#سواليف

#سيميائيات_الحياة من مُحايثة النص إلى عالم التجربة

أجرى الحوار #محمد_نجيم

راكم الباحث الناقد المغربي والأستاذ الجامعي د. #محمد_الداهي مؤلفات تحوم

مقالات ذات صلة اختتام الدورة الرابعة من “مسابقة أفلام وأغاني تمكين الشّباب” 2024/03/06

في مجملها حول السيميائيات الذاتية التي تعنى بانطباع الآثار الذاتية في

الخطاب، وبمواقع المتلفظ والسارد في الأدب الشخصي (أنواع الكتابة عن

الذات)، وبالمشاريع السيميائية والصُّوريَّات التي تُعنى بتمثيلات الذات ناظرة

ومنظورا إليها.

صدر له مؤخرا كتاب جديد عن المركز الثقافي للكتاب في

400 صفحة ( حياة المعنى التدبير السيميائي لمعنى الحياة)؛ ولذا ارتأيت أن

أجري معه الحوار الآتي لأخذ فكرة مجملة عنه.

من مؤلفاته الصادرة مؤخرا : السارد وتوأم الروح ( من التمثيل إلى

الاصطناع)، متعة الإخفاق (المشروع التخييلي لعبد الله العروي)، سلطة

التلفظ في الخطاب الروائي العربي، من أرشيف محمد زفزاف.

1- يبدو لي عنوان الكتاب ملغزا. ما دلالة هذا اللغز؟

يقدم الكتاب تصورا سيميائيا عن المعنى من حيث حياته (حياة المعنى)

ومشروعه ومآله (معنى الحياة). قد يبدو العنوان تلاعبا لفظيا بقلب مواقع

اللفظ في سياقين مختلفين، لكن صياغته على هذا النحو تقتضي معالجة

المعاني المختلفة والمتضاربة التي يحفل به الكون، ونصادفها أينما حللنا

وارتحلنا، وتفعم حياتنا بأريج المشاعر والأحاسيس، كما تحتم علينا أن نختار

زاوية من الزوايا المتعددة لتبئير وجهة نظرنا على حيز أومجال محدد

باعتماد المقاربة المناسبة ( السيميائيات على سبيل المثال).

2- بُني الكتابُ على تدبير المعنى بصفته حياة ومشروعا للحياة؟ أليس كذلك؟

سعيت إلى إبراز راهنيَّة الموضوع وجِدِّته بالنظر إلى امتداد المعنى

وانتشاره في جميع الأنساق و الدعامات الدلالية (المعمار، الإشهار، اللباس،

الطعام..)، وملازمته الوجود في مختلف مظاهره وتجلياته أكانت ذات الصلة

بالغلاف الإحيائي (الحيز الذي توجد فيه الحياة، وتتقاسمه الكائنات الحية) أو

بالغلاف السيميائي(حيز التعدد اللغوي والثقافي، ما يميز الإنسان بصفته

حيوانا ناطقا). والحال هكذا، ارتأيت أن أعالجه من المنظورين الآتيين،

وهما:

أ- باحتكاك الإنسان بالعلامات يوميا يعطي لحياته معنى، ويحرص على

تدبير هذا المعنى لتحسين علاقاته بالكائنات الحية والموجودات، وتحقيق

أهدافه، وتفادي ما يُكدِّرُ ويُنغِّصُ عيشَه. لا يخلو تدبير المعنى من توتر

وصراع بسبب تضارب المصالح والنزاعات الترابية والمحلية. وفي هذا

الصدد، حرصت السيميائيات على مقاربة المعنى من زوايا متعددة لإبراز

تحركات الإنسان وأعماله (سيميائيات العمل)، وأهوائه ومشاعره (سيميائيات

الأهواء)، وقيمه ( السيميائيات الأكسيولوجية)، وبيان علاقاته بالموجودات

(سيميائيات الأشياء)، وبمَسْرحة الحياة والشعائر الاجتماعية ( السيميائيات

الثقافية)، وبالممارسات اليومية (سيميائيات أشكال الحياة). وهذا ما حرصت

على تحليله بطريقة تركيبية ونسقية حتى يأخذ القارئ العربي فكرة مجملة

عن المشاريع السيميائية التي مافتئت محافظة على سمتها وراهنيتها وجديتها.

وهذا ما ينطبق على فهم كينونة الإنسان المعقدة في تساوق مع سعيه إلى

تدبير شؤونه اليومية، ومشاريعه المستقبلية، وتكريس تشبثه بأهداب الحياة.

ب- ما يحرص عليه الإنسان باحتكاكه يوميا بالكائنات الحية والأشياء هو

الرقي بالمعنى من الحالة العابرة والمبتذلة إلى الحالة المستديمة والجدية.

وهو ما يحفزه على البحث عن المعنى، ويقتضي منه حسن تدبيره حتى لا

تكون له عواقب غير محمودة. ومن ثم، ركز السيميائيون على هوى

الإصرار بصفته شكلا من أشكال الحياة للمضي قدما إلى الأمام أيا كانت

الظروف والعوائق. الإصرار شكل من أشكال الحياة الذي يستدعي- علاوة

على المؤهلات الذهنية والجِهيَّة واللغوية- طاقة نفسية جبارة. أستحضر- في

هذا الصدد- شكلين من أشكال الحياة أضحيا شائعين في المجال

الرياضي.وهما: الكرينتا Grinta (لفظ إيطالي يعنى به المثابرة

والعزيمة)، والريمنتادا (Remontada) ( لفظ إسباني يعنى به التعافي

والعودة القوية). يحقق الفريق الرياضي بفضلهما النصر المنشود والنتيجة

المرضية دون أن يتأثر بضعف أدائه أو تلقيه هدفا مباغتا في بداية المباراة.

وهو ما يتجسد أيضا في إصرار الإنسان على تحدي المصاعب والعراقيل،

وتحمل المشقة والعناء سعيا إلى تحقيق أهدافه.

3- بتصفح الفهرس نعاين أنك عالجت حياة المعنى بطريقة تركيبية ملما

بالمرجعية السيميائية كما نهجتها مدرسة باريس لرائها ألجيرداس

جوليان كريماص وأتباعه؟

أشكرك على هذه الملاحظة الذكية. أحرص في كتاباتي بصفتي باحثا أن

أتفادى المقاربة المدرسية التي تراهن على تذليل المعارف العالمة وتقديمها

في حلة مبسطة وميسرة للقارئ. لا أنفي دور هذه المقاربة التي لها أهميتها

وملاءمتها للمساهمة في تثقيف القراء وإرشادهم إلى المعارف المناسبة.

أحرص في كتاباتي على معالجة إشكال يستأثر باهتمامي بالنظر إلى

تخصصي. سعيت في هذا الكتاب إلى إبراز كيف عالج السيميائيون المعنى

من مختلف الوجهات والتصورات أكانت عَمليَّة أم استهوائية أم تلفظية أم

ظاهراتية أو أكسيولوجية، ثم التموضع بصفتي في الضفة المقابلة ضمن

السيميائيات الذاتية (Sémiotique Subjectale) التي اتخذتُها موئلا

ومصدرا لتناول مظاهر التلفظ وتجليات الذاتيَّة في الثقافة العربية، وخاصة

في متغيرات السيرة الذاتية (ما أصطلح عليه بسرديات البرزخ).

كل كتاب يفرض علي طريقة لمعالجة محتوياته بالنظر إلى طبيعة القارئ

الذي أتوجه إليه. أعرف مسبقا أن السيميائيات هي علمٌ له مُصطلحيَّته

ولغته الواصفة ومنهجيته ورواده، وهو ما يحتم علي أن أتوجه إلى جمهور

محدد يتمتع بالخلفيات المعرفية المناسبة. ومع ذلك حرصت في الكتاب على

المسعييْن التواصلي (مخاطبة جمهور أوسع من القراء) والذاتي ( تبني نقد

النقد بتعبير تزفيتان تودوروف لتقدير جهد باحثين وكتاب سيميائيين تعلمت

منهم، واهتديت بهم في مساري الفكري).

4- بدا لي – بتصفح الكتاب- أنك راهنت على القارئ المطلع أو القارئ

النموذجي بتعبير إمبرتو إيكو. ما الهدف الذي توخيته من وراء ذلك؟

كل كتاب يفرض- كما قلت- على صاحبه أسلوبا معينا بحسب طبيعة

الجمهور المستهدف من جهة، وبالنظر إلى الموضوع المعالج من جهة ثانية.

أتاح لي الكتابان الأخيران ( السارد وتوأم الروح ، ثم متعة الإخفاق) هامشا

من الحرية لتطويع النظرية حتى تغدو ميسرة ومنقادة لدى القراء على

اختلاف مستوياتهم ومشاربهم. كل قارئ قد يجد فيه ما يناسبه بحسب

مؤهلاته وخلفياته. لكن الأمر يختلف في الكتاب الأخير الذي صدر مؤخرا (

حياة المعنى)؛ إذ طبيعة الموضوع حتمت علي مخاطبة فئة من القراء سواء

من لهم تكوين سيميائي أم هم في عداد الساعين إلى تعرُّف المجال

السيميائي الرحب والتخصص فيه. علاوة على ذلك فالمجال السيميائي هو

علم له قواعد وضوابط ولغة واصفة، وهو ما يقتضي من أي قارئ أو باحث

– قبل الخوض فيه- أن يكون ملما بالمجال، ومطلعا على خباياه وتطلعاته.

حرصت- بالحفاظ على اللغة السيميائية الواصفة- على تقديم تصور شامل

للقارئ العربي عن المشاريع السيميائية التي اضطلعت بها مدرسة باريس

للسيميائيات ( العمل، والأهواء، والأشياء، والثقافة، والكلام)، وبيان

الطفرات التي حققتها بالانتقال من المراهنة على القواعد السردية

(الخوارزميات السردية الكونية) إلى مواكبة أشكال حياة الإنسان وأساليبه في

العيش ( سيميائيات المعيش)، وإبراز إشعاعها الكوني بعد أن استوعبت

جغرافيات سيميائية جديدة ( بما فيها السيميائيات العربية)، واستقطبت

اهتمامات متعددة في ربوع المعمورة.

ومع ذلك ما فتئ القراء العرب يجدون مصاعب في فهم الكتب السيميائية بحكم

مصطلحيَّتها ومرجعيَّتها ومقصديَّتها، وأحيانا قد يختلط عليهم الحابل والنابل بتطاول

أشخاص على المجال وتقحُّمه دون دراية. وفي هذا الصدد يتحتم على السيميائيات

الانفتاح على ثقافة الآخر بحثا عن تلاقح الأفكار، وتعاضد الرؤى، وتكامل وجهات

النظر، وتعزيز سبل العيش المشترك. و هي – في ذلك -تؤدي دورا أساسيا في

إعطاء المعنى لحياتنا بمساءلة وجودنا، وتدبير خلافاتنا وصراعاتنا، واقتراح بدائل

جديدة للعيش وللسلم المستديم.

ولا بد في الأخير من التمييز بين النقد الانطباعي الذي يصدر أحكاما باعتماد الذوق

والتأثير وبين النقد الرصين الذي يستند إلى أدوات ومفاهيم وفرضيات علمية. ومع

ذلك يستحسن أن ننزل النقد من عليائه أو برجه العاجي حتى يسهم في إثارة النقاش

العمومي، و في تنوير الرأي العام بقضايا تهم عموما الوضع البشري. وفي هذا

السياق، تندرج مؤلفاتي بالحرص على المواءمة بين الذاتي والموضوعي، بين

الجامعة والمحيط، بين المركز والضاحية، بين الفرد والجماعة. وعليه لا بد للنقد من

الانخراط في الحياة العامة عوض التقوقع والانقطاع عن شواغل الناس وأهوائهم

وتطلعاتهم.

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: سواليف محمد نجيم أشکال الحیاة المعنى من فی هذا وهو ما

إقرأ أيضاً:

النص الكامل لعظة راعي الأبرشية مار بطرس قسيس خلال قداس ليلة عيد الميلاد بحلب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال راعي الأبرشية  مار بطرس قسيس في عظة الميلاد والتي القاها خلال القداس في كاتدرائية مار أفرام السرياني بالسليمانية بحلب:

الأحباء الكهنة والشمامسة وأعضاء المجالس الملية واللجان والمؤسسات وعموم أبناء الأبرشية الموقرين

نعمة لكم وسلام من الله أبينا يسوع المسيح إلهنا ومخلصنا.

إنها ليلة الميلاد المجيد، الليلة التي تحققت فيها أولى خطوات الوعد الإلهي بأنَّ نسل المرأة يسحق رأس الحية. الليلة التي تصالحت فيها السماء مع الأرض بميلاد المخلص الذي سيرفع خطيئة العالم. الليلة التي رنمت فيها طغمات الملائكة نشيد الظفر معلنة مد جسر العبور، عبور البشر من الأرض إلى السماء، وعبور النعم والبركات من السماء إلى الأرض.

ولكن الأهم ضمن هذه النعم والبركات التي حصلنا عليها بميلاد رب المجد، معرفتنا الحقة بأن الله يحبنا، كما عبر عن ذلك يوحنا الرسول في رسالته الأولى قائلاً: "بهذه أُظهرت محبة الله فينا: أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به".

محبة الله لخليقته، أيها الأحبة، هي طبيعة الله الحقيقية، لأن الله محبة. 

وقد تجلت هذه المحبة للإنسان منذ البدء بأن هيأ له أفضل الظروف لكي يعيش حياة هانئة وسعيدة، في سلام وخير، مع الآخر، طبيعة كان أو مخلوقات. ولكن سرعان ما ظل الإنسان عن طريق الله ساقطاً في فخ الكبرياء المقيت وخاضعاً لإرادة الشرير ابليس.

ومشت الإنسانية في ظل الخوف والموت زماناً طويلاً، وما كانت تقدم لنفسها إلا مزيداً من السقوط والانحدار، وكأنها تقوم بإفناء نفسها. فأتى الميلاد. ميلاد الكلمة يسوع المسيح. وفي الحقيقة، فإن هذا العمل العظيم هو لائق بدرجة فائقة بصلاح الله. لأنه إذا أسس ملكٌ مدينةً، ثم بسبب إهمال سكانها حاربها اللصوص، فإنه لا يهملها قط، بل ينتقم من اللصوص ويخلّصها لأنها صنعة يديه وهو غير ناظر إلى إهمال سكانها، بل إلى ما يليق به هو ذاته.

هكذا وبالأكثر جداً، فإن كلمة الآب كلي الصلاح، لم يتخلّ عن الجنس البشري الذي خُلق بواسطته، ولم يتركه ينحدر إلى الفناء، بل أبطل الموت الذي حدث نتيجة التعدي، بتقديم جسده الخاص. ثم قوَّم إهمالهم بتعاليمه، وبقوته الخاصة أصلح كل أحوال البشر.   
في هذا يقول القديس أثناسيوس في كتابه تجسد الكلمة: "أنه لم يكن ممكناً أن يُحوِّل الفاسد إلى عدم فساد إلا المخلص نفسه، الذي خلق منذ البدء كل شيء من العدم. ولم يكن ممكناً أن يعيد خلق البشر ليكونوا على صورة الله إلا الذي هو صورة الآب. ولم يكن ممكناً أن يجعل الإنسان المائت غير مائت إلا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها. ولم يكن ممكناً أن يُعلِّم البشر عن الآب ويقضي على عبادة الأوثان إلا الكلمة الذي يضبط الأشياء وهو وحده الابن الوحيد الحقيقي".

لذا أيها الأحبة، ليس لنا نحن الترابيون إلا أن نشكر الرب الإله على افتقاده لبشريتنا الضعيفة بهذا الخلاص العظيم الذي قدمه لنا ونحن لسنا بمستحقين. ولنعمل على أن يكون جوابنا له فعلاً يعكس إدراكاً لدعوتنا ورسالتنا في هذه الحياة. كما أرادنا هو أن نكون: ملحاً للأرض ونوراً للعالم وخميرة للعجين. ليس في شرقنا العزيز فقط. بل في كل أنحاء الأرض. حيث الشهادة لمحبة الله للعالم يحتاجها العالم بأجمعه، كل العالم، ووصيته الأخيرة لنا كانت "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم". فلنكن رسلاً حقيقيين لرسالة المحبة الخالصة والباذلة التي سلمنا وعهدنا إياها نحن المخلصين باسمه القدوس.

في الأسابيع الأخيرة شهدت سورية الحبيبة تغييراً جذرياً في نظامها الذي حكمها لأكثر من خمسين عاماً. هذا التغيير كان أشبه بزلزال بشدة عالية جداً، وكان من الممكن أن نعيش اليوم أياماً وتجارب قاسية على كل المستويات. إلا أن رحمة الله ومحبته لنا خففت بأكبر قدر من أثره المدمر. فكان تغييراً سلساً ولم يتم رصد حالات مؤلمة إلا ما ندر. أما ارتدادات هذه الزلزال فهي التي نعيشها اليوم وننزعج من حصول بعض التعديات أو التجاوزات في غير منطقة من الوطن. ولا أود أن أطلق التوصيفات جزافاً على بعض هذه الممارسات، إلا أننا نقول باختصار بأنها لا تبني الوطن الذي نحلم به. لذا يجب أن نرفضها ونستنكرها بشدة ونعمل على وأدها في مهدها.

لا يجب أن تنتهي فقط هذه التعديات، وإنما يجب على كل واحد فينا أن يتطهر ويتغير. يجب علينا أن نقوم بهذه النقلة النوعية للأمام، رافضين الاستمرار بكل ما اعتدنا القيام به من ممارسات وكل ما كنا نقوم به راضين أو مرغمين، مشاركين بذلك في فساد السلطة والمجتمع.

نعم أيها الأحبة، أمامنا اليوم فرصة ذهبية قد لا تتكرر. والفرص التي تعطى للشعوب ليست بكثيرة. أمامنا فرصة حتى نثبت لأنفسنا قبل الآخرين، بأننا شعب يحب الحياة، وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة. باننا شعب مؤمن، وإيماننا يقودنا إلى فعل الخير والفضيلة. بأننا شعب صابر وقد آن أوان افتقاده ونشله من سقطته.

ولننظر جميعنا للأطفال والشبان، أي بلد نود أن نورثهم، وأي مجتمع نحلم أن يعيشوا به. لنؤسس للأجيال القادمة قاعدة وطنية إيمانية إنسانية، بعيداً عن الاختلافات التي لم ولن تزول، ولكننا نستطيع فعل شيء واحد، ألا تكون هذه الاختلافات سبباً أساسياً لخلافات ونزاعات بين أبناء هذا الوطن.

بلدنا فيه من الفقر والبطالة والجوع والجهل والفساد الشيء الكثير، أكثر مما تتحمله أية دولة في العالم مهما عظمت، وهو موروث قديم جديد، لن نستطيع ولا يجب أن نقبل بالاستمرار فيه. ولذلك نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لفترة من الأمن والسلام والاستقرار، حتى نعالج كل هذه المشاكل وغيرها ونصل إلى واقع أفضل لبلداتنا ومدننا وبشكل عام لوطننا. إنها بحق مسئولية الجميع.

كما أنها مسئولية الجميع الوصول إلى المصالحة الحقيقية بين مكونات هذا الشعب. فما فعله النظام السابق لم يفعله باسم طائفة معينة ولم يحل ظلمه وقمعه على طائفة دون الأخرى. فكلنا عانينا الأمرين وكلنا ضحايا للعهد البائد. ولكننا اليوم ولكي نبني وطننا، لا بد من المصالحة والمسامحة المتبادلة. لا الانتقام أو العدالة الانتقائية. هذا ما علمنا إياه يسوع بقوله لنا:
"يا ابت اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يعملون" 
"لا تقاوموا الشر بالشر" 
"يا رب كم مرة يخطأ إليّ أخي وأغفر له؟ أسبع مرات؟ لا أقول لك سبع مرات بل سبعين مرة سبع مرات" 
"من منكم بلا خطيئة فليكن أوّل من يرميها بحجر" 
"ولكن إن جاع عدوك فأطعمه، وإذا عطش فاسقه، لأنك في عملك هذا تركم على هامته جمرًا متقدًا"

آيات كثيرة تتكلم عن المسامحة والمصالحة، هذا لأنها الطريق الوحيدة التي تقود إلى بناء المجتمعات التي عانت ما عانيناه. وفيها فرصة قوية لكي تقود المخطئ إلى التوبة الحقة. فيرجع عن أعماله الظالمة ويقوم بالتكفير عن أفعاله المشينة بتعويض ضحاياه عما افتعله بهم. لذلك نحن المسيحيون لا نتشفى بالظالمين ولا نطلب الانتقام منهم. بل نصلي من اجلهم حتى يُسكن الرب روحه في عقولهم وأفكارهم فتتقدس أفعالهم ونواياهم.  

هذا وقت الصلاة والتضرع أيها الأحبة. في السابق صلينا كثيراً من أجل حاجات متنوعة. أما اليوم فالصلاة هي من أجل أن يُنقّذ هذا البلد من أيدي أعدائه وأعوانهم. من أجل أن يهيأ الرب الإله لسورية حكاماً صالحين ويخافون الله. من أجل كل من ضحى ويضحي لخير هذا البلد واستقلاله وسيادته على أراضيه. من أجل أن يستطيع الواحد منا أن يقبل الآخر كما هو ويضع الواحد منا يده بيد الآخر لبناء هذا الوطن، الذي يتسع للجميع ويحتاج لجهود الجميع "ولنا هذه الثقة أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا".

أيها الأحبة: نحن ككنيسة سريانية أرثوذكسية نفتخر بأننا من أصل هذه الأرض المباركة. كنا وما زلنا وسنبقى فيها. لغتنا قوميتنا حضارتنا عبادتنا قديسونا، بل وحتى إلهنا المتجسد هم من هذه الأرض. نحن منها وهي منا. فيا سورية القلب والروح. يا معشوقة المغتربين وغرام المقيمين. ويا أرض القداسة والقديسين. لن نبخل عليكي بأي جهد حتى تستعيدي عافيتك وتعودي لتكوني منارة الشرق. برسالتك الأرضية والسماوية. رسالة المحبة والأخوة والسلام بين كل الناس.

وقلناها سابقاً ونكرر، لنا الفخر بأن مطران وراعي هذه الأبرشية هو الحبر الجليل مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، الشخصية الدينية والوطنية، الذي قدم ذاته رخيصة من أجل هذا البلد ومواطنيه. ناطقاً بالحق في زمن غابت فيه الأصوات المنادية بالعدالة والمساواة والتحرر. بخطفه حاولوا اسكات صوته، ولكن بقيت رعيته تنادي باسمه في كل المنابر راجية إطلاق سراحه وتحريره من أسره. واليوم ونحن نذكره من جديد، نصلي من أجله كما فعلنا دائماً كي يعود لنا سالماً ومعه سيادة المطران بولس يازجي والكهنة وكل المخطوفين.    

أخيراً نهلل لصاحب هذا العيد المجيد كما هللت وسبحت الملائكة قائلة: "المجد لله في الأعالى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر". وليحل أمنه وسلامه في المعمورة أجمع وليعيد إلينا راعينا الجليل مار غريغويوس يوحنا إبراهيم سالماً، وليبارك في حياة وخدمة قداسة سيدنا البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني، الرجل الجبار والحكيم، الذي أرسله الله لكنيستنا ولوطننا في هذه الظروف الصعبة، نعايده ومن خلاله نعايد كل السادة المطارنة أعضاء المجمع الأنطاكي السرياني المقدس. كما ونعايد الآباء كهنة الأبرشية وأعضاء مجالسها الملية ولجانها ومؤسساتها الخدمية والاجتماعية وشمامستها وكورالاتها وكشافاتها وعموم مؤمنيها.

شملتكم العناية الإلهية بشفاعة أمنا القديسة الطاهرة مريم وجميع قديسيه وكل عام وأنتم خير.
بريخ مولوده دموران

مقالات مشابهة

  • معرض القاهرة للكتاب.. «نظرية المعنى في النقد الأدبي » إصدار جديد بهيئة الكتاب
  • الثقافة تصدر «نظرية المعنى في النقد الأدبي » لـ مصطفى ناصف بهيئة الكتاب
  • تكرار التجربة العراقية.. دعوة لفرض حظر جوي لحماية كورد سوريا
  • النص الكامل لعظة راعي الأبرشية مار بطرس قسيس خلال قداس ليلة عيد الميلاد بحلب
  • اشهار ديوان “دمع المُقَل” للشاعرة سماح الخصاونة في رابطة الكتاب الأردنيين / إربد
  • النص الكامل لتقرير ديوان المحاسبة 2023
  • انطلاق مؤتمر الرواية والدراما البصرية بالمجلس الأعلى للثقافة غدا
  • الحياة لمن عاشها بعقل.. خمسٌ تؤدي إلى خمسٍ
  • "بسيوني": الشائعات تهدف إلى التأثير على الصورة التي تقدمها مصر في مجال حقوق الإنسان
  • طريقة قانونية لإلغاء التوكيل عند النص على عدم إلغائه إلا بوجود طرفيه