اللغة وتشكيل الذات.. كيف تصوغ رؤانا لأنفسنا؟
تاريخ النشر: 11th, March 2024 GMT
"إن اللغات بتفاعلها وتناميها، وصحتها ومرضها، وحضورها وغيابها، وارتقائها وهبوطها، هي أشبه ما تكون بالكائن الحي المتنامي، بكل صفاته وخصائصه وأطواره وتطوره، هي تمثل الروح الممتدة، المحركة للإنسان، المجددة لنفسه، والمنمية لعقله وتفكيره، الصائغة لعلاقاته، الموسعة لخبراته وقدراته. فاللغة هي دينامية الإنسان، أو هي الإنسان، هي عقله، وعلمه، وثقافته، وهويته، ومفتاحه في الدخول إلى بوابة الكون الكبير، واستكناه آياته في الأنفس والآفاق".
هكذا عبر المفكر الإسلامي عمر عبيد حسنة عن أثر اللغة في صياغة الذات في مقدمة كتابه المشترك مع عدد من المؤلفين "اللغة وبناء الذات"، فاللغة كما يراها وسيلة الحركة الإنسانية كلها، في المجالات العلمية والسياسية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والتربوية، وهي وعاء ذلك كله ووسيلته، وإذا تراجعت اللغة، أو تعطلت توقفت الحركة الإنسانية وانقطع الاتصال والتواصل والتفاهم، ذلك أن اللغة من أهم وأدق طرق إنشاء الارتباط والتواصل بين الناس وبين الأجيال المتعاقبة، وهي أوعية المعلومات يتحقق بواسطتها النقل الثقافي والتراكم المعرفي وحفظ المخزون التراثي، وهي جسر التبادل العلمي المعرفي.
إن اللغة هي محرض التفكير، ومحرك الاجتهاد والتجديد، ووسيلة التفاهم والإقناع، ومفتاح الإقلاع الحضاري، هي الثقافة، وهي الحضارة، وهي العلم، والتنمية، والتفكير، والتعبير، وهي الشخصية بكل قسماتها وسماتها وذاكرتها وفلسفتها ورؤاها.
كيف تحدد اللغة صورنا الذهنية لدى الآخر؟ وكيف تؤطره وتصوغه لدينا؟إن اختزال اللغة بوصفها أداة للتواصل كما يتوهم كثيرون مجحف بحقها وبحق الهويات البشرية، لأنها ليست محض لسان للتعبير عن الحاجات. فاللغة تعكس أسلوب المرء وعقله وتفكيره، وتعكس طريقة معاشه أيضا، فالإنسان يفكر بينه وبين نفسه بلغته الأم، وأسلوب معالجته للأفكار لا بد أن يكون متسقا مع آلية تفكيره ونظرته للحياة ورؤاه للواقع وتوقعاته منه، فباللغة يعبر المرء عن نفسه، ويرسم صورته الذهنية لدى الآخرين، وبها أيضا يحدث نفسه في تقييمه للآخرين ولغاتهم وأحاديثهم وسلوكياتهم، ولا نشط إذا ما وصفنا لغة المرء بعصب التفكير لديه، فمخرجاته اللغوية تظهر منطقه، وتراكيبه، وتفضيله لتعابير لغوية على أخرى ونظمها بشكل معين وانتقائه لها دونا عن غيره يعكس أهدافه ومراميه، ويسهم في خلق صورته عند الآخرين، ويمكن له أن يعمد إلى تجميلها أو تقبيحها.
ومن هنا جاءت مقولة "حدثني حتى أراك"، هذه المقولة التي نسبت إلى سقراط وإلى غيره من الناس، والمغزى منها أن لغة المرء وطريقة تفكيره الواضحة في أسلوب حديثه تعكس مزايا شخصيته، وترسم صورته الذهنية لدى الآخرين، فيختصر المرء في محيطه بكلمة وحديث، لا بشكل وهيئة. وقد أثر عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال "الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام". فالكلام يحدد هوية المرء الذاتية ويعبر عنه.
وفي سياق هذا الحديث أذكر ما قاله الخليفة الأموي الشهير عبد الملك بن مروان، حين سئل عن كثرة الشيب الذي غزا رأسه بعد أن صار خليفة، فأجاب إنني "أعرض عليكم عقلي في الشهر 4 مرات" يقصد خطبة الجمعة التي كان يلقيها بنفسه كل يوم جمعة، فكيف لا يغزو الشيب رأسي!
ويعبر شيخ الإسلام ابن تيمية عن تأثير اللغة في صياغة الذات، ورسم صورتها عند أنفسنا وعند الآخر بقوله في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم"، "اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية، التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن، حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فإنه من التشبه بالأعاجم، ولا ريب أنه مكروه، ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر، وكانت لغة أهلهما رومية، ولما سكنوا أرض العراق وخراسان وكانت لغة أهلهما فارسية، وكذلك المغرب وكانت لغة أهلها بربرية، عودوا أهل هذه البلاد التحدث بالعربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار، مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديما.
ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت عليهم، وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه، إنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه صعب". وعن تأثير اللغة في فكر الإنسان ومنطقه قال "واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق".
ما العلاقة بين نظم الجمل في اللغة العربية وتشكيل الذات؟إن ترتيب الكلم في الجمل في اللغة العربية يخضع لقواعد النحو العربي، لكنه ينتظم في الوقت نفسه بقالب بلاغي يعكس أسلوب الكاتب وطريقة تفكيره ورسائله المباشرة وغير المباشرة التي يريد إيصالها إلى القارئ علانية أو خفية.
إن ولاءنا نحن -العرب المسلمين- للغة العربية مضاعف، فهي مكون أساسي من مكونات هويتنا الوطنية والقومية وعنصر جوهري من عناصر انتمائنا الديني، لذلك يبدو اهتمامنا بها مبالغا للغرب في بعض الأحيان، ويروق لبعض الناس عربا ومسلمين وغير عرب وغير مسلمين أن يعزو عنايتنا بها وولاءنا لها إلى محض كوننا مسلمين، ويقصدون بذلك تأطير اللغة والحد من حجمها الحقيقي بجعلها مرتبطة بالدين فحسب. والحقيقة أنها كيان لغوي مستقل يزدان بعبقرية خالصة، وتتميز بأنها القالب البديع الذي حوى معجزة الدهر، وحملها لتتوارثها الأجيال إلى أن تقوم الساعة، فهي اللغة التي اختارها الله تعالى لتكون لغة القرآن الكريم آخر الكتب السماوية، فهي لغة خطاب السماء للعالمين على اختلاف أعراقهم وأجناسهم ومشاربهم وألسنتهم.
وإذا ما تساءلنا: لماذا اختار الله اللغة العربية لتكون اللغة الخالدة، لغة القرآن الكريم؟ فإننا لن نصل إلى جواب جازم يقنع جميع الخلق، لكننا -المسلمين- نؤمن أن وراء اختيار الله حكمة بالغة، ونجتهد في تبيين ذلك وإيضاحه، فتركيب الكلم في الجملة العربية يتسلسل بمنطق النظر إلى الحدث ونقله، فالجملة الفعلية على سبيل المثال تبدأ بالفعل فالفاعل فالمفعول به، ثم تأتي الظروف لاستكمال بناء الصورة الذهنية عن الحدث المنقول لدى المخاطب، وهذا موافق تماما لآلية المنطق العربي، فالحدث الممثل بالفعل هو الأهم، ثم يأتي من قام بالفعل في الدرجة الثانية من الأهمية، ثم يليه من وقع عليه الفعل، وتبقى الظروف مكملات للحدث، غير أن ذلك لا ينطبق على اللغات الأخرى، فكل لغة تعكس منطق القوم الذين يتحدثون بها بوصفها لغتهم الأم.
وماذا عن الجملة الاسمية في اللغة العربية؟ لا يبعد الحديث عنها عن الجملة الفعلية كثيرا، فعمادا الجملة الاسمية هما المبتدأ والخبر، وبعبارة أخرى هما المسند والمسند إليه، وكلا نوعي الجمل في العربية منطقيا يدوران حول فكرة الإسناد، إسناد الخبر إلى المبتدأ للحصول على معنى مفيد وصريح ومباشر، وإسناد الفعل إلى الفاعل لتحقيق المعنى المراد وإيصاله.
وسيسأل سائل: ماذا عن التقديم والتأخير في نظام الجمل العربية، وكيف نفسره؟بالنظر إلى مباحث البلاغة العربية، وبالتحديد إلى مباحث علم المعاني كالتقديم والتأخير والتعريف والتنكير والفصل والوصل وغيرها، فإننا ندرك جيدا أن أي تقديم أو تأخير في نظام الجملة العربية ليس عبثيا، بل يخدم أهداف المتحدث ويؤدي مقاصده، فتقديم الفاعل أو المفعول على الفعل مثلا دليل على أهميته في الجملة نفسها، أو في نفس المتكلم، ويكون أحيانا للفت النظر إليه أكثر من الحدث نفسه، وتقديم المفعول به على الفعل كذلك يكون لأغراض بلاغية معنوية، ففي سورة الفاتحة في قوله تعالى: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ تقدم المفعول على الفعل لجلالته وعظمته وأهميته، وللدلالة على معنى الحصر، فلا نعبد إلا الله تعالى ولا نستعين إلا به، ولم لم يحدث التقديم والتأخير لما وقع معنى الحصر في قلب السامع الفاهم ونفسه.
ومحصلة الكلام تقودني إلى القول إن منطق اللغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم هو الشكل الأمثل والأفضل لتشكيل منطق الإنسان ورؤاه تجاه الكون والحياة، ومعالجته للأحداث التي تدور من حوله.
ولست أبالغ إن قلت إن "الذي يضيع لغته يضيع إنسانيته ويفقد ذاته، ويعرض وجوده للتهديد والخطر، فبغير بناء اللغة العربية لا يمكن أن يتعرف العرب على مستوى الفرد والمجموع إلى ذواتهم، وبغيابها يفقدون بناءهم النفسي المنهجي، ويغيبون عقولهم ويجعلون جذورهم بادية على سطح الأرض، فيسهل اجتثاثهم واقتلاعهم".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان حريات اللغة العربیة لغة القرآن
إقرأ أيضاً:
الماركات العالمية.. اللغة الصامتة
مريم الشكيلية
لم يعد هناك من لا يعرف ما هي الماركات العالمية التي تضعها الشركات على منتجاتها، ومسمياتها، وأشهرها فقد أصبح اليوم العالم قرية صغيرة، ولكن في هذه السطور أردت أن أتحدث إلى تلك العقول التي أصبحت مهووس بهذه العلامات التجارية.
وفي الحقيقة فإن الناس اليوم يتنافس من أجل اقتناء منتجات الشركات الحاملة لهذه العلامات التجارية والبعض يتباهى بها. ليس الأثرياء فقط يتوافدون نحو هذه الماركات العالمية فحسب وإنما اليوم حتى أصحاب الدخل المحدود والمتوسط يجاهدون في اقتناء منتجات هذه العلامات الفاخرة كما يطلق عليها.
وهذا ليس بأمر صادم في ظل هذا الانفتاح الكبير وظهور برامج التواصل الاجتماعي وأجهزة الهواتف الذكية، والإعلانات اليومية، ومشاهدة محركين هذه البرامج بما يعرف إنهم صناع محتوى أو مشاهير السوشال ميديا أضف إلى ذلك أصحاب الطبقة المخملية، ومشاهير الفن والإعلام وغيرهم كل هؤلاء اليوم أصبحت حياتهم وتفاصيل يومياتهم على شاشات الهواتف ويعرضون مشترياتهم ومقتنياتهم بشكل مباشر أو غير مباشر مما يجعل مشاهديهم يحذون حذوهم، ويقلدونهم بما استطاعوا إليه سبيلا هكذا أصبحت لهذه الماركات حضور دائم في الساحة فالأثرياء يتعاملون معها كأنها شيء عادي اعتادوا عليها ليس في إظهارها أقصد وإنما في اقتنائها فهم لا يمكن لهم أن يقتنوا بأقل منها وكأنهم يخشون من اتهامهم بقله مالهم والفقراء أو أصحاب الطبقة الوسطى يرون في هذه الماركات أحلام يجب تحقيقها أو السعي إلى تحقيقها وأيضاً حتى يرون لغيرهم إنهم في استطاعتهم اقتناء هذه العلامات التجارية الباهظة الثمن وإنني أقول البعض وليس الكل..
إن هذه الماركات التجارية ليست إلا علامة وضعتها الشركات لتمرير منتجاتها بأسعار تفوق حتى قيمتها الصناعية ليقتنيها الأثرياء، ويصدقها الفقراء، وأنا هنا أطلق عليها مسمى ماركات عالمية لعقول فارغة فليس معقول أن أشتري منتج بأسعار خيالية فقط لمجرد وضع عليها مسمى ماركة في هذه الحالة أنا لا أشتري المنتج وإنما أشتري علامة تجارية، وتذهب هذه الأموال إلى شركات تتضاعف ثرواتها من هكذا فعل في المقابل إنني أستطيع أن أشتري منتج معقول السعر لأنني في نهاية المطاف سوف يأتي اليوم ويتلف هذا المنتج أو هذه السلعة وسوف اضطر إلى شراء غيرها وهكذا.
إن تهافت البعض إلى هذه الماركات التجارية الباهظة في منظورهم واعتقادهم إن من خلالها يخاطبون المحيطين بهم ومجتمعهم إنهم يملكون قدرا كبيرا من المال والثراء ولكن بلغة صامته.
وفي ظل الحديث اليوم عن رسوم جمركية فرضها الرئيس الأمريكي على العالم ومن بينها (الصين) أخذت شركات صينية مصنعة تخرج عن صمتها بالحديث بأن الشركات التي تضع لمنتجاتها العلامات التجارية الشهيرة والباهظة هي في الحقيقة تصنع في مصانع في الصين.
إن كان هذا صحيحاً أم لا ليس هذا المهم هو يجب لعقولنا أن تنفض عنها غبار التفاهات هذه التي تسيطر عليها علامة تجارية لتجعل منها كما يظن صاحبها أنه من طبقة مخملية وهمية لنوقف هذا التهافت نحو شركات تضاعف أموالها من جيوبنا.