لا يتجاوز عمر النشاط الاستعمارى العالمى للولايات المتحدة قرناً من الزمان. بدأ حثيثاً، وبعد حربين عالميتين تقاسمت قمة العالم كقوة عظمى مع الاتحاد السوفيتى، لكنها كانت قوة استعمارية توسعية. وعلى عكس الاتحاد السوفيتى المناصر لتحرر الشعوب، كانت أمريكا فى غالبية الأحوال وراء المؤامرات التى حيكت لدول العالم الثالث ومارست القمع ودمرت بلاداً عديدة، بدءاً من فيتنام وكوريا وحتى العراق والصومال وغيرها، كما قامت بالانقلابات وتأجيج الصراعات فى دول كثيرة، وغالبيتها فى أمريكا اللاتينية، التى كان معظمها يتجه يساراً، وما كوبا إلا مثال مجسد لما كانت تفعله أمريكا.
أمامنا الآن مثال حى فى غزة، تدَّعى أمريكا أنها -بنفسها- ستبنى ميناء خصيصاً لنقل المؤن لغزة والتخفيف عن أهلها الذين دمرتهم وشردتهم إسرائيل، وفى الوقت نفسه ترفض أمريكا -الرحيمة- إصدار قرار من مجلس الأمن بوقف الهمجية الإسرائيلية ولا تتوقف عن تمويلها بأحدث أنواع السلاح.
التاريخ يسجل لأمريكا كل الشرور التى ارتكبتها فى حق العالم، فهى الدولة التى تسيِّر حاملات الطائرات والبوارج لمسافات تصل إلى عشرات الآلاف من الأميال لكى تضرب دولة لا تمثل لها أى تهديد ولم ترتكب ضدها أى مخالفة. ورثت أمريكا هذه الوحشية من أمها بريطانيا التى روّعت العالم لعدة قرون. ورثت عنها اللغة وهى أهم أدوات الاستعمار للسيطرة، وورثت عنها ثقافتها، والأهم أنها ورثت عنها وحشيتها ونهمها لابتلاع العالم.
لا ننسى أن الإمبراطورية البريطانية كانت تحتل أراضى فى كل أنحاء العالم لا تغيب عنها الشمس. وقد تركت بريطانيا فتيلاً فى كل دولة احتلتها يمكن من خلاله إشعال تلك البلاد بأبسط الطرق وأرخصها. وهى ما زالت تحتل أجزاء حيوية للغاية فى العالم مثل مضيق جبل طارق وجزر فولكلاند قرب سواحل أمريكا اللاتينية وكانت جزراً أرجنتينية، كما أن لها قواعد فى قبرص، وما زالت تسيطر على عشرات الدول فى رابطة الكومنولث بل ويحكم ملك أو ملكة إنجلترا 14 دولة حكماً مباشراً، ومنها دول كبيرة مثل كندا وأستراليا ونيوزيلاند. بل كانت بريطانيا تحتل أمريكا نفسها إلى أن قامت الثورة الأمريكية عام 1776. لقد تحررت أمريكا من بريطانيا، لكنها تدخلت لحمايتها فى الحربين العالميتين باعتبارها تحمى أصولها العرقية والثقافية القادمة من أوروبا وتمهد لوراثتها فى حكم العالم.
كلما نظرت إلى خريطة العالم وجدت شبح بريطانيا صانعة المشاكل، وأهمها مشكلتنا كعرب مع الكيان الصهيونى الذى يحتل فلسطين وينكل بأشقائنا. كانت بريطانيا الاستعمار الذى قهر شعوباً بطول وعرض الكرة الأرضية وجاءت ابنتها أمريكا الفتية العتية، والاثنتان كانتا وراء وجود الكيان الصهيونى وحمايته من كل ما يمسه.
لقد أحيت المقاومة الفلسطينية فى غزة قضية الوطن الفلسطينى ووجدنا شعوباً عديدة تناصر المقاومة التى تدافع عن حقها فى الوطن والحرية ضد محتل غاشم. وبالأمس قامت مواطنة بريطانية بتشويه صورة مرسومة لبلفور وزير خارجية بريطانيا الذى أعطى الصهيونية حق إقامة وطن لهم فى فلسطين عندما كانت فلسطين تحت الانتداب البريطانى عام 1917. إن ما فعلته هذه السيدة وما يفعله آخرون فى أنحاء أوروبا وأمريكا نفسها التى أشعل أحد ضباطها النار فى نفسه وهو يصيح «فلسطين حرة» أمر يدعم قضيتنا ويفت فى عضد الاستعمار والصهيونية.
لقد ارتبطت الأم -بريطانيا- والابنة -أمريكا- برباط غير مقدس من الاستعمار والاحتلال واستنزاف اقتصاد وقوة الشعوب، ويلاحظ العالم أنه مهما اتفقت دول أخرى أو اختلفت مع أمريكا فإن بريطانيا تبقى ولا تنفصل عن أمريكا فى سياساتها، خاصة بعدما صارت بريطانيا عجوزاً ولم تعد دولة عظمى كما كانت.
إن الدولتين لهما تاريخ طويل ملوث بدماء الشعوب، وهو ما ساعد دولاً كبرى أخرى مثل روسيا والصين على تنمية قدراتهما وكسب الأنصار فى جميع أنحاء العالم بما يجعلهما مؤهلتين للمشاركة فى حكم العالم وتعدد الأقطاب فى النظام العالمى الجديد.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: بريطانيا أمريكا غزة
إقرأ أيضاً:
يصعب أن نتخيل عالم ما بعد أمريكا.. لكن يجب أن نتخيله!
قال لي مراسل صحفي أجنبي مخضرم ذات يوم إن «الناس يتكلمون عن أمريكا بلسانين». كان ذلك منذ زمن بعيد ـ خلال نقاش حول ما إذا كان على الولايات المتحدة أن تتدخل في صراع أجنبي ـ ولم أنسه قط. كان ما يقصده هو أنه في حين تُدان الولايات المتحدة بسبب تدخلها الخارجي في بعض الحالات، فهي تُطالَب به في حالات أخرى ثم تدان لعدم وفائها بمعاييرها الأخلاقية. ولا يزال هذا التناقض قائمًا، بل أنه أشد وضوحًا إذ نقترب من اليوم المائة في ولاية ترامب الثانية. ثمة ازدواجية في النظرة إلى الولايات المتحدة فهي البلد الذي ينتهك عامدا القانون الدولي وهي أيضا البلد الوحيد القادر على دعم نظام القانون والنظام. وهذه الازدواجية، شديدة الحدة دائمًا، لم تعد قابلة للدوام.
ولقد شعرت بهذا التناقض على المستوى الشخصي، في المطالبة بأن تبقى الولايات المتحدة بعيدة مع الغضب أيضا من أنها لا تبذل مزيدًا من الجهد. ففي السودان، ترفض الولايات المتحدة رفضًا محبطًا أن تضغط على حلفائها لوقف ضخ الأسلحة والتمويل في الصراع. لكن أي دليل أو تاريخ لدينا يدعم الفكرة الوهمية القائلة بأن الولايات المتحدة تبالي بصراع لا ينطوي على مصلحة مباشرة؟ إنه توقع القيام بدور الشرطة الأخلاقية من لاعب غير أخلاقي أتذكره وأنا طفلة بعد غزو العراق للكويت واهتزاز العالم العربي خوفا من حرب إقليمية. دار في فصلنا في المدرسة بالسودان نقاش شرس حول مزايا تدخل الولايات المتحدة، ثم توقف بقول غاضب قالته واحدة ممن تم إجلاؤهم من الكويت إذ قالت إن أهم ما في الأمر هو هزيمة صدام حسين. ولا تزال كلماتها تتردد في ذهني بين الحين والآخر: «لا بد من التخلص أولا من الشر الأكبر».
حتى في غزة، ومع قيام الكونجرس الأمريكي بإجازة الحزمة تلو الحزمة من مليارات دولارات الدعم العسكري لإسرائيل، بقيت فضلة من أمل ـ تبددت منذ أمد بعيد ـ في اتصال هاتفي يتم أخيرا مع بنيامين نتنياهو. وحتى في الوقت الذي يقوم فيه ترامب بتشجيع فلاديمير بوتين، ويتخلى عن أوكرانيا، ويصفع الحلفاء بالرسوم الجمركية، يمكنكم أن تتبينوا الإيمان بجدوى الولايات المتحدة بوصفها لاعبًا يمكن أن يؤوب إلى العقلانية بل الأخلاقية.
لكن، للمرة الأولى فيما أتذكر، يمضي الحوار في مسار جديد. فالقول بالاختلاف بين الرئاسة والمؤسسات الأمريكية الأخرى الأشد رسوخًا بات أهدأ قليلًا، إذ تركع الجامعات وشركات القانون بل وأجزاء من الصحافة للملك الجديد المتقلب. والسؤال المطروح الآن هو ما لو أن أوروبا وبقية العالم قادرون على الابتعاد عن الولايات المتحدة بما لديها من برامج مساعدات وكالة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (التي كانت توجد بداخلها ميزانيات الصحة لبلاد نامية)، وبما لديها من نظام عالمي للمساعدات والردع العسكريين. لكن هذه لا تبدو اقتراحات عملية بقدر ما تبدو محاولات للالتفاف على واقع يستحيل قبوله.
التحدي القائم هنا فني وسيكولوجي. إذ يصعب أن نتخيل عالم ما بعد أمريكا لأن أمريكا هي التي اصطنعت ذلك العالم. وعندما تتحول الولايات المتحدة إلى لاعب متقلب، فإن بنيان النظام المالي العالمي ذاته يبدأ في الترنح. رأينا هذا في أزمة الثقة في أعقاب رسوم ترامب في «يوم التحرير». كما أن الشكوك تحيط الآن بمتانة سيادة القانون والفصل بين السلطات وهما حجرا زاوية للثقة في الاقتصاد، إذ تخوض الحكومة حربا مع النظام القضائي لديها ويتباهى الرئيس نفسه بعدد من معه في الغرفة ممن حققوا نجاحا ماليا ساحقا من تحطيمه سوق الأوراق المالية. فهل يكون تداول الأوراق المالية غير شرعي إذا كان مصدر معلوماتك السرية هو الرئيس؟
وعلى القدر نفسه من الأهمية، ثمة مهمة أخرى هي الانفصال عقليًا عن الولايات المتحدة. فقد قال لي صديق يحمل الجرين كارد لكنه يعيش في ظل نظام غير ليبرالي في آسيا إنه في أعماقه طالما شعر بحماية من أخطار سياسات البلد الذي يعيش فيه لعلمه أن لديه ملاذًا آمنًا يمكنه اللجوء إليه في حالة الاضطهاد. ولم يعد الأمر كذلك، إذ يتعرض المقيمون الشرعيون والزوار لملاحقات إدارة الهجرة والجمارك أو يمنعون من الدخول على الحدود. وأعرف آخرين ألغوا رحلات عمل إلى الولايات المتحدة خوفًا من الترحيل أو الوضع على القوائم السوداء. ومع ذلك الخوف، يأتي الوعي بأن البعض في الجنوب العالمي قد علموا دائمًا أن الولايات المتحدة لم تكن صاحبة حضور حميد، ولكن لديها داخل حدودها شيئًا ما يحجِّم تجاوزاتها. وكان في هذا شيء من الصحة، ولكنه كان أيضًا انعكاسًا للسلطة الثقافية الأمريكية. فالسعي إلى الحرية والسعي إلى السعادة والاحتفاء بالمهاجرين وأيقونة الأمل الأوبامي وكل تلك الشعارات لم تعد الآن غير غبار. وثمة فارق بين أن نعرف أن الولايات المتحدة لم تكن قط مجموع أجزائها، وبين أن نتقبل هذه الحقيقة.
وثمة خوف في القبول بها. لأنه رغم جميع انتهاكاتها فإن ظهور عالم ما بعد أمريكا يصيب بالدوار. لأن عالما بلا سلطة نهائية على الإطلاق قد يكون أبعث للرعب من عالم فيه سلطة نهائية عميقة العيوب. والأمر الشاق هو احتمال الفوضى، والعالم الجديد الخالي من مبدأ تنظيمي لنظام تجاوز الأيديولوجيا وبات كل من فيه يعمل لنفسه. فهو ليس نظام الحرب الباردة الذي قسم العالم إلى رأسماليين وشيوعيين وعدم انحياز. وليس نظام ما بعد الحرب الباردة الذي قسم العالم إلى معاقل الغرب الليبرالية وبلاد غير ديمقراطية منافسة ومن تحت كل فريق عملاؤه.
لكن ما ينبغي أن يثيره انهيار الولايات المتحدة في الحقيقة ليس الخوف والحيرة، وإنما ينبغي أن يؤدي إلى مشروع لإقامة نظام عالمي جديد يكون لنا جميعا نصيب فيه. فما ترى الولايات المتحدة أن تقوم به في السياسة الخارجية والاقتصادية يمكن أن يؤثر على سلة التسوق الخاصة بك وحدود الدولة القومية التي تعيش فيها. إذ إنها تظل أكبر اقتصاد في العالم، ولديها أكبر جيش في العالم، وفيها أقوى مجمع ترفيهي في العالم. تكشف هذه المركزية إلى جانب انهيارها حقيقة أن المشكلة أعمق من ترامب. فقد كان العالم دائمًا معرضًا لخطر الوجهة التي تختارها الولايات المتحدة.
ومن المفارقات أن كل هذا قد يكون بداية عملية تؤدي إلى «أيام التحرير» الحقيقية لبلاد أخرى، وليس للولايات المتحدة نفسها. وثمة ألم بانتظارنا في المستقبل، ولكن بانتظارنا أيضا نوع من الاستقلال. ولكن في المقام الأكبر، قد يكون هناك أخيرًا اعتراف بأن تعريف الولايات المتحدة للسلام والازدهار كان دائمًا ملكًا لها، ومفروضًا بقوة السلطة والدعاية.
نسرين مالك من كتاب الرأي في صحيفة ذي جارديان