بعد مشروع رأس الحكمة.. هل فقدت مصر إحدى سلال غذاء العالم القديم؟
تاريخ النشر: 10th, March 2024 GMT
على مدار 6 قرون ظلت مصر مخزون غذاء الإمبراطورية الرومانية، فيما كان الساحل الشمالي منها غرب مدينة الإسكندرية أحد مناطق سلال الغذاء للمصريين وجيرانهم ولمحتلي أراضيهم، حتى اندثر فرع النيل الواصل لتلك المنطقة والذي تكشف صور الأقمار الصناعية آثار وجوده التاريخي حتى اليوم.
ومع الإعلان عن مشروع "رأس الحكمة" السياحي على مساحة 170 مليون متر مربع من الساحل الشمالي الغربي لمصر إثر اتفاق مع الإمارات في 23 شباط/ فبراير الماضي، تكشفت الأهمية الاستراتيجية لتلك المنطقة الممتدة قرب ساحل البحر المتوسط، ودورها المفقود بمجال الزراعة خاصة مع توفر التربة الجيدة ومياه الأمطار والآبار.
وأعرب خبراء عن مخاوفهم من تجريف أشجار التين والزيتون المشهور بها الساحل الشمالي الغربي بمنطقة تقدم نحو 19 بالمئة من إنتاج زيت الزيتون بمصر، وربع إنتاج مصر من التين، تماما كما قامت حكومة رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، بتجريف أشجار الزيتون والتين في شمال سيناء بمناطق العريش ورفح والشيخ زويد وغيرها، بقرارات أمنية.
كما انتقد الخبراء تحويل منطقة الساحل الشمالي من منطقة زراعية واعدة إلى مناطق ترفيهية تنزع من مصر صدارتها بإنتاج الزيتون، ومركزها الثاني عالميا في إنتاج التين، وأن تفقد البلاد أيضا خططا ومشروعات تم الحديث عنها لتنمية الساحل الشمالي الغربي زراعيا وتصنيعيا وتصديريا.
"مستقبل مصر الأخضر"
في 17 أب/ أغسطس 2023، وقبل الإعلان عن مشروع رأس الحكمة بـ6 شهور خرجت عناوين الصحافة المصرية لتبشر المصريين قائلة: "خبراء: المنطقة الشمالية الغربية مستقبل مصر الأخضر".
نقيب الزراعيين، الدكتور سيد خليفة، قال حينها إن منطقة الساحل الشمالي الغربي بها إمكانيات زراعية واعدة،، وأن محافظة مطروح منفردة، تنتج 80 بالمئة من إنتاج التين في مصر، التي تحتل المرتبة الثانية عالميا، كما تقدم 19 بالمئة من إنتاج مصر من زيت الزيتون.
وأكد أنّ المساحة المنزرعة بالشعير تبلغ 450 ألف فدان، اعتمادا على مياه الأمطار، وهو محصول يمكن خلطه مع القمح، للمساهمة في سد الفجوة الاستيرادية من القمح، الذي يجري استيراد نحو نصف حاجة البلاد منه سنويا، (نحو 9 ملايين طن سنويا).
نقيب الزراعيين أشار إلى المشروعات التي يجري تنفيذها بالمنطقة، موضحا أن الصندوق الدولي للتنمية الزراعية "إيفاد" -تابع للأمم المتحدة- يقوم بتمويل مشروع لحفر 7 آلاف بئر لتخزين مياه الأمطار، لتوفير مليون متر مكعب مياه.
وفي السياق، أكد رئيس مركز بحوث الصحراء الأسبق، الدكتور إسماعيل عبد الجليل، أنه يمكن زراعة 30 كم مربع من ساحل البحر وحتى عمق الصحراء اعتمادا على مياه الأمطار، ويمكن ريها بكميات مياه تكميلية خلال فصل الصيف لزراعة أنواع الخضر والفاكهة المطلوبة لمناطق الساحل الشمالي السياحية، مشيرا لتصدير الأهالي مربى التين إلى سويسرا.
في 14 حزيران/ يونيو 2017، قال رئيس مركز بحوث الصحراء الدكتور نعيم مصيلحي، إن زراعة منطقة الساحل الشمالي ستكون منافسة لمحور تنمية قناة السويس.
وأكد أنه يوجد أكثر من 400 ألف فدان صالحة للزراعة في هذه المنطقة، 80 بالمئة منها تعد مراع طبيعية تتجمع حولها الثروة الحيوانية، بينما يمكن زراعة المناطق الساحلية بالأشجار البستانية مثل التين والزيتون واللوز، ويمكن زراعة المنطقة الجنوبية منها بالشعير.
وفي 6 شباط/ فبراير 2017، وفي تصريح آخر أكد مركز إعلام مطروح أن مصر تملك 120 ألف شجرة زيتون؛ تمتلك محافظة مطروح والساحل الشمالي منها 35 ألف فدان بنسبة 24 بالمئة من الإنتاج المصري، كما تمتلك 60 ألف فدان من أشجار التين و8 آلاف فدان نخيل.
وينصح الخبراء بالتوسع في زراعة الزيتون والتين فــي المناطق الساحلیة خاصة الساحل الشمالي الغربي اعتمادا على مـياه الأمطـار، حيث يشتهر الساحل الشمالي الغربي بالتين السلطاني أو البرشومي أو الفيومي أكثر الأصناف انتشارا.
بل إنه وفي كانون الثاني/ يناير 2013، وخلال عام حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، قدم "مجلس الشورى" إلى رئاسة الجمهورية مشروع تنمية وتعمير الساحل الشمالي الغربي، أعدته لجان الزراعة والري والطاقة والإدارة المحلية والثقافة والإعلام والسياحة والإسكان.
"الدلتا الجديدة"
بل إن أحد أهم المشروعات القومية التي أعلنها السيسي، كانت زراعة منطقة الساحل الشمالي الغربي، حين أعلن في آذار/ مارس 2021، عن مشروع "الدلتا الجديدة" بمساحة مليون فدان، قرب منطقة محور الضبعة الشهير بالساحل الشمالي الغربي لمصر؛ بالتعاون بين الجيش ووزارة الزراعة.
حينها ظل الإعلام المصري يروج للخير الوفير القادم لمصر من المشروع، الذي اختفى تماما الحديث عنه في وسائل الإعلام، كما أنه حينها أكد 3 خبراء زراعيين لـ"عربي21" أهمية ذلك المشروع وعلى ضرورته وحيويته، وتحدثوا عن إمكانية تنفيذه.
وقالوا إن التربة هناك جيدة، وتحتفظ بالمياه، وغنية بكربونات الكالسيوم، وصالحة لأغلب الزراعات، والمياه الجوفية جيدة (600-3500) جزء بالمليون"، موضحين أن "المنطقة جيدة للاستثمار الزراعي لقربها من البحر، ويمكن زراعة القمح لوجود الأمطار، مع استخدام فقط 1000 متر مكعب ماء للفدان".
مجموعة من الخبراء الزراعيين والسياسيين، تحدثوا إلى "عربي21"، عن مدى تأثير مشروع رأس الحكمة السياحي على التوجه المعلن من حكومة السيسي، وعلى مطالبات الخبراء بزراعة منطقة الساحل الشمالي الغربي، مشيرين لأهمية المنطقة وإمكانياتها في حل أزمات مصر السلعية، منتقدين غياب الإرادة الحكومية.
"غياب الإرادة السياسية"
تساءل الأكاديمي المصري وخبير العلوم الزراعية الدكتور سعيد سليمان: "هل توجد إرادة سياسية لزراعة آلاف الأفدنة، بل الملايين على مياه الأمطار فقط بمنطقة الساحل الشمالي الغربي حتى مدينة السلوم، وأيضا الساحل الشرقي حتى مدينة العريش، لمسافة تمتد لأكثر من ألف كيلو متر؟".
مستنبط قمح وأرز الجفاف "عرابي"، أضاف في حديثه لـ"عربي21": "زرعنا قمح عرابي في منطقة برج العرب بالساحل الشمالي الغربي على المطر فقط، وفي الشيخ زويد أيضا بالساحل الشمالي الشرقي، وأعطت إنتاجية وصلت 10 أردب للفدان".
ويرى سليمان، أنه برغم ذلك النجاح لقمح عرابي، فإنه "لا توجد إدارة جادة لحل مشكلة القمح"، مبينا أنهم "يفضلون الاستيراد، ويفتخرون أنهم أكبر دولة مستوردة للقمح"، معتبرا أن تلك تعد "كارثة".
ويرى أن "مشروع رأس الحكمة يمثل 1 بالمئة من مساحة الساحل الشمالي الغربي والشرقي لمصر على البحر المتوسط"، معبرا عن أسفه من أن "سياسات الاستيراد، والاقتراض، والاستدانة، تكبل مصر ليفرضوا عليها الإذعان والانبطاح لهم".
"منطقة واعدة.. ونظام غير أمين"
الأكاديمي المصري وأستاذ العلوم الزراعية الدكتور عبد التواب بركات قال لـ"عربي21": "عندما أعلن السيسي عن مشروع الدلتا الجديدة في منطقة الساحل الشمالي الغربي، شجعت المشروع".
الأستاذ المساعد بمركز البحوث الزراعية أضاف أن "الأرض هناك مستوية تماما، وخصبة، وتوفر زراعتها مليوني طن من القمح، والأمطار ستوفر المياه اللازمة للزراعة الشتوية، ويحتاج فقط إلى ترعة لتوصيل المياه من أجل رية تكميلية في نهاية محصول القمح".
وتابع: "المناخ يسمح بزراعة المليون فدان كزراعة دائمة طوال العام، وستروى بحوالي نصف مليار أو مليار متر مكعب مياه صرف زراعي مخلوط بمياه النيل في ري تكميلي مع الأمطار، والترعة موجودة بالفعل منذ عشرات السنين ولكن تحتاج لضخ المياه فيها".
الأكاديمي المتخصص ببحوث التنمية الزراعية أكد أن "المشروع يساهم أيضا بتنمية مليوني فدان مراعي بواحة سيوة تستخدم لتنمية الثروة الحيوانية".
بل وأوصى بأن "يُخطط المشروع ليكون بالفعل دلتا جديدة، بها تجمعات عمرانية ومرافق وخدمات تمكن من استقرار الأسر الجديدة، لتخفيف الضغط عن الدلتا القديمة من مستشفيات ومدارس ومصانع للمنتجات الزراعية".
وختم بالقول: "لكن طرح المنطقة للبيع والاستثمار الأجنبي، يؤكد أن النظام منذ 2013 غير أمين في إدارة البلاد، وعندما تسقط أصول مصر في أيدي أجنبية فهو لا يراعي الأمن القومي".
"تدمير متعمد"
السياسي والبرلماني المصري السابق الدكتور محمد عماد الدين، المتخصص في مجال الثروة الحيوانيّة والداجنة والثروة السمكية، قال لـ"عربي21" إنه "يتم تدمير الثروة الحيوانية تدميرا ممنهجا عبر سيطرة جنرالات الجيش على كل أدوات هذه الثروة".
وأكد أنه "وبالمثل يتم هذا النهج مع كل ثروات مصر، ومنها الثروة الزراعية وفي القلب منها طبيعة أراضي هذه المنطقة تحديدا، وبالتالي فإنه بعقد هذه الصفقة مع الإمارات تفقد مصر إحدى مناطق سلال غذاء العالم القديم".
ولفت إلى أنه "وبالرجوع لخبراء الزراعة أكدوا أنه يمكن زراعة تلك المناطق عبر مياه الأمطار والآبار؛ وليس هناك أدنى شك في ذلك، ويمكن لتلك المنطقة حل أزمات مصر السلعية من القمح والزيت والشعير وغيرها، وهذا باعتراف مسؤولي النظام نفسه بأنها تنتج 19 بالمئة من إنتاج الزيتون حاليا".
لكن السياسي المصري، يرى أنه "من خلال مراقبة مشاريع السيسي السابقة يمكن القول إن مصر مازالت أسيرة حالة من الجمود المدمّر الذي تفرضه النخبة العسكرية الحاكمة، وعلى رأسهم السيسي الذي يُعِدّ الإصلاح الحقيقي تهديدا لسلطته".
وأوضح أنه "لذلك فهو يتبع نهجا ضارا يتوخّى تحقيق النتائج قصيرة المدى فقط، بينما كل تركيزه منصب على إدامة بقائه في الحكم".
وألمح عماد الدين إلى أن "التنمية الحقيقة تؤدي إلى تراجع معدلات الفقر، لكن ما يحدث في مصر الآن هو إطلاق مشروعات تجميلية تستفيد منها مجموعة محدودة من الأثرياء ورجال الأعمال ولا تعود بالفائدة على المواطن".
وأكد أن "مجمل مشاريع السيسي تُعزّز قبضة القوات المسلحة على الاقتصاد ولا تُقدّم أي منافع اقتصادية واسعة وملموسة".
وخلص إلى أن "السيسي يخدر الشعب المصري بمشاريع وهمية، لأنه لا يجد من يحاسبه عن مشاريعه التي أعلن عنها سابقا وثبت فشل جدواها".
وأعرب البرلماني السابق، عن أسفه الشديد من أن "المصريين هم من يدفعون وحدهم ثمن مشروعات السيسي الفاشلة، سواء من ناحية الاقتصاد أو من الناحية التنموية، فهي مشروعات بلا طائل من جميع الاتجاهات".
"كثير من الشك والريبة"
وفي رؤيته، قال السياسي المصري والخبير الزراعي فؤاد سراج الدين إن "تأثير منطقة رأس الحكمة على إنتاج القمح والشعير لن يؤثر التأثير الكبير لكنه تأثير محدود".
وفي حديثه لـ"عربي21" أوضح أن "الصحراء الغربية مساحات شاسعة كبيرة ومنطقة رأس الحكمة تمثل 170 ألف كيلومتر مربع، أي 40 ألف فدان لرأس الحكمة مقابل 3.5 مليون فدان في الصحراء الغربية، وبالتالي المساحة تؤثر تأثيرا قليلا".
ويرى القيادي في حزب "التحالف الشعبي" أنه "كان يمكن استغلالها سياحيا لمصلحة الوطن، بدلا من تركها للغير والاكتفاء بنسبة 35 بالمئة فقط من صافي الأرباح".
وواصل: "ثم إن غموض اتفاقية رأس الحكمة يثير الكثير من الشك والريبة لعدم وضوح التفاصيل"، مضيفا: "زد على ذلك فتح باب البيع أمام الأزمات المالية والاقتصادية بدلا من إقامة المشروعات المنتجة مما يؤثر سلبا على الأمن القومي المصري".
"لعبة الإمارات"
وفي رؤيته، قال المحامي المصري هيثم أبو خليل إن "الإمارات تستفيد من أمرين مع نظام السيسي، الأول أنها تدخل لدعم هذا النظام قبل انهياره، والثاني أنها تحصل على أصول مصرية عامة ومناطق وأراضي مؤثرة مثل منطقة رأس الحكمة".
وأوضح أن تلك المنطقة "تنتج نحو 19 بالمئة من إنتاج الزيتون في مصر، ونحو 25 بالمئة من إنتاج التين".
وأعرب عن مخاوفه من أن "كل هذه المزارع من التين والزيتون سيتم تجريفها وتتحول لمشروعات ترفيهية تنزع من مصر صدارة إنتاج الزيتون، في سياسات يستمر بها رأس النظام، ولا أمل إلا بإزاحة هذا النظام".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية مصر الإمارات الزراعة الزيتون مصر زيتون الإمارات زراعة راس الحكمة المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مشروع رأس الحکمة بالمئة من إنتاج إنتاج الزیتون میاه الأمطار یمکن زراعة عن مشروع ألف فدان وأکد أن أکد أن
إقرأ أيضاً:
تحليل.. ذوبان القطب الشمالي يعيد رسم العلاقات الدولية
أكد الباحث المستقل أحمد إبراهيم أن القطب الشمالي لم يعد تلك المنطقة المتجمدة النائية كما كان في السابق. فمع ذوبان الجليد، تتصاعد المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية والاستراتيجية. أصبحت المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية المحيطية مثل النفط والغاز والأسماك والمعادن الأرضية النادرة نقطة محورية لاهتمام القوى العالمية. وتستعد البلدان لمنافسة مكثفة على مواردها وطرق الشحن.
بإمكان طريق الحرير القطبي، إذا تم تشغيله، أن يقلل بشكل كبير من مسافات الشحن بين الصين وأوروبا
من شنغهاي إلى روتردامكتب إبراهيم في منصة "مودرن دبلوماسي" أن القطب الشمالي يحتوي على احتياطات هائلة غير مستغلة من الموارد الطبيعية. أصبحت غرينلاند مشهورة بمعادنها الأرضية النادرة، في حين تعد سيبيريا كنزاً كبيراً من إمدادات الطاقة. تجذب هذه الأصول الانتباه بشكل متزايد، وبخاصة من الدول ذات المصالح الخاصة بتأمين الموارد غير المستغلة وتنويع طرق التجارة.
‘The land is tearing itself apart’: life on a collapsing Arctic isle. On #Qikiqtaruk, off #Canada, researchers at the frontier of #climatechange are seeing its rich ecology slide into the sea as the melting permafrost leaves little behind https://t.co/uyDQa5MiCP pic.twitter.com/KqcoRkh6L6
— MIX (@mixdevil66) November 21, 2024بالنسبة إلى الصين، إن إمكانات طريق الحرير القطبية، كجزء من مبادرة الحزام والطريق، تحمل جاذبية اقتصادية واستراتيجية. بإمكان طريق الحرير القطبي، إذا تم تشغيله، أن يقلل بشكل كبير من مسافات الشحن بين الصين وأوروبا. إن الرحلة من شنغهاي إلى روتردام عبر طريق القطب الشمالي أقصر بنحو 6400 كيلومتر من الطرق التقليدية عبر مضيق ملقا وقناة السويس، وهذا يعني توفيراً كبيراً في الوقت والتكلفة، مما يقلل من رحلة تستغرق 48 يوماً إلى نحو 35 يوماً.
التحديات
إن الاضطرابات الأخيرة في طرق التجارة التقليدية – مثل تلك الناجمة عن هجمات المتمردين الحوثيين على السفن البحرية التجارية في البحر الأحمر – تسلط الضوء على القيمة المحتملة للشحن في القطب الشمالي. بالرغم من هذه الحوافز، لا تزال حركة المرور على طول طريق البحر الشمالي ضئيلة. في 2023، تمكن طريق البحر الشمالي الروسي من نقل 34 مليون طن من البضائع، وهو جزء ضئيل مما يزيد على مليار طن مرت عبر مضيق ملقا في السنة نفسها. لم تجرؤ سوى حفنة من السفن غير الروسية على عبور مياه القطب الشمالي، مما يسلط الضوء على التحديات اللوجستية والبيئية والسياسية في المنطقة.
Thanks to @NATO_CCASCOE for hosting us this afternoon to explore why climate change is such a critical security issue both setting our geopolitical context and our operational effectiveness - nowhere more so than in Canada’s Arctic which is warming 4x faster than average. pic.twitter.com/ZkCVWF9fer
— David Prodger (@DaveProdgerFCO) November 23, 2024لا تزال الملاحة في القطب الشمالي محفوفة بالمخاطر. بالرغم من ذوبان الجليد، تصبح ظروف الإبحار أقل قابلية للتنبؤ بسبب كتل الجليد العائمة والطقس المتطرف والظلام المطول خلال أشهر الشتاء. وتتطلب السفن هياكل معززة لتحمل الاصطدامات الجليدية، وتفتقر المنطقة إلى البنية الأساسية القوية اللازمة للشحن التجاري.
يؤكد الخبراء أن المخاطر تفوق الفوائد. قد يثبت وقوع حادث مشابه لقناة السويس في القطب الشمالي، مثل جنوح سفينة كبيرة، أنه كارثي، الأمر الذي يترك الطواقم عالقة في عزلة جليدية. بالإضافة إلى ذلك، تعمل قدرات الدوريات والإنقاذ المحدودة لروسيا على تكثيف هذه المخاطر.
تأثير حرب أوكرانيا
ليس القطب الشمالي مجرد ساحة معركة اقتصادية بل هو مسرح لمنافسة استراتيجية متنامية. في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا، قام مجلس القطب الشمالي – وهو هيئة تنسق التعاون الإقليمي بين ثماني دول في القطب الشمالي – بتهميش موسكو إلى حد كبير. وقد أدى هذا إلى إضعاف مكانة روسيا الدبلوماسية، بخاصة أن جميع أعضاء مجلس القطب الشمالي الآخرين هم دول في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
إن انضمام السويد وفنلندا الأخير إلى حلف الناتو يزيد من تغيير التوازن ضد روسيا، مما يعزز الوجود العسكري للحلف في المنطقة. لقد أظهر الناتو استعداده للقطب الشمالي من خلال تدريبات مثل "الاستجابة الشمالية" التي شارك فيها آلاف الجنود من النرويج والسويد وفنلندا. في الوقت نفسه، كان الوجود العسكري الروسي في القطب الشمالي، بالرغم من أهميته، مجهداً بسبب حربها في أوكرانيا، مع إعادة توجيه الموارد الحيوية إلى الخطوط الأمامية.
حذر روسي
حتى الصين، وهي دولة خارج القطب الشمالي من حيث الجغرافيا، أعلنت نفسها "دولة قريبة من القطب الشمالي". إن طموحات بكين، كما هو موضح في ورقتها البيضاء حول القطب الشمالي، تتلخص في شقين: تأمين الوصول إلى موارد القطب الشمالي واستغلال ممرات الشحن الناشئة. مع ذلك، تظل روسيا حذرة بشأن تجاوز الصين لهيمنتها في القطب الشمالي. وفي حين تسمح موسكو بمشاركة صينية محدودة في مشاريع الطاقة، هي تفرض ضوابط صارمة، بما في ذلك رسوم العبور ومتطلبات الإرشاد للسفن الصينية.
بالرغم من شراكتهما ضد الهيمنة الغربية، تحتضن روسيا والصين طموحات متضاربة في القطب الشمالي. يمثل القطب الشمالي جزءاً كبيراً من الناتج المحلي الإجمالي والصادرات الروسية، مما يجعله أولوية قصوى لموسكو. تمتلك روسيا حالياً أكبر أسطول من كاسحات الجليد. وبجانب كاسحات الجليد التقليدية التي تعمل بالطاقة التقليدية، تعد روسيا الدولة الوحيدة التي تشغل كاسحات جليد تعمل بالطاقة النووية.
وتعتبر كاسحات الجليد مهمة لشق الطريق، وبخاصة في فصول الشتاء عندما يمكن للجليد المتجمد أن يعيق عبور السفن التجارية. وتنظر روسيا إلى التطلعات الصينية في القطب الشمالي بعين الريبة، يتضح هذا من ترددها في منح الصين حق الوصول التفضيلي إلى موانئ القطب الشمالي أو السماح للصين بامتلاك حصص أغلبية في مشاريع الطاقة الاستراتيجية.
ومن ناحية أخرى، تتبنى الصين نهجاً طويل الأجل. فهي تستثمر بكثافة في أبحاث القطب الشمالي وتطوير تقنيات الشحن القطبي وكسر الجليد واستخراج الموارد. ومن خلال توسيع قدراتها التكنولوجية، تعمل الصين على وضع نفسها للاستفادة من إمكانات القطب الشمالي في العقود المقبلة. مع ذلك، إن خطاب بكين حول طريق الحرير القطبي هدأ خلال السنوات الأخيرة، مما يعكس التحديات اللوجستية والجيوسياسية التي يفرضها هذا الطريق.
أمريكا تحاول اللحاق
يظل القطب الشمالي أحد المناطق البحرية القليلة التي لا تهيمن عليها البحرية الأمريكية. وقد أثار هذا مخاوف بين خبراء الاستراتيجية الدفاعية الأمريكيين بشأن النفوذ المتزايد لروسيا والصين.
وتدرك الولايات المتحدة تدريجياً الأهمية الاستراتيجية للقطب الشمالي. وفي حين تتخلف قدرات كاسحات الجليد الأمريكية عن قدرات روسيا، تبقى الجهود جارية لتعزيز الجاهزية العسكرية للقطب الشمالي. كما أن نتيجة حرب أوكرانيا سوف تخلف آثاراً كبيرة على الجغرافيا السياسية للقطب الشمالي. فقد تكافح روسيا ضعيفة للحفاظ على هيمنتها في المنطقة، مما يفتح الباب أمام زيادة المنافسة بين القوى العالمية.
يظل مستقبل القطب الشمالي طريقاً غير مؤكدة للتجارة. في حين يفتح الجليد الذائب نظرياً إمكانات جديدة، إن التحديات العملية التي تتراوح بين الظروف القاسية والتوترات الجيوسياسية تحد من حيويته. ويرجح الكاتب أن تتوقف تنمية المنطقة على الاختراقات في التكنولوجيا والتحولات في توازن القوى العالمي والأطر التعاونية لاستخراج الموارد المستدامة.
المخاطر مرتفعة
بالرغم من العقبات الحالية، تظل منطقة القطب الشمالي منطقة ذات إمكانات هائلة. فبالنسبة إلى روسيا، تشكل المنطقة شريان حياة للحفاظ على الأهمية الجيوسياسية. وبالنسبة إلى الصين، تشكل المنطقة حدوداً استراتيجية لتأمين الموارد وتنويع طرق التجارة. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة والناتو، تشكل المنطقة مسرحاً لمواجهة النفوذ الاستبدادي المتزايد. وربما لا تضاهي منطقة القطب الشمالي قناة السويس أو مضيق ملقا كشريان للتجارة العالمية، ولكن المنافسة البطيئة الصامتة تحت جليدها الذائب تعيد تشكيل ملامح العلاقات الدولية. وفي هذا المسرح من الأحلام المجمدة والطموحات المحمومة، تكون المخاطر عالية بمقدار انخفاض القمم الجليدية القطبية.