لم تكن المرة الأولى التي يتحدث فيها عن مصر بازدراء، فقد سبق له أن وصفها بأنها "شبه دولة"، وغير ذلك من النعوت السلبية، لكنها المرة الأولى التي تصل فيها نظرته لها إلى أنها مجرد "الحاجة دي"، وقد قالوا له "خد دي"!
وإذ ضجت منصات التواصل الاجتماعي بالسخرية من هذا التحقير المتعمد ولأنه يستهدف "البلد" لا "الدولة" كنظام كما في أحاديثه الأولى، فإن السؤال هو: لماذا لا يوجد من بين رجاله ناصح له، بأنه إن كان لا بد فاعلا فلتكن التلاوة من خطاب مكتوب، يتلو منه ما تيسر من القول، ويكفي نفسه شر المتربصين به، وهو من يمنحهم الفرصة بسخاء!
يقوم البعض عبر منصات التواصل الاجتماعي بإعادة إذاعة كلمات مرتجلة لمبارك، وتبدو ممتعة عند المقارنة بزعيم العهد الحالي، لكنها لم تكن بالنسبة لنا كذلك، لا سيما لمن عاصروا ارتجال السادات، وبدا لنا مبارك مقلدا فاشلا له، وقد توقف عن الارتجال لفترة طويلة، لأنه وجد بجانبه المشير عبد الحليم أبو غزالة، ينصحه بالنظر إلى الورق ذات خطاب في البرلمان لأن ما كان يقوله ارتجالا يتناقض مع ما يقرأه في الخطاب المكتوب!
وظل مبارك ردحا من الزمن يلتزم بهذه الإشارة من أبو غزالة، وكانت بعض اللقاءات الفكرية تحتم عليه الارتجال، وبدا في سنوات حكمه الأخيرة ليس موفقا في ردوده، كما فعل عندما عقب على كلمة للدكتور حسن حنفي، أو أراد أن يمارس الظرف الذي يفتقده مع كاتبة، فتم التوقف عن البث المباشر للقائه بالمثقفين في اليوم الأول لافتتاح معرض الكتاب، ولهذا لم يسمع الرأي العام بالمواجهة التي تمت بينه وبين الدكتور محمد السيد سعيد!
إن هذا الوصف إنما هو شهادة لصالح ثورة يناير المجيدة، التي لا يتوقف الجنرال عن وصفها، تصريحا وتلميحا، بأنها هدمت الدولة، وأن مصر عرت بسببها ظهرها وكشفت صدرها، فما عليهم إذا خرجوا على من جعل من مصر مجرد "الحاجة" هذه، فهل يلامون على ذلك؟!
لقد كان مبارك بالرغم من خشونته في التعامل مع دوائر حكمه، يجد من ينبهه لضرورة الاكتفاء بقراءة الخطاب المكتوب، كما يجد من يمارس الرقابة عليه بمنع بث أحاديثه على الهواء وعلى غير ما جرت عليه العادة، لأنهم كانوا يحافظون على هيبة نظام الحكم، والذي منه يستمدون هيبتهم ووجودهم!
فهل بجوار الحكم الحالي من انتبه لذلك، أو تجرأ على شيء من ذلك، أو يدركون خطورته؟ أم أنهم جزء من العوام الذين كانوا يستمعون لتحقير مصر؟ وإنها ليست أكثر من "حاجة" وقد قالوا له "خد دي"، فصفقوا لذلك تصفيقا حادا، لتسأل: هل هو الغباء، أم انعدام الرشد، على ماذا يصفق هؤلاء الدهماء؟!
إن هذا الوصف إنما هو شهادة لصالح ثورة يناير المجيدة، التي لا يتوقف الجنرال عن وصفها، تصريحا وتلميحا، بأنها هدمت الدولة، وأن مصر عرت بسببها ظهرها وكشفت صدرها، فما عليهم إذا خرجوا على من جعل من مصر مجرد "الحاجة" هذه، فهل يلامون على ذلك؟!
دور الجيش والحكم العسكري:
ولأن البلد كانت مجرد "حاجة"، ومن سلموها له قالوا له "خد دي".
إن الحديث عن التدمير الذي جرى للبلد، خلال فترة زمنية قدرها القوم، ومن رئيس الدولة لرئيس الحكومة وفي أكثر من مرة، بستين عاما، إنما يمثل اعترافا -هو سيد الأدلة- على فشل الحكم العسكري، وعدم جدارة العسكريين بالحكم، وهذا الفشل يعطي ثوار يناير شرعية الخروج على هذا النظام الفاشل، وينفي خطاب "الدولة" الذي يعيد فيه الجنرال ويزيد، وكأنها شيء معقد لا يجيد فك شفرته إلا الحاكم العسكري "الضرورة"، حتى يوشك أن ينصب لها معبدا يحمل اسم "الدولة" يطوف الناس حوله مقصرين ومحلقين.
الحديث عن التدمير الذي جرى للبلد، خلال فترة زمنية قدرها القوم، ومن رئيس الدولة لرئيس الحكومة وفي أكثر من مرة، بستين عاما، إنما يمثل اعترافا -هو سيد الأدلة- على فشل الحكم العسكري، وعدم جدارة العسكريين بالحكم، وهذا الفشل يعطي ثوار يناير شرعية الخروج على هذا النظام الفاشل، وينفي خطاب "الدولة" الذي يعيد فيه الجنرال ويزيد
قبل أيام، أراد أحد شباب الثورة أن يبدو متناغما مع الوضع الجديد، والحقيقة هو وضعه منذ الخروج على الحكم المدني في 30 يونيو، فقال إنهم عندما قاموا بالثورة كانوا حسني النية ولم يكن في بالهم فكرة الدولة وتعقد الأمور فيها، فهل "الحاجة دي" تحتاج الى خبير عسكري؟!
خطاب الدولة يكرس الأوضاع الحالية، ويجعل منها شأنا عسكريا خالصا لا يتقنه المدنيون، فكيف وقد كانت مجرد "حاجة كده"، وقد قالوا له "خد دي"!
لنصل إلى "بيت القصيد"، ولم تعد البلد سوى "دي"، وهناك من قال له خدها، فأخدها، فمن قال له "خد دي"، ولماذا لم يرفض، والأصل أنه كان يدرس الأمر منذ القدم، وكان يقرأ مقالات "هيكل"، و"موسى صبري" في محاولة لفهم "الدولة"، وأنه دارسا جيد لظروفها؟ ثم إنه بحكم وظيفته مديرا لجهاز المخابرات الحربية، ويعده المشير محمد حسنين طنطاوي ليكون مديرا للمخابرات العامة، هل كانت تغيب عنه أوضاعها البائسة التي جعلت منها مجرد "حاجة كده"، قيل له عندما أعطيت له "خدي دي"؟.. فمن الذي أعطاها له ولم يقدر على رفض هذه العطية؟.. هل الأشباح أم ماذا؟!
في حيص بيص:
سيجد الباحث المتخصص في الخطاب السياسي نفسه في "حيص بيص"، إذ قرر دراسة خطاب الجنرال، وأسعى بكل جهدي في هذا المقال وغيره، لرفع العنت عمن يقوده حظه العاثر للتورط في المستقبل في دراسة كهذه، قد تنتهي به للإصابة بـ"الخفيف" إن لم نقم نحن بمحاولة الشرح والتوضيح والتوصل لهذا الخطاب الباطني، فهذا حاكم من زمن "بطن الشاعر"، عندما كان يقال في وصف ما يستغلق فهمه من أشعار: المعنى في بطن الشاعر!
الظاهر من الأمر أن من قال له "خد دي" هم أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة مثلا، باعتبارهم أولياء أمور الدولة المصرية، وقد عزلهم جميعا بعد ذلك، فألم يكن في الإمكان أن "يتعازم" معهم على "دي"، فيقول لمن قال له "خد دي": خدها أنت، أو يبحثون عن بديل عسكري يورطونه في "دي"، وقد كان كل من الفريق سامي عنان، والفريق أحمد شفيق، جاهزا لاستلام "دي"؟
الظاهر من الأمر أن من قال له "خد دي" هم أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة مثلا، باعتبارهم أولياء أمور الدولة المصرية، وقد عزلهم جميعا بعد ذلك، فألم يكن في الإمكان أن "يتعازم" معهم على "دي"، فيقول لمن قال له "خد دي": خدها أنت، أو يبحثون عن بديل عسكري يورطونه في "دي"، وقد كان كل من الفريق سامي عنان، والفريق أحمد شفيق، جاهزا لاستلام "دي"؟
وإذا كانت عقدة الأمر بيد أعضاء المجلس، فلماذا تركوا البلد حتى صارت مجرد "حاجة كده"، يلقونها على عاتق أحدهم بأن قالوا له "خد دي"؟!
الذي يعزز لدي من أنه لا يعني المجلس العسكري بقوله قالوا لي "خد دي"، أنه لم يكن في الأسر وتحت الإكراه البدني والمعنوي ليفرضوا عليه "دي" فرضا وبالتالي لم يكن يستطيع أن يرفض، فقد قام بإرادته الحرة بتعديل الدستور ليمد في أجله في الحكم ثماني سنوات أخرى، وبدلا من أن يغادر في 2022 تم المد له حتى عام 2030، ومن المؤكد أنه سيقوم بتعديل الدستور ليجلس على تلها بعد ذلك، فما الذي دفعه للاستمرار في الحكم؟ وهو الأمر الذي ينفي عندي فكرة أنه يقصد أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقوله: قالوا لي خد دي، فمن يقصد إذا؟
الرجل يعيش في حالة دينية خاصة، لا يعرفها إلا من اقترب من مجال التصوف في جانبه الطقوسي لا الفلسفي، ومن حالة الدروشة الخاصة بالتصوف المصري، وليس بالتصوف النضالي كما الحال في الجزائر إبان الاستعمار، والتركي في زمن العلمانية المتوحشة!
وخطاب صاحبهم تطغى عليه هذه الحالة، ولأنه منذ عشر سنوات يحاول أن يأخذنا معه لمحاولة فهمه فيفشل، فقد تدخل خالد الجندي ليقول إنه اكتشف أن بين السيسي وربنا خط مفتوح، وأنه يملك "باسوورد" هذا الخط. إنها فكرة أهل الحقيقة في النسق الصوفي، وكما قال قائلهم: إن كنت في حكم الشريعة عاصيا.. فأنا في حكم الحقيقة طائعا!
وهذا الدويتو ذكرني بحلقة من البرنامج التلفزيوني القديم "ندوة للرأي"، كان قد جاء للبرنامج للنقاش مع عدد من العلماء؛ من ادعى أنه المهدي المنتظر، ومساعد له، ولم يكن المهدي متحدثا يستطيع شرح فكرته، فاستعان بصاحبه وكان أزهريا وخطيبا بليغا ومفوها، فأكد على أن صاحبه هو المهدي المنتظر، وطرح الأسانيد التي تؤكد ذلك!
هذه التصورات عن الخلط بين الدين والحكم، وتصويره أنه لم يكن بإمكانه أن يرفض العرض، عندما قيل له "خد دي"، يجعل الصورة أكثر وضوحا لنا بمن كلفه بالمهمة.. إنهم خُضر العمائم، الذين هم عند أهل التصوف أولياء الله الصالحين
بعد سنوات قرأت في الصحف أن هذا المهدي قد ادعى النبوة، وتم القبض عليه، ولم نسمع شيئا عن مساعده هذا، هل استمر مؤمنا بنبوته وإيمانه بأنه المهدي المنتظر؟!
الجنرال في أحاديث سابقة أكد أنه في مكانه هذا بإرادة الله، وأن الله من سيحاسبه إن قصّر أو أخطأ، وهذا كله يقربنا من فكرة الحكم الإلهي ويبعدنا عن فكرة الدولة الحديثة، بعد المشرق عن المغرب، وليس هذا موضوعنا!
هذه التصورات عن الخلط بين الدين والحكم، وتصويره أنه لم يكن بإمكانه أن يرفض العرض، عندما قيل له "خد دي"، يجعل الصورة أكثر وضوحا لنا بمن كلفه بالمهمة.. إنهم خُضر العمائم، الذين هم عند أهل التصوف أولياء الله الصالحين، وهم يستخدمون عمائم خضراء اللون، وقديما قال المريد في وصف حاله:
خضر العمائم وأنا نائم ندهوني/ أهل الكرم في الحرم ناديتهم جوني!
قالوا نعدك معانا قلت عدوني/ أشرط عليكم في بحر الخوف تعدوني!
لما لقيوني موافي الشرط ثبتوني/ فرطوا البوارق وحلفوا لم يفوتوني!
ومدد يا أهل المدد!
twitter.com/selimazouz1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر الحكم السيسي مصر السيسي أزمات الحكم مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة اقتصاد صحافة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أعضاء المجلس من قال له لم یکن فی وقد کان
إقرأ أيضاً:
هل يجب على الفقير إخراج زكاة الفطر.. دار الإفتاء توضح الحكم الشرعي
مع دخول شهر رمضان المبارك واقتراب موعد إخراج زكاة الفطر، يتساءل البعض، خاصة ممن يعانون من ضيق الحال، عن مدى وجوبها على الفقير.
وقد أجاب الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء، على هذا التساؤل موضحًا الحكم الشرعي.
وفقًا لما نشره موقع دار الإفتاء الرسمي، أكد الدكتور علي جمعة أن زكاة الفطر فرض على كل مسلم يخرجها عن نفسه وعن من تلزمه نفقته، مستندًا إلى ما جاء في كتاب «الدر المختار» للعلامة الحصكفي، الذي نص على وجوب إخراج زكاة الفطر على كل مسلم حر، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، حتى وإن كان مجنونًا، شريطة أن يكون لديه نصاب زائد عن حاجته الأساسية، كالمستلزمات الضرورية وحاجات أسرته، ولو لم يكن يملك مالًا مكتملًا طوال العام.
وبذلك يتضح أن زكاة الفطر غير واجبة على من لا يملك ما يزيد عن حاجته الأساسية، مما يرفع الحرج عن الفقراء غير القادرين على إخراجها.
هل تجزئ شنطة رمضان عن زكاة الفطر
يرى جمهور العلماء أن زكاة الفطر يجب أن تكون من غالب قوت أهل البلد، أي الطعام الأساسي الذي يعتمد عليه الناس في معيشتهم، مثل الأرز أو القمح.
وعليه، فإن كانت الشنطة الرمضانية تحتوي على هذا الطعام، وبالقدر المحدد شرعًا، وهو ثلاثة كيلوجرامات من الأرز مثلًا، وكانت تُوزع على الفقراء فقط، فإنها تُجزئ عن زكاة الفطر.
ولكن نظرًا لأن شنطة رمضان تُوزع أحيانًا دون تدقيق، وقد تصل إلى غير المستحقين، فيجب التأكد من وصولها إلى مستحقها الشرعي.
في المقابل، هناك من العلماء من يرى أن إخراج زكاة الفطر نقدًا جائز، وفقًا لرأي الحنفية.
وبذلك، إذا كانت قيمة الشنطة مساوية للحد الأدنى لزكاة الفطر، فإنها تُجزئ عند من يأخذ بهذا القول، وهو ما عليه العمل في دار الإفتاء المصرية، التي ترى جواز إخراج الزكاة في صورة أموال أو مواد غذائية يحتاجها الفقير.
أما عن توقيت إخراج زكاة الفطر، فيرى المالكية والحنابلة أنه يجوز إخراجها قبل العيد بيومين، فيما يذهب الشافعية والحنفية إلى أنه يمكن تعجيلها من أول يوم في رمضان.