إيمانويل تود مؤرخ وأنثروبولوجي وعالم اجتماع ومحلل سياسي فرنسي، يهودي الديانة، غزير الإنتاج، وهو مفكر من فئة نادرة تعتمد الحقائق والمعطيات، ويعد أحد القلائل المتبقين من مثقفي المدرسة الفرنسية القديمة.

عرف تود بحس إستراتيجي ثاقب، إذ كان قد توقع انهيار الاتحاد السوفياتي في كتابه الشهير "السقوط النهائي" الذي أصدره عام 1976 وهو ابن 25 عاما، انطلاقا من نظريته في "أنساق القرابة الأسرية" وإحصائيات عن معدلات وفيات الأطفال الرضع في الاتحاد السوفياتي.

وبعد قرابة ربع قرن أصدر تود المتهم بمعاداة الولايات المتحدة كتابا بعنوان "ما بعد الإمبراطورية" (2001) قدم فيه حججه على أفول أميركا كقوة عالمية مهيمنة رغم مزاعم انتصارها الكبير بانهيار الاتحاد السوفياتي.

كتاب "ما بعد الإمبراطورية.. دراسة في تفكك النظام الأميركي" تنبأ بأفول أميركا كقوة عالمية (الجزيرة) هزيمة الغرب

تكمن أهمية طروحات تود في استخدامه العوامل الثقافية في رصد المعطيات الجيوسياسية بدلا من نموذج صراع القوة المهيمن على الدراسات الإستراتيجية.

في يناير/كانون الثاني 2024 صدر كتاب تود الجديد "هزيمة الغرب" الذي أثار فور صدوره جدلا واسعا متشعبا، وهو خلاصة قراءة تود للنظام الدولي الجديد في ضوء حرب أوكرانيا المستمرة منذ سنتين.

يركز تود على الأسباب الرئيسية التي أدت إلى سقوط الغرب، ومنها:

نهاية الدولة القومية في الغرب. تراجع التصنيع، مما يفسر عجز حلف شمال الأطلسي عن إنتاج الأسلحة الضرورية لأوكرانيا. وصول المصفوفة الدينية الغربية -أي البروتستانتية- إلى "درجة الصفر" والإفلاس، والزيادة الحادة في معدلات الوفيات في الولايات المتحدة أعلى بكثير مما هي عليه في روسيا. تفاقم أعداد حالات الانتحار وجرائم القتل، وسيادة العدمية الإمبراطورية التي يعبر عنها هوس مزمن بالحروب الأبدية. الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية

وإذا كان كارل ماركس هو فيلسوف الاشتراكية الأول فإن عالم الاجتماع وأستاذ القانون والمفكر الألماني ماكس فيبر هو فيلسوف الرأسمالية و"عرابها" بلا منازع، إذ رصد فيبر الظاهرة الرأسمالية وتطورها في العالم البروتستانتي، خاصة الولايات المتحدة، ووجد ارتباطا وثيقا بين منظومة الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ونشوئها وتطورها.

تبنت البروتستانية أخلاق الانضباط والالتزام بالعمل وخفض الاستهلاك والادخار وتأجيل المتعة أو "التقوى الحضرية" بتعبير فيبر، لتكوين الرأسمال وإعادة استثمار عائد الإنتاج وتوسعه، وهذا بدوره له صلة وثيقة بروح الرأسمالية المبكرة، خاصة في مجتمعات الاستيطان الأوروبي الكبرى.

فهذه المجتمعات قد هاجرت واستوطنت المستعمرات بفعل الاضطهاد الديني والمجاعات التي ضربت أوروبا في عصر الاكتشافات الجغرافية والمرحلة الميركانتيلية (التجارية).

لكن أزمة الرأسمالية المزمنة -خاصة النيوليبرالية الأميركية الراهنة التي تم تعميمها عالميا- أنها لا تقوم على الانضباط الاستهلاكي، بل على تعظيم الاستهلاك وإتاحة الاقتراض للأفراد والشركات والحكومات بشكل مفرط، فأصبح الاستهلاك يفوق الدخل، وغدا المستهلك ينفق ما لم يكسبه بعد، مما قلص المدخرات، وأدى إلى الغرق في بحار من الديون تجاوزت كثيرا الناتج المحلي الإجمالي.

هكذا تبخرت البروتستانية وأخلاقها وآليات عملها التاريخية التي أدت إلى صعود العالم الأنغلو-أميركي.

انهيار البروتستانتية

يعزو تود الانحدار الغربي إلى "تبخر" قيم البروتستانتية، وسلط الضوء على "قيم العمل والانضباط الاجتماعي" المتأصلة في هذا الفرع المسيحي، والتي اعتبرها عنصرا أساسيا في صعود "العالم الأنغلو-أميركي".

واعتبر "أن تبخر البروتستانتية في أميركا وبريطانيا والعالم البروتستانتي قد تسبب في اختفاء ما يشكل قوة الغرب وخصوصيته، وأن المتغير المركزي هو الديناميات الدينية".

الانهيار التدريجي الداخلي للثقافة البيضاء الأنغلوسكسونية البروتستانتية أدى منذ الستينيات إلى "إمبراطورية محرومة من مركز ومشروع ومعنى، أي أنها كائن عسكري في الأساس تديره مجموعة بلا ثقافة (بالمعنى الأنثروبولوجي)"، هكذا يعرّف تود المحافظين الجدد في أميركا.

هنا نصل إلى جوهر حجة تود، إعادة تفسيره لما بعد ماكس فيبر للأخلاق البروتستانتية وعلاقتها بروح الرأسمالية، فكتاب فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" -الذي نشر منذ أكثر من قرن (1904-1905)- جاء في وقت "كانت البروتستانتية هي مصفوفة صعود الغرب البروتستانتي، فموت البروتستانتية اليوم هو سبب التفكك والهزيمة".

"ركائز الغرب"

يحدد تود بوضوح كيف كانت "الثورة المجيدة" الإنجليزية عام 1688 وإعلان الاستقلال الأميركي عام 1776 والثورة الفرنسية عام 1789 الركائز الحقيقية للغرب الليبرالي، وبالتالي فإن "الغرب" الموسع ليس "ليبراليا" تاريخيا، لأنه هندس أيضا "الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية والنزعة العسكرية اليابانية".

ويبرز تود كيف فرضت البروتستانتية معرفة القراءة والكتابة الشاملة على السكان الذين تسيطر عليهم "لأنه يجب على جميع المؤمنين الوصول مباشرة إلى الكتاب المقدس، السكان المتعلمون قادرون على التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، لقد صاغ الدين البروتستانتي بالصدفة قوة عاملة متفوقة وفعالة"، وبهذا المعنى كانت ألمانيا "في قلب التنمية الغربية" حتى لو حدثت الثورة الصناعية في إنجلترا.

وقد وجد تود أوجه تشابه بين التاريخ الثقافي للبلاد وتاريخ الغرب البروتستانتي، وقال "إن المشترك بين البروتستانتية والشيوعية هو الهوس بالتعليم"، مضيفا "لقد طورت الشيوعية -التي تأسست في أوروبا الشرقية- طبقات وسطى جديدة"، حيث العامل الحاسم في صعود الغرب هو ارتباط البروتستانتية بالأبجدية، بحسب تود.

وعلاوة على ذلك، يؤكد تود أن البروتستانتية تقع مرتين في قلب تاريخ الغرب: من خلال الدافع التعليمي والاقتصادي، مع الخوف من اللعنة الإلهية والسعي نحو الخلاص والحاجة للشعور بالاصطفاء الإلهي، مما يولّد أخلاقيات عمل منضبطة وأخلاقية جماعية قوية، ومن خلال فكرة أن البشر غير متساوين (عبء الرجل الأبيض).

ولم يكن لانهيار البروتستانتية إلا أن يدمر أخلاقيات العمل لصالح الجشع الجماعي، أي النيوليبرالية (الجديدة).

التحول الجنسي

يبدو نقد تود الحاد لروح الثورة الطلابية في فرنسا عام 1968 مستحقا لكتاب جديد كليا، فهو يشير إلى أن "أحد الأوهام الكبرى في الستينيات والمشتركة بين الثورة الجنسية الأنغلو-أميركية وثورة مايو/أيار 1968 الطلابية في فرنسا الاعتقاد بأن الفرد سيكون أعظم إذا تحرر من الجماعة".

وأدى ذلك إلى كارثة حتمية، بحسب تود الذي يقول "الآن بعد أن تحررنا بشكل جماعي من المعتقدات الميتافيزيقية، التأسيسية والمشتقة، الشيوعية أو الاشتراكية أو القومية فإننا نعيش تجربة الفراغ"، ويكمل "هكذا أصبحنا عددا كبيرا من الأقزام المقلدين الذين لا يجرؤون على التفكير بمفردهم، لكنهم يظهرون أنهم قادرون على التعصب مثل المؤمنين في العصور القديمة".

إن تحليل تود الموجز للمعنى الأعمق للتحول الجنسي يحطم تماما الحملات الداعية إلى حرية التحول الجنسي، من أميركا إلى أوروبا، وسيثير نوبات غضب متسلسلة، إذ يرى أن التحول الجنسي هو "إحدى رايات هذه العدمية المحددة للغرب الآن، وهذا الدافع لتدمير ليس الأشياء والبشر فحسب، بل الواقع أيضا".

وهنا فائدة تحليلية إضافية لتود، إذ "تقول أيديولوجية التحول الجنسي إن الرجل قد يصبح امرأة، والمرأة قد تصبح رجلا، وهذا تأكيد كاذب، وبهذا المعنى قريب من القلب النظري للعدمية الغربية"، ويزداد الأمر سوءا عندما يتعلق الأمر بالتداعيات الجيوسياسية.

وبالترادف مع العديد من المحللين في روسيا والصين وإيران وبين المستقلين في أوروبا يبدو تود على يقين من أن هوس الولايات المتحدة -منذ التسعينيات- بقطع ألمانيا عن روسيا سيؤدي إلى الفشل، ويقول "عاجلا أم آجلا سوف تتعاونان حيث إن "تخصصاتهما الاقتصادية تحدد أنهما متكاملتان"، ويقول إن الهزيمة في أوكرانيا سوف تفتح الطريق لذلك، حيث تعمل "قوة الجاذبية" على إغواء ألمانيا وروسيا بشكل متبادل.

وعلى عكس أي "محلل" غربي تقريبا في محيط بلدان حلف الناتو يرى تود أن موسكو في طريقها للفوز على حلف شمال الأطلسي بأكمله، وليس فقط أوكرانيا، مستفيدة من نافذة الفرصة التي حددها بوتين أوائل 2022.

ويراهن تود على نافذة زمنية مدتها 5 سنوات، أي أن نهاية اللعبة ستكون عام 2027 كما يقول، ومن المفيد مقارنة ذلك بتقدير وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو كما ذكر العام الماضي "ستنتهي العملية العسكرية الخاصة في عام 2025".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة التحول الجنسی

إقرأ أيضاً:

تايم: إيلون ماسك يحكم الولايات المتحدة

رصدت مجلة "تايم" الأمريكية الدور البارز الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك في الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب، حيث صوّرته على غلافها لشهر فبراير (شباط) بأنه هو من يحكم الولايات المتحدة.




وقالت تايم: “تشير الأحداث المتسارعة المحيطة بتدخل إيلون ماسك العدائي في واشنطن إلى تحول عميق في هيكل الحكومة الأمريكية. أدى توطيد ماسك للسلطة إلى انقلاب في العمليات الفيدرالية التقليدية، مما أدى إلى تهميش البيروقراطيين المخضرمين، وإدخال تغييرات جذرية دون إشراف الكونغرس”.
وأضافت: "من خلال السيطرة على وكالات حيوية، بما في ذلك الخدمة الرقمية الأمريكية ومكتب إدارة شؤون الموظفين، بسط فريق ماسك نفوذه على الوظائف الحكومية الرئيسية، مما أدى إلى تقليص الميزانيات، وطرد الموظفين، وتجاوز العمليات التنظيمية الراسخة.

TIME's new cover: Inside Elon Musk's war on Washington https://t.co/95Qictx4zP pic.twitter.com/QZ73CZqtnM

— TIME (@TIME) February 7, 2025 وأشارت إلى أن تداعيات هذه الإجراءات واسعة النطاق. على الصعيد المحلي، حيث يواجه ملايين الموظفين الفيدراليين حالة من عدم اليقين، حيث تؤدي عمليات التسريح الجماعي وإعادة الهيكلة إلى اضطراب الوظائف الحكومية الأساسية.
وأصبحت البرامج التي يعتمد عليها الأمريكيون يوميًا، من الخدمات الاجتماعية إلى التوجيه الاقتصادي، عرضة للإلغاء أو التخفيض الجذري.
وتابعت: "وعلى الصعيد الدولي، أدى إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) إلى قطع المساعدات الغذائية والطبية والبنية التحتية لملايين الأشخاص الذين يعتمدون على المساعدة الأمريكية، ويهدد الطابع المفاجئ لهذه التغييرات بزعزعة العلاقات الدبلوماسية وتقليل النفوذ الأمريكي عالمياً".
هل بدأ ترامب تقييد نفوذ ماسك؟ - موقع 24قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الاثنين إن هناك قيوداً موضوعة لمنع إيلون ماسك من القيام بأي شيء في الحكومة دون موافقة البيت الأبيض، رداً على الارتباك المتزايد حول من يشرف على دفع ماسك لتفكيك وكالات متعددة.

ورغم هذه التحولات الدراماتيكية، تتصاعد المقاومة. يطعن موظفو الخدمة المدنية والنقابات العمالية والخبراء القانونيون في شرعية توجيهات ماسك، حيث تسببت الدعاوى القضائية بالفعل في تعطيل بعض خططه.

وأصدرت المحاكم أوامر قضائية أوقفت مؤقتًا تجميد التمويل، وخطط التخلص من العمالة، مما يشير إلى عقبات محتملة في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، فإن رد الفعل الشعبي المتزايد والتدقيق المتزايد من قبل المشرعين، ولا سيما الديمقراطيين في الكونغرس، يسلط الضوء على المعركة السياسية المتصاعدة بشأن مستقبل الحكومة الفيدرالية.
ويشير تصريح النائب جيمي راسكين بأن الولايات المتحدة ليس لديها "فرع رابع من الحكومة يسمى إيلون ماسك" إلى التوتر بين السلطة غير المقيدة لماسك، والإطار الدستوري المصمم للحفاظ على الضوابط والتوازنات.
وتساءلت المجلة: “تقدم هذه الحالة تحديًا صارخًا للديمقراطية الأمريكية: هل يمكن لمواطن واحد، باستخدام الثروة والبراعة التكنولوجية، أن يفكك أجزاءً كبيرة من البيروقراطية الفيدرالية دون رادع؟.. ستحدد الأشهر المقبلة ما إذا كانت حرب ماسك على واشنطن مجرد حالة شاذة، أم نذير عهد جديد جذري في الحوكمة”.

مقالات مشابهة

  • «تيك توك» تزف خبرا لمستخدمي «آندرويد» في الولايات المتحدة
  • الولايات المتحدة تمنح إسرائيل ام القنابل
  • انخفاض كبير في صادرات العراق النفطية إلى الولايات المتحدة
  • تايم: إيلون ماسك يحكم الولايات المتحدة
  • تفاهم بين «غرف دبي» و«غرفة تجارة الولايات المتحدة»
  • المرشد الإيراني يهدد الولايات المتحدة حال تهديدها أمن طهران
  • إجماع فرنسي: خطة ترامب بشأن غزة "تطهير عرقي" و"جريمة حرب"
  • ترامب: إسرائيل ستسلم قطاع غزة إلى الولايات المتحدة في نهاية القتال
  • معهد أمريكي: لماذا لا يستطيع الغرب هزيمة الحوثيين دون تأمين موانئ اليمن؟
  • ارتفاع النفط في التعاملات الآسيوية المبكرة مع زيادة السعودية للأسعار