البلدان كبصمة الإصبع، متفردة فى خصائصها ومواردها وتاريخها وطبائع أهلها، لذلك ما يَصلح لبلد ويُصلِح شأنها ليس بالضرورة يناسب أخرى، وهنا تكمن أزمة استيراد البرامج الجاهزة للإصلاح السياسى أو الاقتصادى، وافتح قوسين وأضف بينهما أى قطاع تريد فالمساحة تحتمل، وهنا أيضًا ربما نجد الإجابة عن السؤال التائه فى حقول المنطق: لماذا لم تستطع الحكومات رغم اختلافها وتعاقبها وتنوعها أن تجد برنامجًا واضحًا لحل أزماتنا المستعصية والخروج منها؟
لمزيد من الإيضاح نسرد قصتين، الأولى كتبها عبدالله النديم تحت عنوان «عربى تفرنج» وتدور حول شخصية «معيط وزعيط»، تقول الحكاية إن أحد الفلاحين وُلِد له ولد فسماه «زعيط»، وتركه يلعب فى التراب وينام فى الوحل حتى صار يقدر على تسريح الجاموسة، وكان يعطيه كل يوم أربعة أمخاخ من البصل، وفى العيد كان يقدم له «اليخني» ليمتعه بأكل اللحم بالبصل، وبينما كان «زعيط» يسوق الساقية، مر بهما أحد التجار فنصح «معيط» بأن يرسل ابنه إلى المدرسة ليتعلم ويصير إنسانًا، فأخذ «معيط» بالنصيحة وسلم ابنه إلى المدرسة، فلما أتم العلوم الابتدائية أرسلته الحكومة إلى أوروبا، وبعد أربع سنوات ركب «زعيط» الوابور عائدًا إلى بلاده، ومن فرح «معيط» بعودة ابنه من بلاد الخواجات ذهب يستقبله، ثم اندفع ليحتضنه ويقبله، فدفعه «زعيط» فى صدره وقال: سبحان الله.
وبعد تلك الصدمة من الدفع والتهكم والعجرفة، ذهب معيط بولده زعيط إلى الكفر، وقامت أمه «معيكة» وعملت له طاجنًا مملوءًا لحمًا ببصل، فلما رآه «زعيط» قال لها: ليه كترتى من الـ«.... »، «معيكة»: من الـ ايه يا زعيط، «زعيط»: من البتاع اللى اسمه ايه، «معيكة»: اسمه ايه يا ابنى الفلفل، «زعيط»: نونو ال دى.. البتاع اللى ينزرع، «معيكة»: الغلة يا ابنى، «زعيط»: نونو دى اللى يبقى له راس فى الأرض، «معيكة»: والله يا ابنى ما فيه ريحة التوم، «زعيط»: البتاع اللى يدمع العينين اسمو «أونيون»، «معيكة»: والله يا ابنى ما فيه أونيون ولا حاجه.. دا لحم ببصل، «زعيط»: سی سا.. بصل بصل، «معيكة»: يا زعيط يا ابنى نسيت البصل وأنت كان أكلك كله منه!!
على عكس القصة الأولى تأتى الثانية وإن كان يجمعهما التشابه فى النتائج، حيث اختار المخرج الكبير يوسف شاهين النجمة «داليدا» لتقوم بدور«صديقة» الفلاحة المطحونة التى تصارع قسوة الحياة فى فيلم «اليوم السادس»، فظهرت «داليدا» كفلاحة «خوجاية» جاءت لهجتها مصرية «متكسرة»، وصرخت فى أحد المشاهد قائلة: «يا ربى أنا عملتوا هاجة أسان ده كلوا.. ده هرام.. هرام يا ربى»، تلك اللهجة المصرية «المتكسرة» المتفرنجة التى يمكن ملاحظتها بسهولة كلما نطقت «داليدا» خلال الفيلم، والتى لا تتناسب مع فلاحة مصرية مقهورة شكلًا ومضمونًا.
قالت الناقدة «ماجدة خير الله» وقتها، إنه لا يمكن أن نتهم يوسف شاهين بالجنون أو المخاطرة، فإن المسائل محسوبة ومدروسة، حيث إن الفيلم إنتاج فرنسى مصرى، ولا يعتمد كلية على عرض الفيلم فى القاهرة، ولكن الفيلم سوف يعرض على الغرب الذى لن يلاحظ لهجة «داليدا» البعيدة عن اللهجة المصرية، ولكنه سوف يستمتع بأدائها، ويغفر لها تلك الهفوات التى يلاحظها المشاهد المصرى، الذى يكتشف أيضًا مع تلك اللهجة المصرية المتفرنجة أن داليدا فلاحة أجنبية «تخمس» السجائر مع الصبية، فى فيلم تدور أحداثه خلال فترة انتشار الكوليرا عام 1947!
هكذا تكمن المشكلة فى استيراد برامج جاهزة للإصلاح أو إسناد برامج الإصلاح «للمتفرنجين»، فنصبح أمام برامج تخاطب المشاهد الغربى وتنسى المتفرج المصرى، برامج تتعجرف على أصحاب الأرض وتتبرأ منهم مثلما فعل «زعيط» مع «معيط» و«معيكة»، فتصير النتائج مسخًا «لا من هنا ولا من هناك».
الخلاصة.. إننا فى حاجة شديدة إلى أن نكون نحن، ونعى ونعرف ماهيتنا ونبنى عليها وننطلق منها وفقًا لترتيب أولوياتنا، نحن فى حاجة إلى ابتكار برامج للإصلاح تنبع منا، برامج نُفَصلها ونصنعها لما نريد أن نكون عليه.
فى النهاية.. أعرف أن الأمر ليس سهلًا، ولكنه حتمى الحدوث طال الزمن أو قصر، إذا أردنا إصلاحًا حقيقيًا يضعنا فى مصاف الدول المتقدمة، ويحمينا من بطشها وتوحشها.
رمضان كريم وكل عام وأنتم بخير
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أشرف عزب لا من هنا ولا من هناك
إقرأ أيضاً:
درة: أصبح هناك توجهات لطمس هوية الفلسطينيين
تحدثت درة على هامش محاضرة " السينما الفلسطينية واللبنانية" التي أقيمت اليوم ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي عن فيلمها الوثائقي " وين صرنا" بجانب عدد من مخرجات الدول العربية قائلة: "مبسوطة إني موجودة النهاردة وسط هؤلاء المخرجات لأنني أتعلم منهم كوني ممثلة بالاصل وكل مخرجة منهما لديها عدة أفلام أعجبتني للغاية ووجودي معهم يعطيني خبرة أكبر".
سبب إخراج درة لفيلم “وين صرنا ”
أضافت درة قائلة: "ما دفعني لإخراج هذا الفيلم ليس فقط حبي للسينما، ورغبتي في الإخراج ولكن إصراري على تقديم نموذج هذة الأسرة الفلسطينية، أنا تربيت على أن القضية الفلسطينية هي قضية كل العرب وكل إنسان وأذكر أنني سمعت شخصا مع ما يحدث في فلسطين يقول " ليس هناك دولة فلسطين أو شعب فلسطيني" أصبح هناك توجهات لطمس هوية الفلسطينين بشكل كبير".
تستكشف هذه الندوة قوة السرد في تحفيز قدرات الأفراد على المقاومة والتحمل في أصعب اللحظات والمواقف، ويحكي الحضور عبر خبراتهم ووعيهم الثقافي الفريد عن تجاربهم في تشكيل السرد السينمائي وروايات الهوية الشخصية والجماعية، ومحاولات البقاء والخلافات والنبرات الانهزامية.
يناقش الضيوف تحديات صنع الأفلام في مناطق الصراع والنزوح وتلك المحاصرة بالقيود السياسية، وعن خبرة كل منهم في استخدام الإبداع للدفاع عن رؤيتهم والنجاة من الأسى والمآسي.
تسلط الحلقة النقاشية الضوء على التقنيات السردية التي يمكنها تحوّل قصص الصراع الشخصي إلى سرديات مهمة إعجازية تلهم الجماهير وتحفّز المجتمعات على الاستمرار والمقاومة.