جريدة الرؤية العمانية:
2024-10-01@21:49:51 GMT

"لا تناطح ثورًا.. ولا تسابق ضأنًا"

تاريخ النشر: 10th, March 2024 GMT

'لا تناطح ثورًا.. ولا تسابق ضأنًا'

 

علي بن سالم كفيتان

خرجتُ بعد صلاة المغرب من جامع الشيخ عمر بن حفيظ الرواس في قلب صلالة الجديدة، لأجد بقية من حكماء ظفار الأولين، رجال يلتئمون في صحن المسجد بين المغرب والعشاء على الدكة الخارجية بمسابحهم اللامعة بالنور، وهيبة وجوههم، ووقارهم الطاغي.

عرفتُ أحدهم فجذبتني خطاي إلى تلك الحلقة المهيبة، سلّمتُ كعادتنا في ظفار قام الجميع، مررتُ أمامهم وأنا استحضر بقية ما سمعته عن مشايخ ظفار ووجهائها، حتى استقر بي الجلوس عند الشيخ الذي أعرفه ويعرفني، فقد كانت لنا صحبة عمل لسنوات، فخبِرته وخبرني، ولا زلنا نحتفظ بذات المودة، رغم جفاء الوصال بيننا.

ففي غالب الأحيان نلتقي في عُرس أو عزاء، ويعاتبني هو وأنا كعادتي استسلم لتقصيري، وهو كعادته يعفو ويصفح. كنت أنوي السلام والمغادرة، لكن الجلسة لا تفوَّت، والأسماء الحاضرة قد لا تجتمع هنا مرة أخرى؛ فحسب الظاهر لي أنه كان حضورًا على هامش مناسبة اجتماعية، وبحكم ما أسمع عن دهاء القوم وحنكتهم في الحياة، جلستُ لاستمع لشيء من حديث الرجال، الذين كنتُ أسمعُ عنهم ولم يجمعني القدر بهم، ودعَّم الموقف إلحاح مُضيِّفِي بينهم، فاستمعتُ وأنصتُّ لحديثٍ من زمنٍ ليس زماننا، لكنه ساهم في صنع واقعنا بكل تأكيد.

الحكمةُ وُلِدَتْ هنا، والهدوء والرزانة نبتتْ مع هؤلاء الرجال، منذ نعومة أظفارهم. حديث هادئ من طرفِ الجلسة، الكلُ يُنصِتُ ولا أحدَ يُقاطع ذلك المتحدث رغم إطالته، ومن ثم يسود صمت رهيب بعد انتهاء حديثه المسهب. من الذي سوف يكون التالي؟ لا أعرف، لكنني رأيتُ شيخًا وقورًا يستأذنُ للحديث، ومن ثم يسترسل حتى يُتِمُ. وهكذا كانت الجلسة عبارة عن تدريب على أصول مجالس الرجال، لا نفاق هنا، ولا نميمة؛ بل كلام عن الزُهد والحكمة، وبعض الأحاديث الشيِّقة عن السلف الصالح في ظفار. وقد كنتُ مدينًا لهم بذِكْر مناقب رجلٍ يقرُب لي، وهذه عادة حميدة في ظفار، فإن حضرتَ قومًا من هذا الطراز، يرحبون بك بأجمل ما تحب من أسماء، ولا يجدون حرجًا في ذكر مناقب أهلك وفضائلهم.

وفي خِضَمِّ تلك الجلسة العامرة، أطلق أحدهم هذا المثل الظفاري الدارج "لا تناطح ثورًا ولا تسابق ضأنًا"، وكانت فرصة ثمينة لتفسير المعني. فحسب ما يبدو الحديث، كان عن التعامل مع المراحل والشخوص، ومتى يمكن الدخول في الأمر، ومتى يُترك؛ فمناطحة الثور مهلكة، لذلك وجب البعد عنه قدر المستطاع؛ لأن مطرقة رأسه قوية، والتعامل معه وخاصةً أثناء هيجانه يكون صعبًا للغاية، بحكم مقدار القوة التي يمتلكها، مقابل مقدار قليل من العقل، فيُصبح مشروعَ قاتلٍ مع سبق الإصرار والترصد، فأوجبت الحكمة تهدأته، والبُعد عن رفساته ونطحاته، بينما سيكون نصيب من دخل في سباق الضأنة أحد الأمرين؛ إما أن يسبقها فيقال سبق ضأنة، أو أن تسبقه هي؛ فيقال سبقته ضأنة! وكلا الأمرين فيهما مسبة؛ فالأحرى بالعاقل ترك هذا النوع من السباقات.

أُذِّن للعشاء وافترقنا قبل اكتمال حديث هذه الثلة من حكماء ظفار ودهاتها، والكلام كان في مضمونه أدبيًا بحتًا، لا يعدو تفسير مثل ظفاري دارج لطالما استخدمه العقلاء للنجاة من مغبة نطحات الثيران وسباق الضأن الذي اصبح معتادًا في هذا الزمن. تمنَّيتُ أن يقيم والي صلالة برزة يجتمع فيها مع ما تبقى من هؤلاء الرجال مرة أو مرتين في الأسبوع، ويحضرها المحافظ ورئيس البلدية وكبار المسؤولين، ومن أرد من الناس؛ لكي تستمع الأجيال الى حديثٍ لا يُمَل، ورجال صنعتهم الأيام؛ فهم شيوخ عندما يُنادى للمشيخة، وهم يد السخاء والكرم عندما ينتخى العطاء في أبواب الخير، وهم أهل الدهاء والحكمة، عندما تلتأم الحجرة (البرزة) كل هذا الإرث الإنساني الخالد لا زالت بقاياه بيننا، ونحن في أمسِّ الحاجة اليه اليوم قبل غدٍ؛ فالهروب الى الامام لن يُنجينا من منحنيات الطريق وحفرِهِ العميقة، كما إن الاستماع للناس والحوار معهم يُوَلِّد المعرفة، ويساهم في بناء فهمٍ مشتركٍ للواقع؛ حيث لا يمكننا الذهاب بعيدًا إذا مسحنا ما كتبناه بالأمس، لنعيد كتابته اليوم، بأقلامٍ بلا حبرٍ.

حفظ الله بلادي.

****************

هذا اللقاء جرى مُصادفةً قبل عدة أعوام، وأعتقد أننا اليوم فقدنا عددًا من هذه القامات العُمانية الخالدة الذكر.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مصطفى بكري: حديث النتن ياهو عن الشرق الأوسط الجديد أضغاث أحلام

قال الإعلامي مصطفى بكري، إن سياسة نتنياهو ستكون سببا في تهجير الصهاينة من فلسطين إلى بلدانهم الأصلية.

وأكد مصطفى بكري في تغريدة له على موقع «إكس»، نحن ندافع عن أرضنا ضد النازيين الجدد.هذه الأمة لن تخضع، ولن تنكسر، المقاومة أدخلت الفئران المذعورة إلى الخنادق، وجيش الاحتلال لم يستطع التقدم داخل الجنوب اللبناني منذ الأمس، ستهزمون طال الأمد أم قصر، احتليتم فلسطين منذ العام ٤٨ فماذا كانت النتيجة، لايزال الشعب الفلسطيني يقاوم وسيقاوم.

وهكذا هو حال الأمة، كل الأمة. أما حديث النتن ياهو عن الشرق الأوسط الجديد، فهو أضغاث أحلام، أنت لم تستطع هزيمة حماس على مدي ١٢ شهرا، فكم من العمر تحتاج لتهزم الأمة، لن تنجح أنت وأصدقائك، الذين غرقوا في المستنقع الأفغاني والعراقي، ستهزمون ولن تستطيعون الصمود، أما نحن فهذه أرضنا، وماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا

مقالات مشابهة

  • حلول فعالة لاستعادة شعرك.. أفضل الطرق لمواجهة الصلع الوراثي لدى الرجال
  • مصطفى بكري: حديث النتن ياهو عن الشرق الأوسط الجديد أضغاث أحلام
  • امرأة تتخلى عن طفلها حديث الولادة وترميه وسط أكوام حديد جنوبي كركوك
  • بعزم هؤلاء الرجال وصبرهم وتضحياتهم سنسترجع الخرطوم وباقي الولايات الأخرى
  • Football Manager 25 ستصدر في 26 نوفمبر
  • حديث عن اجتياح بري للبنان.. هذه آخر المعلومات
  • النائبة دينا هلالي: حديث السيسي كشف عن سياسة مصر الحكيمة
  • رجلٌ.. في زمن عزّ فيه الرجال
  • سيدات الطائرة يبدأن المنافسة في دورة الألعاب السعودية.. ومنافسات الرجال تنطلق غدًا
  • وجود صلة بين طول الرجل وخطر الإصابة بسرطان البروستاتا