أسواق النخاسة.. بين أروقة منظمات «الأمم»
تاريخ النشر: 10th, March 2024 GMT
اليوم؛ ومنذ أن أنشئت بما يسمى بـ«منظمات الأمم المتحدة» في العام (1945م) بعد الحرب العالمية الثانية، تحرص الدول العنصرية والمتغطرسة إلى حقن الذاكرة الشعبية بملهيات الآمال والطموحات فيما يشار إلى (السلام والأمن، والتنمية، وحقوق الإنسان) وهي الأهداف المراد تحقيقها كما روج لها مع بداية النشأة ولا تزال، وهذه كلها أكذوبات تروج ليل نهار لتهدئة هذه الذاكرة عن فوران احتقانها لما هو واقع، ولما يتعارض تماما من هذه الحبات الرباعية المخدرة للشعوب الحرة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقط، بل يتعدى الأمر إلى التوظيف المخل والسمج لمدلولاتها السامية على أرض الواقع، يحدث ذلك لأن الدول المارقة عن القانون الدولي هي التي تنتهج حرمات هذه الرباعية، وعلى مسمع ومرأى من العالم الضعيف أو المتآمر حماية على مصالحه الخاصة، وما يحدث اليوم في فلسطين، وما كان قبلا، وفي دول أخرى كثيرة، تظل أمثلة حية لتنشيط أفعال النخاسة عبر منظمات الأمم المتحدة، ولماذا يحدث ذلك بين أروقة منظمات الأمم المتحدة؛ بينما في الواقع تقوم هذه الدول المتكبرة والمتجبرة والمنتهكة للقانون الدولي والشرعة الدولية، بأفعالها الفردية في كل دول العالم؟ والجواب؛ هو: لإعطاء الصيغة القانونية للاستمرار في الانتهاكات والممارسات القذرة من قبل هذه المجموعة المتآمرة على كل ما هو إنساني، التي لا تقيم أي وزن أو حساب لكل دول العالم، فالجميع عبيد ومستعبدون راكعون خانعون، يكفيهم أن يعيشوا على الفتات، فقد شريت ذممهم على عرصات النخاسة ما بين أروقة الأمم المتحدة (الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، ومجلس حقوق الإنسان، ومحكمة العدل الدولية، والبنك الدولي) وغيرها الكثير من المنظمات المشكلة للأمم المتحدة، ومن التابع لها، أو المنتمي إليها، وليتخيل أحدنا أن كل هذه القائمة المتسلسلة من المنظمات المغلفة بالغطاء الدولي «أمم متحدة» لا تملك قرارا واحدا يمكن أن تجمع عليه، ويبقى اللاعب الوحيد في كل هذا الهيلمان هي الولايات المتحدة الأمريكية الدولة المارقة الكبرى في المجتمع الدولي، كما أشار إلى ذلك «نعوم تشومسكي» نفسه واصفا بلاده بـ «أن أمريكا هي نفسها عنوان العنف في العالم، وأنها كانت وما زالت تمارس التسلط والتعذيب ضد الإنسان في مناطق كثيرة من العالم».
ولذلك تستحوذ الدول التي تسمى بالعظمى على فضل السبق في أسواق النخاسة عبر منظمات الأمم المتحدة، فهي التي تحدد الأهداف، وهي التي تحدد القوانين والنظم التي تُسَيِّرْ هذه المنظمات، وهي التي تحدد من يدخل ومن يخرج، وهي التي تحدد من تكون له كلمة ولو خجولة، وهي تحدد من يمنع عن ذلك، وهي تحدد من يهان على امتداد الأمة الإنسانية من مشرق الأرض إلى مغربها، وهي تحدد من يعز حتى في موطن أصله الذي نشأ تحت سمائه، واحتضنته أرضه، ومن يحاول فقط، أن يستفسر؛ قبل أن يعترض أو يقول كلمته التي يريدها، يجد نفسه خارج دائرته الإنسانية، منبوذا، محاصرا، تصدر في حقه عشرات القرارات الصادرة من أسواق النخاسة، التي تنتهك إنسانيته، وحقيقة وجوده كإنسان له حق العيش على أرضه فقط، صحيح أن الإنسانية طوال حقبها الزمانية منذ نشأتها الأولى تعيش نفس الإرهاصات، ولكن كان ذلك في حدوده الدنيا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى أن ليس هناك مؤسسة تعنى سواء بالإساءة إليه أكثر، أو بتأطير حقوقه المسلوبة، ولو بالنذر اليسير منها، وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي استدعى الإنسان نفسه لأن يبتكر هذه المنظمات المتعددة في وظائفها، وفي ممارساتها، وفي تنوعها، وفي تدرجها؟ ألا يشير ذلك إلى البحث عن سبل الرحمة بنفسه؟ ألا يحتم ذلك لأن يقف الجميع مع الجميع؟ ما الذي غير في فكرة الالتحام الإنساني الساعي لإنقاذ نفسه من نفسه؛ إلى فكرة اعتناق الشتات، والترمل، والتفرق، تماهي القوى ليكون المنهج البديل؟ هل الشيء من الإساءة إلى الذات هو الشيء نفسه إلى بنائها؟ وكيف تبنى في ظل هذا الانفصام الذي تمارسه على نفسها؟ هل هناك أنواع مختلفة من الإنسانية؟ هل هناك إنسانية شرقية، وأخرى غربية، أو شمالية وجنوبية؟ وأين سلطة الأديان في ترويض هذه الأنفس النافرة؟
وعلى ما يبدو أن ارتقاء الإنسان في الفكر لم يمنعه من التحرر من مظانه الخاصة، وبقدر هذا الارتقاء استطاع ولا يزال؛ ابتكار وسائل وأدوات لتعميق التكور على هذه المظان، وإعطائها الأولوية في ترتيب سلم الأولويات، حتى وإن أدى ذلك إلى كثير من الإساءة إلى الآخرين، فوقع هذه الإساءات على أي طرف لا يهم في ظل أن تكون هناك هيمنة مطلقة، وأن تكون هناك نرجسية مبالغ في تقديرها، وأن تكون هناك فوقية واستعلاء تعيد بالصورة الذهنية إلى القرون الأولى للفسحة الذهنية للبشرية عندما كانت تقاتل لأجل البقاء، فتأكل الشجر والبشر، وتستوطن الحجر، كملاذ للحماية من شيء قد يفتك بها في أي لحظة، ولذلك فحالة الاستنفار المعاشة في ذلك الزمن البعيد، وحالة الخوف، والترقب، لا تزال كما هي الآن، فهناك خوف من شيء قادم، يفتك بالبشرية، ولذلك لم تأمن البشرية على نفسها حتى هذه اللحظة، ومؤشر ذلك هو حالة الإمعان في الإساءة إلى الآخر، حتى وأن تقاسم هذا الآخر مع الآخر من جنسه الهواء والماء، والشراب، فالتوجس قائم، ولذلك حتى لا يظهر الشيطان من قمقم أحد منهما على الآخر، فعلى أحدهما أن يفتك به قبل أن يرتد إليه طرفه، فحالة التوجس هذه، وحالة الخوف هذه، وحالة عدم الاطمئنان هذه، كلها صور محفزة للإمعان في تلقي الإساءة.
في السابق عرفت أسواق النخاسة في أماكن محددة للمتاجرة بالإنسان، وهي في حالتها؛ كما أتصور أنها أسواق تقليدية عشوائية، تحتكم فقط على ما هو معروض من بشر، وما هو موجود من المتباهين من أصحاب الأموال، أما اليوم فتطول القائمة وبصورة متضخمة، سواء من حيث تضخم الأنظمة السياسية المتنافسة على المزايدة بما تملكه من قوة مادية، ومعنوية، حيث يعمل كل نظام سياسي وفقا لمصالحه الخاصة، وليس كما يروج تطبيقا وتنظيما للشرعية الدولية، وحقوق الإنسان عامة، كما يروج، وهو ترويج فيها من «السماجة» ما فيه، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك سوقا مركزية لتنظيم مؤسسي، من حيث القوانين والنظم التي وقعت عليها، ولا تزال؛ كل دول العالم المنظمة إلى بما يسمى بـ«الأمم المتحدة» ومنظماتها المتخصصة والفرعية، كما جاء أعلاه.
لم تعد الذاكرة الشعبية اليوم تحتجز مساحة معينة لمفهوم الرق والعبودية بمفهومها المطلق المتوارث منذ العصور القديمة؛ وحتى مجيء الإسلام، وحرص منهجه على إلغائه، وتشجيع الأمة على التخلص منه، فيما يعرف بـ«عتق الرقبة» لكثير من الأحكام الصارمة والقوية، إلا أن هذه الصورة لا تزال تجد لها مجالا للحديث والتطبيق؛ سواء أكان ذلك وفق الصورة التقليدية؛ ليس من خلال بيع البشر في الأسواق بصورة مباشرة بما عرف بـ«أسواق النخاسة» ولكن عبر ممارسات كثيرة يستعبد فيها الإنسان إما لحاجته للعيش في هذه الحياة، أو لغرض مادي آخر، حيث يتم فيها استباح الحريات، وحق الإنسان الكريم في العيش بكامل حريته التي تكلفها له الأديان، والأعراف، والقوانين الدولية الحديثة، وتجرم من لا يؤمن بها، أو يمارسها سواء في العلن أو في السر، ومع مرور كل هذا العمر الإنساني، وما يشهده من نزاع مستمر فيما يخص العبودية، وطمس الحريات، والأثمان الباهظة التي يدفعها مقابل ذلك، إلا أن صور العبودية لم تنته إلى الأبد، وإن قدر لها أن تتنقل من صورة إلى أخرى، يبتكرها المصرون على استعباد الناس، وحرصهم على أن تبقى هذه الـ«خسيسة» أو السوسة مستمرة، لتحقيق أهداف كثيرة، في مقدمتها تركيع أي إنسان يسعى للحرية والأمان الإنساني، ويتحرر من عبودية الآخر عليه، وفق صورة كثيرة، وهذا الحرص وكما يؤسف له حقا، لا يحرص عليه فرد أو جماعة فقط، بل المجتمع الدولي بأكبره، وبأكثره، في حالة عيش من التناقض الغريب، الذي لا يستوعبه عقل، وإلا كيف يفهم أنه في جانب سن قوانين صارمة لمحاربة العبودية، وفي جانب آخر ممارسات تؤصل بقاء ذلك، وأمام مرأى ومسمع من العالم كله، فهل وصل الحال بالإنسان أن يعيش حالة انفصام دائمة؟
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: منظمات الأمم المتحدة التی تحدد هی التی تحدد من لا تزال
إقرأ أيضاً:
كيف تضع واشنطن يدها بيد منظمات تصنفها إرهابية؟!
يمانيون../
فتحت الإدارة الأميركية باب التواصل مع “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا والمصنفة دوليًا إرهابية)، الجسم الرئيسي في ائتلاف الجماعات السورية المسلحة التي استولت على الحكم في دمشق. ويهدف هذا التواصل إلى اغتنام فرصة التغيير الحاصل على رأس السلطة في دمشق من أجل بلورة معطيات جديدة تفيد المحور الأميركي- “الإسرائيلي” الذي لم يتمكن بالرغم من ضغوطه الهائلة في السنوات الماضية من إحداث اختراق أساسي في سورية، إلى أن أتـته الفرصة مع تحرك الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا، بالتزامن مع العدوان “الإسرائيلي” على لبنان.
وقد انتظرت الإدارة الأميركية بفارغ الصبر تحقيق هذا الإنجاز، اعتماداً على سياسة طويلة المدى بدأت مع التضييق على سورية اقتصادياً في ثمانينيات القرن الماضي، ثم محاولة تدجينها مع أنظمة الاعتراف بالكيان “الإسرائيلي” بعد عام 1991، ثم تشددت بعد احتلال العراق عام 2003، حين هدد وزير الخارجية الأميركية كولن باول سورية وطالبها بإنهاء دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، ثم تطور الأمر عام 2011 إلى رعاية السفير الأميركي في دمشق للتظاهرات ضد النظام، قبل أن تنتقل الحكومة الأميركية إلى توفير الأسلحة لجماعاتٍ مسلحة تقاتل ضد الحكومة السورية، ثم إلى سنّ “قانون قيصر” الذي غرز أظفاره في لقمة عيش المواطن السوري ووفّر فرصة لإضعاف النظام وتجفيف موارده بالتزامن مع احتلال القوات الأميركية منشآت النفط والغاز شرق سورية.
ماذا تريد واشنطن؟
من الواضح أن الإدارة الاميركية تمسك بعصا غليظة في عملية ترويض الحكم الجديد في دمشق، وهذه العصا هي أداة العقوبات الاقتصادية والمالية التي يتم استخدامها لإرغام هذه السلطة على إثبات حسن سلوكها وتلبية مطالب محددة، هذا فضلاً عن الضغط الذي يشكّله الوجود العسكري الاحتلالي الأميركي في شرق سورية والاحتلال “الإسرائيلي” المستجدّ لمناطق في ريفي دمشق ودرعا. وقد لا تصل حصيلة الاتصالات بين الجانبين في النتيجة إلى رفع كلي للعقوبات. وبحسب دبلوماسي أوروبي تحدث لوكالة رويترز، فمن السابق لأوانه إسقاط جميع العقوبات تماماً.
وذكرت وزارة الخارجية الأمريكية أنها قد تراجع تصنيفها لـ “هيئة تحرير الشام” (“جبهة النصرة” سابقاً) كمنظمة إرهابية “في المستقبل” عندما تتخذ الهيئة إجراءات منتظرة منها. وقال الرئيس الأميركي جو بايدن في تصريحات الأحد الماضي، إنه يتابع “تصريحات القادة السوريين الجدد، وهي تبدو جيدة حتى الساعة ونراقب أفعالهم أيضاً”، مشيرًا إلى أن “بعض جماعات التمرد لديها سجل في الإرهاب”. فيما أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أنَّ بلاده أقامت «اتصالاً مباشراً» مع «هيئة تحرير الشام»، وذلك على الرغم من تصنيفها منظمة إرهابية على لوائح الولايات المتحدة والأمم المتحدة بسبب تنفيذها هجمات انتحارية وقتل مدنيين وتبني رؤية طائفية عنيفة. سبق ذلك كشف أحد المسؤولين الأميركيين أن واشنطن تتواصل بالفعل مع “هيئة تحرير الشام” والجهات الفاعلة الأخرى على الأرض بشأن العمليات في ساحة المعركة. لكن ذلك لا يعني أن القوات الأميركية قد تنفذ انسحاباً قريباً من سورية بعد تغيير النظام؛ فوفق “البنتاغون” ستواصل القوات العمليات العسكرية في شمال شرق سورية ضد تنظيم “داعش”، يضاف إلى ذلك سبب ربما أكثر أهمية وهو “منع الجماعات المدعومة من إيران من تحقيق مكاسب”، كما قال مسؤول أميركي.
ترفع الإدارة الأميركية سقف مطالبها حيال السلطة الجديدة في دمشق وهي تدرك أن الأخيرة تحتاج إلى تبييض ملف قادتها وإلى اعتراف دولي بالسلطة التي أعلنوا عن تشكيلها وإلى رفع الحصار الاقتصادي عن سورية، وتستخدم في ذلك عناوين ناعمة تبرر تدخلها من أجل فرض أجندتها، ولا سيما الحديث المتكرر عن ضرورة احترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات وترتيب مرحلة انتقالية سلسة، لكنها في العمق تركز على الأهداف الآتية:
– العلاقة مع إيران: تسعى الإدارة الأميركية إلى التأكد من عدم إقامة الحكم الجديد في سورية أية صِلات وثيقة مع إيران، بهدف منع تشكّل أي تفاهم يمكن أن يضر بالتحالفات التي تقيمها الولايات المتحدة في المنطقة والهادفة لكبح حضور إيران ودورها في مساندة المقاومة، إضافة إلى تشديد عزل الجمهورية الإسلامية سياسياً واقتصادياً باعتبارها عنصراً متمرداً على السياسة الأميركية. وتريد واشنطن التأكد من أن خط الوصل الذي يربط ايران بسورية عبر العراق قد تم قطعه تماماً في منتصف الطريق، وهو مطلب أميركي دائم يفسر إلى حد كبير استمرار القوات الأميركية في احتلال أجزاء من سورية على الحدود مع العراق.
– توفير الأمن لـ”إسرائيل”: يشكل هذا الشرط سبباً إضافياً للوجود العسكري الأميركي في سورية والعراق. نذكر أنه خلال عهد الرئيس ترامب (2016- 2020) اتخذ قراراً مفاجئاً بسحب قوات بلاده من سورية ربما بالتفاهم مع روسيا، لكن موجة اعتراض من “إسرائيل” واللوبي “الإسرائيلي” في الولايات المتحدة جمّدت هذه الخطوة. وقد يكون من أهداف الولايات المتحدة جرّ الحكم الجديد في دمشق إلى صفقة تطبيع مع “إسرائيل” يتم تسويق منافعها بانسحاب “إسرائيلي” من الأراضي المحتلة حديثاً في سورية، وليس من الجولان، وتخفيف العقوبات عن سورية.
– الإرهاب: تريد الإدارة الاميركية التخلص من مجموعات أجنبية متشددة قاتلت مع “هيئة تحرير الشام” ضد النظام السوري السابق، وربما تمثل خطراً محتملاً في المستقبل على المصالح الأميركية. وهي في ذلك تعمل من أجل عدم تكرار تجربة تنظيم “القاعدة” في أفغانستان حين تحوّل من قتال الروس إلى تنفيذ عمليات ضد الولايات المتحدة. وسيكون على “الهيئة” الاختيار بين حل هذه المجموعات وترحيلها أو مواجهة إجراءات أميركية كتلك التي تمت بحق حركة “طالبان” عندما رفضت التخلي عن تحالفها مع “القاعدة” قبل اجتياح أفغانستان عام 2001. ومعلوم أن القوات الأميركية قد تخلصت من قيادات عدة في التنظيم العالمي لـ”القاعدة” خلال غارات على شمالي سورية، إبان سيطرة الهيئة عليها، الأمر الذي سهّل على أحمد الشرع التحكم بقيادة الجماعات “الجهادية” في تلك المنطقة. على أن بعض المجموعات مثل الإيغور الصينيين (التركستان) قد يكونون من وجهة نظر الإدارة الأميركية أداة مثالية محتملة لضرب أمن الصين، وهنا يجري الحديث عن إمكان ترحيلهم إلى مناطق قريبة من الأراضي الصينية لإقلاق حكومة بكين.
ماذا يريد الحكم الجديد في دمشق؟
عملت “هيئة تحرير الشام” بقيادة الشرع (أو محمد الجولاني زعيم تنظيم جبهة النصرة سابقًا المصنف منظمة إرهابية) منذ سنوات على ترتيب حملة علاقات عامة من أجل تنقية صورتها أمام المجتمع السياسي الغربي تحديداً، بسبب تراكم ملفات عليه نتيجة ارتباطه بتنظيم “داعش” ثم التنظيم العالمي لـ”القاعدة” قبل أن ينفصل عنهما، وامتدت هذه العلاقات من العراق، حيث انخرط في حملة دموية قادها تنظيم “القاعدة” ضد فئات عريضة من الشعب العراقي، إلى سورية، حيث قاد جملة ممارسات تُعتبر خارجة عن المقبول دولياً، كما أسلفنا. وتم التمهيد لحملة العلاقات العامة برعاية وسائل إعلام عربية ودولية، حرص فيها الشرع على تقديم خطاب قد يقبله الغرب. وجاء تسلّم السلطة سلمياً في دمشق وعلى يد مسؤولين في النظام السابق، ثم إصدار مجموعة أوامر بعدم التعرض للناس الموالين للنظام السابق أو لأقليات دينية، ليعكس توجهاً نحو تلبية بعض متطلبات الصورة الجديدة. وأبدى الشرع في أحاديثه للصحافة العربية والغربية في الأيام الاخيرة حرصاً على الخروج من صورته كقائد “جماعة ارهابية”، واتّسمت هذه الأحاديث بلهجة هادئة و”عقلانية”.
وتحتاج السلطة الجديدة في دمشق إلى “شرعيتين”، غير “شرعية الثورة” التي تؤمن بها:
1- الشرعية الداخلية: وتتمثل في ضرورة الحصول على تأييد شعبي واسع في مرحلة انتقالية تثور فيها مخاوف ناجمة عن تشددٍ حكَمَ خطابها في المرحلة السابقة. ولا تستطيع “الهيئة” والفصائل المتحالفة معها أن تحكم بعقلية إدارة إدلب التي ولّدت نقمة عليها ترجمت بتظاهرات واحتجاجات ضدها في السنوات الأخيرة. ومعروف أن المجتمع السوري متنوّع وتسوده قيم اجتماعية مختلفة تتباين بين الريف والمدن، أو بين مدينة ومدينة.
2- الشرعية الدولية: تسعى المعارضة المسلحة إلى اعتراف عربي ودولي بها، لكي تتمكن من تجاوز الصعوبات أمامها، وأهم هذه الصعوبات التمويل حيث عانت سورية من حصار قاس وتجفيف لقدراتها المالية وسيطرة على منشآتها النفطية والغازية من قبل قوات الاحتلال الأميركي.
وتتولى قطر وتركيا تسويق صورة السلطة الجديدة في دمشق لدى الإدارة الأميركية، وهو ما يمثل تقاطع مصالح بين هذه الأطراف التي عادت لتلتقي على أولوية الملف السوري المستجدة، بعدما حدثت تباينات في ملفات أخرى. وتوجد أرضية مشتركة تقوم خاصة على تلاقي الجانبين على مناهضة دور محور المقاومة وعلى رأسه إيران.
مع ذلك، توجد ملفات قد تعترض التواصل بين السلطة الجديدة والإدارة الاميركية: كيفية إدارة المرحلة الانتقالية حيث تُظهر “هيئة تحرير الشام” حرصاً على قيادة المرحلة منفردة، على غرار تكليفها أحد أركانها محمد البشير بتشكيل حكومة انتقالية، بينما تسعى واشنطن إلى زرع نفوذ مؤثر لجماعتها في سورية من الذين درّبتهم وأنفقت عليهم أموالاً طائلة، ثم معالجة ملف المقاتلين الأجانب الذين يرتبطون أيديولوجياً بـ “الهيئة”، إضافة الى مستقبل الوجود العسكري الأميركي في سورية، وربما أخيراً مستقبل النظرة والعلاقة مع “إسرائيل” حيث ستسعى الإدارة الأميركية المقبلة إلى فرض رؤيتها في توطيد العلاقات بين الكيان “الإسرائيلي” ومحيطه، وهو ما قد يترجَم إلى اتفاق حدودي بين السلطة في دمشق وكيان الاحتلال وربما اتفاق تطبيع بمباركة تركية وقطرية إذا نجحت السلطة الجديدة في تجاوز الاعتراضات الشعبية على خطوة كبيرة كهذه.
العهد الاخباري علي عبادي