لم تكن المرة الأولى التي يتحدث فيها عن مصر بازدراء، فقد سبق له أن وصفها بأنها "شبه دولة"، وغير ذلك من النعوت السلبية، لكنها المرة الأولى التي تصل فيها نظرته لها إلى أنها مجرد "الحاجة دي"، وقد قالوا له "خد دي"!
وإذ ضجت منصات التواصل الاجتماعي بالسخرية من هذا التحقير المتعمد ولأنه يستهدف "البلد" لا "الدولة" كنظام كما في أحاديثه الأولى، فإن السؤال هو: لماذا لا يوجد من بين رجاله ناصح له، بأنه إن كان لا بد فاعلا فلتكن التلاوة من خطاب مكتوب، يتلو منه ما تيسر من القول، ويكفي نفسه شر المتربصين به، وهو من يمنحهم الفرصة بسخاء!
يقوم البعض عبر منصات التواصل الاجتماعي بإعادة إذاعة كلمات مرتجلة لمبارك، وتبدو ممتعة عند المقارنة بزعيم العهد الحالي، لكنها لم تكن بالنسبة لنا كذلك، لا سيما لمن عاصروا ارتجال السادات، وبدا لنا مبارك مقلدا فاشلا له، وقد توقف عن الارتجال لفترة طويلة، لأنه وجد بجانبه المشير عبد الحليم أبو غزالة، ينصحه بالنظر إلى الورق ذات خطاب في البرلمان لأن ما كان يقوله ارتجالا يتناقض مع ما يقرأه في الخطاب المكتوب!
وظل مبارك ردحا من الزمن يلتزم بهذه الإشارة من أبو غزالة، وكانت بعض اللقاءات الفكرية تحتم عليه الارتجال، وبدا في سنوات حكمه الأخيرة ليس موفقا في ردوده، كما فعل عندما عقب على كلمة للدكتور حسن حنفي، أو أراد أن يمارس الظرف الذي يفتقده مع كاتبة، فتم التوقف عن البث المباشر للقائه بالمثقفين في اليوم الأول لافتتاح معرض الكتاب، ولهذا لم يسمع الرأي العام بالمواجهة التي تمت بينه وبين الدكتور محمد السيد سعيد!
إن هذا الوصف إنما هو شهادة لصالح ثورة يناير المجيدة، التي لا يتوقف الجنرال عن وصفها، تصريحا وتلميحا، بأنها هدمت الدولة، وأن مصر عرت بسببها ظهرها وكشفت صدرها، فما عليهم إذا خرجوا على من جعل من مصر مجرد "الحاجة" هذه، فهل يلامون على ذلك؟!
لقد كان مبارك بالرغم من خشونته في التعامل مع دوائر حكمه، يجد من ينبهه لضرورة الاكتفاء بقراءة الخطاب المكتوب، كما يجد من يمارس الرقابة عليه بمنع بث أحاديثه على الهواء وعلى غير ما جرت عليه العادة، لأنهم كانوا يحافظون على هيبة نظام الحكم، والذي منه يستمدون هيبتهم ووجودهم!
فهل بجوار الحكم الحالي من انتبه لذلك، أو تجرأ على شيء من ذلك، أو يدركون خطورته؟ أم أنهم جزء من العوام الذين كانوا يستمعون لتحقير مصر؟ وإنها ليست أكثر من "حاجة" وقد قالوا له "خد دي"، فصفقوا لذلك تصفيقا حادا، لتسأل: هل هو الغباء، أم انعدام الرشد، على ماذا يصفق هؤلاء الدهماء؟!
إن هذا الوصف إنما هو شهادة لصالح ثورة يناير المجيدة، التي لا يتوقف الجنرال عن وصفها، تصريحا وتلميحا، بأنها هدمت الدولة، وأن مصر عرت بسببها ظهرها وكشفت صدرها، فما عليهم إذا خرجوا على من جعل من مصر مجرد "الحاجة" هذه، فهل يلامون على ذلك؟!
دور الجيش والحكم العسكري:
ولأن البلد كانت مجرد "حاجة"، ومن سلموها له قالوا له "خد دي".
إن الحديث عن التدمير الذي جرى للبلد، خلال فترة زمنية قدرها القوم، ومن رئيس الدولة لرئيس الحكومة وفي أكثر من مرة، بستين عاما، إنما يمثل اعترافا -هو سيد الأدلة- على فشل الحكم العسكري، وعدم جدارة العسكريين بالحكم، وهذا الفشل يعطي ثوار يناير شرعية الخروج على هذا النظام الفاشل، وينفي خطاب "الدولة" الذي يعيد فيه الجنرال ويزيد، وكأنها شيء معقد لا يجيد فك شفرته إلا الحاكم العسكري "الضرورة"، حتى يوشك أن ينصب لها معبدا يحمل اسم "الدولة" يطوف الناس حوله مقصرين ومحلقين.
الحديث عن التدمير الذي جرى للبلد، خلال فترة زمنية قدرها القوم، ومن رئيس الدولة لرئيس الحكومة وفي أكثر من مرة، بستين عاما، إنما يمثل اعترافا -هو سيد الأدلة- على فشل الحكم العسكري، وعدم جدارة العسكريين بالحكم، وهذا الفشل يعطي ثوار يناير شرعية الخروج على هذا النظام الفاشل، وينفي خطاب "الدولة" الذي يعيد فيه الجنرال ويزيد
قبل أيام، أراد أحد شباب الثورة أن يبدو متناغما مع الوضع الجديد، والحقيقة هو وضعه منذ الخروج على الحكم المدني في 30 يونيو، فقال إنهم عندما قاموا بالثورة كانوا حسني النية ولم يكن في بالهم فكرة الدولة وتعقد الأمور فيها، فهل "الحاجة دي" تحتاج الى خبير عسكري؟!
خطاب الدولة يكرس الأوضاع الحالية، ويجعل منها شأنا عسكريا خالصا لا يتقنه المدنيون، فكيف وقد كانت مجرد "حاجة كده"، وقد قالوا له "خد دي"!
لنصل إلى "بيت القصيد"، ولم تعد البلد سوى "دي"، وهناك من قال له خدها، فأخدها، فمن قال له "خد دي"، ولماذا لم يرفض، والأصل أنه كان يدرس الأمر منذ القدم، وكان يقرأ مقالات "هيكل"، و"موسى صبري" في محاولة لفهم "الدولة"، وأنه دارسا جيد لظروفها؟ ثم إنه بحكم وظيفته مديرا لجهاز المخابرات الحربية، ويعده المشير محمد حسنين طنطاوي ليكون مديرا للمخابرات العامة، هل كانت تغيب عنه أوضاعها البائسة التي جعلت منها مجرد "حاجة كده"، قيل له عندما أعطيت له "خدي دي"؟.. فمن الذي أعطاها له ولم يقدر على رفض هذه العطية؟.. هل الأشباح أم ماذا؟!
في حيص بيص:
سيجد الباحث المتخصص في الخطاب السياسي نفسه في "حيص بيص"، إذ قرر دراسة خطاب الجنرال، وأسعى بكل جهدي في هذا المقال وغيره، لرفع العنت عمن يقوده حظه العاثر للتورط في المستقبل في دراسة كهذه، قد تنتهي به للإصابة بـ"الخفيف" إن لم نقم نحن بمحاولة الشرح والتوضيح والتوصل لهذا الخطاب الباطني، فهذا حاكم من زمن "بطن الشاعر"، عندما كان يقال في وصف ما يستغلق فهمه من أشعار: المعنى في بطن الشاعر!
الظاهر من الأمر أن من قال له "خد دي" هم أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة مثلا، باعتبارهم أولياء أمور الدولة المصرية، وقد عزلهم جميعا بعد ذلك، فألم يكن في الإمكان أن "يتعازم" معهم على "دي"، فيقول لمن قال له "خد دي": خدها أنت، أو يبحثون عن بديل عسكري يورطونه في "دي"، وقد كان كل من الفريق سامي عنان، والفريق أحمد شفيق، جاهزا لاستلام "دي"؟
الظاهر من الأمر أن من قال له "خد دي" هم أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة مثلا، باعتبارهم أولياء أمور الدولة المصرية، وقد عزلهم جميعا بعد ذلك، فألم يكن في الإمكان أن "يتعازم" معهم على "دي"، فيقول لمن قال له "خد دي": خدها أنت، أو يبحثون عن بديل عسكري يورطونه في "دي"، وقد كان كل من الفريق سامي عنان، والفريق أحمد شفيق، جاهزا لاستلام "دي"؟
وإذا كانت عقدة الأمر بيد أعضاء المجلس، فلماذا تركوا البلد حتى صارت مجرد "حاجة كده"، يلقونها على عاتق أحدهم بأن قالوا له "خد دي"؟!
الذي يعزز لدي من أنه لا يعني المجلس العسكري بقوله قالوا لي "خد دي"، أنه لم يكن في الأسر وتحت الإكراه البدني والمعنوي ليفرضوا عليه "دي" فرضا وبالتالي لم يكن يستطيع أن يرفض، فقد قام بإرادته الحرة بتعديل الدستور ليمد في أجله في الحكم ثماني سنوات أخرى، وبدلا من أن يغادر في 2022 تم المد له حتى عام 2030، ومن المؤكد أنه سيقوم بتعديل الدستور ليجلس على تلها بعد ذلك، فما الذي دفعه للاستمرار في الحكم؟ وهو الأمر الذي ينفي عندي فكرة أنه يقصد أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقوله: قالوا لي خد دي، فمن يقصد إذا؟
الرجل يعيش في حالة دينية خاصة، لا يعرفها إلا من اقترب من مجال التصوف في جانبه الطقوسي لا الفلسفي، ومن حالة الدروشة الخاصة بالتصوف المصري، وليس بالتصوف النضالي كما الحال في الجزائر إبان الاستعمار، والتركي في زمن العلمانية المتوحشة!
وخطاب صاحبهم تطغى عليه هذه الحالة، ولأنه منذ عشر سنوات يحاول أن يأخذنا معه لمحاولة فهمه فيفشل، فقد تدخل خالد الجندي ليقول إنه اكتشف أن بين السيسي وربنا خط مفتوح، وأنه يملك "باسوورد" هذا الخط. إنها فكرة أهل الحقيقة في النسق الصوفي، وكما قال قائلهم: إن كنت في حكم الشريعة عاصيا.. فأنا في حكم الحقيقة طائعا!
وهذا الدويتو ذكرني بحلقة من البرنامج التلفزيوني القديم "ندوة للرأي"، كان قد جاء للبرنامج للنقاش مع عدد من العلماء؛ من ادعى أنه المهدي المنتظر، ومساعد له، ولم يكن المهدي متحدثا يستطيع شرح فكرته، فاستعان بصاحبه وكان أزهريا وخطيبا بليغا ومفوها، فأكد على أن صاحبه هو المهدي المنتظر، وطرح الأسانيد التي تؤكد ذلك!
هذه التصورات عن الخلط بين الدين والحكم، وتصويره أنه لم يكن بإمكانه أن يرفض العرض، عندما قيل له "خد دي"، يجعل الصورة أكثر وضوحا لنا بمن كلفه بالمهمة.. إنهم خُضر العمائم، الذين هم عند أهل التصوف أولياء الله الصالحين
بعد سنوات قرأت في الصحف أن هذا المهدي قد ادعى النبوة، وتم القبض عليه، ولم نسمع شيئا عن مساعده هذا، هل استمر مؤمنا بنبوته وإيمانه بأنه المهدي المنتظر؟!
الجنرال في أحاديث سابقة أكد أنه في مكانه هذا بإرادة الله، وأن الله من سيحاسبه إن قصّر أو أخطأ، وهذا كله يقربنا من فكرة الحكم الإلهي ويبعدنا عن فكرة الدولة الحديثة، بعد المشرق عن المغرب، وليس هذا موضوعنا!
هذه التصورات عن الخلط بين الدين والحكم، وتصويره أنه لم يكن بإمكانه أن يرفض العرض، عندما قيل له "خد دي"، يجعل الصورة أكثر وضوحا لنا بمن كلفه بالمهمة.. إنهم خُضر العمائم، الذين هم عند أهل التصوف أولياء الله الصالحين، وهم يستخدمون عمائم خضراء اللون، وقديما قال المريد في وصف حاله:
خضر العمائم وأنا نائم ندهوني/ أهل الكرم في الحرم ناديتهم جوني!
قالوا نعدك معانا قلت عدوني/ أشرط عليكم في بحر الخوف تعدوني!
لما لقيوني موافي الشرط ثبتوني/ فرطوا البوارق وحلفوا لم يفوتوني!
ومدد يا أهل المدد!
twitter.com/selimazouz1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر الحكم السيسي مصر السيسي أزمات الحكم مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة اقتصاد صحافة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أعضاء المجلس من قال له لم یکن فی وقد کان
إقرأ أيضاً:
بن صهيون.. والد نتنياهو الذي غرس فيه كره العرب
لم يكن بن صهيون نتنياهو مجرد اسم في تاريخ عائلة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بل هو شخصية تحمل بين طياتها قرنًا من الزمان مملوءًا بالأفكار والمواقف التي لا تقل تطرفًا وإثارة عن سياسات ابنه الحالية.
ويبدو أن هذه الأفكار التي صاغتها تجربة حياة مفعمة بالمواقف الصدامية مع العالم العربي قد تسربت بوضوح إلى توجهات بنيامين نتنياهو، لتشارك في تشكيل مواقفه الحادة تجاه الفلسطينيين، والتي يتضح صداها في أفعاله وكلماته حتى اليوم.
فما الذي نعرفه عن بن صهيون نتنياهو؟ وكيف أثر على مسار الحركة الصهيونية؟ ولماذا كانت رؤيته للعرب دائمًا عدائية إلى هذا الحد؟
وُلِد بن صهيون ميليكوفسكي -الذي سيُعرف لاحقا باسم نتنياهو وتعني هبة الله- في وارسو عاصمة بولندا خلال فترة تقسيمها وخضوعها للسيطرة الروسية القيصرية في عام 1910.
وكان والده ناثان ميليكوفسكي كاتبا وناشطا صهيونيا من بيلاروسيا، وقد شغل ناثان منصب حاخام، وجاب أوروبا والولايات المتحدة لإلقاء خطب تدعم الحركة الصهيونية التي آمن بها حتى النخاع.
وفي عام 1920 قرر ناثان الهجرة إلى فلسطين مصطحبا معه عائلته ضمن الموجة الكبرى للهجرة اليهودية. وبعد تنقلها بين مدينة يافا وتل أبيب وصفد، استقرت الأسرة أخيرا في القدس حيث التحق بن صهيون بمعهد ديفيد يلين للمعلمين والجامعة العبرية في القدس.
إعلانوكان من الشائع بين المهاجرين الصهاينة في تلك الفترة تبنّي أسماء عبرية، فبدأ ناثان ميليكوفسكي الأب بتوقيع بعض مقالاته باسم "نتنياهو"، وهو الصيغة العبرية لاسمه الأول، واعتمد ابنه هذا الاسم ليكون اسم العائلة.
وفي عام 1944، تزوج الابن بن صهيون نتنياهو من تسيلا سيغال التي سيصفها ابنها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لاحقا بأنها "محور عائلتنا والسلطة النهائية فيها".
درس بن صهيون نتنياهو تاريخ العصور الوسطى في الجامعة العبرية بالقدس، وفي إبان دراسته انخرط في "حركة الصهيونية التصحيحية"، وهي حركة انفصلت عن التيار الصهيوني السائد، معتقدين أن هذا التيار الغالب كان أكثر تصالحية مع السلطات البريطانية الحاكمة لفلسطين آنئذ.
في المقابل، تبنّى التصحيحيون بزعامة زئيف جابتونسكي نهجا قوميا يهوديا أكثر تشددا، مخالفا للصهيونية العمالية اليسارية التي قادت إسرائيل في سنواتها الأولى، معتقدين أن حدود إسرائيل تمتد على كامل فلسطين التاريخية والأردن معا.
ولإيمانه بالعمل الصحفي والأكاديمي، شغل بن صهيون منصب محرر مشارك في المجلة العبرية المعروفة في ذلك الوقت "بيتار" بين عامي 1933 و1934، ثم أصبح رئيس تحرير صحيفة "ها ياردن" اليومية الصهيونية التصحيحية في القدس (1934-1935)، حتى أوقفت سلطات الانتداب البريطاني صدورها بين عامي 1935 و1940.
وفي عام 1939، قرر السفر إلى نيويورك للعمل سكرتيرا لزعيم الحركة الصهيونية التصحيحية جابوتنسكي الذي كان يسعى لحشد الدعم الأميركي لحركته الصهيونية القتالية الجديدة.
ومع وفاة جابوتنسكي في العام نفسه، تولّى بن صهيون نتنياهو منصب المدير التنفيذي للمنظمة الصهيونية الجديدة في أميركا التي كانت منافسا سياسيا أكثر تشددا للمنظمة الصهيونية الأميركية المعتدلة، واستمر في هذا الدور حتى عام 1948.
كان بن صهيون مؤمنا بفكرة "إسرائيل الكبرى"، وفي سبيلها عارض بشدة أي تنازلات إقليمية أو محلية، ولهذا السبب عندما أصدرت الأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، كان من بين الموقعين على عريضة ترفض الخطة، وخلال تلك الفترة كان ناشطا سياسيا في واشنطن العاصمة حيث عمل على التواصل مع أعضاء الكونغرس لدعم رؤيته الصهيونية المتشددة.
إعلانوفي عام 1949، عاد إلى إسرائيل محاولا دخول الحياة السياسية، لكنه لم يحقق نجاحًا يُذكر نتيجة سيطرة الحركة الصهيونية التقليدية على مقاليد البلاد بزعامة ديفيد بن غوريون ممن كانوا يرون عصابات شتيرن والمؤمنين بأيديولوجية جابتونسكي خطرا يهدد دولتهم في ذلك الحين.
في المقابل، واصل بن صهيون نتنياهو نشاطه الأكاديمي، لكنه لم يتمكن من الانضمام إلى هيئة التدريس في الجامعة العبرية، ورغم ذلك ساعده أستاذه جوزيف كلاوسنر أستاذ الأدب العبري في الحصول على منصب محرر في "الموسوعة العبرية"، وبعد وفاة كلاوسنر تولّى بن صهيون رئاسة التحرير مع آخرين.
لاحقًا عاد إلى كلية دروبسي في فيلادلفيا حيث عمل أستاذًا للغة العبرية وآدابها ورئيسًا للقسم بين عامي 1957 و1966، ثم شغل منصب أستاذ التاريخ اليهودي في العصور الوسطى والأدب العبري من عام 1966 إلى 1968، ثم انتقل إلى جامعة دنفر ليعمل أستاذًا للدراسات العبرية (1968-1971)، قبل أن يعود إلى نيويورك لتولي تحرير موسوعة يهودية.
في النهاية، التحق بجامعة كورنيل حيث شغل منصب أستاذ الدراسات اليهودية ورئيس قسم اللغات السامية وآدابها من عام 1971 إلى 1975.
وعقب مقتل ابنه يوناتان خلال عملية عنتيبي لإنقاذ الرهائن عام 1976، قرر العودة مع عائلته إلى إسرائيل منخرطا في المجال الأكاديمي.
وعند وفاته عام 2012 عن عُمر ناهز 102 عاما، كان عضوًا في أكاديمية الفنون الجميلة وأستاذًا فخريًا في جامعة كورنيل.
أُثر عن بن صهيون نتنياهو قوله في إحدى مقالاته إن "العرب واليهود مثل عنزتين التقتا على جسر ضيّق، إحداهما مضطرة إلى القفز في النهر، ولكنهما لا تريدان الموت. ولذلك فإنهما تنتطحان على الدوام، وتؤمنان بأن إحداهما ستُنهَك في نهاية المطاف وتستسلم، وعندئذ سيتقرر الأقوى الذي سيرغم الأضعف على القفز. إن القفز لليهود يعني ضياع الشعب اليهودي، أما بالنسبة إلى العرب فإن قفز عنزتهم يعني تضرر جزء يسير منهم".
إعلانيكشف هذا الاقتباس عن تأثره الكبير بزعيم الحركة التصحيحية الصهيونية زئيف جابتونسكي الذي آمن به من قبل والد بن صهيون الحاخام ناتان ميلوكوفسكي ورآه رائد الحركة الصهيونية وموجّه بوصلتها نحو التعامل الجذري مع العرب.
كان يرى أن الأغلبية العظمى من العرب داخل إسرائيل سيختارون إبادة اليهود إذا سنحت لهم الفرصة. وهذا الاعتقاد دفعه منذ شبابه إلى تأييد فكرة ترحيل السكان العرب من فلسطين، وهي الفكرة التي ظل متمسكًا بها حتى أواخر حياته، إذ واصل التعبير عنها في مناسبات مختلفة.
ففي مقابلة له عام 2009 مع صحيفة معاريف الإسرائيلية، عبّر عن آرائه تجاه الصراع العربي الإسرائيلي بقوله إن "النزعة إلى الصراع هي جوهر فكر العرب، إنهم أعداء بطبيعتهم، فشخصيتهم لن تسمح بالتنازل، وبغض النظر عن المقاومة التي سيواجهونها أو الثمن الذي سيدفعونه، فإن وجودهم يعني حربا دائمة".
وربما هذا الموقف الجذري من بن صهيون وآرائه المتطرفة تجاه العرب جعلت العديد من المحللين يتوقعون أن ابنه بنيامين نتنياهو كان غير قادر على التوقيع على اتفاق سلام شامل مع جيران إسرائيل العرب ما دام والده كان لا يزال على قيد الحياة.
ورغم أن نتنياهو نفسه نفى هذه الفرضية بشكل قاطع واصفًا إياها بأنها "هراء"، بحسب ما نقلته صحيفة هيرالد، فإن مواقفه وسياساته على الأرض، ولا سيما في غزة، تعكس تبنيًا واضحًا للنهج المتشدد ذاته الذي اشتهر به والده.
ولكن يجب أن نعود إلى جابتونسكي لنرى كيف أقنع الثلاثي الجد والأب والحفيد من عائلة نتنياهو بهذه الأفكار التي كانت تعكس سخطه الواضح على الحركة الصهيونية التقليدية وسعيها لخداع العرب في فلسطين عبر المفاوضات وإظهار نواياها كأنها بريئة من أي نية للاستيلاء على الأرض، وضرورة التعامل بصورة جذرية عنيفة.
فقد جاءت مقالاته وأفكاره لتوضح جوهر الصراع، وكشف الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للحركة الصهيونية، إذ كتب "يمكننا أن نقول للعرب ما نشاء عن براءة أهدافنا، ونتفنن في استخدام العبارات المنمقة، ونغلفها بالكلمات المعسولة لجعلها مستساغة، لكنهم يدركون تماما ما نريده، كما ندرك نحن ما لا يريدونه. إنهم يشعرون تجاه فلسطين بالحب الغريزي نفسه الذي شعر به الأزتيك القدامى تجاه المكسيك القديمة".
إعلانكان جابوتنسكي يرى أن الحركة الصهيونية تهدُر وقتها في المفاوضات، بدلا من التركيز على بناء قوة عسكرية رادعة تحمي المستوطنين. فكتب "كل الشعوب الأصلية في العالم تقاوم المستعمرين طالما بقي لديهم أدنى أمل في التخلص منهم".
وأضاف "لا يهم كيف نصوغ أهدافنا الاستعمارية، سواء كانت بعبارات هرتزل أو السير هربرت صموئيل، فالاستعمار يحمل تفسيره الوحيد الممكن، الواضح كضوء النهار، لكل يهودي بسيط ولكل عربي بسيط. فالمستعمرات لا يمكن أن يكون لها إلا هدف واحد، ولا يمكن لعرب فلسطين أن يقبلوا بهذا الهدف".
وبناء على ذلك شدد جابوتنسكي على أن نجاح المشروع الصهيوني واستقراره لن يتحقق إلا عبر إنشاء "قوة مستقلة عن السكان الأصليين، خلف جدار حديدي لا يستطيعون اختراقه. هذه هي سياستنا العربية".
وأمام هذه الأيديولوجية آمن بن صهيون نتنياهو إيمانا مطلقا بما آمن به أستاذه جابوتنسكي حول الصراع مع العرب، إذ كان جابوتنسكي يرى أن موقف العرب متصلب للغاية، ولا يمكن تسويته أو التوصل إلى اتفاق معهم، خلافا لما اعتقده التيار الصهيوني السائد، ومن ثم لم يعتمد التيار التصحيحي الدبلوماسية إلا بالقدر الذي يسمح بتمرير عمليات التهجير والقتل بحق الفلسطينيين.
وقد صرّح جابوتنسكي بأن "90% من الصهيونية تقوم على أعمال الاستيطان العنيفة من قتل وتهجير، في حين أن 10% فقط منها تتعلق بالسياسة".
وفي مقال نشرته صحيفة هآرتس العبرية عام 2018 بعنوان "كيف تبنى والد نتنياهو وجهة النظر القائلة بأن العرب همج؟" استعرض فيه الكاتب المسيرة الفكرية المتطرفة لبن صهيون تجاه العرب والفلسطينيين، إذ أشار المقال إلى أن بن صهيون استلهم هذه الأفكار من المؤرخ جوزيف كلاوسنر أستاذ الأدب العبري والمحرر الرئيسي للموسوعة العبرية، الذي كان مرشده الفكري.
إعلانوقد اعتنق بن صهيون بشكل كامل وجهة نظر كلاوسنر التي تصف العرب بأنهم "أمة من نصف الهمج" يجب التعامل معهم بالقوة والحسم، بحسب المقال الذي أشار إلى أن بن صهيون أعاد تبنّي هذه الأوصاف والسياسات وحولها إلى ركيزة أساسية لفكره، مما رسخ مواقفه العدائية تجاه العرب بشكل أكبر.
تتجلى هذه النظرة المتطرفة في مقالات بن صهيون التي نشرها بصحيفة ها ياردن التصحيحية التي كان يحررها حتى وفاة والده عام 1935، ففي مقال بتاريخ 6 أغسطس/آب 1934 وصف بن صهيون العرب بأنهم "همج شبه متوحشين"، قائلًا "كما كان همج جزيرة العرب يطاردون اللاجئين اليهود من إسبانيا على منحدرات الجزائر في القرن الخامس عشر، فهم الآن يطاردون اللاجئين من جحيم الشتات عند بوابات الوطن".
وفي مقال آخر بعنوان "الاستيطان الريفي والاستيطان الحضري" نُشر في ديسمبر/كانون الأول 1934، قارن بن صهيون أرض إسرائيل بأميركا، وشبّه اليهود بمواطني الولايات المتحدة، بينما قارن العرب بالهنود الحمر، وقال في مقاله "إن غزو الأرض هو أحد أول وأهم المشاريع في كل استعمار".
وأضاف بنزعة تطهير عرقي واضحة "يجب أن نعلم أن الدولة ليست مجرد مفهوم حسابي لعدد السكان، بل مفهوم جغرافي كذلك، ذلك أن أبناء العِرق الأنغلو-ساكسوني، الذي كان في صراع دائم مع الهنود الحمر، لم يكتفوا بتأسيس المدن الكبرى مثل نيويورك وسان فرانسيسكو على شواطئ المحيطين اللذين يحدان الولايات المتحدة. بل سعوا أيضا لضمان الطريق بين هاتين المدينتين.. لو تركَ غُزاة أميركا الأراضي في يد الهنود، لكان هناك الآن في أحسن الأحوال بعض المدن الأوروبية في الولايات المتحدة وكان البلد كله سيأهله ملايين من الهنود الحمر!".
يظهر تأثير بن صهيون نتنياهو في ابنه رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني بنيامين نتنياهو واضحا لا ريبة فيه، ففي 16 ديسمبر/كانون الأول 2023، وبعد ما يقارب 17 عامًا من توليه رئاسة الحكومة بشكل متقطع، سيقف بنيامين أمام الشعب الإسرائيلي متفاخرا بمواقفه المتشددة تجاه القضية الفلسطينية قائلا بكل وضوح "كنت أنا العقبة أمام إقامة دولة فلسطينية"، بينما كان اليسار الإسرائيلي يسعى، بشكل أو بآخر، إلى تقديم تنازلات قد تؤدي إلى حل سياسي وإنهاء النزاع".
إعلانذلك هو بن صهيون نتنياهو والد رئيس الوزراء الحالي الذي يدعو علانية إلى تطهير غزة وتهجير أهلها، والتغيير العميق في الشرق الأوسط، لا يقول صراحة إنه يؤمن بمبادئ الحركة الصهيونية التصحيحية التي آمن بها والده من قبل، ولكنه على أرض الواقع يسعى لتحقيق هذه الأحلام!