صورة النَّكبة في الشِّعر الفلسطيني
تاريخ النشر: 10th, March 2024 GMT
د. سعيد بن سليمان العيسائي **
خمسةٌ وسبعون عامًا مرت على النكبة، ولا يزالُ الشعب الفلسطيني يتحرع المرارة والألم والحرمان والتشريد والتهجير القسري والتعذيب إلى يومنا هذا على يد اليهود، في العام 1948 حاقت النكبة بالوطن الفلسطيني، وأدت إلى تهجير الملايين من أبناء هذا الشعب، الذين تحولوا إلى لاجئين، منفيين في الخيام السُّود.
وظهر بسبب هذه المأساة، أو الكارثة ما يُسمى بشعر "المنافي واللجوء والشتات"، وقد برز عددٌ من الشعراء الفلسطنيين الذين واكبوا هذا الحدث الجَلل، وجنَّدوا الكثيرَ من قصائدهم وأشعارهم لتجسيده وتصويره، ونقلوا بذلك مُعاناة المهاجر والمشرد الفلسطيني في بقاع الأرض، وقد تنبأ بعضهم بحدوث هذه النَّكبة قبل وقوعها بسنوات طويلة كما سنشير إلى ذلك.
وقد اخترنا ستةَ شُعراء من كبار الشعراء الفلسطينيين الذين تحدثوا عن النَّكبة، وهم إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وهارون هاشم رشيد، ويوسف الخطيب، وفدوى طوقان، ويمكن تقسيم هؤلاء الشعراء إلى مجموعتين، وظفت المجموعة الأولى شعرها للتنبؤ بالنكبة، والكفاح المسلح ضد الانتداب البريطاني، الذي كان يُعد ويُمهد لهذه النَّكبة منذ إعلان "وعد بلفور" عام 1917، الذي منحت بموجبه بريطانيا اليهود الحق في تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين، ويصادف هذا العام مرور 115 عامًا على هذا الوعد.
ومن هؤلاء الشعراء إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وإن كان الشاعر عبد الرحيم محمود عاصر النكبة لمدة شهرين فقط قبل وفاته.
أما المجموعة الثانية فأصحابها أربعة من كبار الشعراء الفلسطينيين، وهم عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وهارون هاشم رشيد، ويوسف الخطيب، وفدوى طوقان، وقد تحدث هؤلاء الشعراء الأربعة عن نكبة 1948، ونكسة 1967، وانعكاس هاتين المأساتين الكبيرتين على الشعب الفلسطيني.
يتربع الشاعر إبراهيم طوقان، المولود سنة 1905 في نابلس، والمتوفى في 2 مايو 1941 عن 36 سنة تقريبًا على رأس المجموعة الأولى، وهذا الشاعر هو الأخ الشقيق للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، الملقبة ب"شاعرة فلسطين"، ولُقِبَ هذا الشاعر ب"شاعر الوطن والحب والثورة".
ويُعدُّ الشاعر إبراهيم طوقان من أقدم وأشهر شعراء المقاومة ضد الاحتلال البريطاني، الذي مهد للنكبة من خلال "وعد بلفور"، ومن قصائده المشهورة نشيد "موطني" الذي يقول فيه:
موطني الجَلالُ وَالجَمالُ // السَناءُ وَالبَهاءُ في رُباك
وَالحَياةُ وَالنَجاةُ // وَالهَناءُ وَالرَجاءُ في هَواك
هَل أَراك سالمًا منعّمًا // وَغانِما مُكرّما هَل أَراك
في عُلاك تبلغ السماك
موطِني
مَوطِني الشَباب لَن يَكلَّ // همُّهُ أَن تَستقلَّ أَو يَبيد
نَستَقي مِن الرَدى // وَلَن نَكون لِلعِدى كَالعَبيد
وكان هذا النشيد هو النشيد الوطني الرسمي من عهد الانتداب البريطاني إلى عام 1972، وبعد أن اعترضت إسرائيل على هذا النشيد تمَّ تغييره إلى نشيد "فدائي".
ومن قصائده الأخرى الشهيرة قصيدته التي يقول فيها:
صامتٌ لوْ تكلَّما // لَفَظَ النَّارَ والدِّما
قُلْ لمن عاب صمتَهُ // خُلِقَ الحزمُ أبكما
وأخو الحزم لم تزل // يدُهُ تسْبِقُ الفما
لا تلوموه قد رأى // منْهجَ الحقِّ مُظلما
وبلادًا أحبَّها // ركنُها قد تهدًّما
وخصوما ببغْيِهمْ //ضجَّت الأَرضُ والسما
وثاني أحد أكبر الشعراء الفلسطينيين الذين تنباؤا بالنكبة هو الشاعر عبد الرحيم محمود (1913 – 1948)، وقد كانت قصائده الوطنية على شِفاهِ جميع المواطنين الفلسطينيين، ومِلءِ صُدورهم قبل العام 1948، وهي تعبِّرُ عن وِجدانهم الجمعي في حتمية التنبيه الشديد للخطر الصهيوني الاستعماري، وضرورة مُواجهته ومُقاومته في بواكير تحركه العدواني، حتى لا يتحول إلى أُخطبوط استيطاني ضخم يستولي على كل البلاد.
استقال الشاعر عبد الرحيم محمود من وظيفته كمُعلم في مدرسة النجاح بنابلس لينخرط في صفوف المجاهدين ويُستشهد في معركة "الشجرة" بين طَبريا والناصرة في 13 يوليو 1948 بعد إعلان نُشوء إسرائيل بشهرين فقط، وبعدها كانت قصائده تعم البلاد كلها، ومن أشهر قصائده، قصيدة: "الشهيد" التي يقول فيها:
سَأَحمِلُ روحي عَلى راحَتي // وَأَلقي بِها في مَهاوي الرَّدى
فَإِمّا حَياةٌ تَسُرُّ الصَديقَ // وَإِمّا مَماتٌ يَغيظُ العِدى
وَنَفسُ الشَريفِ لَها غايَتانِ // وُرودُ المَنايا وَنَيلُ المُنى
وَما العَيشُ لا عِشتَ إِن لَم أَكُن // فَخَوفَ الجِنابِ حَرامَ الحِمى
إِذا قُلتُ أَصغى لي العالَمونَ // وَدَوّى مَقالي بَينَ الوَرى
لَعَمرُكَ إِنّي أَرى مَصرَعي // وَلكِن أَغذُّ إِلَيهِ الخُطى
ومن أشهر قصائده كذلك قصيدته المُذهلة التي كان يتنبأ فيها بسقوط المسجد الأقصى في مخالب الاحتلال الإسرائيلي التي يقول في بعض أبياتها:
المَسجِدُ الأَقصى أجئتَ تَزورُهُ // أَم جِئتَ مِن قَبلِ الضَياعِ تُوَدِّعُهْ
حَرمٌ تُباحُ لِكُلِّ أَوكعَ آبِقٍ // وَلِكُلِّ أَفّاقٍ شَريدٍ أربُعُهْ
وَالطاعِنونَ وَبورِكَت جَنباتُهُ // أَبناؤُهُ الظِيَم بِطَعنٍ يوجِعُهْ
وَغَدًا وَما أَدناهُ لا يَبقى سِوى // دَمعٍ لَنا يَهمي وَسِنٌّ نَقرَعُهْ
وهي جزء من قصيدة قالها أثناء زيارة الملك سُعود، وَلِيُ العهد السعودي وقتها إلى فلسطين والقدس عام 1354ه- 1935، زار فيها قرية عنبتا التي تقع قرب طولكرم بلدة الشاعر عبد الرحيم محمود، فألقى هذه القصيدة، والتي حذَّر ونبه فيها لسقوط القدس بأيدي اليهود قبل قيام الكيان الصهيوني بثلاث عشرة سنة، وقبل سقوط القدس بثلاثة عُقود.
ونظم الشاعر المصري علي محمود طه، المولود في المنصورة في 13 أغسطس 1901، وتُوفِي في 17 نوفمير 1949 في القاهرة عن 48 سنة قصيدته الشهيرة "فلسطين"، والتي نظمها بعد النكبة 1948، ويعتقد الكثيرون أنها لشاعر فلسطيني، لأن كلماتها تُعبَّر عن النضال والكفاح ضد المحتل الغاشم، يقول في هذه القصيدة:
أَخِي جَاوَزَ الظَّالِمُونَ المَدَى // فَحَقَّ الجِهَادُ وَحَقَّ الفِدَا
أَنَتْرُكُهُمْ يَغْصِبُونَ العُرُوبَةَ // مَجْدَ الأُبُوَّةِ وَالسُّؤْدَدَا
وَلَيْسُوا بِغَيْرِ صَلِيلِ السُّيُوفِ // يُجِيبُونَ صَوْتًا لَنَا أَوْ صَدَى
فَجَرِّدْ حُسَامَكَ مِنْ غِمْدِهِ // فَلَيْسَ لَهُ بَعْدُ أَنْ يُغْمَدَا
وليس غريبًا أن يتحدث شاعر مصري عن النكبة، لأنَّ الإنجليز الذين أذاقوا الشعب المصري الأمرَّيْن هم أنفسهم الذين مهَّدوا لنكبة الشعب الفلسطيني، وقد أبدع الفنان: محمد عبد الوهاب في أداء هذه القصيدة بطريقة سياعدت الأجيال في حفظها، والتغني بها على مدى عُقودٍ من الزمان.
ومن شعراء المجموعة الثانية الذين عاصروا النكبة وعايشوها الشاعر: عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، ولقبهُ "زيتونة فلسطين". وُلِدَ الشاعر في مدينة طولكرم الفلسطينية عام 1909، وتُوفِي في 11 أكتوبر 1980 عن 71 سنة تقريبًا.
ويُعدُّ الكرمي أحد أبرز الشعراء العرب في العصر الحديث، من قصائده الشهيرة قصيدته التي يحنُّ فيها إلى مرابع الصبا، ويبشر بالعودة الحتمية حيث يقول:
فلسطين الحبيبة كيف أحيا // بعيدًا عن سُهولك والهضاب
تناديني السفوح مُخضبات // وفي الآفاق آثارِ الخِضاب
تناديني الشواطئ باكيات // وفي سمع الزمان صدى انتحاب
تناديني الجداول شاردات // تسير غريبة دون اغتراب
تناديني مدائنك اليتامى // تناديني قُراك مع القباب
ويسألني الرفاق ألا لقاء // وهل من عودة بعد الغياب
أجل سنقبل الترب المندى // وفوق شفاهنا حُمر الرغاب
غدًا سنعود والأجيال تصغي // إلى وقع الخطى عند الإياب
نعود مع العواصف داويات // مع البرق المقدس والشهاب
ومن قصائده الأخرى الشهيرة التي يشير فيها إلى حتمية العودة لا محالة طال الزمان أو قصر، قصيدة: "المُشرَّد"، وهو الذي شُرِّدَ من وطنه وحمل فلسطين في قلبه وروحه، وظلت مفاتيح بيته في حيفا في جيبه، وعاش شريدًا طريدًا، وهو يتساءل:
يا فلسطين وكيف الملتقى // هل أرى بعد النوى أقدس ترب
ويقول في قصيدة أخرى مُذكرًا الأجيال القادمة بالهزيمة المنكرة التي ستحل بالغاصب المحتل، كما حلت بغيره من الغُزاة والطغاة:
قل للذين جنوا على وطني // ما بيننا الأيام والحقب
من قبلكم مرّ الطغاة بنا // هل تعثرت بهم لقد ذهبوا
عصفت بهم نار مقدسة // فإذا بهم لجهنم حطب
ومن شُعراء هذه المجموعة كذلك، الشاعر: هارون هاشم رشيد، المولود في حارة الزيتون بمدينة غزة عام 1927، وهو من شعراء خمسينيات القرن الماضي، ممن أُطلق عليهم شعراء النكبة، أو شعراء العودة، وتُوفِي الشاعر في 27 يوليو 2020 عن 93 عامًا تقريبًا، ومن أشهر قصائده قصيدته الشهيرة التي غنتها الفنانة: فيروز، التي بدأتها بالحديث عن حتمية العودة حين قال:
سَنَرجِعُ يوما إلى حَيِّنا // ونغرَقُ في دافئاتِ المُنى
سنرجِعُ مهما يمرُّ الزمان // وتَنْأى المسافاتُ ما بيننا
فَيَا قلبُ مَهْلًا ولا تَرْتَمِي // على دربِ عَودتنا مُوْهَنَا
يَعزُّ علينا غدًا أن تعودْ // رُفوفُ الطيورِ ونحن هنا
وننتقل الآن للحديث عن الشاعر: يوسف الخطيب، وهو شاعر فلسطيني من شعراء القرن العشرين، وُلِدَ في بلدة دورا قضاء محافظة الخليل عام 1931، ورحل عن عالمنا يوم الخميس 16/16/1011 في دمشق، ومن أشهر قصائده قصيدته التي يقول فيها:
يقولون كان فتى لاجئًا // إلى خيمة في الربى مُشرعة
تطل بعيدا وراء الحدود // على الجنة الخصبة الممرعة
وكانت له ذكريات هناك // مُجنّحة حلوة ممتعة
كتب الشاعر هذه ا لقصيدة بعد نكسة يونيو 1967 التي أدت إلى نزوح الملايين من سُكان المدن الفلسطينية إلى الكثير من بلدان العالم.
وخاتمة المسك في هذه المجموعة هي الشاعرة: فدوى طوقان، التي تُعدُّ من أهم شاعرات فلسطين في القرن العشرين، وُلِدَت هذه الشاعرة في مدينة نابلس في 1 مارس 1917، وتُفيت في 12 ديسمبر عام 2003 عن عثمر يناهز 86 سنة تقريبًا، ومن أشهر قصائدها قصيدتها التي تقول فيها:
وظلّ المشرد عن أرضه // يتمتم: لابد من عودتي
وقد أطرق الرأس في خيمته // وأقفل روحا على ظلمته
وأغلق صدرًا على نقمته
ويتكرر ذكر الخيمة عند فدوى طوقان، وغيرها من شعراء النكبة، وبخاصة الخيمة السوداء كرمز للظلم والظلام والتشريد والتهجير القسري، والبعد عن الوطن الأصلي الحبيب.
وختامًا نقول إنه بذلت جُهود حثيثة، تقودها دول غربية لمسح قصائد النكبة من المناهج الدراسية في بعض الدُّول العربية، وغيرها من القصائد التي تحث على الجهاد والكفاح والنضال، أو حتى تلك التي تتحدث عن فلسطين، وضرورة تحرير الأرض المغتصبة، والحقوق المسلوبة، وذلك بسبب ما يُعرف بالمساعي الرامية، والداعية إلى تكريس الاحتلال، والقبول به أمرًا واقعًا، وبسبب ما نشاهده ونراه من السعي الدؤوب نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وجهود ومساعي ما يُعرف بالتصهيُن.
** كاتب وأكاديمي
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
برحيل الشاعر سلطان الصريمي… اليمن يخسر ربان الأغنية السياسية
أحمد الأغبري
ما أنفك الشاعر اليمني سلطان الصريمي (1948- 2024) على مدى تجربته الشعرية الممتدة لنحو خمسة عقود يبشر بالأمل، عبر ثقافة اجتماعية نسج منها سحر بساطة الشعري الغنائي، الذي ظل يطير به إلى قلوب الناس، لدرجة لا تُذكر الأغنية اليمنية المعاصرة، خاصة السياسية منها، إلا وكان الصريمي على رأس قائمة شعرائها.
استطاع هذا الشاعر – الذي يُعدُّ من مؤسسي اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين وقياداته المخضرمة – من خلال القصيدة الأغنية أن يكون قريبا من تفاصيل حياة الإنسان اليمني، حتى إن بعض النقاد اعتبروه شاعر الهمّ العام في اليمن بامتياز، وثالث ثلاثة رُواد فتحوا آفاقا جديدة للقصيدة الشعبية الحديثة في هذا البلد.
من «هموم إيقاعية» انطلق عام 1983 مقدِّما باكورة إصداراته ليكشف في العام نفسه، في «أبجدية البحر والثورة» عن خصوصية جديدة في قصيدته؛ وهي خصوصية فاجأنا بتطورٍ لافتٍ في علاقتها باللغة، وارتباطها بالهمّ العام في «نشوان وأحزان الشمس» 2002؛ ليظهر في «قال الصريمي» 2002 أكثر إدهاشا؛ وهي دهشة عبّرت عنها بقوة «زهرة المرجان» 2005، وتوالت عناوينه؛ لتبقى جذوة هذه الدهشة متّقدة بلهيب القضية وهموم وأحلام الناس.
عندما سألته: هل انشغال الشاعر بهموم الناس ضرورة للاعتراف بقصيدته؟ أجاب: «ليس بالضرورة أن يفكّر الشاعر مجرد التفكير، بأنّ هناك من سيهتم بقصيدته، لكن لا يعني هذا أن الشاعر يكتب القصيدة كأنه غير موجود في المجتمع؛ فهو جزء من هذا المجتمع، ولا بد أن يكون لتناوله موضوع القصيدة علاقة بهموم الناس. أنا لستُ مع الشعر للشعر أو الشعر للفن. الشعر لديّ هو انعكاس للواقع الاجتماعي، ولا يمكن أن تكون للقصيدة قيمتها الإنسانية الاجتماعية، إلا إذا ارتبطت بالمجتمع. وظيفة الشعر هي وظيفة نقدية تقوم على إعادة صياغة الواقع».
كان الصريمي، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة، يؤمن بأنه لا توجد ذات مجردة عند الشاعر قائلا: «الذات تتشكلُ من ارتباط الشاعر بأسرته وبيئته ومجتمعه، بمعنى لا توجد ذات مجردة عند الشاعر، لكن ـ أحيانا – تتعالى الذات عند الشاعر لدرجة يفقد ذاته ويفقد قضيته.. وفي ظل هذه الحال يكون الشعر ليس له معنى».
كان الصريمي، الذي أسس ورأس مركز الكناري للاستشارات والخدمات الثقافية، ينأى بقصيدته عن التعقيد، مؤكدا في الوقت ذاته أنه ليس مع الغرابة أو الإغراق في الرمز. «أنا مع الصورة الشعرية التي تجد نفسها عند المتلقّي. أنا لا أؤطر الصورة ولا أغرق في الرمز أو الغرابة؛ لأنّ مهمة الشاعر خلق صورة جديدة يستطيع المتلقي بمختلف مستويات وعيه أن يفهمها، وتعطى له الحرية لكي يفسرها كيفما يشاء. ومع ذلك قصائدي ليست مباشرة، وإنما رمزية تعطي القارئ حرية في خلق الصورة التي يريدها».
مَن يقرأ تجربة الصريمي، الذي رأس تحرير مجلة «دروب»، لا بُد أن يسأل عن العوامل التي شكّلت وأخرجت قصيدته بهذا المستوى من القرب من حياة الناس.. وهنا أوضح: «أنا ولدتُ في بيئة فقيرة، وعشتُ حياتي بطريقة تكاد تكون غائبة عن دورها الطفولي، وكبرت قبل الأوان.. عانيتُ كثيرا في بداية الحال، وكانت معاناتي مع الناس، وكنت أعمل في اتجاهين: أحاول تطوير نفسي تعليميّا وثقافيّا، وأعمل توفيرا لمتطلبات معيشتي في الوقت نفسه. وكانت البداية منطلقة من الناس في كل المجالات: مجالات الأغنية السياسية والعاطفية والاجتماعية، ومستمرة هذه الحال إلى هذه اللحظة، بمعنى أنني لا أستطيع أنْ أكتب قصيدة، من دون أن يكون لها موضوع مرتبط بالمجتمع.. أنا إذا خرجت بقصيدتي عن موضوعها الاجتماعي أكون كالسمكة التي خرجتْ من الماء، لذلك أجدُ نفسي عندما أكتب القصيدة الذاتية الخاصة، لا أستطيع إنجازها خارج الموضوع العام». كانت اللغة العامية جزءا محوريا من تجربته الإبداعية، وتجلت بوضوح في قصيدته الشعبية، كما أسهمت في تشكيل قصيدة خاصة به، تحولت فيها اللغة الدارجة إلى لغة شعرية غنائية بمستوى مختلف.. هنا يعود للقرية ليعيد قراءة هذه الجزئية: «أنا عشتُ في القرية كثيرا، وكنت في قريتي أستمع إلى الأغاني الشعبية: أغاني البذار والحصاد والموالد والأعراس.. كل هذه الفنون الشعبية المتوفرة في القرية كوّنتْ لديّ مخزونا كبيرا من الثقافة السّمعية الشعبية، التي كنت أستقيها من مختلف المشارب، وتكونت عندي حصيلة قاموسية واسعة من المفردات العامية، وما يقابلها من الفصيح، وبالتالي أستطيع أن أصيغ الصورة الشعرية صياغة فصيحة وعامية بشكلٍ أرى أنه ناجح جدّا، ومفهوم عند الناس».
لكن هل تلك الثقافة السمعية هي ما يقف وراء تلك الوفرة الإيقاعية في قصيدة الصريمي؟ يقول: «في الأغنية الشعبية التراثية إيقاعات متعددة، ولها تفعيلات لا تختلف إطلاقا عن تفعيلات الشعر، سواء أكان عاميّا أم فصيحا، وعندما يريدُ المرء أن يطبّق التفعيلات الشعبية على ميزان الفراهيدي سيجدُ في الشعر الشعبي التراثي إيقاعات تكاد تكون إضافة إلى إيقاعات ميزان الفراهيدي. في لحظة ما اتخذ الصريمي قراره بانتزاع قصيدته من العمود وإفراغها داخل قصيدة التفعيلة. يوضح: «يعدُّ الشاعر اليمني الكبير الراحل عبدالله سلام ناجي، أول مَن كتب القصيدة العامية الحديثة، وأتذكر في لقاء معه في السبعينيات، عندما نُشرِتْ لي قصيدة (وعمتي)، قلت له: هل سمعت قصيدة (وعمتي)، فقال: قرأتها لكني أريد منك أن تتخلص من القافية. فأنا اعتبرتُ كلامه وصية، وعملت على التخلص من القافية… ساعدني في ذلك تنوع قصائدي التي توصف بالسياسية والاجتماعية والعاطفية؛ فأكون أحيانا بحاجة إلى أن تكون القصيدة عمودية فأكتبها عمودية، وتأتي القصيدة الأخرى فتفرض عليّ لمضمونها، في لحظة ولادتها الإبداعية، أن أكتبها بالتفعيلة، وهكذا. أنا من الشعراء الذين لا يكتبون القصيدة بقرار مسبَق، وإنما اللحظة الشعرية الإبداعية هي من تفرض عليَّ مضمون القصيدة وشكلها، فتكون كذلك.
هنا نتوقف عند البدايات؛ فيتحدث: «البداية كانت من القرية.. لا أتذكر الأغنية الأولى، ولكن من الأغاني الأولى أتذكرُ أنني ومجموعة من الزملاء، في مقدمتهم الشاعر محمد الفُتيح، بحكم ارتباطنا بالعمل السياسي والاجتماعي، قررنا الانطلاق في محاربة هجرة اليمنيين واغترابهم طلبا للرزق في بلدان أخرى؛ فبدأنا نكتب قصائد تستدعي عودة الناس من الخارج؛ لأننا كنّا نرى أن للهجرة آثارا اجتماعية كارثية، ولذلك حاولتُ أنْ أُجسِّد الحالة العامة للهجرة بجميع أشكالها بقصيدة (وعمتي) التي غناها الفنان عبدالباسط عبسي، ولعبتْ هذه القصيدة دورا كبيرا في عودة كثير من اليمنيين المغتربين، وتراجع بعض الذين كانوا يفكرون بالاغتراب؛ لِأنّ اليمن ـ وهذه حقيقة – بلاد طاردة، حتى في حالة الاستقرار.. عموما كانت هناك مؤشرات بتراجع معدلات الهجرة، ودفعَ ردّ الفعل الإيجابي هذا الدولة حينها لتوحي لبعض الشعراء بكتابة قصائد معاكسة لقصائدنا، وكان مطلوب أن تُغنَّى بالألحان نفسها التي غُنِّيَت بها قصائدنا؛ ولهذا السبب سقطت.. ومن ثم كتبتُ قصائد وأغاني أخرى بالمنوال نفسه، مثل «أذكرك والسحايب»، «وَراعية»، «نشوان» والاعتقال، لكنه لاحقا تحول إلى الأغنية السياسية، وكانت أغنية «نشوان»، هي العنوان الأبرز لتلك المرحلة. يقول: «أنا كنت أكتبُ الأغنية الاجتماعية والسياسية والعاطفية في آنٍ واحد.. بمعنى أنني في أثناء كتابة قصيدة «وعمتي»، كانت لديّ قصائد سياسية وعاطفية؛ فاللحظة الشعرية الإبداعية هي التي تتحكم بموضوع القصيدة وشكلها. وبشأن أغنية «نشوان» فهي لم تكن أولى قصائدي السياسية، فهناك قبلها قصائد لم تجد طريقها للغناء، ولم يُلتفت إليها».
أما عن حكاية أغنية «نشوان»: «صعب على الشاعر أنْ يقول ما مناسبة كتابة قصيدة ما؛ لأني لستُ شاعر مناسبات على الإطلاق، لكن في سبعينيات القرن الفائت حدث أن جُدِّدت (اتفاقية الطائف) بين اليمن والمملكة العربية السعودية، وهو ما اعتبرناه إهانة للشعب اليمني، خاصة بعد الثورة اليمنية التي قامت عام 1962، حيث كان لا بدّ أنْ تؤخذ مسألة الأراضي اليمنية التي أخذتها المملكة العربية السعودية عام 1934 طابعا آخر غير التجديد، ولهذا فقد خرجتْ البلاد كلها في تظاهرة كبيرة جدّا ضد تجديد الاتفاقية، وأنا شاركتُ في الخروج مع الناس، ولكن لم تكفِني المشاركة. وكان أحد أولادي قد سميْته «نشوان»؛ لإعجابي بالشخصية التاريخية اليمنية العظيمة نشوان بن سعيد الحميري.. عموما جمعتُ كلّ الهموم التي تتعلقُ بالبلاد انطلاقا من الاتفاقية، بما فيها الحياة التي كانت تعيشها البلاد، والتي ستعيشها البلاد لاحقا في قصيدة سميتها «نشوان»، ولذلك عندما تقرأ قصيدة «نشوان» ستجد كأنك تعيشها الآن، لكن منطلقها هو الاتفاقية.
واعتقل الصريمي بسبب هذه القصيدة: «نعم.. اعتقلتُ من أجل «نشوان» لمدة سنة مع التعذيب، لكن لم تكن القضية التي اعتقلتُ بسببها هي «نشوان» وحدها، بل ثلاث قضايا.. «نشوان»، وبجانبها قضية الانتماء السياسي، وقضية السفر إلى عدن مشتركا في اجتماعات المكتب التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين… لكني أكتشف اليوم أن جيلي جيلٌ محظوظ؛ لأنه صنع نفسه في مرحلة عجيبة، لذلك عندما أتذكّر معاناتي السياسية والاجتماعية في تلك المرحلة، أشعر بفرح شديدٍ جدّا، وأتساءل عن الجيل الذي نحن نعاصره الآن: ما الذي سيكونه؟ أيّ ذكريات ستكون له؟».
المصدر: القدس العربي