في يوم من أيام المدينة المنورة، جاء عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- إلى النبي- صلى الله عليه وصحبه وسلم- يستشيره في أمر أرض له، يُحب أن يتصدق بها، فقال: «يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أصبتُ مالًا بخيبرَ لم أصِبْ مالًا قطُّ هوَ أنفَسُ عندي منهُ فما تأمرني بِه؟» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن شئتَ حبَستَ أصلَها وتصدَّقتَ بِها».

فَهِم عمر بن الخطاب التوجيه النبوي له، فوقف أرضه تلك على أن: «لا يباع أصلُها، ولا يوهَب، ولا يورث، وتصدَّقَ بِها للفقراءِ وفي القُربى وفي الرِّقابِ وفي سبيلِ اللَّهِ وابنِ السَّبيلِ والضَّيفِ، لا جناحَ علَى من وليَها أن يأكُلَها بالمعروفِ أو يُطعِمَ صديقًا غيرَ متموِّل».

مثَّل هذا الحديث الشريف انطلاقة حقيقية لمسيرة طويلة من الإبداع والابتكار بتأسيسه هذا النظام الحيوي القابل للتكيف مع كل زمان، وفي كل مكان وفق الأطر المُحَدِّدة له، والتي من أهمها: أن الأصول التي يملكها الوقف ثابتة لا يسمح بتغييرها (لا يباعَ أصلُه، ولا يوهَبَ، ولا يورثَ) ولا بأي طريقة أخرى من طرائق نقل الملكية، على أن التصرف يكون بإنفاق العائد على الجهات التي خصصت للوقف (وتصدَّقَ بِها للفقراءِ وفي القُربى وفي الرِّقابِ وفي سبيلِ اللَّهِ وابنِ السَّبيلِ والضَّيفِ..)، مع إبراز أهمية وجود قائم على إدارة الوقف، يمكن أن يُعطى جزءا من العائد: (لا جناحَ علَى من وليَها أن يأكُلَها بالمعروفِ أو يُطعِمَ صديقًا غيرَ متموِّل)، وذلك نظير الخدمات التي يقدمها للوقف من إدارة، وضبط، وتثمير، وأداء حقوق المنتفعين من الوقف، وبذلك تبلورت منظومة مكتملة قام عليها الوقف تمثلت في: الواقف، والمال الموقوف، وجهة الوقف، والقائمين على الوقف، والإطار الشرعي الذي ينظم العلاقة بين هذه الأطراف.

وبقدر ما حدد الحديث القواعد الرئيسية لثبات أصل الوقف، إلا أنه في المقابل أعطى المرونة اللازمة لتنويع جهات صرف المنفعة أو العائد، على أن يكون الموقوف له مباحا، وجهة بر يستفيد أبناء المجتمع منها، فطفق الصحابة على إثر ذلك في اختيار أبوابا جديدة للوقف، فمنهم من وقف للفقراء، ومنهم من وقف سلاحا للجهاد في سبيل الله، ومنهم من وقف دارا للإقامة والسكن، ومنهم من وقف حليا للزينة، أو غير ذلك مما يعود بنفع أو يسد احتياج، ففتحوا بذلك طريقا واسعا للتجديد في أبواب الوقف، فَتَلَقَّت الأجيال اللاحقة من المسلمين فكرة الوقف بمزيد من التطوير والابتكار والإبداع، حتى قيل أنه لم يترك المسلمون بابا فيه حاجة إلا ووقفوا له أوقافا.

أقامت الشعوب الإسلامية مشروعات كبرى على أساس الوقف، فأمَّنت الطُّرق بما يحتاده المسافر، وأنشئت الجوامع الكبرى، وبنيت المدارس، وأقيمت البيمارستانات (المستشفيات)، بل وأبدعوا في تنويع الأصول الموقوفة لها من أوقاف تجارية، وزراعية وغير ذلك مما يعمل على استدامة الدعم المالي لمثل تلك المشروعات الكبيرة، فكانت فكرة الوقف نجاحا باهرا حققته الحضارة الإسلامية.

عَبَرَت فكرة الوقف عباب السنين منذ العهد النبوي إلى عصر الناس هذا، كما اجتازت حدود البلاد الإسلامية إلى العالم، فظهرت الأوقاف عند غير المسلمين في آسيا، وأوروبا، وأمريكا وأستراليا بأشكال متنوعة، قائمة في أساسها على الوقف مثل: المؤسسات الخيرية الداعمة للفقراء والمنكوبين، والجامعات الوقفية ومراكز البحث العلمي التي أصبحت اليوم تمتلك رؤوس أموال وقفية ضخمة كما هو الحال مع جامعة هارفارد الجامعة صاحبة رأس المال الوقفي الأعلى في العالم، إضافة إلى ذلك سايرت أفكار التجديد مستجدات الحياة، فطرق الوقف باب التأمين التكافلي فبدأت مسيرة شركات التأمين القائمة على الوقف بشركة ناجحة في جنوب إفريقيا وهي شركة: (تكافل SA)، كما استطاع الوقف التكيف مع تغير الأنماط الاقتصادية السائدة في هذا العصر، فمع اشتداد المنافسة في مجال الاستثمار، ولم يعد لرأس المال الصغير القدرة على المنافسة في السوق، استطاع الوقف تجاوز ذلك، فابتكر القائمون على الوقف أفكارا جديدة وجدوا بها موطئ قدم لأموال الوقف في السوق مثل فكرة الصناديق الوقفية، وتأسيس المؤسسات الوقفية التي تجمع بين (مرونة) الشركات التجارية، و(ضبط) المال الوقفي.

إن الوقف في عالم اليوم يشكل رُكنا رئيسيا مما أصبح يعرف على المستوى العالمي بـ (القطاع الثالث)، والذي يشمل مؤسسات العمل الخيري، وأعمال التطوع الأخرى بكافة جوانبها، كما أصبحت النظرة للوقف على أنه دعامة رئيسية لاستدامة مؤسسات المجتمع المدني، وداعم لتنمية المجتمع، وسندا للحكومات في تنفيذ مشروعات التنمية المستدامة للمجتمع، وذلك ما يعني مسؤولية أكبر على القائمين على الوقف للإبداع والابتكار في الاستثمار وتنويع الأبواب الوقفية، حتى تستمر المسيرة التي لم تتوقف يوما عن التجديد والتطوير منذ العصر النبوي إلى يومنا هذا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على الوقف على أن من وقف

إقرأ أيضاً:

عاجل | 5 حالات لإحياء الأوقاف المجهولة و3 للمعطلة.. ما هي شروط قبول البلاغات؟

تستطلع الهيئة العامة للأوقاف آراء العموم والمختصين بشأن لائحة إحياء الأوقاف المجهولة والمعطلة، بهدف وضع إطار تنظيمي يحقق مقاصد وشروط الواقفين، ويسهم في تحقيق الاستدامة للأوقاف، وتشجيع العموم على الإبلاغ عن الأوقاف المجهولة والمعطلة.
وحددت الهيئة 5 حالات للأوقاف المجهولة، تتضمن تعطل مصرفه ولا يوجد له ناظر قائم به بمستند يمنحه حق النظارة وفق الأنظمة واللوائح ذات الصلة، أو تعطل مصرفه وله ناظر ولم يوثق الوقف أو الوصية بوقف أمام الجهات المختصة دون وجود مانع نظامي أو قضائي، أو تعطل مصرفه لجهالة مكان الوقف لدى الناظر.
أخبار متعلقة "التعليم المرن".. خطة لرفع نسبة الالتحاق بالتعليم التقني إلى 33%الخطيب: قطاع السياحة سيتصدر جدول أعمال منتدى دافوس هذا العام3 حالات للأوقاف المعطلة
وتشمل الحالات أيضًا تعطل مصرفه لعدم علم الناظر بنظارته، أو الوقف الذي فقدت مستنداته الدالة على الملكية أو الوقفية وجد الناظر أو لم يوجد. ​
ونصّت اللائحة على وجود 3 حالات للأوقاف المعطلة، تشمل أن تكون جميع الأصول الموقوفة أو أحدها معطلاً كلياً، لمدة ثلاث سنوات متتالية، أو أن يكون عائد الأصل الموقوف لمدة 3 سنوات متتالية قليل لا يتجاوز ربع عائد المثل، أو أن يكون الوقف للانتفاع المباشر - كالسكنى - وتعطل الانتفاع به وفق شرط الواقف كله أو ربعه لمدة 3 سنوات متتالية.
وأوضحت اللائحة أن الهيئة تتلقي الإبلاغ عن وقف مجهول أو معطل من العموم، وفق أحكام اللائحة، ولها أن تقوم من أجل ذلك بتنظيم الفعاليات الثقافية والتوعوية بشأن أهمية الإبلاغ عن الأوقاف المجهولة والمعطلة في الكشف عنها وإحيائها، وضمان استدامتها. .article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; }
اشتراطات الإبلاغ
واشترطت لقبول البلاغات ألا يكون الوقف المجهول المبلغ عنه معلومًا لدى الهيئة، أو أن يقدّم المبلّغ الإبلاغ عبر الموقع الإلكتروني للهيئة أو أي وسيلة تحددها الهيئة وتعلن عنها في موقعها الإلكتروني، وألا يوجد بلاغ قد سبق رفعه للهيئة بشأن الوقف المجهول محل الإبلاغ، ما لم تر الهيئة فائدة إضافية في الإبلاغ الجديد، وألا توجد دعوى قائمة بشأن النظارة أو إثبات الوقف أو استحقاق في الوقف المجهول.
وألزمت الهيئة المبلغ بالإفصاح عن البيانات الشخصية، والالتزام بذكر بيانات الوقف بشكل دقيق، بما في ذلك وصف موقع العقار ذي الصلة بالوقف، بحسب الحال، وإرفاق ما يثبت ذلك مع الإبلاغ، والتعهّد بسلامة المعلومات، وبعدم علمه بوجود دعوى قائمة بشأن الوقف محل الإبلاغ، وللهيئة إسقاط استحقاقه للمكافأة في الوقف المجهول متى ما تبيّن وجود دعوى قائمة قبل تاريخ البلاغ. ​
واشترطت الهيئة لحصول المبلغين على مكافأة قبول الإبلاغ واستيفاء كافة إجراءات معالجة الوقف المجهول بإثباته، ورفع التعديات الواقعة عليه إن وجدت، وتحصيل مبلغ التعويض إن كان منزوعاً، وإقامة ناظر عليه، وتسليمه للناظر خاليًا من الشواغل وفق الإجراءات المتبعة.
وتتضمن الاشتراطات أيضًا ألا يكون المبلّغ هو المعتدي الذي يطلب الإعفاء أو ناظر الوقف المجهول الذي يطلب من الهيئة معالجته، وتعهد المبلّغ بالالتزامات والتعهّدات المنصوص عليها في اللائحة.
مكافأة تشجيعية
ونصت اللائحة على أن يستحق الموظفون العاملون في الإدارة المختصة بمعالجة بلاغات الأوقاف المجهولة بالهيئة مكافأة تشجيعية، لقاء إسهامهم في معالجة الوقف المجهول، إذا توفر شرطان هما ألا يتجاوز مقدار المكافأة ثلاثة رواتب شهرية في السنة المالية للهيئة، وأن يكون الموظف قد أسهم في رفع الجهالة عن الأوقاف وفقاً لمؤشرات الأداء المحددة للموظف.
وتقضي اللائحة بأن تحدد نسبة المكافأة من قيمة العين الموقوفة، ويرجع لمعرفة قيمتها عند الاقتضاء إلى مكاتب التقييم المعتمدة لدى الهيئة.

مقالات مشابهة

  • د. محمد بشاري يكتب: غزة: معركة البقاء والصمود أمام مأساة متجددة
  • الخطيب يرفض مناقشة فكرة رحيل كولر عن الأهلي
  • فكرة سيئة.. ما التأثيرات الاقتصادية لترحيل المهاجرين في الولايات المتحدة؟
  • 10 % من قيمة عين الوقف للمبلّغين عن «المجهولة والمعطلة»
  • سان جيرمان يتراجع عن فكرة التعاقد مع صلاح والهلال يتحرك لخطفه
  • 5 حالات لإحياء الأوقاف المجهولة و3 للمعطلة.. ما هي شروط قبول البلاغات؟
  • عاجل | 5 حالات لإحياء الأوقاف المجهولة و3 للمعطلة.. ما هي شروط قبول البلاغات؟
  • نافذة سوداء
  • موعد قرعة كأس الملك إسبانيا 2025: منافسة جديدة وأحلام متجددة
  • «أوقاف الشارقة» تطلق منصة ناظر الوقف