جريدة الرؤية العمانية:
2025-01-18@13:06:31 GMT

"لا تناطح ثورًا.. ولا تسابق ضأنة"

تاريخ النشر: 10th, March 2024 GMT

'لا تناطح ثورًا.. ولا تسابق ضأنة'

 

علي بن سالم كفيتان

خرجتُ بعد صلاة المغرب من جامع الشيخ عمر بن حفيظ الرواس في قلب صلالة الجديدة، لأجد بقية من حكماء ظفار الأولين، رجال يلتئمون في صحن المسجد بين المغرب والعشاء على الدكة الخارجية بمسابحهم اللامعة بالنور، وهيبة وجوههم، ووقارهم الطاغي.

عرفتُ أحدهم فجذبتني خطاي إلى تلك الحلقة المهيبة، سلّمتُ كعادتنا في ظفار قام الجميع، مررتُ أمامهم وأنا استحضر بقية ما سمعته عن مشايخ ظفار ووجهائها، حتى استقر بي الجلوس عند الشيخ الذي أعرفه ويعرفني، فقد كانت لنا صحبة عمل لسنوات، فخبِرته وخبرني، ولا زلنا نحتفظ بذات المودة، رغم جفاء الوصال بيننا.

ففي غالب الأحيان نلتقي في عُرس أو عزاء، ويعاتبني هو وأنا كعادتي استسلم لتقصيري، وهو كعادته يعفو ويصفح. كنت أنوي السلام والمغادرة، لكن الجلسة لا تفوَّت، والأسماء الحاضرة قد لا تجتمع هنا مرة أخرى؛ فحسب الظاهر لي أنه كان حضورًا على هامش مناسبة اجتماعية، وبحكم ما أسمع عن دهاء القوم وحنكتهم في الحياة، جلستُ لاستمع لشيء من حديث الرجال، الذين كنتُ أسمعُ عنهم ولم يجمعني القدر بهم، ودعَّم الموقف إلحاح مُضيِّفِي بينهم، فاستمعتُ وأنصتُّ لحديثٍ من زمنٍ ليس زماننا، لكنه ساهم في صنع واقعنا بكل تأكيد.

الحكمةُ وُلِدَتْ هنا، والهدوء والرزانة نبتتْ مع هؤلاء الرجال، منذ نعومة أظفارهم. حديث هادئ من طرفِ الجلسة، الكلُ يُنصِتُ ولا أحدَ يُقاطع ذلك المتحدث رغم إطالته، ومن ثم يسود صمت رهيب بعد انتهاء حديثه المسهب. من الذي سوف يكون التالي؟ لا أعرف، لكنني رأيتُ شيخًا وقورًا يستأذنُ للحديث، ومن ثم يسترسل حتى يُتِمُ. وهكذا كانت الجلسة عبارة عن تدريب على أصول مجالس الرجال، لا نفاق هنا، ولا نميمة؛ بل كلام عن الزُهد والحكمة، وبعض الأحاديث الشيِّقة عن السلف الصالح في ظفار. وقد كنتُ مدينًا لهم بذِكْر مناقب رجلٍ يقرُب لي، وهذه عادة حميدة في ظفار، فإن حضرتَ قومًا من هذا الطراز، يرحبون بك بأجمل ما تحب من أسماء، ولا يجدون حرجًا في ذكر مناقب أهلك وفضائلهم.

وفي خِضَمِّ تلك الجلسة العامرة، أطلق أحدهم هذا المثل الظفاري الدارج "لا تناطح ثورًا ولا تسابق ضأنًا"، وكانت فرصة ثمينة لتفسير المعني. فحسب ما يبدو الحديث، كان عن التعامل مع المراحل والشخوص، ومتى يمكن الدخول في الأمر، ومتى يُترك؛ فمناطحة الثور مهلكة، لذلك وجب البعد عنه قدر المستطاع؛ لأن مطرقة رأسه قوية، والتعامل معه وخاصةً أثناء هيجانه يكون صعبًا للغاية، بحكم مقدار القوة التي يمتلكها، مقابل مقدار قليل من العقل، فيُصبح مشروعَ قاتلٍ مع سبق الإصرار والترصد، فأوجبت الحكمة تهدأته، والبُعد عن رفساته ونطحاته، بينما سيكون نصيب من دخل في سباق الضأنة أحد الأمرين؛ إما أن يسبقها فيقال سبق ضأنة، أو أن تسبقه هي؛ فيقال سبقته ضأنة! وكلا الأمرين فيهما مسبة؛ فالأحرى بالعاقل ترك هذا النوع من السباقات.

أُذِّن للعشاء وافترقنا قبل اكتمال حديث هذه الثلة من حكماء ظفار ودهاتها، والكلام كان في مضمونه أدبيًا بحتًا، لا يعدو تفسير مثل ظفاري دارج لطالما استخدمه العقلاء للنجاة من مغبة نطحات الثيران وسباق الضأنة الذي أصبح معتادًا في هذا الزمن. تمنَّيتُ أن يقيم والي صلالة برزة يجتمع فيها مع ما تبقى من هؤلاء الرجال مرة أو مرتين في الأسبوع، ويحضرها المحافظ ورئيس البلدية وكبار المسؤولين، ومن أرد من الناس؛ لكي تستمع الأجيال الى حديثٍ لا يُمَل، ورجال صنعتهم الأيام؛ فهم شيوخ عندما يُنادى للمشيخة، وهم يد السخاء والكرم عندما ينتخى العطاء في أبواب الخير، وهم أهل الدهاء والحكمة، عندما تلتأم الحجرة (البرزة) كل هذا الإرث الإنساني الخالد لا زالت بقاياه بيننا، ونحن في أمسِّ الحاجة اليه اليوم قبل غدٍ؛ فالهروب الى الامام لن يُنجينا من منحنيات الطريق وحفرِهِ العميقة، كما إن الاستماع للناس والحوار معهم يُوَلِّد المعرفة، ويساهم في بناء فهمٍ مشتركٍ للواقع؛ حيث لا يمكننا الذهاب بعيدًا إذا مسحنا ما كتبناه بالأمس، لنعيد كتابته اليوم، بأقلامٍ بلا حبرٍ.

حفظ الله بلادي.

****************

هذا اللقاء جرى مُصادفةً قبل عدة أعوام، وأعتقد أننا اليوم فقدنا عددًا من هذه القامات العُمانية الخالدة الذكر.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

صدر حديثًا.. محمد بشاري يكشف حقيقة حديث الفرقة الناجيةوتفسيره بمنهجية علمية

صدر حديثًا كتاب جديد للمفكر الدكتور محمد بشاري والذي يحمل عنوان "الفرقة الناجية وهم الاصطفاء.. مدخل إلى تفكيك أوهام تصارع المفاهيم"  وهو من أحدث إصدارات نهضة مصر في معرض الكتاب 2025.

يتناول الكتاب لأول مرة موضوعًا مهمًا في سياق مراجعة المفاهيم التراثية التي أثرت على حياة المسلمين عبر العصور، ويعرض جهدًا معمقًا لفهم وتحليل حديث "الفرقة الناجية" حيث أن هذا الحديث الشريف يحتل أولى المراتب في باب الاختلاف في الدين، وبخاصة في تراثنا الإسلامي، ولقد أثبتت التحليلات على سند الحديث ومتنه صحة أغلب ما ورد فيه.

في الكتاب يلقي  الدكتور محمد بشاري الضوء على أصول الفهم الصحيح لحديث "الفرقة الناجية" وتفسيره بمنهجية علمية، ويقدم تحليل موضوعي له، باستخدام البحث العلمي والتحليل الفلسفي لتفسير أهمية تصحيح التصورات وضبط المعاني في السياق الحالي، كما يؤكد على الارتباط الوثيق بين المفاهيم والحياة العملية والمماراسات اليومية وأهمية فحص المفاهيم والتقيمات التي تنشأ عن الأحاديث النبوية التي يتم استخدامها خارج سياقها كأداة لتحديد الهوية الدينية والسياسية، وتحديد الانتماء الفكري بتقديم تفسيرات خاطئة أو مفاهيم مغلوطة لتلك الأحاديث، وتوظيفها أيدلوجيًا من قبل الجماعات الدينية المتطرفة والتي تؤدي إلى تشويه الفهم الإسلامي وزرع الفتنة بين المسلمين.


يطرح الكتاب أيضًا خططًا توجيهية للباحثين الأكاديميين وطلبة العلم الشرعي نحو التفكير النقدي والتمحيص العلمي للتراث الديني.


ويأتي الكتاب في ثلاثة فصول متعددة المباحث، وكتب مقدمته فضيلة الدكتور علي جمعة المفتي السابق لجمهورية مصر العربية وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف.


جدير بالذكر أن الدكتور محمد بشاري هو الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي وعضو الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، وواحد من بين 50 شخصية تأثيرًا في العالم الإسلامي له العديد من المقالات والمؤلفات الشرعية والفقهية وهو حائز على وسام جمهورية مصر العربية للعلوم والفنون من الدرجة الأولى، ووسام الملك عبد الله الثاني ابن الحسين للتميّز من الدرجة الأولى.

مقالات مشابهة

  • بمشروعات ضخمة.. البحر الأحمر تسابق الزمن استعدادًا للاحتفال بالعيد القومي
  • تسابق العروض: اكتشف أرخص السيارات في سوق تركيا لشهر يناير!
  • حديث جانبي بين المبارك والبليهي ..فيديو
  • افتتاح مستشفى مقشن بمحافظة ظفار بتكلفة مليوني ريال
  • مسعود بارزاني يلتقي مظلوم عبدي في أربيل.. حديث عن إنجاز كبير
  • صدر حديثًا.. محمد بشاري يكشف حقيقة حديث الفرقة الناجيةوتفسيره بمنهجية علمية
  • تواصل إنشاء خزان مياه بسعة مليوني جالون في مرباط
  • جامعة ظفار تطلق برنامج دكتوراة في فلسفة القانون
  • افتتاح مشروع مستشفى مقشن في ظفار
  • فوز بنك ظفار بجائزة "أفضل مزود للتمويل التجاري"