ثم ماذا بعد انتهاء صلاحية التبضُّع البذخي في المبادرات؟ (1/2)
تاريخ النشر: 10th, March 2024 GMT
What After the Expiry of the Extravagant Shopping in Initiatives? (1-2)
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
في إطار تبضع الفريق أول البرهان قائد الجيش ووزارة الخارجية السودانية في مبادرات إنهاء الحرب في السودان أعرب قائد الجيش عن ثقة السودان في الاتحاد الإفريقي وما يمكن أن يقدمه من حلول شريطة أن تعيد الدولة ثقتها في الاتحاد الإفريقي بالتعامل معها كعضو كامل الحقوق في هذه المنظمة.
ويجدر بالذكر أن الفريق أول البرهان ظل طوال فترة الاقتتال المدمر في السودان مع قوات الدعم السريع يتجول بين المبادرات المطروحة لوقف أطلاق النار التي تشمل مبادرات الإيقاد، والاتحاد الإفريقي، ودول الجوار السوداني، والمنامة، وليبيا وتركيا، والتي يعوِّل جميعها على التكامل مع منبر جدة الذي ترعاه المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
وشهد شهر مارس 2024 الذي يسبق شهر اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023 تطوراً جوهرياً في مسارات الجهود الدولية لوقف إطلاق النار تجسد في قرار مجلس الأمن رقم 2724 بوقف إطلاق النار خلال شهر رمضان الفضيل لأسباب إنسانية. ودعا القرار جميع الأطراف إلى ضمان إزالة أي عراقيل وتمكين وصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن ودون عوائق، بما في ذلك عبر الحدود وعبر خطوط التماس، والامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني. وتشمل تلك الالتزامات حماية المدنيين والأعيان المدنية، والتعهدات بموجب إعلان الالتزام بحماية المدنيين في السودان المعروف باسم "إعلان جدة". ويشجع القرار المبعوث الشخصي للأمين العام إلى السودان على استخدام مساعيه الحميدة مع الأطراف والدول المجاورة، لاستكمال وتنسيق جهود السلام الإقليمية. ويمثل القرار الذي اعتمده مجلس الأمن للمرة الأولى منذ اندلاع الإحتراب رسالة قوية للجيش والدعم السريع بضرورة الاتفاق على وقف فوري للأعمال القتالية خلال شهر رمضان. وحث الجانبين على العمل للاستجابة للدعوة الدولية الموحدة للسلام وإسكات البنادق وبناء الثقة والسعي لحل الصراع عبر الحوار.
وقبل اعتماد القرار المقدم من المملكة المتحدة بتأييد 14 عضوا وامتناع روسيا عن التصويت، أرسل قائد الجيش موافقته على القرار في مرحلة التداول حول مشروعه، بيد أن وزارة الخارجية وفي إطار التسوق المُبذِّر في مبادرات وقف إطلاق النار أقحمت حزمة من الشروط لتنفيذ قرار مجلس الأمن يبدو من الوهلة الأولى ضعف الجهد الذي بذل في صياغتها حيث يعيد البند الأول المغالطات بين طرفي الإحتراب حول تنفيذ مخرجات منبر جدة، بينما يتناقض الشرط الثالث الذي يطالب بوقف فظائع الدعم السريع في الولايات التي طالب الشرط الثاني بالانسحاب منها مسبقاً. أما الشرط الرابع فيمثل وصمة في جبين الدبلوماسية السودانية حيث طالبت الخارجية بإعادة المنهوبات العامة والخاصة ومحاسبة مرتكبي أعمال التدمير التي طالت المرافق العامة وممتلكات المواطنين قبل تنفيذ القرار الصادر من مجلس الأمن! وفي ختام بيانها أقحمت الخارجية السودانية ما يمثل تعديلاً للقرار الإنساني المعتمد من مجلس الأمن حيث اشترطت أن يشمل القرار أوضاع الحكم بعد وقف الحرب وطالبت باتخاذ الترتيبات السياسية اللازمة بعد مشاورات واسعة مع القوى الوطنية كافة لإدارة الفترة الانتقالية التي يعقبها إجراء الانتخابات العامة ليختار الشعب من يحكمه. ولا شك أن بيان الخارجية حول القرار رقم 2724 المعتمد من مجلس الأمن سيثير العديد من التساؤلات في الأوساط الدبلوماسية المحلية والعالمية حول ما آلت إليه سياسة السودان الخارجية، سيما في فهم أبعاد وتبعات التعامل مع قرارات مجلس الأمن. ويجدر بالذكر أن مجلس الأمن قد اعتمد بالإجماع في نفس الجلسة بتاريخ 8 مارس 2024 القرار رقم 2725 الذي قرر المجلس بموجبه تمديد ولاية فريق الخبراء المعني بالعقوبات لغاية 12 مارس 2025 مما ينذر بتبعات عدم انصياع أي من طرفي الاقتتال في السودان لقراره رقم 2724.
وفي المقابل، فقد وافق الدعم السريع على قرار مجلس الأمن دون شروط آملاً أن يسهم القرار في تخفيف معاناة السودانيين من خلال إيصال المساعدات الإنسانية وتسهيل حركة المدنيين فضلا عن استغلاله في بدء مشاورات جادة نحو بدء العملية السياسية التي تفضي إلى وقف دائم لإطلاق النار وتحقيق الأمن والاستقرار والوصول إلى حل شامل للازمة السودانية من جذورها. كما أعلن الدعم السريع علن استعداده للحوار حول آليات مراقبة متوافق عليها لضمان تنفيذ قرار مجلس الأمن وتحقيق الأهداف الإنسانية ورائه.
وبمنأىً عن قرار مجلس الأمن رقم 2724، يكشف التدبر الحصيف في كواليس مبادرات وقف إطلاق النار في السودان، التي تبدو ظاهرياً إقليمية المنشأ، الدور الجوهري للمجتمع الدولي، بما فيه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في طرحها ودعمها ومحاسبة من يقف في طريقها من طرفي الصراع. كما أن الاستبصار في مسارات هذه المبادرات يلحظ أن طارحيها قد ضاقوا ذرعاً بضعف إرادة الطرفين في إنهاء الإحتراب الذي شارف على إكمال السنة عانى خلالها الشعب السوداني من ويلات القتل والجوع وفظائع النزوح واللجوء. ولا شك أن تبرُّم منابر المبادرات يعكس خطورة لا مبالاة طرفي الإحتراب بالاستمرار في التبضع بين هذه المبادرات غير آبهين بتبعات ذلك السلوك. ويتجسد ذلك الضجر في إعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، تعيين رمطان لعمامرة مبعوثاً شخصياً له إلى السودان. ويجدر بالذكر أن لعمامرة سبق له تولي منصب مبعوث الأمم المتحدة الى ليبيريا وأشرف على تنفيذ قرار مجلس الأمن بإنشاء بعثة الأمم المتحدة في ليبريا التي ساندت، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وعملية السلم وتقديم الدعم للإصلاح الأمني عقب الحرب الأهلية الثانية في ليبيريا.
كما تجلى تضجُّر منصات المبادرات المتلاحقة من ممارسات التبضع البذخي بينها في قرار رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكِّي بتعيين الفريق رفيع المستوى المعني بالسودان برئاسة الدكتور محمد شنباز الذي شغل منصب الممثل الخاص للاتحاد الأفريقي في عملية الأمم المتحدة المختلطة في دارفور (اليوناميد) تحت البند السابع، كما كان كبير الوسطاء المسؤول عن مفاوضات السلام في دارفور بين عامي 2013 و2014. وأعقب ذلك تحديد قمة الإيقاد فترة الأسبوعين فقط، فيما يشبه التحذير، للقاء قائدي الجيش والدعم السريع لتسريع وقف إطلاق النار عقب فشل قائد الجيش في المشاركة في القمة.
وتبع ذلك تطوراً لافتاً بتعيين توم بيرييلو صاحب الخبرة الواسعة في قضايا السلام والأمن والعدالة الانتقالية في القارة الأفريقية كمبعوث أمريكي خاص للسودان. ثم أخيراً تولي السفير دانييل روبنشتاين المسؤولية كقائم بأعمال السفارة الأمريكية خلفاً للسفير جون جودفري. ويجدر بالذكر أن السفير الأمريكي الجديد قد شغل، فيما شغل، منصب رئيس وحدة المراقبين المدنيين في القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين في سيناء. ويشير التأمل في خلفية هؤلاء المبعوثين الإقليميين والأمميين أن القاسم المشترك بينهم هو خبرتهم الطويلة في فض النزاعات وتحقيق السلام وتقديم المساعدات الإنسانية، ولو استدعى ذلك إنشاء قوة إقليمية أو دولية تحت البند السابع بواسطة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وفي المقابل، صاحب تتابع تغيير المبعوثين الإقليميين والأمميين للسودان تواصل عدم جدية طرفي الصراع في إنهائه مما أدى لفواجع إنسانية غير مسبوقة حيث لقى أكثر من 13 ألف سوداني مصرعه منذ اندلاع الاقتتال في منتصف أبريل 2023، وأدى الإحتراب أيضاً إلى نزوح نحو 10 ملايين مواطن، ولجوء أكثر من مليون ونصف سوداني إلى دول الجوار. ووفق تقرير الأمم المتحدة سيحتاج نحو 25 مليون مواطن لمساعدات إنسانية عاجلة خلال عام 2024. كما أدى الاقتتال لتفشي الأمراض الفتاكة مثل الكوليرا على نطاق واسع من مناطق النزاع المسلح، في حين تم تدمير نحو 80% من المستشفيات في تلك المناطق. ويشهد السودان أيضاً أكبر نزوح للأطفال في العالم، حيث فرَّ 3 ملايين طفل من العنف واسع النطاق، الذي أدى أيضاً لإغلاق أكثر من 10 آلاف مدرسة في مناطق الاقتتال مما حرم نحو 19 مليون طفل من الحصول على التعليم. وعانى 18 مليون سوداني من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وصار خمسة ملايين منهم على شفا المجاعة، في حين كابد العاملون في مجال الإغاثة الإنسانية الذين يساعدونهم، من صعوبات في التنقل ونقص كبير في التمويل. ووفق برنامج الأغذية العالمي، فإن 95% من السودانيين لا يستطيعون أن يوفروا لأنفسهم وجبة كاملة بسبب الإحتراب المستعر، مما ينذر بأسوأ مجاعة يشهدها العالم. وتشير التقارير الأممية أن مناطق النزاع في السودان معرضة لخطر مجاعة "كارثية" بين أبريل ويوليو 2024، وهي "فترة عجاف" بين موسمَي الحصاد، في وقت يكافح الملايين هناك من أجل إطعام أنفسهم. وقد حذر برنامج الأغذية العالمي من أن هذه الحرب المستمرة ستخلف أكبر أزمة جوع في العالم في بلد يشهد أساساً أكبر أزمة نزوح في العالم. كما أكدت منظمة أطباء بلا حدود أن طفلاً يموت كل ساعتين في مخيم زمزم للاجئين في دارفور. ويؤكد كل ذلك أن السودان قد أصبح مرتعاً للانتهاكات والفظائع الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني واستخدام العنف ضد المدنيين وانتهاك قدسية الحياة الإنسانية وارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية.
melshibly@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الاتحاد الإفریقی وقف إطلاق النار قرار مجلس الأمن الأمم المتحدة الدعم السریع قائد الجیش فی السودان
إقرأ أيضاً:
تحليل شامل لمبادرات وقف الحرب في السودان ومواقف الأجنحة السياسية
الصراع في السودان لا ينفصل عن تعقيدات السياسة الداخلية وتنافس القوى المختلفة على السلطة والنفوذ. منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، ظهرت العديد من المبادرات التي تهدف إلى إنهاء النزاع وتحقيق الاستقرار السياسي. ورغم تعدد الأطراف السياسية واختلاف رؤاها، فإن الانتقال الديمقراطي ظل القضية المحورية لجميع المبادرات. في هذا المقال، نحلل أبرز هذه المبادرات ومواقف الأجنحة السياسية المختلفة، مع تقييم واقعيتها ومدى انسجامها مع مصالح السودان وشعبه بعيدًا عن المصالح السياسية الضيقة.
تحليل المواقف والتسلسل التاريخي للمبادرات
ومع بداية النزاع في أبريل 2023، سعى الاتحاد الإفريقي والإيقاد إلى احتواء الأزمة من خلال مبادرة تضمنت وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية، مع إطلاق حوار شامل يجمع كافة الأطراف السودانية. هذه الجهود مثلت الخطوة الأولى في محاولة لتهدئة الأوضاع، لكنها اصطدمت بغياب أدوات ضغط فعالة على الأرض، مما قلل من تأثيرها.
في مرحلة لاحقة، تدخلت الرباعية الدولية المكونة من السعودية والإمارات والولايات المتحدة والمملكة المتحدة بمبادرة تضمنت مفاوضات جدة التي ركزت على التهدئة وفرض وقف إطلاق نار مؤقت، مع دعم مسار سياسي يهدف إلى إصلاح الجيش السوداني. ورغم قوة الدعم السياسي والمالي الذي تتمتع به هذه الدول، إلا أن المبادرة واجهت صعوبات بسبب تعقيدات المصالح الإقليمية والدولية.
على الصعيد المحلي، أطلقت قوى الحرية والتغيير مبادرة تستهدف استعادة الحكم المدني من خلال تشكيل حكومة انتقالية تمثل الشعب السوداني. هذه المبادرة ركزت على توحيد الجيش وخروج العسكر من السياسة، لكنها ظلت محدودة التأثير بسبب غياب القوة التنفيذية والميدانية. في الوقت ذاته، ظهرت مبادرات لجان المقاومة التي دعت إلى حوار سوداني-سوداني شامل مع التركيز على العدالة الانتقالية واستعادة الحكم المدني. ورغم أن هذه المبادرات تتمتع بمصداقية شعبية كبيرة، إلا أنها تعاني من ضعف الدعم الرسمي وغياب الهيكلية التنظيمية القوية.
في السياق ذاته، ظهرت مبادرات من القوى الداعمة للجيش التي دعت إلى حسم النزاع عسكريًا أو التوصل إلى تسوية سياسية تضمن استمرار الجيش كفاعل رئيسي في السلطة. على النقيض، ركزت القوى الداعمة للدعم السريع على شرعنة وجوده كجزء من المنظومة الأمنية السودانية مع ضمانات لقيادته السياسية. ومع ذلك، واجهت هذه المواقف صعوبة في القبول الشعبي والسياسي نتيجة الانتهاكات المرتبطة بالصراع.
مع تصاعد الأوضاع، بدأ التباين بين مواقف الأجنحة السياسية يتضح بشكل أكبر. قوى الحرية والتغيير ظلت مصرة على استعادة الحكم المدني كشرط أساسي لأي تسوية سياسية، بينما لجان المقاومة دعت إلى إنهاء الحرب وبدء عملية سياسية شاملة تمثل جميع السودانيين. الجيش السوداني رأى نفسه الضامن الوحيد لوحدة السودان واستقراره ودعا إلى إنهاء الدعم السريع كقوة مستقلة، في حين سعت قوات الدعم السريع إلى الاعتراف بشرعيتها كجزء من المشهد السياسي والأمني. أما القوى الإسلامية، فقد تحركت بناءً على براغماتية سياسية، مما جعلها طرفًا غير موثوق به لدى غالبية القوى المدنية.
على المدى القصير، تبدو المبادرات الدولية مثل الرباعية واتفاق جدة أكثر قدرة على تحقيق وقف إطلاق النار بسبب قدرتها على فرض ضغوط سياسية ودبلوماسية. ومع ذلك، فإن المبادرات المحلية التي تركز على حل شامل مثل مبادرة الحرية والتغيير ولجان المقاومة توفر رؤية واقعية لإنهاء الأزمات البنيوية في السودان على المدى الطويل، لكنها تحتاج إلى دعم دولي وإقليمي قوي.
نحو حل شامل
إن حل الأزمة السودانية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تضافر الجهود المحلية والدولية لتحقيق سلام مستدام. المطلوب هو إطار شامل يركز على وقف فوري لإطلاق النار، معالجة الكارثة الإنسانية، بدء حوار شامل يشمل جميع القوى السودانية، وإعادة بناء المؤسسات المدنية والعسكرية بما يضمن التحول الديمقراطي. ورغم صعوبة الواقع، فإن الإرادة الشعبية تبقى العامل الحاسم في تحقيق هذا التحول. أي مبادرة لا تأخذ في الحسبان تطلعات السودانيين بالحرية والسلام والعدالة ستظل مجرد محاولة فاشلة في مسار مليء بالتعقيدات.[
zuhair.osman@aol.com