لجريدة عمان:
2025-01-21@05:05:11 GMT

الإعلام وقوته الناعمة

تاريخ النشر: 9th, March 2024 GMT

لقد شكَّل مفهوم القوة الناعمة جوهر التأثير التنموي، والقدرة التي يمكن من خلالها تشكيل العناصر الأساسية للتأثير العالمي للدول؛ فأصول هذه القوة كامنة في الدبلوماسية والتبادل الثقافي والحضاري، والقيم السياسية والسعة الإعلامية، والاقتصاد، وغير ذلك من الأُسس التي يتشكَّل بها التأثير في الآخر باعتبارها (قوة جاذبة) – بتعبير جوزيف ناي –.

إنها ركائز تستخدمها الدول كمؤثرات قادرة على الجذب والإقناع.

إن جوهر القوة الناعمة للدول هي الثقافة والإعلام؛ فالإنتاج الثقافي والدبلوماسية الثقافية، إضافة إلى الخدمات الثقافية التي يمكن تصديرها إلى الخارج من ناحية، والإنتاج الإعلامي، والتواصل الاستراتيجي، وبناء علاقات مع الإعلام الخارجي بل والجمهور الخارجي من ناحية أخرى، يُشكلان قوة ناعمة، قادرة على بناء علاقات دولية مؤثرة، تُسهِم في تحسين الثقة بين الدولة وبين العالم الخارجي في كافة المجالات.

ولأن الإعلام هو الوسيلة الأسرع والأكثر قدرة على الانتشار، فإنه يمثِّل أهم قوة يمكن استخدامها لترسيخ القوة الناعمة للدولة؛ فالدبلوماسية الثقافية مثلا باعتبارها (تعبئة للأصول الثقافية)، فإنها تقوم على التفاعلات الدولية الهادفة والإيجابية بين المواطنين والمؤسسات والمنظمات سواء داخل الدولة نفسها أو في الخارج، إلاَّ أن الإعلام هنا يعمل بوصفه حاضنة لهذه التفاعلات، والقادرة على نقلها إلى الآخر وفق مقتضيات المرحلة ومستقبل رؤيتها.

وهكذا الحال في العلاقات الثقافية والتواصل المجتمعي بين سياسات ثقافة الدولة وتفاعلاتها المتنوعة مع المؤسسات المختلفة خاصة مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الخاصة، باعتبارها المكوِّن الذي يعكس تنامي المجتمع وقدرته وإمكاناته في بناء علاقات إيجابية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي فإن التأثير الذي يُحدثه يعكس الأصول والأُسس التي قامت عليها الدولة والتي رسَّخت وسهَّلت هذا التفاعل الإيجابي من خلال السياسات والتشريعات والانفتاح على العالم.

إن هذه التفاعلات جميعا، تظهر ضمن مرئيات الإعلام ووسائله ووسائطه المختلفة باعتبارها إمكانات وقوة داعمة ومؤثرة للدولة، تسمح بإنشاء مفاهيم ثقافية جديدة للتفاعل والتأثير، وتفسح المجال أمام تبادلات وعلاقات ثقافية واسعة على المستوى الدولي، فكُلما كانت الإمكانات الثقافية والإعلامية للدولة واسعة ومنفتحة كان تأثيرها على الآخر أكثر، وكلما كانت علاقاتها الخارجية متزنة ومبنية على أُسس راسخة ومتينة كلما كانت أكثر إقناعا وبالتالي الأكثر ثقة.

ولعل الجهود التي يقوم بها الإعلام في عُمان بوسائله ووسائطه المختلفة والمتعددة، كان لها الأثر البالغ في ترسيخ مفاهيم السياسة الحكيمة التي تأسَّست عليها عُمان منذ عقود من الزمان، وهذا الأثر نراه في تقديم كل ما من شأنه تأصيل الركائز الأساسية التي تقوم عليها الدولة، وإيجاد مساحة من الحُرية في التعبير، والانفتاح على الآخر، وتقديم البرامج والمبادرات الوطنية بصورة تليق بعُمان وبما تقدمه القطاعات المختلفة من جهود متفانية في سبيل تحقيق أهداف الرؤية الوطنية عمان 2040.

إن تلك الجهود التي تقوم بها المؤسسات الإعلامية المختلفة، تمثِّل الأساس الذي ينبني عليه تأثير القوة الناعمة العمانية في الآخر، خاصة في ظل الإعلام الرقمي المفتوح، والتقنيات الإعلامية الحديثة، وزيادة الإنتاج الإعلامي والتعاون مع المؤسسات الإعلامية والمنظمات الخارجية، الأمر الذي دفع الإعلام إلى تقديم آفاق جديدة، قادرة على بناء علاقات ثقافية وإعلامية دولية واسعة، أسهم في انتقال الثقافة العمانية عبر الحدود، وإنتاج مفاهيم ثقافية جديدة منطلقة من الأصول الحضارية العمانية الأصيلة نحو الإقليمية والعالمية.

قبل أيام قليلة أصدرت منظمة (براند فاينانس) المؤشر العالمي للقوة الناعمة للعام 2024، ومع أن التقرير منذ البدء لم يكن متفائلا بمصير القوة الناعمة وقوتها وتأثيرها في ظل الكثير من الصراعات واختيار القوة الصلبة بديلا استراتيجيا في العديد من الصراعات الحالية، ولعل كلمة الرئيس التنفيذي للمنظمة ديفيد هاي كانت مؤثرة بشأن عجز هذه القوة أمام ما يحدُث من حروب واعتداءات كانت محرَّمة ومجرَّمة في النُهج والمعايير الدولية، الأمر الذي (جعل القوة الناعمة تشعر بالعجز، فبعد كل ما حدث، من لديه وقت للتأثير والإقناع بينما يحترق كتاب القواعد) – على حد تعبيره –.

غير أن هاي في نهاية كلمته يشير إلى أهمية القوة الناعمة للعام 2024 في الاستثمار والتجارة والمواهب، والجذب السياحي، وهي إمكانات كان لها التأثير البالغ في توجيه العالم نحو السلام والتفاهم وإمكانات مواجهة التوترات الجيوسياسة المتصاعدة في المستقبل، وهو هنا يُذكِّر بالإمكانات التحويلية لهذه القوة، وقدرتها على بناء آفاق جديدة، وفي تصورنا فإن هذه الآفاق تتعلَّق بشكل مباشر بالإعلام وقدرته على تحويل المسارات، وإيجاد التوازن بين الأطراف المختلفة من ناحية، وإمكاناته التي يمكن استغلالها في ترسيخ أنماط السلام والانسجام بين شعوب العالم من ناحية أخرى.

إن القوة التي يشكلها الإعلام في مؤشر القوة الناعمة تقوم على مجموعة من الأسس؛ فهو مصدر تأثير العلاقات الخارجية بين بلدان العالم، وأساس ترويج العلامات التجارية، وهو مرآة الاستدامة، وبالتالي فإن ما يعكسه الإعلام المحلي داخليا وخارجيا قائم على تلك الأسس، التي تعمل باعتبارها محركات قوية للأداء، وكاشفة لقدرة الدولة وإمكاناتها في الجذب، سواء على المستوى السياحي بأنواعه المختلفة، أو المستوى الاقتصادي والتجاري بمجالاته المتنوعة.

يرتكز مؤشر القوة الناعمة 2024 على مجموعة من الركائز هي (التجارة والأعمال، والعلاقات الدولية، والتعليم والعلوم، والثقافة والتراث، والحوكمة، والإعلام والاتصالات، والمستقبل المستدام، والناس والقيم)، وهو يعتمد في جمع البيانات والتقييم على مجموعة من المعايير القائمة على استطلاعات ومقابلة 170.000 شخص من 193 دولة بعد إضافة 72 دولة جديدة لهذا العام، بهدف الوصول إلى آراء الخبراء والأكاديميين وغيرهم من الموثوقين، إضافة إلى نتائج العديد من المؤشرات الدولية ذات الصلة بالركائز.

ولقد كشف التقرير هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة باحتفاظهما بالمرتبتين الأولى والثانية للسنة الثالثة على التوالي، مما يدل على قوة تأثيرهما من خلال (المزيج بين الألفة والسمعة والنفوذ) – حسب التقرير –، كما تظهر الصين متقدمة في المرتبة الثالثة، إضافة إلى ارتفاع الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا في محاولة للتغلب على التحديات التي تواجهها وتحقيق نتائج أفضل، وكذلك دول الشرق الأوسط.

في هذا التقرير تُظهر عُمان تراجعا طفيفا إلى المرتبة 49 بعد أن كانت في المرتبة 46 في العام الفائت، ولعل الارتفاع في مؤشرات الإعلام والمستقبل المستدام كان لافتا، في ظل الانخفاض الكبير في مؤشرات أساسية مثل التعليم والعلوم والثقافة والتراث على الرغم من الجهود المبذولة من قبل المؤسسات الحكومية والخاصة والمدنية، إضافة إلى الثبات في الترتيب في مؤشرات مثل الأعمال والتجارة، والعلاقات الدولية.

إن الارتفاع في مرتبتي الإعلام والمستقبل المستدام في نتيجة عُمان في المؤشر العالمي للقوة الناعمة 2024، كان له الأثر الكبير ليس فقط في ضبط النتيجة الإجمالية لعُمان في المؤشر، بل أيضا ما أحدثه ذلك من أثر على المستوى الوطني في المجتمع وتعزيز ثقته بالإعلام المحلي، إضافة إلى انعكاساته على المستويات الإقليمية والدولية في الوثوق به من ناحية ومصداقيته من ناحية أخرى؛ ذلك لأن المؤشرات الدولية على ثقتنا بأهمية التقييم المحلي، إلاَّ أنها تقوم بدور مهم في تأصيل أنماط الانفتاح والتعريف بالدولة خارجيا وبتاريخها الحضاري، ورؤاها المستقبلية وما تصبو إليه، وبالتالي يقيس تأثيرها في الآخر وقدرتها على الإقناع.

فالإعلام مرآة المجتمعات وقدرتها التي تصل من خلالها إلى العالم، ومع هذا التقدُّم المتواصل في مؤشرات الإعلام فإن مسؤولية العمل الإعلامي للمرحلة المقبلة تزداد، والآمال تتسع وتتعاضم إلى نتائج مستقبلية أكبر، وقدرة واسعة في التأثير والإقناع العالمي، فالقوة الناعمة للإعلام تحمل رؤى أكثر انفتاحا وسعة مع العالم، ولأنه واجهة الدولة، فهو قوتها الناعمة الجاذبة والمؤثرة والمحفِّزة للآخر للتواصل والتعاون والتشارك وبالتالي الاستثمار.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القوة الناعمة بناء علاقات على المستوى إضافة إلى فی مؤشرات من ناحیة

إقرأ أيضاً:

غزة ... انتصار الإرادة

انتصرت غزة، التي أبهرت العالم بصمودها الأسطوري، واستطاعت أن تقدم تجربة تعد الأولى في تاريخ البشرية في تحملها معاناة الألم والقتل والدمار طيلة أكثر من 460 يومًا، وهو ما لم يحدث في بقعة لا تتجاوز مساحتها 356 كيلومترًا مربعًا.

انتصرت غزة؛ لأنها تستحق الحياة، ولأنها تضيف إنجازًا جديدًا إلى سجلها التاريخي مع الغزاة الذين تعاقبوا عليها، والذين في كل مرة يتم دحرهم وتبقى عصية على الطامعين، حتى وإن بقوا فيها لسنوات.

انتهت المحنة التي كانت شرارتها في 7 أكتوبر، والتي كنا ننتظر أن تنفرج مع كل دقيقة تمر علينا، ليس في الوطن العربي والأمة الإسلامية فقط، بل على كل أحرار العالم الذين أيقظت غزة ضمائرهم التي غُمي عليها طوال الـ100 عام الماضية، والتي عششت ونمت فيها الصهيونية العالمية وأنتجت كيانًا عقيدته الغدر والقتل والتدمير والإبادة وتفوق العرق السامي.

اليوم، تضع غزة العالم على مفترق طرق حول المرحلة المقبلة، ليس للقطاع وحده، بل لمشروع الدولة الفلسطينية التي طال انتظارها، والتي قربت العالم الحر أكثر وأكثر من أهمية وجود هذه الدولة على ما تبقى من ترابها الذي يُسرق ليل نهار من عصابات المستوطنين وجيش الاحتلال. الدولة الفلسطينية كانت مشروعًا حاضرًا في اتفاقيات أوسلو عام 1994م، والتي جاءت بضمانات دولية استطاعت القيادات العنصرية الإسرائيلية المتطرفة إجهاضه على مدى الثلاثين عامًا الماضية.

الواقع اليوم للقضية الفلسطينية يختلف كثيرًا عن واقعها قبل 7 أكتوبر، فهي أمام مرحلة تحول، إما الذهاب بها إلى السلام العادل وقيام الدولة الفلسطينية، وهذا هو الأرجح، وإما إعادتها إلى ملفات النسيان، وهذا مستبعد.

القناعات لدى العديد من الإسرائيليين اليوم هي أقوى مما كانت عليه في العقود السابقة بضرورة قيام الدولة الفلسطينية إذا ما أرادت إسرائيل الأمن والسلام، ودون ذلك سيبقى الاحتلال يتنقل من حرب إلى أخرى؛ تارة في غزة، وثانية في الضفة، وثالثة في لبنان، وقد تفتح جبهة رابعة في القدس وداخل الخط الأخضر في عمق إسرائيل.

من يرى أهالي غزة وهم يعودون للحياة منذ لحظات إيقاف الحرب التي أُرغمت عليها إسرائيل، سواءً من الداخل أو الخارج، يقتنع أن هذا الشعب ليس رقمًا هامشيًا ومن الصعب تركيعه، لإيمانه بقضيته وتمسكه بأرضه وإصراره على البقاء والحفاظ على مكتسباته. وقد رأى العالم كيف واجهت المقاومة كل هذا العتاد العسكري الذي دعم الاحتلال بمئات المليارات من الدولارات، والذي فشل في استعادة أسراه طيلة 15 شهرًا و19 يومًا، رغم وجود أجهزة قرابة 7 دول غربية تساند جهود الاحتلال في مساحة ضيقة جدًا، مع الخسائر البشرية في جيش الاحتلال التي بلغت 14,700 جندي و60,000 مصاب، واقتصاد تتراجع مؤشراته إلى أقل من النصف، وهجرة عكسية لقرابة 30% من السكان، وخيبات من الأحلام المزيفة التي عاشها قادة الاحتلال.

سالم الجهوري كاتب صحفـي عماني

مقالات مشابهة

  • بلطجة القوة والانحياز لإسرائيل.. «مصطفى بكري» كاشفا عن رسائل ترامب إلى العالم
  • غزة ... انتصار الإرادة
  • «الحداد» بيحث دمج القوى المساندة بمؤسسات الدولة المختلفة
  • محافظ الدقهلية يوجه بخفض القيمة الإيجارية في السوق الحضاري بالسنبلاوين
  • اليوم محاكمة 31 متهما بالحرب الناعمة
  • إعلام وطني يعكس صورة الدولة بمسؤولية ووعي على مائدة عبدالعزيز والشوربجي
  • الخميس.. الثقافة تناقش "القوة الناعمة وبناء الإنسان" بملتقى الهناجر
  • فشل الغرب في الحرب التي شغلت العالم
  • 17يناير.. تلاحم شعب ونخوة قيادة
  • اتحاد القوة يعلن عن دورة تحكيمية دولية على هامش كأس العالم