نافذة وقفية الوقف.. منذ النشأة حتى اليوم مسيرة متجددة
تاريخ النشر: 11th, March 2024 GMT
في يوم من أيام المدينة المنورة، جاء عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- إلى النبي- صلى الله عليه وصحبه وسلم- يستشيره في أمر أرض له، يُحب أن يتصدق بها، فقال: «يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أصبتُ مالًا بخيبرَ لم أصِبْ مالًا قطُّ هوَ أنفَسُ عندي منهُ فما تأمرني بِه؟» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن شئتَ حبَستَ أصلَها وتصدَّقتَ بِها».
مثَّل هذا الحديث الشريف انطلاقة حقيقية لمسيرة طويلة من الإبداع والابتكار بتأسيسه هذا النظام الحيوي القابل للتكيف مع كل زمان، وفي كل مكان وفق الأطر المُحَدِّدة له، والتي من أهمها: أن الأصول التي يملكها الوقف ثابتة لا يسمح بتغييرها (لا يباعَ أصلُه، ولا يوهَبَ، ولا يورثَ) ولا بأي طريقة أخرى من طرائق نقل الملكية، على أن التصرف يكون بإنفاق العائد على الجهات التي خصصت للوقف (وتصدَّقَ بِها للفقراءِ وفي القُربى وفي الرِّقابِ وفي سبيلِ اللَّهِ وابنِ السَّبيلِ والضَّيفِ..)، مع إبراز أهمية وجود قائم على إدارة الوقف، يمكن أن يُعطى جزءا من العائد: (لا جناحَ علَى من وليَها أن يأكُلَها بالمعروفِ أو يُطعِمَ صديقًا غيرَ متموِّل)، وذلك نظير الخدمات التي يقدمها للوقف من إدارة، وضبط، وتثمير، وأداء حقوق المنتفعين من الوقف، وبذلك تبلورت منظومة مكتملة قام عليها الوقف تمثلت في: الواقف، والمال الموقوف، وجهة الوقف، والقائمين على الوقف، والإطار الشرعي الذي ينظم العلاقة بين هذه الأطراف.
وبقدر ما حدد الحديث القواعد الرئيسية لثبات أصل الوقف، إلا أنه في المقابل أعطى المرونة اللازمة لتنويع جهات صرف المنفعة أو العائد، على أن يكون الموقوف له مباحا، وجهة بر يستفيد أبناء المجتمع منها، فطفق الصحابة على إثر ذلك في اختيار أبوابا جديدة للوقف، فمنهم من وقف للفقراء، ومنهم من وقف سلاحا للجهاد في سبيل الله، ومنهم من وقف دارا للإقامة والسكن، ومنهم من وقف حليا للزينة، أو غير ذلك مما يعود بنفع أو يسد احتياج، ففتحوا بذلك طريقا واسعا للتجديد في أبواب الوقف، فَتَلَقَّت الأجيال اللاحقة من المسلمين فكرة الوقف بمزيد من التطوير والابتكار والإبداع، حتى قيل أنه لم يترك المسلمون بابا فيه حاجة إلا ووقفوا له أوقافا.
أقامت الشعوب الإسلامية مشروعات كبرى على أساس الوقف، فأمَّنت الطُّرق بما يحتاده المسافر، وأنشئت الجوامع الكبرى، وبنيت المدارس، وأقيمت البيمارستانات (المستشفيات)، بل وأبدعوا في تنويع الأصول الموقوفة لها من أوقاف تجارية، وزراعية وغير ذلك مما يعمل على استدامة الدعم المالي لمثل تلك المشروعات الكبيرة، فكانت فكرة الوقف نجاحا باهرا حققته الحضارة الإسلامية.
عَبَرَت فكرة الوقف عباب السنين منذ العهد النبوي إلى عصر الناس هذا، كما اجتازت حدود البلاد الإسلامية إلى العالم، فظهرت الأوقاف عند غير المسلمين في آسيا، وأوروبا، وأمريكا وأستراليا بأشكال متنوعة، قائمة في أساسها على الوقف مثل: المؤسسات الخيرية الداعمة للفقراء والمنكوبين، والجامعات الوقفية ومراكز البحث العلمي التي أصبحت اليوم تمتلك رؤوس أموال وقفية ضخمة كما هو الحال مع جامعة هارفارد الجامعة صاحبة رأس المال الوقفي الأعلى في العالم، إضافة إلى ذلك سايرت أفكار التجديد مستجدات الحياة، فطرق الوقف باب التأمين التكافلي فبدأت مسيرة شركات التأمين القائمة على الوقف بشركة ناجحة في جنوب إفريقيا وهي شركة: (تكافل SA)، كما استطاع الوقف التكيف مع تغير الأنماط الاقتصادية السائدة في هذا العصر، فمع اشتداد المنافسة في مجال الاستثمار، ولم يعد لرأس المال الصغير القدرة على المنافسة في السوق، استطاع الوقف تجاوز ذلك، فابتكر القائمون على الوقف أفكارا جديدة وجدوا بها موطئ قدم لأموال الوقف في السوق مثل فكرة الصناديق الوقفية، وتأسيس المؤسسات الوقفية التي تجمع بين (مرونة) الشركات التجارية، و(ضبط) المال الوقفي.
إن الوقف في عالم اليوم يشكل رُكنا رئيسيا مما أصبح يعرف على المستوى العالمي بـ (القطاع الثالث)، والذي يشمل مؤسسات العمل الخيري، وأعمال التطوع الأخرى بكافة جوانبها، كما أصبحت النظرة للوقف على أنه دعامة رئيسية لاستدامة مؤسسات المجتمع المدني، وداعم لتنمية المجتمع، وسندا للحكومات في تنفيذ مشروعات التنمية المستدامة للمجتمع، وذلك ما يعني مسؤولية أكبر على القائمين على الوقف للإبداع والابتكار في الاستثمار وتنويع الأبواب الوقفية، حتى تستمر المسيرة التي لم تتوقف يوما عن التجديد والتطوير منذ العصر النبوي إلى يومنا هذا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على الوقف على أن من وقف
إقرأ أيضاً:
المهرجانات المحلية.. نافذة على التراث ورافد للتنمية
- مصعب الهنائي: ملتقيات للأسر وتنافس في الحراك الاقتصادي
-هلال الشقصي: تشجيع المشاركة المجتمعية وتحسين البنية الأساسية
- أحمد المحروقي: تعزيز التواصل والتبادل الثقافي بين مختلف المحافظات
شهدت محافظات سلطنة عمان في الفترة الأخيرة إقامة العديد من المهرجانات المحلية التي لاقت إقبالًا كبيرًا من الزوار، وتميزت هذه المهرجانات بتنوع فعالياتها التي شملت الجوانب الثقافية والفنية والرياضية والترفيهية، مع إبراز التراث والعادات الخاصة بكل محافظة، "عمان" سلطت الضوء على أبرز ما تميزت به هذه المهرجانات وانطباعات الزوار.
يصف أحمد بن مطر الربخي مهرجان محافظة الظاهرة بأنه كنسمة عذبة وفعاليات متفردة تُحيي أرواح الزائرين، ويشير بأنه أكثر من حدثٍ عابر فهو حكاية تُروى بلغة بسيطة صادقة، تحمل بين طياتها عبق التاريخ وروح الأصالة التي لطالما ميزت هذه الأرض، ومنذ انطلاق الفعاليات اجتمعت القلوب على أنغام مختلفة بين المتعة والترفيه والتراث، ففي كل ركن، كانت هناك لمسة فنية تحمل رسالة أمل وإلهام، تُذكرنا بأن البساطة قادرة على رسم أجمل لوحات السعادة، لقد منح مهرجان الظاهرة دفعة قوية لحركة السياحة الداخلية، حيث فُتحت الأبواب لتكون الظاهرة منارة للتلاقي والمُتعة، خاصةً في ظل افتقار المحافظة لفعاليات مماثلة، هذا المهرجان لم يكن مجرد تجمع ترفيهي، بل كان رحلة جعلت من كل لحظة قصة تُخلد في ذاكرة كل أسرة شاركت فيه، وأرى أن مهرجان الظاهرة كان رسالة حب وعطاء لكل من يبحث عن متنفس يجمع بين عبق الماضي وحيوية الحاضر.
مطلب ترفيهي
أما شهاب بن حمد الشندودي يعبر عن رأيه قائلاً: تعد هذه المهرجانات مطلب تلبي احتياجات المواطنين من الجانب الترفيهي، كما أن توقيتها كان مناسبًا لفترة الإجازة المدرسية والأجواء الشتوية، ويؤكد الشندودي دورها في التعريف بالولاية واستقطاب السياح من داخل المحافظة وخارجها من خلال التعريف بالتاريخ العماني والعادات والتقاليد، حيث إن المهرجانات تتضمن المسارح والقرية التراثية والتي تحتوي على معالم تاريخية تستعرض تاريخ البلد والعادات والتقاليد مثل وجود القرية البدوية، والحرف التقليدية والزراعة، ويرى الشندودي أهمية إشراك الإعلاميين وحضور وسائل التواصل الاجتماعي لنشر المحتوى الذي تقدمه هذه المهرجانات سواء أكان محتوى تراثيا أم ثقافيا أم حفلات مسائية، ولا ننسى أن هذه المهرجانات تعزز من القيمة التجارية في الولاية نفسها، كما أن للمهرجان دورا كبيرا في تعزيز الجانب الاقتصادي للولاية وتفعيل الفنادق والمحلات التجارية، وحقيقة ثمة توجه من الجهات المعنية في النهوض بهذا الجانب لتعزيز وإثراء السياحة الداخلية، ورأيت حقيقة إقبالا كبيرا من المجتمع لهذه المهرجانات، وتفعيل الحصون والقلاع والحارات القديمة الموجودة في الولايات لتنشيط الحركة السياحية فيها والتعريف بتاريخ هذه الأماكن.
تقديم المزيد
ويرى الدكتور مصعب بن سالم الهنائي صاحب مجموعة النسيم ومنظم مهرجان شتاء بهلا ٢٠٢٥م في نسخته الأولى بقرية بلادسيت بولاية بهلا بأن تنظيم المهرجان ليس بالأمر السهل فهناك تحديات وعقبات كبيرة ولكن الشغف والطموح كرجل أعمال كانا الدافع لتقديم شيء بسيط تجاه الوطن، وأن نكون جزءا من هذه النجاحات التي تحققها هذه المهرجانات، مضيفاً: لقد عكس توافد الجماهير الغفيرة إلى مهرجان شتاء بهلا ٢٠٢٥م من مختلف الولايات والمحافظات نجاح المهرجان وقد لمست إشادات على المستوى الرسمي والمجتمعي من ارتياح بالغ ورضا تام من الزوار وسعادتهم بالفعاليات والتميز في الفقرات، مؤكدًا على أن تنوع المهرجانات التراثية والترفيهية وتعدد الفعاليات في مختلف محافظات سلطنة عمان تساهم في بلورة فكر وثقافة وإبداع الترويج السياحي لمكونات البلاد وتبرز ثقافة الإنسان العماني، وأكد الهنائي أن ثقافة المهرجانات باتت ضرورة ملحة لتواكب ما يحدث في دول الجوار، ولعل سلطنة عمان كانت سباقة في هذا المنحى من خلال مهرجان ليالي مسقط ومهرجان خريف صلالة، وتشكل المهرجانات ملتقيات للأسر وتنافسا في الحراك الاقتصادي وإبداعا للمواهب في كل مضمار، ونتمنى بصفتنا منظمين أن نجد الدعم المناسب فما ننفقه لهذا الحدث يتجاوز ما يعود ماديا إلينا ولكن هدفنا تقديم متنفسات من خلال هذه المهرجانات العابقة بالإرث الحضاري والملهمة للأجيال للمجتمع، مضيفًا: مهرجان شتاء بهلا ليس مجرد حدث عابر بل هو منصة تعكس مواهبنا وثقافتنا العمانية وهو احتفاء بروح التعاون والتكامل وبقصص النجاح التي تلهمنا جميعا للمضي قدما في طريق الإنجاز والتميز، وسعينا من خلال هذا المهرجان إلى تقديم تجربة فريدة تجمع بين الترفيه والمعرفة وبين الأصالة والتجديد مؤكدا أن المهرجانات تشكل أحد روافد التنمية الاقتصادية وتشغيل القوى الوطنية وإضافة حراك وطني ويدفع بأصحاب الحرف والصناعات والمهن والأسر المنتجة لمزيد من العطاء.
تقييم آراء الزوار
أما هلال بن حمود الشقصي فيعبّر عن مهرجان شتاء بهلا بأنه مثال حيّ على الفعاليات الثقافية والترفيهية التي تساهم في تعزيز الهوية الثقافية والتراثية للمنطقة؛ فهو يتيح للزوار فرصة التعرف على التراث العُماني الأصيل الذي تتمتع به الولاية، مثل الفنون الشعبية، والمأكولات التقليدية، والحرف اليدوية، وتحريك الاقتصاد المحلي إذ يساعد المهرجان على زيادة مبيعات الحرفيين والمزارعين وأصحاب المشاريع الصغيرة، ووضع الشقصي بعض المقترحات لاستدامة هذه المهرجانات منها تشجيع أبناء الولاية على المشاركة في تنظيم المهرجان وتقديم أفكارهم، وتحسين البنية الأساسية كتوفير مرافق أفضل للزوار مثل مواقف السيارات، ودورات مياه نظيفة، ومناطق استراحة مظللة، والتسويق الفعال واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام التقليدي للترويج للمهرجان على نطاق أوسع، وتعزيز المشاركة المجتمعي، أيضاً استخدام مواد صديقة للبيئة وتقليل النفايات خلال المهرجان، والتعاون مع وكالات السفر والفنادق لتوفير عروض خاصة للزوار، وتقييم الزوار من خلال جمع آراء الزوار بعد انتهاء المهرجان لمعرفة نقاط القوة والضعف والعمل على تحسين أولويات التطوير وتعزيز مواطن القوة في النسخ القادمة.
مشاركة المحافظات
وحول مهرجان سناو يفيد أحمد بن يعقوب المحروقي بأن مهرجان سناو يُعد فسحة رائعة للتعريف بمحافظة شمال الشرقية وولاية سناو بشكل خاص ومعالمها السياحية والتراثية، فهو فرصة للمستفيدين من أبناء المحافظة، من الباحثين عن عمل والأسر المنتجة وأصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة لعرض منتجاتهم وخدماتهم، كما يتميز المهرجان بتنوع فعالياته التي تستهدف مختلف الفئات العمرية، مما يثري تجربة الزوار ويجذب أعدادًا كبيرة منهم، مشيراً إلى أن المهرجان ضم مختلف محافظات سلطنة عمان منها الوسطى والداخلية والشرقية والظاهرة، مما ساهم في تعزيز التواصل والتبادل الثقافي بين مختلف المحافظات، وأكد المحروقي على دور القرية التراثية في المهرجان، والتي جسدت تاريخ ولاية سناو العريق، وتعرض الحرف التقليدية والفنون الشعبية وأنماط الحياة القديمة والحديثة، وقد حظيت هذه القرية بإعجاب وتقدير كبيرين من قبل زوار المهرجان من المواطنين والمقيمين، وعن أبرز الأنشطة التي تضمنها المهرجان قال المحروقي: مشاركة خيمة وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه التي أقامت معرضًا لمعداتها وأدواتها، بالإضافة إلى سوق بيع المواشي بالمناداة المتطورة، ويُعتبر هذا السوق نموذجًا ناجحًا يجب تفعيله في كافة أسواق عمان، ولتحسين مستوى المهرجان في السنوات القادمة أرى من الأفضل إيجاد مساحة أوسع لإقامة المهرجان، وإضافة أنشطة متنوعة تستهدف المجتمع المحلي والمرأة العمانية بشكل خاص