؛ ولعل أبرزهما معركة الحواسم وطوفان الأقصى.

يعد الغزو الأمريكي للعراق، المرة الأولى التي يختفي فيها الخطباء الساسة وتدخل فيها الفضائيات والإنترنت إلى جانب الصحافة ووكالات الأنباء والإذاعة والتلفزيون في صراع معلوماتي مقنن ومدروس أقرب للدعاية أو لنقل «حرب قصف العقول» حسب ما وصفها فيليب تايلور. فقبل بداية القصف الصاروخي الأول للحرب الأنجلو أمريكية على العراق، كانت عدسات الصحفيين والمراسلين كلها مصوبة نحو بغداد لتكون الحرب الأولى من نوعها التي يتم نقلها نقلا حيا مباشرا. والمتتبع للتواجد الإعلامي الغربي ولاسيما «سي. أن. أن» والتي كانت تتمركز في معاقل القوات الأمريكية الغازية المنتشرة برا وجوا، يدرك أن الكثير من التغطيات والتقارير كانت محكومة بوجهة نظر البنتاغون والقادة العسكريين الأمريكيين. فقد شاركت وسائل الإعلام الأجنبية على اختلافها في التضليل الزائف والترويج الواهي لمأرب الحرب مدعين أن المهمة الأمريكية في العراق تهدف لتحرير الشعب العراقي من نير نظامه. والمتتبع لحال الإعلام الغربي يجد أن التجرد من الإنسانية والتجاهل المستمر لحجم الخسائر في أرواح العراقيين كان السمة الأبرز في تغطية أخبار الحرب. ناهيك عن الروايات الإعلامية المحرفة لتقليب الرأي العام المحلي والعربي على القوات المعتدية.

وعلى النقيض من حرب الخليج 1990-1991 والتي هيمنت فيها الفضائيات الغربية على تسيس وأدلجة المشهد الإعلامي القائم على الفبركة والتضليل الزائف للوقائع والأحداث، برزت القنوات الفضائية العربية -وعلى رأسها الجزيرة- للمنافسة في الميدان العسكري لصياغة أحداث الغزو الأمريكي للعراق والذي راح ضحيته أكثر من مليون عراقي. وبالرغم من أن الجزيرة لا تمثل طرفا في هذا النزاع، إلا أن الخطاب الإعلامي للجزيرة كان يتمحور حول حقيقة «القوات الغازية» وعدم قانونيتها وشرعيتها، كما كان التسليط حول العديد من جرائم الحرب التي ارتكبت هناك والتي لطالما أنكرتها وغيبتها الصحافة الأمريكية والعالمية. وتفردت الجزيرة في نقل آثار القصف والدمار الذي تحدثه الآلة العسكرية الأمريكية والتي على أثرها تم اتهامها بالتحريض والتسبب في تغذية مشاعر معادية للأمريكيين. كما تفردت الجزيرة في نقل الصور الأولى للأسرى والقتلى الأمريكيين، ونقل خسائر القوات الأمريكية.

وفي فلسطين، تمارس السلطات الإسرائيلية سلسلة من الإجراءات لتقييد وسائل الإعلام الأجنبية من نقل وقائع الإبادة الجماعية الصهيونية في قطاع غزة؛ إذ تمنعهم من الدخول إلى قطاع غزة دون تصريح من جيش الاحتلال، وفي حالة السماح بدخولهم يكونون مقيدين بمواقع محددة ولمدة معينة برفقة الضباط العسكريين للتحكم الكامل في الصورة التي ينقلونها ولا يسمح لهم بالتواصل مع الفلسطينيين. من بين الأوضاع الاستثنائية التي تشهدها الحرب في قطاع غزة، كان الظهور الواسع للصحفيين المستقلين هو الأبرز، إذ شن جيش الاحتلال هجوما تحريضيا لوسائل إعلام دولية لتواطؤها - حسب مزاعمهم- مع هؤلاء الصحفيين متهمةً إياهم بالمعرفة المسبقة بوقوع هجوم «طوفان الأقصى» وهذا ما تم نفيه من قبل الوكالات الغربية.

ومن المهم أيضا تتبع حرب السرديات في الإعلام العربي. فالمنطق يتوجب تقديم تغطية إعلامية تدعم سردية مقاومة الاحتلال وفضح جرائمه وانتهاكاته بحق الفلسطينيين، إلا أن دخول بعض الدول العربية ضمن موجة التطبيع الجديد مع الاحتلال الصهيوني حال دون ذلك. إذ أن التغطية تبلورت حول الجانب الإنساني والتركيز على حالات الفزع الرعب بين أوساط سكان غزة جراء مبادرة المقاومة بالهجوم.

والحديث عن النزاع المسلح في العراق وفلسطين يقودنا إلى استطراد الهجوم المتكرر وحالات العنف ضد الصحفيين. وهذا الاستهداف المتعمد للعاملين في حقول الصحافة والإعلام ليس مجرد سلوك ميداني عابر، بل هو ردة فعل أو سلوك ناجم عن سياسة أمنية مدروسة تُعبِّر عن اختيارات الدول المعادية. فادعاءاتهم بالحرص على احترام الصحافة والصحفيين فضحتها تجاوزاتهم الإجرامية في مواقع كان بها صحفيون. وتتصاعد أعمال العنف ضد الصحفيين وعلى مدى الأشهر الخمسة الماضية منذ بدء الحرب الإسرائيلية في 7 أكتوبر الماضي، فقد ارتفع عدد الصحفيين الذين استشهدوا حتى منتصف فبراير الماضي إلى أكثر من 130 صحفيّا وهو عدد يتخطى بأشواط مجمل عدد الصحفيين الذين قُتلوا حول العالم في عام 2023؛ مما جعلها تتصدر خارطة أكثر أماكن العالم خطورة بالنسبة للصحفيين حسب تقارير لجنة حماية الصحفيين.

وبالنظر إلى هذه الأرقام في سياقه، نجد أن الصحفي بات موضع انتهاك واستهداف متصاعد من كل الأطراف المتنازعة دون وضع أدنى اعتبار للدور المهني والإنساني الذي يقدمه. فالاحتلال يعمد إلى تخويف الصحفيين وردعهم عن مواصلة عملهم من خلال خلق جو هستيري ملغم بعيد تماما عن المعقولية في محاولة يائسة منه لإسكات صوت رسل الحقيقة والتعتيم على حرب الإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة. وذكرت صحيفة «ميديابارت» الفرنسية أن إسرائيل «تسعى إلى قتل الصحفيين كي لا يكونوا شهودا على جرائمها».

إن الحديث حول أدوار وسائل الأعلام في الحروب، يقودنا بالضرورة إلى الإشادة بالساحة الافتراضية (وسائل التواصل الاجتماعي) منذ بدء العدوان الصهيوني والتي شهدت نشاطا مضادّا للسردية الصهيونية والعمل على كشف زيفها. ورغم ذلك يبقى هناك تباين صارخ بين الرأي العام المناضل للقضية الفلسطينية وآراء القادة والنخبة في بلدان الديمقراطيات الغربية.

وختاما، فالمتتبع لتعاطي وتغطية الإعلام للحروب والنزاعات المسلحة يجد أنه رغم زخم الثورة المعلوماتية الرقمية وتكاثر وسائل الإعلام وتعدد أدواته، إلا أنه لم يتغير الكثير سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. فبعد أكثر من 20 عاما على الغزو الأمريكي للعراق لم يخضع أي من السياسيين أو العسكريين للمحاسبة. وعلى مدار خمسة وسبعين عاما على النكبة الفلسطينية مازال مشهد التشويه والتسقيط والتنكيل بالحقيقة ملطخا بدماء الاحتلال الصهيوني.

د. موزة بنت عبدالله الرواحية أستاذة مساعدة بكلية الآداب الاجتماعية، قسم الإعلام.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: وسائل الإعلام قطاع غزة إلا أن

إقرأ أيضاً:

رئاسة مجلس الوزراء: عدم قبول أي بطاقة إعلامية غير صادرة عن وزارة الإعلام أو اتحاد الصحفيين

دمشق-سانا

أصدر رئيس مجلس الوزراء الدكتور محمد الجلالي اليوم بلاغاً يقضي بعدم قبول أي بطاقة إعلامية غير صادرة عن وزارة الإعلام أو اتحاد الصحفيين بدءاً من عام 2025، وذلك بهدف ضبط التجاوزات التي تحدث في مهنة الصحافة.

وفيما يلي نص البلاغ:

البلاغ رقم (48/ 15/ ب)

استناداً إلى أحكام الفقرة (أ) من المادة 22 من قانون الإعلام الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 108 لعام 2011 وتعديلاته، وإلى أحكام المادتين (17) و(67) من قانون اتحاد الصحفيين رقم 1 لعام 1990.

وباعتبار أن وزارة الإعلام هي الجهة المخولة بمنح وثائق إثبات الهوية للإعلاميين والعاملين في الإعلام الرسمي والخاص، واتحاد الصحفيين مخول بمنح بطاقة ممارسة المهنة للإعلاميين فقط.

ونظراً لورود حالات تتضمن قيام عدة وسائل إعلامية ومواقع إلكترونية بمنح بطاقات صحفية للعاملين وغير العاملين لديها، الأمر الذي قد يؤدي إلى قيام البعض بانتحال صفة الصحفيين وإساءة استعمال هذه الصفة في سياق التعاطي مع الجهات العامة والخاصة، وبهدف ضبط التجاوزات التي تحدث في مهنة الصحافة، يُطلب عدم قبول أي بطاقة إعلامية غير صادرة عن وزارة الإعلام أو اتحاد الصحفيين بدءاً من عام 2025.

مقالات مشابهة

  • الريادة الإعلامية الإماراتية
  • أحمد موسى: وسائل الإعلام الإسرائيلية تهاجمني.. ونطالب بمحاكمة الاحتلال|فيديو
  • هالة أبوعلم: نحتاج تغيير الوجوه الإعلامية الحالية.. والإعلام فقد جمهوره
  • قانون اتحاد الصحفيين… ندوة حوارية‏ في دار البعث
  • قرار عاجل من مجلس الوزراء السوري بشأن الصحفيين والإعلاميين.. تعرف عليه
  • رئاسة مجلس الوزراء: عدم قبول أي بطاقة إعلامية غير صادرة عن وزارة الإعلام أو اتحاد الصحفيين
  • تسليم أحد مقرات وزارة التخطيط والتعاون الدولي ليكون مقرًا لاتحاد الصحفيين العرب
  • المشاط: حريصون على التعاون مع "اتحاد الصحفيين العرب" ودعمه دائمًا
  • شعبة النقل الدولي: شركة الجسر العربي تمثل نموذجا للتكامل والتعاون العربي البناء
  • بالفيديو.. «حزب الله» ينشر الجزء الثاني من سلسلة «إنهم يتألمون» وينعى 4 من كوادره الإعلامية