1- "العشرية السوداء"
في موقع ويكيبيديا نجد هذا التعريف للعشرية السوداء: "الحرب الأهلية الجزائرية أو العشرية السوداء في الجزائر هي صراع مسلح قام بين النظام الجزائري وفصائل متعددة تتبنى أفكارا موالية للجبهة الإسلامية للإنقاذ والإسلام السياسي. بدأ الصراعُ في كانون الثاني/ يناير عام 1992 عقب إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 1991 في الجزائر والتي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزا مؤكدا.
تلك العشرية راح ضحيتها أكثر من ربع مليون قتيل، ولم تبدأ الجزائر في تضميد جراحها إلا بعد ميثاق السلم والمصالحة الذي قدمه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، حيث تم إجراء استفتاء عامّ عليه في 29 أيلول/ سبتمبر 2005 وحصل على موافقة 97 في المائة، وتم تنفيذه باعتباره قانونا في 28 شباط/ فبراير 2006.
الذين أطلقوا تسمية العشرية السوداء على تجربة المسار الديمقراطي في تونس منذ نتائج انتخابات 2011 التي فازت فيها حركة النهضة، إلى 25 تموز/ يوليو 2021 حين فعّل قيس سعيد الفصل 80 من الدستور وأوقف المسار برمته وفتح مسارا سياسيا جديدا؛ هل كانوا يستدعون الصورة المرعبة للعشرية الجزائرية ويريدون التلبيس بها على التونسيين لإيهامهم بكونهم عاشوا عشرية حرب أهلية بين مؤسسات الدولة والتيارات الإسلامية والحال أنهم لم يعيشوها؟
لون السواد يُحيلُ إلى الأحزان واليأس وإلى الظلام، وهم يقصدون ذلك طبعا فهم يصمون الإسلاميين بالظلامية، كما يصورونهم دائما على أنهم عنيفون وغير ديمقراطيين.
وهذا الوصْمُ بالظلامية والعنف هل كان حُكما موضوعيا مستَخلصا بعد خوضهم تجربة حكم مع الإسلاميين؟ أم كان حُكما مُسبقا منذ فوز الإسلاميين بالانتخابات في تشرين الأول/ أكتوبر 2011 فكانت الأحكامُ السلبية استباقية؟
لا يمكن معالجة الأزمات دون قراءة موضوعية لعناصرها ودون مراجعات نقدية علمية وشجاعة تحدد المسؤوليات وتشير إشارات مباشرة إلى الأخطاء وإلى المخطئين دون تهرب من المسؤولية، ودون محاولة رمي "المولود" مجهول النسب في حاوية على قارعة الطريق أو الاكتفاء بتحميل "التهمة" لطرف واحد.
مثل هذه المواقف تُعبّر عن كسل ذهني وعن عجز فكري وعن جُبن سياسي وأيضا عن ضَعف أخلاقي، فالتملص من نصيبنا في المسؤولية لا يعالج الأزمات وإنما يُضاعفها، لأننا سندخل بذلك إلى متاهات لا تنتهي من تبادل الاتهامات ومن ممارسة الكذب ومن محاولة تضليل الناس باستعمال وسائل غير جيدة؛ تفسد أخلاق المجتمع وتُنتج مظاهر الاتجار في الكذب والتزوير سواء في وسائل الاعلام أو في الفضاءات العامة.
2- محنة الديمقراطية
إذا كان خصوم الإسلاميين من سياسيين ومثقفين ونقابيين يُبيحون لأنفسهم وصف عشرية ما قبل حادثة 25 تموز/ يوليو 2021 بكونها "عشرية سوداء"، يريدون بذلك ترذيل خصمهم اللدود، فسيكون متاحا للإسلاميين أولائك التساؤل إن كانت تلك العشرية "حمراء"؛ إما إحالة على رمزية الحُمرة عند خصومهم الأيديولوجيين أو إشارة إلى حُمرة دماء شهداء الإرهاب، وإلى حُمرة نيران الحرائق المفتعلة
محنة الديمقراطية لا تكون غالبا بسبب أنظمة تسلطية وإنما تكون بسبب فساد مزاج النخب الفكرية والسياسية والإعلامية والنقابية حين تغرق في الخصومات وتُهمل قضايا الناس الحقيقية، فينصرف عنها الناس بل ويتحولون إلى جمهور غاضب يائس قد تستهويه مشاريع شعبوية أكثر سوءا وأبشع من الاستبداد.
وإذا كان خصوم الإسلاميين من سياسيين ومثقفين ونقابيين يُبيحون لأنفسهم وصف عشرية ما قبل حادثة 25 تموز/ يوليو 2021 بكونها "عشرية سوداء"، يريدون بذلك ترذيل خصمهم اللدود، فسيكون متاحا للإسلاميين أولائك التساؤل إن كانت تلك العشرية "حمراء"؛ إما إحالة على رمزية الحُمرة عند خصومهم الأيديولوجيين أو إشارة إلى حُمرة دماء شهداء الإرهاب، وإلى حُمرة نيران الحرائق المفتعلة، وإلى حُمرة أعين الجمر التي كان شررها منقدحا في الخطاب وفي النصوص وفي الرسوم وحتى في إيقاع الموسيقى وأدعية الصلاة.
3- سُنن التاريخ
في السياسة لا وجود لا لملائكة ولا لشياطين، وإنما يوجد دُهاةٌ وسُذّجٌ، يوجد فاعلون ومفعول بهم، يوجد مقتدرون وعاجزون، يوجد ناجحون وفاشلون، وفي السياسة توجد دائما سفينة واحدة تتسع لكل الخصومات ولكنها لا تتسع للكراهية والأحقاد، ولن تتوسّل الموجَ حين يأخذُها بمن فيها.
ما حدث في كانون الثاني/ يناير 2011 كان فرصة للتونسين كلهم على المستوى الداخلي كي يذهبوا إلى مستقبل جديد يعالجون فيه مشاكلهم الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويُرتّبون علاقاتٍ جديدة في ما بينهم، علاقات متحررة من ضغط السلطة التي قسمتنا بين "موالين" و"معارضين"، وكان فرصة على المستوى الخارجي بما يدعم السيادة الوطنية والقرار السيادي الحر.
ما حدث في الأيام الأولى من حرق وفوضى، يمكن فهمه بكونه نتيجة منطقية لما أحدثه هروب بن علي من صدمة نفسية لدى مناصريه كما لدى معارضيه، فلا أحد كان يتصور أن رئيسا بكل تلك المهابة والقوة المُتخيّلة سيهرب وهو في بدايات عُهدة رئاسية جديدة عنوانها "رفع التحديات".
الشعور بنهايات كل حاكم هو شعور فطري لإيمان الناس بحتمية فناء كل ظاهرة، فتلك سنن التاريخ وتلك محدودية الكائن البشري، لا خلود لأي بشر مهما حقق من "مجد" بمال أو بسلطة أو بعلم، ولكن تلك النهاية وبتلك الوضعية لم تكن منتظرة.
كان يُنتظَر من السياسيين والنخب الفكرية والإعلامية والنقابية أن تتلقّف اللحظة الجميلة بعقل مُبدع وبروح تفاؤلية وبعزم وطني، تلك اللحظة هي أشبه بلعج برق في ظلمة حيث انكشف للتونسيين حظ وفير يتيح لهم فرصة لترميم ذواتهم ولمعالجة واقعهم بحكمة ومسؤولية، كان يُنتظر أن يتنادى "الزعماء" و"القادة" في المنظمات والأحزاب والمجتمع المدني من أجل تونس جديدة.
يبدو هذا الكلام مثاليا، وهو مثالي فعلا، لأن أمجاد الشعوب إنما تنطلق من حُلم جميل ومن اشتغالٍ على المُثل العليا تنجذب إليه الهمم وتنطلق باتجاهها الأشواق وتندفع إليها روح التحرر، ولا تقدر الشعوب المُحبطة المهزومة نفسيا على بناء مستقبل ناهيك عن منافسة الشعوب الحية المبدعة.
الشعوب المُعبّأة بالأحقاد والمُكبّلة بالكسل الذهني والمُستعبَدة بأنانيتها وغرائزها وعُقدها النفسية، كلما أتاح لها التاريخ فرصة للنهوض ازدادت توغلا في الظلام ومارست المزيد من العبث واللغو، تماما كما طفل قاصر كلما أعطيته رصيدا سارع لإنفاقه في اللعب والحلوى.
ولما كان التاريخ سلسلة من الأسباب، تترابط حلقاتها في علاقة سببية بين المقدمات والمآلات، فلا يمكننا فهم ما انتهينا إليه بعد عشرة أعوام وما سيليها خارج قانون التاريخ وخارج ميزان العدل الإلهي، فالتاريخ لا عاطفة له وهو الشاهد الوحيد الذي لا يكذب أبدا، وشهادته هي ما أنجزه الناس بإرادتهم الواعية أو الحمقاء وبِعُلوّ همتهم أو بانحطاطهم الفكري والأخلاقي.
كل ما سيشهده التونسيون بعد 2011، كما قبلها، إنما هو نتاجُ أفعالهم، وليس مهمّا إن كانت تلك الأفعال سُوءَ تقدير أو كانت سوء نوايا، فقد كانت البدايةُ منذ أول يوم لهروب بن علي بدايةً غير "بريئة"
التاريخ لا ينطلي عليه خطاب الزيف ولا تُغريه الشعارات الكاذبة ولا يستجيب لأوهام الواهمين، ولا يُعطّل قوانينه ترضية للفاشلين حتى وإن حسُنت نواياهم، فعالم الناس يحتكم إلى النتائج، أما النوايا فيمكن أن تشفع للفاشلين في الآخرة.
كل ما سيشهده التونسيون بعد 2011، كما قبلها، إنما هو نتاجُ أفعالهم، وليس مهمّا إن كانت تلك الأفعال سُوءَ تقدير أو كانت سوء نوايا، فقد كانت البدايةُ منذ أول يوم لهروب بن علي بدايةً غير "بريئة"، بمعنى أنها كانت خالية من كيمياء الوحدة الوطنية وفاقدة لروح التضامن، كانت بداية بلا "ثقة".
الذي يقولون بأن السياسة مكر ودهاءٌ وبأن السُذّج وحدهم هم من يتحدثون عن "الثقة" و"البراءة" و"النوايا"؛ هم دائما من يتصدرون المشهد السياسي وهم دائما من يبادرون بالفعل ورد الفعل، وهم دائما من يحوّلون السياسة إلى تاريخ للصراعات والفِتن والخيباتِ والهزائم.
لن ينجوَ من الخيباتِ محايدون متفرجون ولن يُبرّأ من المسؤولية متابعون سلبيون حتى وإن ادعوا التعفف والنأيَ بالنفس عن المعارك الصغرى، فالتافهون وأصحاب العُقد النفسية لا يتصدرون المشهد إلا حين يتخلف أصحابُ الكفاءة عن تحمّل مسؤوليتهم، ولا يجدُ الأوباشُ جُرأة على ممارسة العبث إلا إذا غابت العدالة الحاسمة. العدالة ليست قيمة أخلاقية مجردة، إنما هي ميزان يستوي بين عالمي الحق والظلم، ميزان تحرسه إرادة لا تتخلف عن ممارسة "الحسم"، وكلما انعدم أو تأخر الحسم كانت مهمة التدارك صعبة.
twitter.com/bahriarfaoui1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الانتخابات تونس الإسلاميين الديمقراطية تونس انتخابات الديمقراطية الإسلاميين أيديولوجيا مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إلى ح مرة
إقرأ أيضاً:
كيف بنى الاتحاد السوفياتي أقوى قنبلة نووية في التاريخ؟
كان صباحا باردا جدا، لا يمكنك أن تتحمله إلا بملابس خاصة. نحن الآن في 30 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961، وهذا الطقس معتاد في منطقة نائية تماما هي إحدى جزر أرخبيل نوفايا زيمليا (الأرض الجديدة) الواقع في المحيط المتجمد الشمالي، في شمال روسيا الحالية.
للحظة كان كل شيء هادئا، لكن في جزء من الثانية برزت كرة من النور كان عرضها عدة كيلومترات، شاهدها الناس على مسافة ألف كيلومتر تقريبا وشعروا بأثرها بعد الحدث بثوانٍ قليلة حينما ارتعشت أجسادهم واهتزت جدران منازلهم وتساقطت قطع من زجاج بعض النوافذ.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل نشهد موت الشراكة بين أوروبا وأميركا؟list 2 of 2سلجوق بَيْرَقْدار مهندس المُسيَّرات الطامح لتغيير العالمend of listلم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، فخلال ثوانٍ قليلة تحولت كرة النور هذه إلى سحابة عرضها أربعون كيلومترا، وسبرت عنان السماء للأعلى على مسافة أكثر من 60 كيلومترا.
لو رأيتها فلا شك أنه سيُخيَّل إليك أنها نهاية العالم، وأن القيامة قد حانت، لكنه ليس إلا اختبارا عمليا أجراه السوفيات لقنبلة القيصر أو إيفان الكبير، أقوى قنبلة في تاريخ العالم ولا تزال، ولفهم هول الحدث يكفيك فقط أن تعرف أن الموجة الصدمية لهذه القنبلة عبرت العالم ثلاث مرات ورُصدت في عدة محطات أرضية، أضف إلى ذلك أن القنبلة تسببت في موجة زلزالية عبرت خلال القشرة الأرضية ودارت حول الكرة الأرضية كلها ثلاث مرات.
إعلان تاريخ قصير لـ"جبروت" السوفياتكانت تلك القنبلة هي أكبر دليل ملموس على أن الجحيم لا قاع له، إذا توصلت إلى ابتكار قنبلة نووية صغيرة فسأبتكر واحدة كبيرة، واذا ابتكرت ما هو أكبر من قنبلتي فسأبتكر ما هو أكبر وأكبر، لا نتحدث هنا بالمناسبة عن عبث أطفال صغار، بل سياسات دول! لكن قبل الخوض في تلك المأساة التي لا تتوقف من تلقاء نفسها، مثلها مثل تفاعل الانشطار النووي، دعنا نرجع بالزمن إلى صباح آخر، نحن الآن في 29 أغسطس/آب عام 1949، قبل تفجير القيصر بنحو اثنتي عشرة سنة.
في تلك الأثناء، كان أحد القطارات في منتصف الطريق بين مدينة أرزاماس غربي روسيا ومدينة سيميبالاتينسك في شرقي كزاخستان، عدة ساعات تبقت على وصول القطار الذي ثبتت عليه أعين رجال القيادة السياسية والعسكرية بالكامل في موسكو، وخاصة إيغور كورتشاتوف، المدير العلمي لبرنامج القنبلة النووية السوفياتي.
وكما هو واضح، لم يُخصَّص هذا القطار لحمل ركاب مهمين أو بضائع، بل حمل أول قنبلة نووية سوفياتية، التي سُمِّيت "آر دي إس-1″، أو كما سمَّاها الغربيون "جو الأول"، من المعامل البحثية إلى منطقة التجارب.
مثل الأميركيين، بنى السوفيات برجا معدنيا عُلِّقت القنبلة أعلاه، وبالإضافة إلى الأدوات التي تقيس قوة القنبلة وشدة الإشعاع، قاموا ببناء منازل خشبية وطوبية وجسور وأنفاق وأبراج مياه بالقرب من البرج، بل ووضعوا حيوانات في أقفاص موزعة على مناطق متفرقة قربا وبُعدا عن البرج، حتى يتمكنوا من دراسة آثار الإشعاع النووي بعمق. مع نجاح التفجير صرخ كورشاتوف على مسافة عدة كيلومترات في غرفة محصنة: "إنه يعمل! إنه يعمل!".
لا نعرف الكثير عن المشروع السوفياتي لبناء القنبلة النووية، لكننا نعرف أن المجتمع العلمي السوفياتي ناقش إمكانية صنع قنبلة ذرية طوال ثلاثينيات القرن الفائت، وقدم أول اقتراح ملموس لتطوير هذا السلاح عام 1940، أضف إلى ذلك أن الفيزيائي الروسي جورجي فلاوروف اشتبه في أن قوات الحلفاء كانت تُطوِّر سرا "سلاحا خارقا" عام 1939. كتب فلايوروف رسالة إلى جوزيف ستالين يحثه فيها على بدء هذا البرنامج خلال ثلاثة أعوام.
إعلانلكن السوفيات تباطؤوا في البداية، وبعد أن علم ستالين بسقوط القنبلتين الأميركيتين على هيروشيما وناغازاكي أمر بتسريع البرنامج علميا واستخباراتيا، حيث اهتم السوفيات بمراقبة مشروع الأسلحة النووية الألماني ومشروع مانهاتن الأميركي عن كثب.
في تلك النقطة يظهر كلاوس فوكس، عالِم الذرة الألماني الأصل الذي قدَّم للسوفيات معلومات مهمة حول تصميم القنبلة والمواصفات الفنية، وخلصت لجنة الكونغرس المعنية بالطاقة الذرية إلى أن فوكس قد أثَّر على سلامة الناس وألحق أضرارا "أكبر من أي جاسوس آخر"، ليس فقط في تاريخ الولايات المتحدة ولكن في تاريخ العالم.
ولعلها مبالغة منهم، لأنه خلافا للاعتقاد السائد، لم يكن هناك "سر كبير" وراء القنبلة الذرية، حيث اكتُشف تفاعل الانشطار النووي عام 1938، وأُعلن على مستوى العالم أن الطاقة الناتجة عن هذه العملية يمكن استخدامها لإنتاج سلاح ذي قوة غير عادية.
ولذلك، عرف فيزيائيون مثل روبرت أوبنهايمر وغيره من العلماء في مشروع مانهاتن أن الأمر مسألة وقت لا أكثر، قبل أن تتمكَّن دول العالم الأخرى من تطوير أسلحتها الذرية الخاصة عبر التجريب والخطأ، وإذا وضعت ميزانية مناسبة للمشروع، لأن المشكلة ليست في التفاعل نفسه، وإنما مواصفات القنبلة وتركيبها وطريقة عملها الداخلية.
وبالطبع كما تعرف، فلن تجد أكثر من السوفيات (والأميركيين بالطبع) مَن يمكن أن يخصص ميزانيات ضخمة لأجل أسلحة لا نعرف كيف يمكن أن تغير حياتنا.
في الواقع، تمكن السوفيات من إجراء أول تفاعل انشطاري متسلسل داخل هيكل من الجرافيت عام 1946، وبعد مواجهة بعض الصعوبات في إنتاج البلوتونيوم وفصل نظائر اليورانيوم على مدار العامين التاليين، تمكَّن العلماء السوفيات من تشغيل مفاعلهم الإنتاجي الأول.
يُعيدنا ذلك إلى جو الأول، القنبلة التي تعادل في قوتها قنبلة ترينتي التي اختُبرت في ولاية نيوميكسيكو الأميركية في 16 يوليو/تموز 1945 بقوة 20 كيلو طن، حيث تفاجأ جنرالات الحرب الغربيون بنجاح الاختبار، فقد قدَّرت المخابرات الأميركية أن السوفيات لن يُنتجوا سلاحا ذريا حتى عام 1953، بينما توقع البريطانيون أن ذلك سيحدث عام 1954، لهذا السبب تحديدا جاءت قضية كلاوس فوكس لتصبح في ليلة وضحاها أهم عملية تجسس على الإطلاق بالنسبة للبعض، رغم أن ما قدمه الرجل يحتمل فقط أنه سرّع من البرنامج النووي السوفياتي الماضي بالفعل في طريقه مدة تبدأ من ستة أشهر إلى عامين بحد أقصى.
إعلان وما العالم إلا سحابة عيش غراب كبرىفي تلك اللحظة لم يعد العالم كما كان، فمع نمو الحرب الباردة بدأ كلٌّ من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في "تكبير" قنابلهم. نحن الآن على أبواب تقنية جديدة، في يناير/كانون الثاني 1950، اتخذ الرئيس الأميركي هاري ترومان قرارا بمواصلة وتكثيف البحث وإنتاج الأسلحة النووية، وكان الهدف تحويل القنابل الذرية -ببساطة- إلى سلاح ضعيف أمام سلاح جديد هائل لم يره العالم من قبل: القنبلة الهيدروجينية.
يعمل كلٌّ من الاندماج النووي (الذي يصنع القنبلة الهيدروجينية) والانشطار النووي (الذي يصنع القنبلة الذرية) بمبدأ واحد، هو تحويل قدر يسير جدا من المادة إلى قدر هائل جدا من الطاقة، حسب نظرية أينشتاين النسبية ومعادلته الأشهر على الإطلاق: الطاقة تساوي كتلة المادة في مربع سرعة الضوء (E = mc 2)، والمعيار الأخير من المعادلة هو رقم هائل لن تتمكن حتى من قراءته.
يُنتج السلاح النووي أيًّا كانت طبيعته ما يقرب من 85% من طاقته في صورة انفجار صدمي وطاقة حرارية، أما الـ15% المتبقية فتنطلق إشعاعا نوويا قاتلا، يمتد أثره على مدار سنوات بعد التفجير.
لكنْ هناك فارق كبير في آلية عمل هاتين الطريقتين، وهي أن الانشطار النووي كما يبدو من اسمه يعتمد بالأساس على شطر ذرة كبرى (عادة من نظائر اليورانيوم أو البلوتونيوم) إلى ذرات أصغر مع فقدان قدر من الكتلة لتتحول إلى طاقة، أما الاندماج النووي فهو يعتمد على دمج ذرتين أصغر (نظائر الهيدروجين عادة مثل الديوتيريوم) لتكوين ذرة أكبر، مع فقدان قدر من الكتلة تتحول إلى طاقة.
ورغم أن القنبلة الاندماجية تكون أقوى من الانشطارية بثلاثة إلى أربعة أضعاف، فإن هذا الدمج يحتاج إلى قدر كبير من الطاقة كي يحدث، لأن الذرات تتنافر بطبعها، ولمقاومة هذا التنافر نحن بحاجة إلى عشرات الملايين من الدرجات المئوية من الحرارة. في الواقع إنه التفاعل نفسه الذي يحدث في باطن الشمس، التي تبلغ من الضخامة بحيث لو كانت وعاء لحملت أكثر من مليون كرة صغيرة بحجم الأرض.
إعلانويبدو أن السوفيات امتلكوا الأفكار المبكرة للقنبلة الاندماجية قبل أو بالتزامن مع الأميركيين، حيث تصور مصممو القنابل الاندماجية الروس سنة 1948 أن إضافة غلاف من اليورانيوم الطبيعي غير المخصب حول الديوتيريوم سوف يؤدي إلى نجاح التفاعل، لأن اليورانيوم الطبيعي سوف ينشطر كمقدمة لبناء الحرارة اللازمة لبدء اندماج نووي، أُطلق على تلك القنبلة اسم "سلويكا" أو الكعكة ذات الطبقات، وكانت تُعرف أيضا باسم "آر دي إس 6" (RDS-6S)، التي كانت خطوة حاسمة بين القنابل الانشطارية والقنابل الهيدروجينية.
فُجِّرَ تصميم الكعكة في 12 أغسطس/آب 1953 في إحدى جزر أرخبيل نوفايا زيمليا، في هذا الوقت تقريبا فجَّرت الولايات المتحدة أول قنبلة هيدروجينية في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1952، فيما أُطلق عليه اسم "اختبار مايك"، كان كلٌّ من "آر دي إس 6" ومايك اختبارا بدائيا، تطلب الأمر المزيد من التحسين، لكن السوفيات والأميركيين في سباق تسلح مفتوح، لذلك كانت الموارد غزيرة إلى حدٍّ لا تتصوره.
وفي عام 1954، توصل السوفيات إلى فكرة القنبلة النووية الهيدروجينية ذات المرحلتين، فبدلا من استخدام الحرارة والضغط الناتجين عن عملية انشطار نووي في طبقة من اليورانيوم، استُخدمت قنبلة انشطارية كاملة تطلق موجة إشعاعية تشعل بدورها فتيل التفاعل الاندماجي في المرحلة الثانية بسبب الحرارة الهائلة التي تسببها، وهنا ظهرت "آر دي إس-37″، القنبلة التي اختبرت بنجاح في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1955 وأطلقت طاقة مقدارها أكثر من 4 أضعاف سابقتها (1.6 ميغا طن)، وأكبر بما يقرب من مئة ضعف مقارنة بالقنبلة الذرية السوفياتية الأولى قبل ست سنوات، هنا بات واضحا أن الاتحاد السوفياتي يمكن أن ينافس الولايات المتحدة، بل ويتجاوزها.
يكفيك هنا أن تتأمل التصاعد لتفهم كيف يعمل هذا السباق، الطاقة الناتجة من انفجاري هيروشيما وناغازاكي قُدِّرت بنحو 15-20 كيلو طن فقط (لاحظ أننا في الفقرة السابقة استخدمنا لفظة "ميغا طن" وليس "كيلو طن"). وفي العلوم النووية يُقدَّر حجم الطاقة الخارجة من القنبلة بالكمية المقابلة من مادة "ثلاثي نيترو التولوين" (TNT) (تي إن تي) التي ستولد الكمية نفسها من الطاقة عندما تنفجر.
إعلانومن ثم فإن السلاح النووي الذي يعطي كيلو طن واحدا هو السلاح الذي ينتج كمية الطاقة نفسها في انفجار كيلو طن (ألف طن) من مادة "تي إن تي".
وبالمثل، فإن السلاح الذي تبلغ قوته ميغا طن سيكون له طاقة تعادل تفجير مليون طن من مادة "تي إن تي" (ألف كيلو طن)، ولفهم الأثر الهائل للقنابل النووية يكفيك أن تعرف أن القنبلة اليدوية الشهيرة في الحروب، التي تظهر في كثير من الأفلام، تحتوي فقط على ما مقداره 50-60 غراما من ثلاثي نيترو التولوين.
في هذا الوقت كان الأميركيونبالفعل قد أجروا تجربة "كاسل برافو"، وهو اختبار لقنبلة هيدروجينية أُجري في حلقية بيكيني، وهي عبارة عن شعب حلقي في جزر المارشال في المحيط الهادي، فُجِّرت القنبلة في 28 فبراير/شباط 1954، وأنتجت هذه القنبلة انفجارا انشطاريا بقوة 15 ميغا طن، وهي أكبر قنبلة نووية فُجِّرت في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، تلتها بعد ذلك "كاسل يانكي" (Castle Yankee)، التي فُجِّرت في الخامس من مايو/أيار 1954 في الموضع نفسه، وأصدرت طاقة تعادل 13.5 ميغا طن.
ناحية الجحيملكن الروس بعد تلك المرحلة انطلقوا ناحية الجحيم بلا توقف، وهنا تحديدا تظهر قنبلة القيصر، بطول ثمانية أمتار وعرض مترين ونصف ووزن 27 طنا تقريبا، تتكون قنبلة القيصر من ثلاث مراحل، الأولى قنبلة انشطارية تتسبب في تحويل كمٍّ من "الفوم" الذي يحيط بالقنبلة الرئيسية كلها إلى بلازما (وهي حالة خاصة للمادة في درجات الحرارة العالية)، التي بدورها تُشعل فتيل الاندماج النووي في القنبلة الثانية، الذي بدوره يفعل انشطارا نوويا ثانيا داخله، ويتبادل الاندماج والانشطار التفاعل معا حتى تصل درجة الحرارة إلى 100 مليون درجة مئوية، كل ذلك في كسر صغير جدا من الثانية، ثم تنفجر القنبلة، بطاقة قدرت بـ58 ميغا طن، ولتفهم هذا الرقم فهو يساوي عشرة أضعاف كل القوة الحربية التي استُخدمت في الحرب العالمية الثانية!
إعلانالغريب في الأمر أن القنبلة كانت قد صُمِّمت لإنتاج 100 ميغا طن من الطاقة، لكن السوفيات خشوا من تأثيرها على بلادهم، وعلى كوكب الأرض كله في الحقيقة! فقد كان كل شيء في لحظات كتلك فوضويا، وكان كل احتمال ممكنا، لأنه ببساطة لا أحد جرّب هذا من قبل.
ولا يتوقف الأمر على تفجير القيصر فقط، بل في الفترة بين الخامس من أغسطس/آب إلى 27 سبتمبر/أيلول عام 1962، أجرى الاتحاد السوفياتي سلسلة من 3 تجارب للأسلحة النووية، في المنطقة نفسها التي انطلقت فيها "القيصر"، وسُمِّيت التجارب رقم 173 و174 و147، وأنتج كلٌّ من هذه الانفجارات الثلاثة قوة مقدارها 20 ميغا طن.
وفي 24 ديسمبر/كانون الأول 1962، أجرى الاتحاد السوفياتي ما سُمي "الاختبار رقم 219" في المنطقة نفسها، وكان ناتج هذه القنبلة أقل قليلا من نصف القيصر، أي نحو 24.2 ميغا طن. وتُعَدُّ هذه القنابل الخمس؛ القيصر ثم الاختبار رقم 219 ثم الاختبارات الثلاثة 173 و174 و147، أقوى انفجارات نووية في تاريخ البشرية.
الغرض الرئيسي من كل هذه التجارب لم يكن حربيا، بل سياسي، حيث هدف السوفيات إلى إثبات أن بلدهم كان قادرا على إنتاج مثل هذه الأجهزة، واستخدامها لو اضطر لذلك.
رغم الكثير من التعقيدات السياسية والنفسية، فإن الأمر في جوهره لم يكن أكثر من سباق بين فريقين لكن على مستوى لم تعهده من قبل أو تتصور أنه قد يكون موجودا بالأساس خارج نطاق كرة القدم أو المئة متر حرة مثلا، سباق بدأه أوبنهايمر ورفاقه قبل نحو ثلاثة أرباع قرن ولم يقف إلى الآن، ويمكن لك أن تلاحظ ذلك بوضوح في التلويح بالنووي خلال حرب الروس الحالية مع الناتو في أوكرانيا.
في عالمنا، هناك نحو 12-18 ألف قنبلة نووية، جاهزة للشحن، جاهزة للانطلاق في لحظات، بعضها قنابل هيدروجينية تجعل من قنبلتي هيروشيما وناغازاكي مجرد لعب أطفال، ورغم أنه احتمال ضعيف أن تقوم حرب نووية لأن كل طرف يعرف أنه لا يطلق النار على الأعداء فقط، بل على نفسه كون العدو سيرد قبل أن تصله الضربة، فإن الأمر في النهاية لا يتطلب إلا قرارا مهتزا من بعض الرجال الغاضبين، وما أكثرهم.
إعلان