د. شمس الدين خيال
مقدمة
كما هو معلوم لدي البشرية منذ الابد، أن الإنسان يمكن آن يتعلم من التاريخ، إذا توفرت عنده المعرفة والاستعداد للتعلم! وينطبق هذا الفهم علي ظاهرة الحروب بين الدول وبين ابناء الوطن الواحد.
بهدف المشاركة في النقاش حول كيفية وقوف الحرب الدائرة في السودان وإنهائها، تركز هذه الورقة علي ما استخلصته أبحاث السلام والصراع (peace and conflict research) من تجارب الحروب المختلفة في العالم من سيناريوهات أساسية لإيقافها وإنهائها.
1) السناريوهات الاساسية لإيقاف وانهاء الصراعات
من التجارب التاريخية للحروب بين دولتين او بين عدة دول -كما في الحربيين العالمتين- او داخل الدولة الواحدة بين المواطنين، تبلورت في تاريخ البشرية ثلاثة سناريوهات أساسية تقود الي إيقاف مؤقت أو الي أنهاء دائم للحرب:
1- الدبلوماسية السياسية
2- ضغوطات الانهيار الاقتصادي، أو، والانفجارات الشعبية السياسية العريضة والقوية
3- الانتصار العسكري لإحدى الفريقين المتحاربين على الآخر
ويعتبر السناريو الأخير هو الأكثر حدوثاً ووضوحاً في تاريخ البشرية، بينما يمهد مزيجا لهذه السناريوهات الثلاثة -كعوامل- في كثيرا من التجارب لإيقاف وانهاء الحرب بين الدول وبين ابناء الوطن الواحد. ومن الملاحظ في تاريخ الحروب أن هدف إنهاء الحرب عبر سناريو الانتصار على "العدو"، يظل هو المفضل والهدف المهم عند المتحاربين. ومن المفارقة، يزداد هذا التفضيل شدةً، كلما طالت فترة الحرب، وكلما ارتفعت كلفت الأرواح، وكلما أهدرت قيم مادية أكبر، وكلما وقفت الحرب حائلاً في طريق الرفاهية وإعادة البناء. تحت هذه الأوضاع الناتجة عن استمرارية الحرب، يزداد الاعتقاد بضرورة وشرعية الحرب، وأن التضحيات والتكلفة البشرية والمادية التي دفعت فيها، يجب أن لا تذهب سدي.
وتحت الاعتقاد في شرعية وبضرورة الحرب ينشأ إحساس عند المتحاربين بالمسؤولية لتحقيق العدالة، سواء ان كانت للضحايا أو بمفهوم استرداد الحق المسلوب، أو بمفهوم المحاسبة بسبب التمرد على السلطة السياسية، كما يحصل في الحروب بين السلطة المركزية والمجموعات السياسية المسلحة. ويمتزج مفهوم العدالة مع اطالة الحرب وارتفاع اعداد الضحايا بنزعات الثأر من "العدو". ومع تزايد نزعات الثأر يزداد علو القرع علي طبول الحرب، كما جاء في تصريحات الفريق البرهان، حينما قال "نحن لن نوقف هذه الحرب، فإما نحن أم هم، إما يبيدونا أو نبيدهم". وجاءت نتيجة هذا الخطاب مترجمة في الجريمة البشعة، التي نشرت على الملأ في فيديو يظهر فيه جنود الجيش السوداني وهم يحملون رأسين لشابين تم ذبحهم بشبهة الانتماء الى قوات الدعم السريع، وقبلها حادثة مقتل 11 شخصا في منطقة "تورطعان" في دارفور بتهمة اصطفاف قبيلتهم إلى أحد طرفي القتال، وحادثة قطع رؤوس 3 شبان مدنيين في مدينة الأبيض بولاية كردفان، أيضا بتهمة موالاة أحد طرفي القتال. ولا تقل بشاعةً عن هذه الاحداث، جرائم الحرب التي يرتكبها منسوبي قوات الدعم السريع في دارفور والجزيرة...الخ!
تحت اطالت أمد الحرب وتزايد اعداد الضحايا، وتصاعد خطاب الحقد والكراهية ونزعة الثأر يكتسب الاعتقاد في تحقيق رجحة لكفة الميزان في ميدان الحرب أو بتحقيق النصر على العدو شدةً أكثر، خصوصًا عندما تظهر آفاق جديدة للحصول على عتاد ودعم عسكري، سواء كان من الداخل أو الخارج. وفي العادة تتطور مثل هذه العقلية عند كل القيادات العسكرية للفرق المتحاربة، محدثة أتساع لدائرة الحرب ولإطالتها، والي خسائر بشرية واقتصادية واجتماعية أكبر، أو الي نتائج سياسية تنتهي بتقسيم البلاد، كما حصل في السودان بانفصال الجنوب. في حالة الحرب الجارية في السودان، تتحدث التقارير الواردة والموثقة عن انتهاكات وفظائع كبيرة لحقوق الإنسان، وخاصة ضد النساء والأطفال. حيث اعلن مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 23 فبرير الجاري، إن طرفي الحرب الأهلية في السودان ارتكبا انتهاكات قد تصل إلى حد جرائم حرب. ووثق محققو الأمم المتحدة، حتى الآن، 118 حادثة عنف جنسي ضد النساء والاطفال، ارتكب معظمها أفراد من قوات الدعم السريع.
وهناك أمثلة كثيرة في تاريخ الحروب المختلفة لمجري الصراعات المسلحة، ولطبيعة وتطور العقيدة العسكرية في المقدرة علي الانتصار في ساحة الحرب، ولما يرتبط بذلك من تزايد للخسائر البشرية والمادية وللتداعيات الانسانية، ولكل الأشكال الاساسية والممزوجة من السيناريوهات المذكورة اعلاه، لإيقاف وإنهاء الصراعات المسلحة بين الدول، وبين مواطنين الدولة الواحدة.
2- تجربة الحرب العالمية الاولي
البحث العلمي في تاريخ الحروب أوضح ان الحرب العالمية الأولي هي أكبر وأوضح مثالًا لمجري وافرازات الحروب التي أعقبتها. حيث تزايدت خلالها الاعتقادات والتوقعات والآمال والرغبات في الوصول الى انتصار عسكري، مع بداية كل هجوم، ومع كل دعم خارجي أو داخلي، ومع كل تورط لدول جديدة في الحرب، ومع كل إخفاق عسكري جديد. وذلك مع العلم، ان الامكانيات الدبلوماسية آنذاك كانت واردة لإيقاف وإنهاء الحرب. لكن، رغم ذلك، كان دائماً يتواجد، وفي وقت معين، طرفاً من الأطراف المشاركة له قناعة في مقدراته العسكرية للصمود أطول من الطرف الاخر وتحقيق النصر في ميدان الحرب، في أمل أن يكون النصر تبرير لكل الفقد في الأرواح والمال. واثبت امتداد الحرب العالمية الاولي الي أربعة أعوام، والفقد الهائل في الارواح (17 مليون، 10 مليون جندي و7 مليون مدني)، مدي اشكالية التقديرات الذاتية من قبل القادة العسكرين للقوي العسكرية لجيوشهم ولإمكانيات الانتصار على العدو، ولتوزيع فرص النجاح في الميدان.
هدنة القتال أو وقف اطلاق النار تكون دائماً موقتة ومعرضة للانتهاكات:
كثيرًا من الفاعلين والمراقبين للحروب المسلحة يقترحون هدنة للحرب عبر وقف للعمليات العسكرية كخطوة تمهد للوصول الي إنهاء الحرب. هذا الخيار يحمل عدة اشكاليات ويقود الي عدة إسالة:
كما هو معلوم، تؤدي هدنة الحرب دائماً الى إيقاف الحرب مؤقتاً. وكما في حالة الحرب القائمة في السودان، اتفق الطرفان على أكثر من هدنة في "منبر جدة"، الذي انطلق في مايو في العام الماضي، برعاية السعودية والولايات المتحدة، لكن لم يصمد بعض الهدن المتفق عليها، عدة ساعات، تحت يبادل طرفي النزاع الاتهامات بانتهاكها مراراً.
وكما هو مراقب، وكما في حالة الحرب الجارية في السودان، تعود الحروب الإسرائيلية/الفلسطينية، والاسرائيلية/اللبنانية، والحرب بين الحكومة الاثيوبية وجبهة التغراي، بعد انتهاء فترة الهدنة المؤقتة، دائما الى الاندلاع من جديد. في معظم الصراعات الجارية القائمة اليوم، تظل عملية البحث عن توافق علي الهدن العسكرية تظل دائماً الإسالة المهمة من غير إجابات. ومن أهم الاسالة التي يجب الإجابة عليها في أي عملية دبلوماسية لإيقاف وانهاء الصراعات، هي:
1- في ماذا يستفاد من الإيقاف المؤقت للحرب،
2- وما شكل الآفاق السياسية الواقعية المستقبلية لحل القضايا المسببة للحرب.
لكن، ورغم تعقيدات الصراعات المختلفة وطرق تسويتها، تظل المكاسب الانسانية، التي تنجم عن هدنة الحرب، والمتمثلة في وقف إهدار الدماء، ذات قيمة انسانية عظيمة. ويظل تحقيق الهدف الإنساني عبر الهدن العسكرية من أهم التحديات والواجبات للمجتمع المحلي والدولي، حتي ولو لم يكن هناك امكانيات لفعل ضغط سياسي (power political option) يؤدي الى إنهاء الحرب. وتأتي ضرورة فعل المجتمع المحلي والعالمي للضغط علي الفرق المتصارعة للتوافق علي ايقاف القتال مرتبطة بأمل ان تهمد الهدنة لطريق إنهاء دائماً للحرب.
كما زكر اعلاه تظل أهم اشكاليات اتفاقيات هدن الحرب من غير الإجابة علي الاسالة الاساسية لأسبابها، اندلاعها من جديد. علي سبيل المثال عرف تاريخ الحرب الاهلية في جنوب السودان مراحل وتنقلات عدة: من حرب الي هدنة حرب الي إنهاء للحرب والي سلام ثم الى حرب مجددا، انتهت بانفصال الجنوب في يونيو 2011. هذه التجربة وتجارب الشعوب الاخرى، مثل الحروب النابليونية من 1792 الي 1815، والحرب التي تلتها في أوربا، توضح المخاطر العسكرية والسياسية التي تكمن في هدنة الحرب أو تجميدها. وترتبط اندلاع الحروب بعد فترة هدن الاقتتال بإمكانية اعطاء مفاوضات وشروط الهدن العسكرية احد الأطراف المتحاربة مقدرات فعل حربي (act of war)، كما يحدث منذ 1948 في الحرب الاسرائيلية/الفلسطينية، أو كما حدث في مجري تاريخ الحرب الاهلية في جنوب السودان. كذلك، وكما حدث في الحرب العالمية الاولى بين ما سمي بالحلفاء (فرنسا، روسيا، بريطانيا، البرتقال ..الخ) بقيادة فرنسا ودول الوسط الأوربي (المانيا، النمسا-المجر، بلغاريا وتركيا) بقيادة المانيا. حيث تم، بعد أربعة أعوام من الحرب، وبعد هزيمة المانيا وحلفاؤها التوقيع على هدنة بموجب وقف اطلاق النار في 11 نوفمبر 1918. ولكن، وكما هو معلوم لم تعقب اتفاقية هدنة الحرب حلولًا سياسية لأسباب الحرب بموجب اتفاقية سلام، الأمر الذي جعل اندلاع حرب جديدة، الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939، بعد 20 عاماً من الحرب العالمية الاولي، ممكناً.
في الحرب الحالية في السودان تهدف المجهودات الدبلوماسية التي ترعاها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، منذ مايو 2023، الي الوصول الي هدنة للقتال من اجل تسهيل الترتيبات الإنسانية وبناء ثقة بين الفريقين، تؤدي في آخر الطريق الي انهاء للحرب. وكانت قد فشلت نحو 14 هدنة العام الماضي تم التوافق عليها بين الفريقين في جدة. وبعد كل خرق لاتفاق وقف اطلاق النار، كان يأتي الانفجار للقتال أكثر توسعا وضراوة، بتفاقم لأعداد القتلة من الجانبين، وللضحايا المدنيين، وبتهجير متزايد للمواطنين، وبتدمير أكثر للبنية التحتية. وفي محاولة حديثة للوصول الي هدنة للقتال، ناشد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش عند احاطته لمجلس الامن، في 07.03.2024 عن الاوضاع في السودان، اطراف الصراع الي وقف الطلاق النار في شهر رمضان. ردا على مناشدة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لوقف الأعمال القتالية في السودان خلال شهر رمضان. وفي اليوم الثاني من هذا نداء، دعا مجلس الأمن إلى وقف فوري للقتال احتراما لشهر رمضان. وكانت وزارة خارجية "حكومة الأمر الواقع" قد ابدت قبولها للدخول في هدنة حرب اثناء شهر رمضان، ووضعت لذلك عن 4 شروط مسبقة، كانت جزء من المفوضات السابقة في منبر جدة. مقارنة بهذا الوضع في البحث عن امكانية لوقف الحرب في شهر رمضان ذو المعني الديني الكبير، جاءت تجربة هدنة القتال المشهورة في الحرب العالمية الاولي (Christmas Truce)، في عيد ميلاد المسيح في 24 ديسمبر 1914 وفي ايام العيد الاخرب، بشكل عفوي ومن غير توافق مسبق بين قيادات الجيوش المشاركة في الحرب.
3- تجميد الحروب – خطورتها
ظاهرة تجميد الصراعات الحدودية بين بلدين تأتي دائماً كحالة تجنب للحرب او هدنة لها. ويختلف هذا الوضع عن اتفاق لوقف الحرب، في أنه يأتي دائماً من غير ضرورة لتقديم تنازلات من أطراف الصراع. ومن امثال هذا النوع من مشاكل الصراعات الحدودية المجمدة، الصراعات المسلحة بين السودان وأثيوبية حول منطقة الفشقة، والتي تسيطر عليها ميليشيا إثيوبية، في منتصف عام 2021. بجانب المشكلة مع إثيوبيا، تتواجد ظاهرة تجميد المشاكل الحدودية ايضاً مع دولة جنوب السودان بخصوص منطقة ابيي ومع مصر علي منطقة "مثلث حلايب وشلاتين وأبي رماد". وتنذر كل هذه الحالات باندلاع عمل عسكري، إذا لم يتم التوصل الى حلول دبلوماسية يرتضي بها الطرفين. كذلك ينذر الصراع المسلح الجاري الآن في السودان، في حالة تجميده، الي عيش البلاد في حالة صراع دائم بحدوث سيناريو انتهاء الحرب الاهلية في الجنوب، مما يعني تقسيم ما تبقي من السودان الي "دويلات" تعيش في حالة صراع دائم علي الحدود.
نسبة لتوسع مساحة الحرب في السودان في مناطق متباعدة وضعف المقدرات العسكرية للفرقين للقيام بعمليات عسكرية في جبهات متباعدة وفي وقت واحد، يجعل حدوث تجميد للحرب أمرا ممكننا. وتكمن خطورة تجميد الحرب الدائرة في السودان تحت وضع سيطرة قوات الدعم السريع على مقار الجيش السوداني في أربع ولايات من ولايات إقليم دارفور الخمس، وفي مدني عاصمة ولاية الجزيرة وعلي جزء كبير من ولاية الخرطوم في خلق وضع مشابه لحالة الحرب في المناطق التي تقع منذ سنين تحت سيطرة الحركة الشعبية/شمال بقيادة عبد العزيز الحلو في جنوب كردفان وجبال النوبة ومنطقة جبل مرة التي تقع تحت سيطرة حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور. بموجب هذا السناريو في حالة تجميد الحرب يصبح تسارع انهيار ما تبقي من الدولة السودانية وتتقوي عملية تحولها الي "دويلات" متحاربة، ممكننا.
كذلك، ونسبة لما هو معاش من تفلة لمنتسبي الفريقين، سوف يؤدي تجميد الحرب الي تزايد لحالة فقد سيطرة تنظيمات الجيشين المتحاربين علي افرادها في ميادين القتال المتباعدة، خصوصاً في المناطق السكنية، وتتزايد بذلك الممارسات البشعة في التعامل مع الجانب الآخر ومع المواطنين، كما يحدث الآن في دارفور والجزيرة، أو حادثة قطع الرؤوس. وتتحدث اليوم بعض منظمات المجتمع المدني وتقارير المنظمات العالمية والاممية عن عمليات نهب مسلح واغتصاب واختطاف للنساء للشباب الزكور بغرض الابتزاز وطلب الفدية أو التجنيد الإجباري من قبل قوات الدعم السريع والمليشيات القبلية المتحالفة معها. خصوصاً وجود القواعد العسكرية للجيش، وللدعم السريع، وسط المدن، يزيد من خطورة تمادي الاعتداء على المنازل، والاعتداء على النساء خاصة. كذلك يتوقع في حالة تجميد الحرب تكثيف – أكثر مما حدث منذ اندلاع الحرب- استخدام القوات المسلحة المنع المتعمد لإيصال المساعدات الإنسانية من غذاء دواء...عبر وكالات الإغاثة الي مناطق الخصم، كسلاح في الحرب، كما جرى في حرب نظام الإنقاذ الإسلاموي ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب وجبال النوبة والانقسنا. وقد يؤدي وضع التجميد للحرب الي تدمير كامل للبنية التحتية وللورثة التاريخية والثقافية للبلاد!
كذلك يصعب تجميد الصراعات المسلحة سواء أن كانت لها اسباب سياسية أو بسبب اختلاف حول مجري الحدود بين دولتين، التواصل الي حلول دبلوماسية، تتطلب تنازلات من الجانبين. وذلك لأن تجميد الصراعات يثبت الوضع والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة المسيطرة عليها إحدى الفريقين. وغالبا ما ترتبط بالهياكل الناشاءه عن التجميد للصراعات -ومع اطالة فترة التجميد،- نشؤ وتتثبت لمصالح سياسية واقتصادية فردية وجماعية، تصعب الوصول الي حلول دبلوماسية تتطلب تنازلات من الجانبين. وتمثل الحرب الجارية الآن في السودان خير مثال للمخاطر التي توجه أي عملية سياسية تهدف للتغيير في هياكل سياسية واقتصادية وعسكرية خلقت من قبل نظام دكتاتوري شمولي بهدف التمكين السياسي والاقتصادي. في هذه الحالة تصبح الحلول السياسية للصراعات أكثر صعوبة عندما تلتقي المصالح الفردية والجماعية الداخلية بمصالح دول خارجية، تري في أي تغيير للأوضاع والهياكل القائمة خطورة علي مصالحها، سواء أن كانت مصالح جيوسياسية أو اقتصادية، كما في طبيعة الصراع المستمر في السودان منذ سقوط نظام الإنقاذ!
في الجزء الثاني، والاخير من هذا الرصد المبسط لسناريوهات ايقاف وانهاء الصراعات، سوف يتم، وايضا باختصار شديد، تناول طبيعة الحرب الحالية في السودان وفرص ايقافها وانهائها.
المانيا، في 09.03.2024
shamis.khayal@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الصراعات المسلحة تجمید الحرب إنهاء الحرب هدنة الحرب فی السودان حالة الحرب شهر رمضان فی تاریخ فی الحرب فی حالة حرب الی کما هو کما فی من غیر
إقرأ أيضاً:
الحرب في السودان: مسار السلام، التعقيدات والتحديات
بروفيسور: حسن بشير محمد نور
منذ استقلال السودان في مطلع يناير 1956 يحلم السودانيون بالسلام وقد تمت عدة مبادرات واتفاقيات كان من ضمنها مؤتمر المائدة المستديرة في مارس 1965 بعد ثورة اكتوبر 1964، الا ان ذلك المؤتمر لم يكتب له النجاح. استمرت الحرب الاهلية التي اشتعلت في العام 1955، واستمرت في التصاعد خلال حكم الفريق ابراهيم عبود. بعد سقوط ذلك النظام وفشل مؤتمر المائدة المستديرة استمرت الحرب حتي العام 1972 بعد استيلاء الجيش بقيادة جعفر نميري علي السلطة في السودان في العام 1969م.
توصل نظام نميري لاتفاقية أديس أبابا في عام 1973 مع حركة "أنانيا"، التي حققت هدنة طويلة للحرب استمرت لعشرة سنوات، وهي الفترة الاطول التي يمكن القول بان السودان قد نعم فيها (بالسلام). وباعتبار السودان نموذجًا معقدًا في إدارة السلام بسبب تاريخه الطويل من الصراعات المسلحة وتنوع مكوناته الاجتماعية والسياسية، فقد شهدت مسيرة السلام تعقيدات حولتها من حلم لمعضلة شائكة حتي تحولت لسراب بعد اشتعال حرب ابريل 2023م.
مرت تلك المسيرة بمراحل متعددة كانت اتفاقية اديس ابابا أول محاولة جادة لإنهاء الحرب الأهلية الأولى (1955-1972) بين الشمال والجنوب، وتم التوصل إليها بعد سنوات من الصراع، وبالرغم من تحقيقها بعض النجاحات مثل منح الحكم الذاتي للجنوب، إلا أن نكوص حكومة نميري عن الالتزام بالتنفيذ الكامل للاتفاقية أدى إلى تجدد الصراع في عام 1983 بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة الراحل جون قرنق.
بعد سقوط نظام نميري بانتفاضة شعبية في ابريل 1985 تم انتخاب حكومة مدنية برئاسة السيد الصادق المهدي. خلال تلك الفترة (1986 – 1989) حاولت الحكومه معالجة قضايا الحرب عبر الحوار مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق. لكن هذه الجهود تعثرت بسبب عدم التوافق بين الأحزاب السياسية والقوى المسلحة، خاصة الخلاف حول قوانين 1983 التي سميت بقوانين (الشريعة الاسلامية) وبعض الاتفاقيات العسكرية مع دول الجوار.
بالرغم من تلك الخلافات تمت بعض المحاولات فضلاً عن الضغوط الإقليمية والدولية، فقد تم اعلان كوكادام في العام 1986 بين قوى سياسية سودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، الا ان ذلك الاعلان لم يحقق اختراقا عمليا. جاءت بعد ذلك محاولة جادة من السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي فيما عرف (بمبادرة السلام السودانية). تم الاتفاق في تلك المبادرة علي وحدة السودان، تجميد قوانين سبتمبر 1983 وترتيبات سياسية، الا ان السيد الصادق لم يوافق علي ما تم الاتفاق عليه، الي ان قطع انقلاب الحركة الاسلامية في يونيو 1989، عبر الجيش السوداني بقيادة عمر البشيرالطريق في وجه السلام، بحكم طبيعة الحركات الاسلامية غير القادرة علي العيش والازدهار الا في البيئات القذرة.ٍ.
الحرب الاهلية في عهد حكومة الانقاذ الاسلامية لم تشتد فحسب بل تحولت لحرب دينية مشحونة بشعارات التطرف والكراهية. بعد ان تم حشد المجتمع الدولي لقواه ضد تلك الحرب بشعاراتها مثل (امريكا روسيا قد دنا عذابها)، ضاق الخناق علي نظام الانقاذ سياسيا واقتصاديا مما اضطره لتوقيع اتفاقية السلام الشامل في العام 2005 مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. أدت هذه الاتفاقية إلى إنهاء الحرب الأهلية الثانية، لكنها مهدت لانفصال جنوب السودان في العام 2011، بسبب عدم حل جذور الأزمة المتعلقة بالهوية والموارد ونظام الحكم، وبسبب فقدان الحركة الشعبية لزعيمها التاريخي جون قرنق المؤيد للحدة، في تحطم طائرة غامض اثناء عودته من اجتماع محضور دوليا في العاصمة اليوغندية كمبالا. في ذلك الوقت روجت الماكنة الاعلامية للاساميين بان مشكلة الحرب قد انتهت وان السودان اصبح متجانسا بحكم الدين واللغة بعد التخلص من الجنوب (المختلف)، ذلك بالطبع حسب ايدلوجيتهم ومشروعهم الذي اسموه (الحضاري)، مع ان السودان لن يكون متجانسا حتي اذا اصبح سكانه يساوون ما يملأ غرفة واحدة.
بالطبع معضلات السلام لم تنتهي عند ذلك الحد، فقد اشتعلت حربا ليس اقل ضراوة في دارفور في العام 2003 وقد استمرت تلك الحرب الي حين اكتمالها بشكل مأساوي لتعم جميع انحاء السودان في ابريل 2023.
بعد سقوط نظام البشير في العام 2019 بثورة شعبية نادرة من نوعها من ناحية شمولها الجغرافي والاجتماعي والتوافق حولها، قبل ان يتم اجهاضها بعوامل داخلية وخارجية متشابكة. بعد سقوط نظام البشير جاءت الحكومة الانتقالية التي تشكلت بمخاض عسير في اغسطس 2019، بما سمي (باتفاقية جوبا للسلام) مع عدد من الحركات المسلحة المسماة بحركات (الكفاح المسلح). ورغم أنها هدفت لتحقيق سلام شامل، إلا أنها لم تشمل جميع الأطراف الفاعلة في النزاع، مما جعل الاتفاقية عرضة للانهيا، وبسبب الضعف البنيوي والجماهيري لمكوناتها لم تجد حلا غير الانضمام للمكون العسكري المكون من القوات العسكرية والامنية وقوات الدعم السريع في عرقلة مسار التحول الديمقراطي، ومضت ابعد من ذلك بالانحياز لانقلاب 25 اكتوبر 2021 ومن ثم مشاركة اطرافها التي تبقت بعد الانقسامات في الحرب مع الجيش السوداني.
عند حدوث انقلاب 25 أكتوبر 2021 بقيادة الجيش والدعم السريع، والذي كان المقدمة الاساسية لاشتعال الحرب في ابريل 2023، ازداد تعمق الأزمة السياسية، وحدثت انقسامات واسعة بين المكونات المدنية والعسكرية. الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع كشفت عن تعقيدات جديدة، حيث انخرطت فيها أطراف داخلية وخارجية ذات أجندات متعارضة، بما في ذلك مليشيات إسلامية وقبلية وقوات أجنبية.
بعد الحرب اصبحت معضلة السلام اشد تعقيدا لعدة اسباب منها:
- تعدد الأطراف المتصارعة: من طرفي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ومن معهما من المليشيات القبلية والإسلامية، مما يصعب الوصول إلى توافق شامل.
- التدخلات الخارجية: اذ ان هناك جهات دولية واسعة المعلومات تؤكد دعم أطراف إقليمية ودولية لأحد الجانبين، كان اخرهم وزير الخارجية الامريكية بلينكن من منصة مجلس الامن الدولي، يزيد ذلك من تعقيد المشهد.
- تباين العقائد الأيديولوجية والمصالح الاقتصادية بوجود أطراف ذات توجهات متناقضة سواء دينية، سياسية، أو اقتصادية، واخري قبلية تسعى لتحقيق مكاسب من الحرب.
كل ذلك يشكل عقبات عظمى امام تحقيق السلام لاسباب منها:
- غياب الثقة بين الأطراف المتصارعة بحكم التاريخ الطويل من النقض المتبادل للعهود وللاتفاقيات مما يعيق أي حوار جاد للوصول لحل صلب.
- ضعف مؤسسات الدولة يجعلها عاجزة عن تنفيذ الاتفاقيات ومراقبة الالتزام بها.
- تدهور الاوضاع الإنسانية والاقتصادية ودمار البنية التحتية يجعل السلام ضرورة ملحة لكنه صعب التحقيق، بسبب عجز الكثير من المكونات السياسية والاجتماعية من الانخراط بشكل فعال في المشاركة وصنع القرار لاسباب ذاتية وللتضييق الامني من اطراف الحرب، كما ان الوضع الاقتصادي لملايين النازحين واللاجئين يجعلهم في كفاح يومي من اجل البقاء ويحد من أي نشاط مجدي لهم.
يخلق كل ذلك تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة الخطورة ليس اقلها:
- ان استمرار الصراع يؤدي إلى عزلة دولية وعدم استقرار داخلي ويجعل النظام السياسي هشا وفاقد للثقة.
- هروب الاستثمارات الوطنية والاجنبية وعزوف رؤوس الاموال عن التوظيف في الاقتصاد يؤدي لارتفاع معدلات الفقر والبطالة والبحث عن الهجرة الي الخارج كملاذ مصيري.
- من النواحي الاجتماعياً والديمغرافياً تفاقم الحرب النزوح الداخلي والانقسامات العرقية والقبلية، اضافة لتفشي خطاب الكراهية والاستهداف العرقي والجنساني.
تحقيق السلام يمرعبر طرق شائكة تتطلب حوار شامل تنخرط فيه جميع الأطراف الفاعلة دون استثناء وهذا يبدو امرا صعب التحقيق. كما يتطلب التزام دولي وإقليمي يدعم عملية السلام وضمان تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وهو موضوع مكلف نسبة لتعقيدات الاوضاع في السودان واتساع رقعة النزاع. مع الاخذ في الاعتبار ان تحقيق السلام يحتاج لرتق النسيج الاجتماعي، اعادة الاعمار وإصلاح المؤسسات بما يحقق بناء مؤسسات وطنية قوية قادرة على تحقيق العدالة والتنمية، وهذا شرط وجودي لمستقبل أي سلام في السودان.
اذن معالجة جذورالازمة، الذي يعتبر شرطا وليا لتحقيق السلام، يتطلب التركيز على قضايا مثل الهوية، التنمية، قسمة وتوزيع الموارد، بذلك نجد ان تحقيق سلام مستدام في السودان يمر بطريق طويل يحتاج الكثير من العمل، اضافة لمشروع وطني متوافق عليه وهذا يحتاج بدوره لإرادة سياسية قوية وفاعلة من جميع المكونات السودانية، يعتبر ذلك هو الطريق الممهد للوصول الي ورؤية شاملة لتحقيق السلام ولمستقبل البلاد، تأخذ تلك الرؤية في الاعتبار تعقيدات المشهد الحالي والتحديات التاريخية وتصطحب الوقائع الموضوعية المتشابكة علي المستوى الاقليمي والدولي، بدلا عن التوهان وانعدام الرؤية الحالي وعقلية (دبلوماسية الحرد) التي تتبعها سلطات الامر الواقع.
mnhassanb8@gmail.com