اجتمع عليهم التعويم والغلاء.. ماذا بقي للمصريين ليأكلوه في رمضان؟ (صور)
تاريخ النشر: 10th, March 2024 GMT
لم تكن تخل مائدة إفطار المصريين في شهر رمضان يوميا من لحوم بيضاء أو حمراء أو أسماك مع الأرز أو المكرونة والخضروات، كما كانت تزدان موائد سحورهم بأنواع كالفول المدمس، والطعمية، والبيض، والجبن الأبيض، والألبان، والزبادي، في معادلة يصعب تحقيقها في رمضان هذا العام، وفق تأكيد وشكاوى مصريين.
"معادلة صعبة"
أم علي، سيدة أربعينية تقيم في إحدى مدن الدلتا، تقول لـ"عربي21": "لم يبق للمصريين شيئا ليأكلوه على موائد إفطارهم وسحورهم، بعد تفاقم أسعار جميع تلك السلع واختلافها بنسب كبيرة من رمضان الماضي عنها في رمضان المقبل".
وتوضح أنها "قبل الوصول لهذه السلع يجب أولا الوصول لسلع أخرى لا استغناء عنها ولم نعد نستطيع توفيرها، مثل الزيت، الذي نحتاجه بجميع الأكلات"، مبينة أنها "كانت تشتري زجاجة الزيت في رمضان الماضي بنحو 45 و50 جنيها، ولكنها تشتريها هذا الأيام بـ95 و100 جنيه".
وتضيف: "تشاركت وزوجة أخي لشراء كرتونة زيت مناصفة بسعر الجملة حتى نوفر بعض الجنيهات"، متسائلة: "فماذا عن باقي السلع؟، خاصة وأن أبنائي الأربعة لن يقبلوا إلا بطعام فيه لحوم طوال رمضان"، معتبرة أن "هذا أمر صعب بل يكاد يكون مستحيلا تحقيقه".
وتلفت إلى أنه "ليس أمامي إلا تخفيض عدد مرات أكل اللحوم والدواجن والأسماك أسبوعيا بحيث لا تصبح يوميا، مع إمكانية تخفيض الكميات إلى النصف كأن تطبخ نصف دجاجة أو نصف كيلو من اللحم أو السمك".
وتبين أنه "لم يعد أمام الغلابة شيئا ليأكلوه إلا أجنحة وهياكل الدجاج واللحوم المجمدة التي ارتفعت أسعارها هي الأخرى من نحو 190 و200 جنيها في رمضان الماضي إلى حوالي 300 جنيها هذا العام".
وتشير إلى أن "سعر كيلو اللحوم الجملي في رمضان الماضي كان بمعدل 180 و200 جنيها، وهو اليوم بـ350 جنيها، والفراخ البيضاء كانت في معدل 70 جنيها وهي اليوم بأكثر من 110 جنيه للكيلو، والسمك كان بمعدل 60 و70 جنيها واليوم تعدى 95 و100 جنيه للأنواع الشعبية".
"سحور بلا فول"
وعن السحور تقول: "نشتري الفول المدمس بضع حبات في كيس صغير من المحلات والباعة الجائلين بـ10 جنيهات لا تكفي سحور طفل صغير"، ملمحة إلى أنها يمكن أن تشتري الفول الحصى وتقوم هي بتدميسه في البيت، لكنها توضح أن "سعره تضاعف من نحو 25 و30 جنيها رمضان الماضي إلى 55 و60 جنيها هذا العام، بجانب تكلفة الغاز الذي وصل سعر الأنبوبة منه بنحو 100 جنيه".
وتؤكد أنه "حتى الحصول على طبق بيض يكفي عدة أيام من سحور رمضان أصبح أمرا صعبا مع وصول سعر الكرتونة 160 جنيها قبل رمضان المقبل، مرتفعا من 120 جنيها العام الماضي".
وتشير إلى أن "الخيار الثالث للسحور بعد الفول والبيض هو الجبن الأبيض الفلاحي والمطبوخ، لكنه أيضا أصبح صعبا توفيره لارتفاع سعره من 35 جنيها لكيلو الفلاحي إلى 60 و65 جنيها هذا العام، بجانب تفاقم أسعار جميع أنواع الجبن العلب والسائب الذي وصل 70 جنيها للكيلو بالمحلات".
وعن اللبن والزبادي، توضح أن "اللبن الحليب ارتفع بشكل يصعب الحصول عليه كوجبة يومية بالسحور، وأن كيلو الفلاحي وصل 35 جنيها بينما كان بنحو 20 و22 رمضان السابق، كما يصعب تماما الحصول على 12 علبة زبادي لسحور عائلة من 6 أفراد".
وعن السكر، تؤكد أن "استهلاك أي أسرة منه خلال شهر رمضان يتضاعف بشكل كبير خاصة مع ما يشتهر به الشهر الكريم واعتاده المصريون تاريخيا من صناعة الكنافة والقطايف والعصائر وغيرها، حيث ارتفع سعر الكيلو من 20 جنيها في رمضان السابق، إلى معدل 50 جنيها الآن"، وسط شح مثير له كسلة استراتيجية.
كما تلفت إلى "صعوبة تحقيق عاداتهم اليومية في رمضان من صناعة الحلويات خاصة مع ارتفاع أسعار السمن البلدي من نحو 180 جنيها إلى 300 جنيه، والسمن الصناعي من نحو 90 جنيها إلى 150 جنيها للأنواع السائبة".
"زحام.. وبضائع لا تكفي"
وفي السياق، قالت أم مصطفى، أربعينية مصرية أخرى، لـ"عربي21": "ذهبت الخميس الماضي، أنا ومجموعة من جاراتي إلى منفذ تابع للجيش على أطراف مدينتنا، في محاولة لشراء سلع رمضان من أرز وشعرية ومكرونة ودقيق وزيت ولوبيا وفاصوليا".
وتستدرك: "لكن الغريب هو اختفاء السكر من المنفذ، ولدى تجار الجملة شحيح"، ملمحة إلى أن "الأمر الثاني المثير هو الزحام الكبير حول تلك البضائع التي نفذ بعضها مع مرور الوقت في طوابير الانتظار أمام المنفذ".
وتشير إلى أن "أسعار السلع في المنفذ أقل من تجار الجملة ومن تجار التجزئة، ولكن يصعب الحصول عليها"، مبينة أن "سعر اللوبيا والفاصوليا بالمنفذ بنحو 65 جنيها وعند تاجر الجملة بـ80 جنيها والمحلات بـ90 جنيها"، موضحة أن "كل تاجر يبيع كما يحلو له ولا يتفق السعر بين محلين حتى ولو كانا متجاورين".
وعن المكسرات والبلح والزبيب تقول إن "أسعارهما تضاعفت عن رمضان الماضي، وكيلو الزبيب بسعر الجملة وصل 200 جنيها، والسوداني 140 جنيها للجملة، والبلح بين 40 و50 و60 للأنواع الشعبية".
وعن ما ستأكله وأسرتها وجيرانها في رمضان مع غلاء تشكو منه، تؤكد "لا أشتري اللحوم منذ فترة، ويمكن توفير الفراخ البيضاء والسمك مرة واحدة لكل منهما أسبوعيا".
وتشير إلى أن "بعض التجار أكدوا لهم أنه منذ تعويم الجنيه يوم الأربعاء الماضي، يرفض بعض الموزعين إمدادهم ببضائع جديدة، مؤكدين أنها سوف ترتفع السبت، إلى معدلات كبيرة".
وتوضح أن "الناس تعرف من السبب في أزماتهم، ولكنهم لا يتكلمون خوفا من أن يكون مصيرهم السجن"، مشيرة إلى "حملة توقف طالت منطقتنا قبل أيام، بحق مرتادي المقاهي وأصحاب التكاتك وصل حد ملئ 2 ميكروباص ولم يعرف أحد ما السبب".
وتلمح إلى ما تقول عنه "الخوف الشديد من الناس رغم دعائهم كل لحظة على رأس النظام دون إعلان ذلك حتى داخل البيوت".
"الفارق كبير"
ووفق الأرقام الرسمية فإن المقارنة بين أسعار المواد الغذائية في رمضان الماضي ورمضان المقبل يبدو كبيرا، وعلى سبيل المثال، ووفقا لبوابة الأسعار المحلية والعالمية التابعة لمركز معلومات مجلس الوزراء، سجلت سعر الكيلو من الدواجن البيضاء 73 جنيها، في 22 آذار/ مارس 2023، أول أيام شهر رمضان الماضي.
لكن وقبل نحو 3 أيام من حلول شهر رمضان، وفي 7 آذار/ مارس الجاري سجل سعر كيلو الدواجن البيضاء، نحو 90 جنيها لدى المزراع، بزيادة نحو 17 جنيها في الكيلو، وهو الرقم الذي يزيد بنحو 10 و15 جنيها لدى التجار.
وفي أول أيام رمضان الماضي، سجلت أسعار اللحوم البلدي 200 إلى 300 جنيها بمحلات الجزارة واللحم المستورد البرازيلي 200 جنيها للكيلو، والمفروم الجملي 180 جنيها، ولحم الضأن والماعز 220 جنيها والكبدة البلدي 320 جنيها.
وقبل أيام من رمضان المقبل، سجل سعر كيلو اللحم البلدي ما بين 430 إلى 480 جنيه، وسجلت اللحوم الكندوز 300 إلى 370 جنيها، والضأن بين 300 إلى 380 جنيها، والجملي 300 إلى 350 جنيها للكيلو.
"76 بالمئة في عام"
وفي حديثه لـ"عربي21"، قدم رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام "تكامل مصر"، الباحث مصطفى خضري، الأرقام والإحصائيات التي تكشف حجم التباين بين أسعار المواد الغذائية في رمضان الماضي ورمضان المقبل ونسب الزيادة.
ويقول إنه "طبقا للدراسة الإحصائية التي أجراها المركز "تكامل مصر" منتصف شباط/ فبراير الماضي، عن الحالة الاقتصادية المصرية؛ فإن مؤشر أسعار الغذاء قد ارتفع بنسبة 76 بالمئة مقارنة بذات الشهر من العام الماضي".
ويوضح أنه "قد تم قياس المؤشر، باستخدام متوسط أسعار سلة مكونة من 12 سلعة غذائية، تمثل الطعام الأكثر استخداما على مائدة المصريين، وتم إعطاء كل سلعة منهم وزن نسبي؛ حسب حجم الاستخدام الكلي لهذه السلعة في مصر".
وحول توقعاته لما ستكون عليه موائد المصريين في رمضان مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة وخاصة مع قرار تعويم الجنيه قبل أيام، يؤكد خضري، أن "الأسعار الحالية للغذاء في مصر؛ مقومة بأسعار الدولار في السوق السوداء، والتي وصلت لأعلى مستوى لها عند 73 جنيه مقابل كل دولار".
ويلفت إلى أن "المستوردين والمتحكمين في السوق الغذائي المصري اعتادوا على التسعير وفق أعلى سعر يصل إليه الدولار؛ تحسبا لأي طارئ، وطول فترة الدورة الاستيرادية والتي تمتد لـ70 يوما تقريبا".
ويبين أنه "ومع أن هناك انخفاضا في سعر الصرف بالسوق السوداء بعد قرار التعويم؛ إلا أن مافيا الغذاء (وهم في حقيقتهم شركاء لرجال النظام أو غطاء لاستثماراتهم) لن يخفضوا من تسعير منتجاتهم".
ويتوقع أن "يحاول النظام المصري مؤقتا -خلال شهر رمضان فقط- امتصاص غضب المواطنين، عن طريق مصادرة بعض مخازن لأباطرة السوق، وطرحها في منافذ النظام لصناعة تخفيض وهمي للأسعار".
وبشأن ما يقوله مصريون غاضبون بأن رمضان القادم سيكون الأصعب على المصريين في التاريخ المعاصر، يعتقد الباحث المصري، أن "كل يوم يمر على المصريين تحت ظل هذا النظام هو أصعب مما قبله".
ويضيف: "نحن نتعامل مع نظام سياسي يرى في مصر والمصريين سوقا يجب أن يتربح منه، أو يبيعه للشركات والحكومات الخارجية، إننا نعيش أسوأ عصورنا، وما نسمعه عن المليارات التي تباع بها أراض مصر وثرواتها؛ غير ما يدخل ميزانية الدولة، والتي أصبحت مثل جراب الحاوي لا ندري ما بداخله".
"الغرق في الوحل"
وفي قراءته للحالة المصرية قبيل الشهر الكريم يلمح الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية الدكتور ممدوح المنير، إلى تأثير قرار تعويم الجنيه قبل أيام من قدوم شهر رمضان، ويبين أنه "يعني حرفيا غرق الشعب المصري، فالشعب الذي يدّعي النظام أن التعويم سينقذه هو وحده من سيغرق في وحله".
ويرى في حديثه لـ"عربي21"، أن "تعويم الجنيه يعني قفزة كبيرة في أسعار السلع والخدمات لسبب بسيط أنه بعد أن كان التاجر أو المستورد يشتري بضاعة معينة مثلا من الخارج بقيمة 30 جنيه للدولار سيشتري نفس البضاعة بقيمة 50 جنيه للدولار أو يزيد وبالتالي يتم تحميل نسبة الزيادة على المواطن أو المستهلك".
ويوضح أنه "بالتالي هو قام بتقنين السعر المرتفع للسلع والخدمات، وفي دولة تعتمد على الاستيراد في معظم سلعها الأساسية؛ لذا سوف تستمر وتيرة الارتفاعات في الأسعار".
ويضيف: "حتى نصل إلى مفارقة أن أهل غزة المحاصرين لتجويعهم أصبح الشعب المصري مثله في الجوع أو قريب منه بسياسات التجويع التي يمارسها النظام المصري".
ويبين أنه "بعملية حسابية بسيطة قام بها العديد من المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي لاحتساب قيمة وجبة واحدة من الفول والطعمية سيأكلها المواطن دون تغيير في الإفطار والغداء والعشاء طيلة الشهر؛ كانت النتيجة نحو 6 آلاف جنيه لأسرة من 4 أفراد، في حين أن متوسط الرواتب من 3 إلى 5 آلاف جنيه شهريا".
ويوضح أن "هذا ما جعل بعض الخبراء يحددون أن الحد الأدنى للدخل يجب ألا يقل عن 30 ألف جنيه شهريا للوفاء بالاحتياجات الأساسية فقط للأسر؛ وإلا سنجد أنفسنا أمام شدة مستنصرية أخرى كالتي حدثت في مصر عام 1065، واستمرت نحو 7 سنوات كالسنوات العجاف أيام سيدنا يوسف، ولكنها تكررت دونه في العهد الفاطمي".
ويلفت إلى أنه "حينها وصل الحال بالناس أن يأكلوا القطط والكلاب وينبشوا القبور لأكل جثث الموتى حديثا من شدة الجوع، بل كانوا لا يدفنون الميت ويأكلونه مباشرة بعد موته".
ويعبر المنير عن أمنيته بألا "لا نصل إلى ذلك ونتمنى السلامة لأهلنا في مصر؛ ولكن هذا المثال يوضح إلى أي مدى يمكن أن يصل استشراء الفساد والاستبداد بالناس ومعاشهم، لأن الشدة المستنصرية كان سببها الأول ليس انخفاض منسوب النيل ولكن الفساد الإداري والمالي فضلا عن الاستبداد".
ومن المفارقات المفجعة، بحسب المنير، "أننا نتجه رويدا نحو الشدة المستنصرية؛ فقد اجتمعت لدينا كل أسبابها وزيادة، وهي الفساد والاستبداد وكذلك السد الإثيوبي وتأثيره بسنوات قليلة على انخفاض منسوب مياه النيل، وبالتالي تكرار نفس الأسباب للشدة المستنصرية لكن مع 106 مليون إنسان، ما يجعل أية مساعدات عاجزة عن منع الكارثة المنتظرة".
وعن مدى وجود علاقة بين حالة الضنك التي يقبع بها ملايين المصريين والظلم والقهر والبطش الذي يرتكبه النظام، يؤكد المنير، أن "تفاقم الأوضاع إلى زيادة مع سكوتنا عما يحدث في غزة من تجويع"، قائلا إن "هذا لن يمر"، مضيفا: "لقد علمنا من سنن التاريخ أن السكوت على الظلم ينذر بإنهدام العمران وانهيار الأمم والحضارات".
ويعتقد أنه "لا يوجد سوى طريق واحد أمام هذا الشعب لينقذ حاضره ومستقبله من هذا المصير البشع؛ وهو تغيير هذا النظام في أسرع وقت ممكن مهما كانت التضحيات؛ فتكلفة مقاومته ومقارعته حتى تغييره أقل بكثير من تكلفة بقاءه، وهي الضمانة الوحيدة لحجز مقعد في الحياة لأبنائنا وأحفادنا وليس في القبور جوعا".
وعبر مواقع التواصل الاجتماعي انتشر هاشتاغ "#رمضان_المصري_الغلبان"، عبر فيه مصريون عن مخاوفهم من تأزم أوضاعهم خلال شهر رمضان، خاصة مع ما سبقه من قرارات بتعويم العملة المحلية الأربعاء الماضي، معتبرين أنها قرارات تضر بالشارع المصري، محملين الدولة ورأس النظام المسؤولية حول معاناتهم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية المصريين رمضان مصر فقر رمضان المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی رمضان الماضی رمضان المقبل تعویم الجنیه هذا العام شهر رمضان قبل أیام خاصة مع أیام من فی مصر من نحو
إقرأ أيضاً:
عام على صفقة رأس الحكمة.. أين ذهبت الوعود للمصريين بالسمن والعسل؟
مع مرور عام على توقيع مصر عقد صفقة "رأس الحكمة" بالساحل الشمالي الغربي للبلد العربي الأفريقي، مع الإمارات، بقيمة 35 مليار دولار، استعاد مصريون بعض الأحاديث الحكومية عن أهمية تلك الصفقة في إنعاش الاقتصاد الوطني باستثمارات تصل إلى 150 مليار دولار بما يعود على 107 ملايين مصري بالرخاء والتنمية وزيادة الدخل وتراجع التضخم وزيادة فرص العمل.
الصفقة المعلنة في 23 شباط/ فبراير 2024، ورغم ما شابها من غموض وطالها من انتقادات وأثارت مخاوف المصريين من التفريط في أراض جديدة على طريقة التنازل عن جزيرتي "تيران وصنافير" بالبحر الأحمر، للسعودية عام 2016، وببقعة سحرية على ساحل البحر المتوسط، اندفع الإعلام الحكومي في تبيان فوائد الصفقة مع وعود للمصريين بالسمن والعسل، وفق قول البعض.
حين توقيع الصفقة، مع شركة أبوظبي التنموية القابضة (ADQ)، قال رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إنها "أكبر صفقة استثمار مباشر في تاريخ البلاد"، وأنها "ستدر على مصر 150 مليار دولار استثمارات"، وأنها "تسقطب 8 ملايين سائح إضافي".
المشروع يقام على مساحة 40 ألفا و600 فدان (170 مليون متر مربع) لإنشاء أحياء سكنية، وفنادق عالمية، ومنتجعات سياحية، ومشروعات ترفيهية، وخدمات عمرانية، وحي مركزي للمال والأعمال ومرافئ دولية لليخوت والسفن السياحية.
"دعاية الصفقة"
وصفه نواب البرلمان حينها بأنه "صفقة تاريخية"، و"انطلاقة غير مسبوقة للاستثمار الأجنبي"، وقالوا: "حان وقت جني الثمار، بعد أن تغلبنا على الصعاب وقهرنا التحديات بحكمة الرئيس"، فيما وعدوا بأن "يكون الشعب صاحب النجاح وجني الثمار".
واعتبروه "خطوة نحو مستقبل مستدام للأجيال"، و"يضمن تدفق دولاري يحل أزمة شح العملة الصعبة، ويسد الفجوة الدولارية"، و"يوفر ملايين من فرص العمل"، و"يساهم في استيعاب حاجة المجتمع"، ويمثل "تهدئة لعواصف ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار".
وفي 28 شباط/ فبراير 2024، وبعد 5 أيام من الإعلان عن الصفقة أطلق رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، لفظ "هبرة" على الصفقة، مطالبا رئيس الوزراء باقتطاع 10 مليارات جنيه منها لصندوق خاص، ما دفع للتشكيك في فائدة الصفقة.
"مصر قبل وبعد الصفقة"
وسبق اتفاق رأس الحكمة وضع اقتصادي ومالي مصري متدهور، وتراجع رصيد البلاد من النقد الأجنبي، وانخفاض هو الأكبر بقيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية، حيث وصل سعره بالسوق السوداء إلى 72 جنيها مقابل الدولار، في رقم تاريخي وغير مسبوق.
كما سبق الصفقة بـ4 شهور اندلاع العدوان على غزة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ما تبعه تأزم بحركة التجارة بالبحر الأحمر، وخسارة البلاد حوالي 6 مليارات دولار من دخل قناة السويس، فيما لم يكن لصفقة رأس الحكمة دور في إنعاش الموازنة العامة للبلاد إثر تلك الخسائر، بحسب تأكيد خبراء.
ولذا يرى مراقبون وخبراء أن الوعود لم تتحقق، وما زال المصريون يعانون من الفقر، والغلاء، وزيادة معدلات التضخم، وتأزم وضع الجنيه، وتعاظم خدمة الدين الخارجي، والاستمرار في الاقتراض من المؤسسات الدولية، وإعلان الحكومة بيع المزيد من الأصول العامة والشركات الحكومية والأراضي المصرية.
وفي الوقت الذي قيل فيه إن الصفقة تسهم في تعزيز السيولة الدولارية بالبلاد وتخفف من أزمتها الاقتصادية، شهدت البلاد أزمة تخفيف أحمال الكهرباء وقطع التيار جميع أنحاء البلاد. وذلك في أزمة أغضبت المصريين، وتفجرت إثر تراجع إمدادات الغاز "الإسرائيلي" لمصر، وتراجع الإنتاج المحلي منه، وعجز البلاد عن توفير العملة الصعبة لاستيراد شحنات الغاز المطلوبة لمحطات الكهرباء.
ولفت البعض إلى أن الصفقة لم تغن حكومة القاهرة عن اتخاذ عدة قرارات اقتصادية مثيرة للجدل بينها رفع سعر الفائدة، وتحرير سعر صرف الجنيه للمرة الرابعة منذ العام 2016، والثالثة خلال 3 سنوات.
ولم يتمكن الجنيه المصري من التعافي أو استعادة بعض قيمه المفقودة بل انخفضت قيمته من نحو 31 جنيه أثناء الإعلان عن الصفقة ليسجل بعد شهر واحد وفي 6 آذار/ مارس 2024، انخفاضا قياسيا وصل بقيمته إلى نحو 51 جنيها.
ومع الإعلان عن الصفقة وحصول مصر على 24 مليار منها خلال شهرين فقط، والحديث عن استثمارات تصل إلى150 مليار دولار، واصلت القاهرة الاقتراض الخارجي.
وبعد شهر واحد من الإعلان عن الصفقة رفع صندوق النقد الدولي تمويله المقرر للقاهرة من 3 إلى 8 مليارات دولار يجري صرفها على 6 شرائح تنتهي في خريف 2026، لتصبح القاهرة ثاني أكبر مدين للصندوق بعد الأرجنتين.
واعترف وزير المالية المصري أحمد كوجك، في كانون الثاني/ يناير الماضي، باستخدام جزء من صفقة "رأس الحكمة" لسداد الدين الخارجي وتراجع قيمته 3 مليارات دولار إلى 155.3 مليار دولار بنهاية أيلول/ سبتمبر الماضي.
"رفع أسعار وتضخم وبيع أصول"
ورغم الحديث الحكومي عن فوائد الصفقة للمصريين، إلى أنها قامت برفع أسعار أغلب السلع الأساسية والاستراتيجية كالوقود والكهرباء وتعريفة المياه والنقل والاتصالات والأدوية مرات عدة، ورفع سعر الخبز المدعم من 5 إلى 20 قرشا.
وبعد توقيع الصفقة، رفعت مصر أسعار الوقود 3 مرات: في آذار/ مارس، وتموز/ يوليو، وتشرين الأول/ أكتوبر، بإجمالي زيادة بأسعار البنزين بين 33-38 بالمئة، والسولار بنسبة 63 بالمئة.
ورفعت هيئة الدواء المصرية سعر 400 دواء من آيار/ مايو وحتى تموز/ يوليو، و600 مستحضر من أيلول/ سبتمبر حتى نهاية العام الماضي، مع احتمال زيادة نحو 1000 صنف العام الجاري بحسب رئيس شعبة الأدوية علي عوف.
صفقة رأس الحكمة، لم تمنع القاهرة أيضا، من اللجوء إلى خيار بيع الأصول العامة، كما يؤكد مراقبون.
والأسبوع الماضي، أعلن وزير الاستثمار حسن الخطيب، دراسة نقل إدارة جميع شركات الدولة لصندوق مصر السيادي لإعادة هيكلتها، وجذب القطاع الخاص، وطرحها للاكتتاب العام بالبورصة المصرية.
"لم تكن من أجل المواطن"
وفي إجابته على السؤال: ماذا تحقق للمصريين من صفقة رأس الحكمة؟ وأين الوعود الحكومية؟ قال الباحث الاقتصادي المصري محمد نصر الحويطي لـ"عربي21": "يجب في البداية التأكيد على أن صفقة رأس الحكمة لم تكن لأجل المواطن في المقام الأول".
وأضاف: "صفقة رأس الحكمة كانت لأجل وقف نزيف سعر الجنيه أمام الدولار وتوفير حصيلة دولارية لسداد أقساط الديون الخارجية، ومبادلة ودائع إماراتية بالدولار تآكلت منذ أعوام".
وأكد أنه "في الحقيقة منذ صفقة رأس الحكمة ومعدلات التضخم معتدلة، لا توجد زيادات أو طفرات في قياسات حجم التضخم تتابعا، كذلك هناك أريحية نسبية في التعامل مع أقساط الديون".
والأهم من وجهة نظر الحويطي، هو "القضاء على السوق الموازي للدولار (السوق السوداء)، فبعيد صفقة رأس الحكمة تلاشت السوق الموازية للدولار تدريجيا، وأصبح سعر الدولار واحد".
وحول عودة الدولة للاقتراض مجددا ولبيع الأصول، وأنه رغم مليارات الصفقة تفجرت أزمة نقص الغاز وتخفيف الأحمال وتم رفع سعر الوقود 3 مرات، عاد ليؤكد أن "صفقة رأس الحكمة في المقام الأول ليست لخدمة المواطن".
وأشار إلى أن "الاقتراض الخارجي موجود وسيظل موجودا، وفي حد ذاته يؤكد على الجدارة الائتمانية، ما يعني إن لم تكن لديك القدرة على السداد فلن يقبل أحد إقراضك".
وبين أن "صفقة رأس الحكمة أوقفت نزيف الجنيه أمام الدولار وعطلت التضخم (بالأرقام)، وخفضت قليلا من الديون الخارجية (بالأرقام)، وأوجدت جدارة ائتمانية".
"لإنقاذ النظام لا دعم الشعب"
وقال الخبير الاقتصادي المصري الدكتور مصطفى يوسف، لـ"عربي21": "رأس الحكمة كانت صفقة إنقاذ لنظام دوره معروف كنظام وظيفي نشأ بتخطيط مسبق من ولي عهد الإمارات وحاكمها الحالي محمد بن زايد".
الباحث في الاقتصاد السياسي والتنمية والعلاقات الدولية، أوضح أن "هذا النظام أُتي به لتحطيم الربيع العربي، وإلغاء فكرة سيادة الشعوب، وتحقيق أمن إسرائيل، وكان وجود نظام ديمقراطي وبنكهة إسلامية مشكلة مضاعفة لهم خاصة مع فكرة الديمقراطية التشاركية وأن يكون للشعوب قرار، ما يهدد ليس فقط حكام الإمارات والممالك والأسر الخليجية، بل أعضاء المجلس العسكري في مصر والجنرالات".
وأشار إلى أنه في المقابل "جاء نظام من إنتاج بن زايد والإمارات ورئيس الديوان الملكي السعودي السابق خالد التويجري، يحمي إسرائيل وحكامها يرضوا عنه، ويتحرك بشكل جيد أمام اللوبيات وأروقة صناعة القرار في أمريكا".
وتابع: "لكنه سقط في فشل اقتصادي مريع نتيجة فساد غير مسبوق، يفوق فساد عهد حسني مبارك، وكل ما قيل عن رجال أعمال جمال مبارك، وحتى يفوق اعتراف زكريا عزمي الشهير أمام مجلس الشعب بأن (الفساد في المحليات للركب)، فالفساد الآن وصل للأعناق، وعما قريب سيغطي الأعناق ويُغرقها".
ومضى يؤكد أن "لحظة الحقيقة جاءت، بعدما وصل سعر الدولار في السوق الموازي حوالي 72 جنيها، وبدأ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبعض المنظمات التنموية يقولون إن هذا الوضع آخر هذا النظام ولابد أن ينتهي الفساد وتتوقف المشروعات غير ذات الجدوى".
واستدرك بالقول: "لكن بعد الدور الرهيب الذي قام به النظام المصري مع الإماراتي في دعم الكيان المحتل في إمداده بالخضار والفاكهة والجسور والمراكب والإمدادات اللوجستية، وفي المقابل غلق كل الطرق أمام قطاع غزة فلا طعام ولا دواء ولا سلاح، كانت النتيجة محاولة إنقاذ".
ولفت إلى أنه هنا "جاء قرار بيع رأس الحكمة، ولأن الإعلام المصري غير محترف وغير منضبط وأقرب إلى عمل المرتزقة كانت دعاياتهم عن وضع جديد للبلاد مع دخول 35 مليار دولار، للدولة؛ ولكن لم يحدث لا تطوير ولا غير ذلك، والنتيجة بيع أراض مميزة جدا، كما بيعت (تيران وصنافير) للسعودية، فأبوظبي والرياض يشترون مصر قطعة قطعة في مزاد علني مثل وضع روسيا أثناء حكم الرئيس الأسبق بوريس يلتسن (1991- 1999)".
وخلص للقول إن "هذا نظام يبيع كل شيء، ولن أندهش لو باع قناة السويس أو آثار مصر أو حق انتفاع الأهرامات، لأنه نظام لا يهمه أن تتقزم مصر وتصغر جغرافيا وسياسيا، في مقابل أن تحيا حفنة جنرالات ومجموعة من شيوخ بالخليج، والتعاون مع إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية، وتدمير مستقبل وأعمار وحياة وآمال وطموحات مئات الملايين من شباب العرب".
وأكد أنه "لم يتم عمل أي شيء بمبلغ 35 مليار دولار، فقد دفعت بعض التزامات وفوائد وخدمة الدين، وجزء دخل الثقب الأسود الخاص بالفساد".
ويرى أنه "ليس هناك أي حل هيكلي، فالحل الهيكلي يتطلب إيقاف حنفية الفساد، ورفع يد الدولة عن الاقتصاد، لأن الدولة والجيش بعهد حسني مبارك كانا يمثلان فقط نحو 20 بالمئة، لكن الآن يؤكد الباحث في كارنيغي يزيد صايغ، أن المؤسسة العسكرية وما يتبعها يمثلون نحو 78 بالمئة من اقتصاد البلاد".
وختم بالقول: "وعليه فإن البلد تتدمر، والقطاع الخاص يتقلص ويتقزم بشدة، والبطالة تزيد، والتضخم يرتفع، والعملة تنهار، وتعتمد على الاستيراد، بل تستورد التضخم القادم لك من كل مكان في العالم، ولديك استدانة خارجية، ومشاريع بلا جدوى، وتشتري طائرات رئاسية وتبني قصورا لا فائدة منها".
"السؤال الحرام"
وقال أستاذ الإعلام السياسي الدكتور ناصر فرغل: "بعد مرور عام على صفقة بيع رأس الحكمة يصبح لزاما علينا طرح السؤال الحرام".
وتساءل: "ماذا تغير في حياة المصريين؟ وهل تحققت الوعود التي رددها على مسامعنا كثير من الأبواق السياسية والإعلامية واللجان العنكبوتية وغيرهم، ممن وجهوا اتهامات لأصحاب الرأي الآخر، أقلها الخيانة والعمالة والانضمام إلى جماعات محظورة".
وأضاف: "لقد وعدوا الناس بالمن والسلوى، وأدخلوا على القاموس كلمات جديدة مثل الهبرة، تعبيرا عن المال الوفير الذي سرعان ما تبخر وآلت الأحوال إلى الأسوأ، فالجنيه واصل انخفاضه أمام العملات الأجنبية رغم أن الثمن وصل إلى 35 مليار دولار".
وتابع: "واصل التضخم ارتفاعه وزاد عن 24 بالمئة، حسب التقارير الأجنبية، وتواصلت رحلة الاستدانة من البنوك ومؤسسات التمويل شرقا وغربا؛ وارتفعت معدلات البطالة واختفت الأدوية، وتراجع مستوى التعليم، وأصيبت الأسواق بشلل شبه تام، واختفت الطبقة الوسطى المعنية بالتقدم وحماية القيم الاجتماعية".
وخلص للقول: "تبخرت الدولارات، وضاعت قطعة غالية من تراب الوطن، وللأسف بدأت الأبواق الكريهة تردد ذات الاسطوانة المشروخة تمهيدا لبيع منطقة وسط القاهرة التاريخية التي تُماثل العمارة الباريسية، لتحل مكانها مبان قبيحة الشكل والمضمون لمصلحة النخاسين الجدد".
وختم: "بينما تسعى الدول المحورية التي تلعب أدوارا إقليمية ودولية مؤثرة وحتى بعض الدويلات على التوسع خارج حدودها؛ فإننا نسير عكس الاتجاه سواء بالبيع أو التنازل تحت عناوين زائفة كالاستثمار".