الخيارات الصعبة في قانون الإعلام الجديد!
تاريخ النشر: 9th, March 2024 GMT
د. محمد بن عوض المشيخي **
الإعلام هو النَّافذة الصادقة والمرآة العاكسة التي تُعبِّر عن هموم المواطن وطموحات المُستقبل الزاهر الذي يطمح إليه كل عُماني وعُمانية على هذه الأرض الطيبة، فعندما يغيب أو يُغيَّب دور الإعلام ورسالته السامية، تختلُ الموازين في المجتمع وتضيع حقوق الناس وينتشر الفساد ويتسلط الطغاة والمتنفذون على مقدرات الدولة.
من هنا كان الأسبوع الماضي مختلفًا عن غيره من الأسابيع التي تمر من عمرنا؛ بل كان المجتمع الإعلامي الصغير في هذا البلد العزيز يترقب بفارغ الصبر وبعد انتظار سنوات طويلة الاطلاع على المولود الجديد المتمثل في مشروع قانون الإعلام بشقيه التقليدي والرقمي، وما يحمله هذا المشروع الذي ينظم العلاقة بين الحكومة والإعلام من حيث سقف الحرية التي تمنحها السلطة التنفيذية للمجتمع، وكذلك من حيث السماح بالحصول على المعلومات من صُنّاع القرار في الوزارات المختصة بالمشاريع والخطط المُستقبلية للدولة في مجالات الاقتصاد والتعليم والتوظيف وكذلك التشريعات والقوانين المستقبلية.
مشروع القانون الجديد- الذي أُعلن عن إحالته من مجلس الوزراء إلى مجلس الشورى- بدأ رحلته الأولى التي سوف تستمر بالمرور على عدة بوابات وحراسِّها الأُمناء على هذا الوطن، فقد وجّهت لجنة الإعلام والثقافة في مجلس الشورى، دعوةً كريمة لرؤوساء تحرير الصحف ومجلس إدارة جمعية الصحفيين العمانية؛ وكذلك بعض الأكاديميين في أقسام الإعلام في الجامعات العمانية؛ وذلك للاستناس بآرائهم حول مواد القانون الجديد قبل إجازته والتصويت عليه من المجلس، وهي خطوة حكيمة ومُوفَّقة من هذا الصرح التشريعي الشامخ، الذي عهدنا منه المواقف المُشرِّفة في مجال حرية الكلمة كحقٍ مُكتسبٍ لا يُمكن تجاوزه أو حتى قبول قسمته أو المساومة عليه. وكانت مضامين مشروع القانون المكوّن من 61 مادة مُفاجأة غير متوقعة ولا تخطر على بال أحد في زمن السماوات المفتوحة وحرية التعبير التي أصبحت سمة هذا العصر، وركنًا أساسيًا من حقوق الإنسان في التعبير عمّا يدور في خاطره. هذا الحق- الرباني المكتسب من ديننا الحنيف، وكذلك النظام الأساسي للدولة الذي أفرد عدة مواد قانونية- يُشكِّل أساس حرية التعبير وحرية الإعلام، وبالتالي أي نصوص قانونية تتعارض مع القواعد الدستورية العمانية لا يمكان إجازتها أو اعتمادها كقانون بأي حالٍ من الأحوال.
لقد أجمع من اطلع على مشروع القانون من أصحاب العلاقة من الإعلاميين والذين هم طرف أساسي في هذا التشريع الذي سوف يُطبّق عليهم- إذا ما أُجيزَ- على عدم مواكبته لهذه المرحلة المُهمة من تاريخ سلطنة عُمان ونهضتها المتجددة وفق رؤية "عُمان 2040"، والتي تهدف إلى الارتقاء بالسلطنة ووضعها في مصاف الدول المتقدمة التي تحترم حرية الإعلام.
ولعل عقوبة سجن الصحفيين والإعلاميين المنصوص عليها في مشروع قانون الإعلام الجديد؛ تعد واحدة من القضايا الجدلية في العالم الذي نعيش فيه؛ وهي غير مطبقة في معظم دول العالم حتى الأنظمة الاستبدادية التي تصادر حرية تعبير مواطنيها، كما إنها سوف تجعل السلطنة في مؤخرة دول العالم في التقييم السنوي للمنظمات الدولية التي ترصد القوانين الجديدة وتبني عليها قراراتها وتقاريرها الدورية، ليس فقط في حرية التعبير وحرية الصحافة فقط؛ بل أيضًا في مجال حقوق الانسان، وكذلك القوة الناعمة المتمثلة في السيطرة الطوعية والرغبة الأكيدة دون إكراه من العالم من حولنا، وذلك بالنسبة لسلطتنتنا الحبيبة التي نُفاخر بها بين الأمم، وكذلك بقيادتها الحكيمة التي اجمع العالم على قرارارتها الرشيدة في الداخل والخارج.
كما إن الغرامات المالية التي يستحدثها مشروع القانون الجديد والتي تصل إلى 200 ألف ريال عماني- حسب ما وردنا- غير منطقية، وكأنها كُتبت لكوكب آخر، وليس لهذا البلد المتصالح مع حكومته الرشيدة وكتابه وصحفييه المُخلصين للوطن والسلطان عبر العقود بعيدًا عن أي قانون.
نحن هنا لسنا دعاة للفوضى التي تهدم ولا تبني؛ بل ننطلق من الحرية المسؤولة، والتي تنتهي بأصحابها عندما تبدأ حرية الآخرين من الشركاء في هذا الوطن المترامي الأطراف؛ فالإعلام الحُر هو الذي يعتمد في عمله على معايير الصدق والتوازن والحرية؛ بعيدًا عن التهويل واستهداف خصوصية الأشخاص وحياتهم الخاصة، التي يجب أن تُصان من منصات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
يجب تذكير الجميع بأن هناك ثوابت وطنية وخطوط حمراء، يحرص الإعلاميون والكُتّاب على الالتزام بها منذ عقود، لكون تلك الثوابت الوطنية تشكل صمام الأمان لحاضر ومستقبل الوطن والمواطن على حد سواء؛ وهي: الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف في كل ما يُنشر أو يُذاع في وسائل الإعلام، والمحافظة على الوحدة الوطنية والإيمان بالله والولاء للوطن والسلطان، واحترام وتقدير جلالة السلطان وأسرته الكريمة ومكانته الرفيعة؛ باعتباره الضامن لوحدة الأمة والرمز المُصان بين أفراد المجتمع العماني، فضلًا عن المحافظة على الأمن الوطني للبلاد من الفتن والنعرات القبلية والتحزُّب، وكذلك تجنُّب نشر معلومات مُصنفة في النطاق السري من جهات الاختصاص، وعلى وجه الخصوص تلك التي قد تضر باستقرار الوطن وأمنه القومي.
يجب التأكيد هنا على أن مشروع قانون الإعلام الجديد ليس نسخة نهائية؛ بل مُسوّدة مُقدمة من السلطة التنفيذية لإبداء الرأي، كما إن وزارة الإعلام ليست فقط هي التي صاغت نصوص القانون وحدها؛ بل هناك جهات عديدة لها دور في ذلك؛ وإن كانت الوزارة مُمثِّلة للإعلاميين لدى تلك الجهات المُكلَّفة بصياغة مسودة القانون المقترح، فإنني على ثقة بالنوايا الحسنة للمسؤولين في وزارة الإعلام، التي من المفترض أن تكون الجهة المُشرِفَة على تطبيق القانون في المستقبل، وأن غايتها الأكيدة صدور قانون يُرضي الجميع، ولا يُصادر حرية التعبير التي نُمارسها طوال السنوات الماضية، بعيدًا عن مقص الرقيب.
ولكوني مؤلف كتاب "الإعلام في الخليج العربي.. واقعه ومستقبله"، والذي يُدرَّس في معظم الجامعات الخليجية، ومُستمرٌ في تدريس الكتاب في جامعة السلطان قابوس منذ سنوات طويلة وحتى هذا الفصل الدراسي الحالي، أستطيعُ أن أزعم أن سقف الحرية في سلطنة عُمان قد تجاوز السقف الموجود في دول الخليج العربية قاطبةً، على الرغم من وجود قوانين للإعلام لا تُجيز سجن الصحفيين في معظم تلك الدول.
وفي الختام.. يجب تذكير الجميع أن مرجع هذا القانون ومحطته الأخيرة للاعتماد والموافقة النهائية عليه؛ هو حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- ونحن على ثقةٍ مُطلقةٍ بأن ما يختاره سلطان الفكر للمجتمع العماني، سيكون الأفضل والانسب لإعلامنا الوطني، وعلى الجميع أن يُحسن الظن في القيادة الحكيمة لهذا البلد، كما إننا نُثمِّن مواقف جلالته المُشرِّفَة في مجال حرية التعبير؛ فهو الذي أكد غير مرة، إيمانه المطلق بأهمية الحرية المسؤولة؛ كمبدأ أساسي لا يُمكن التراجع عنه.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
المحكمة الدستورية أنقذت قانون الإضراب فلننتظر ماذا ستفعل الأمانة العامة للحكومة
بقلم : عبدالرحيم المنار اسليمي / أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.
واضح جدا، من خلال قراءة الطريقة والمضمون الذي تعاملت به المحكمة الدستورية مع القانون التنظيمي بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب ،أن قضاة المحكمة الدستورية بدلوا جهدا كبيرا لتبييض مشروع القانون التنظيمي وإنقاذه من عيب عدم الدستورية ،ويبدو من خلال مضمون قرار المحكمة الدستورية أن قضاة المحكمة كانوا أمام خيارين: إما استعمال مناهج التأويل التحفظي التي قد تكشف عن عيوب عدم الدستورية في بعض مقتضيات مشروع القانون التنظيمي، وإما خيار أن يقوم القاضي الدستوري بدور المفسر والشارح لمشروع القانون التنظيمي والقيام بدور التبييض القانوني لمشروع القانون التنظيمي لإنقاذه من عيب عدم الدستورية .
هذا الخيار الثاني، المتمثل في تبييض مشروع القانون التنظيمي وإنقاذه ذهبت فيه المحكمة الدستورية لعوامل متعددة منها الأهمية الإستراتيجية لهذا القانون التنظيمي، وطول انتظاره لمدة 63 سنة منذ دستور 1962 وهاجس الحفاظ على سمو الدستور الكتلة الدستورية المغربية بعيدا عن فتحها أمام الإتفاقيات الدولية ،لذلك اختار قضاة المحكمة الدستورية مقاربة المنهجية الأقل تكلفة المعتمدة على تفسير مضامين هذا القانون التنظيمي ،حيث تحول القاضي الدستوري في قراره الى شارح ومفسر لمضامين مشروع القانون الحاملة لاختيارات المشرع ،وأحيانا يبدو القرار وكأنه مرافعة حول مشروع القانون التنظيمي لحق الإضراب ،وذلك لانقاذه من عيب عدم الدستورية ،لذلك لم يقل القاضي الدستوري في قراره أن مواد مشروع القانون التنظيمي مطابقة للدستور وإنما صرح أنها غير مخالفة للدستور ،وبذلك فقضاة المحكمة الدستورية قدموا لنا في القرار تفسير لما يريده المشرع ،فقد اعطوا معنى لما جاء به المشرع.
ويلاحظ بناء على هذه المنهجية المعتمدة في قرار المحكمة الدستورية ،أن القاضي الدستوري ابتعد عن مناهج التاويل التحفظي بكل أنواعها، وذلك لكي لايلزم المشرع بإعادة صياغة النص وعرضه مجددا على المجلسين وماقد ينتج عن ذلك من صراعات سياسية جديدة ،فقد كان من الممكن للقاضي الدستوري أن يعمد إلى التأويل التحفظي التوجيهي المدعم، ولكنه اختار أسلوب تفسير ما جاء به المشرع ،ورغم أن القاضي الدستوري صرح بأن بعض مقتضيات المادة الأولى المسماة بأحكام عامة لاعلاقة لها بالقانون التنظيمي، فإنه لم يطلب حذفها ،ولم يطلب تحويلها الى ديباجة للقانون التنظيمي .
هذا التوجه المنهجي الذي اختارته المحكمة الدستورية له تفسير مرتبط بوظيفتها في الضبط وإدارة التوازنات والتفكير بالمصلحة العليا ،لكن السؤال الان مرتبط بالملاحظات التي قدمتها المحكمة في قرارها واشترطت ضمنيا الأخذ بها لما أوردت عبارة -مع مراعاة الملاحظات – هل سيقوم المشرع بتدوين هذه الملاحظات في ملحق مشروع القانون التنظيمي قبل نشره ؟ وهنا سيكون دور الأمانة العامة في مراقبة نص مشروع القانون التنظيمي التي سيصلها للنشر ،فالأمانة العامة للحكومة ملزمة بمراقبة هل ملاحظات المحكمة الدستورية على ثلاث مواد من مشروع القانون التنظيمي موجودة في النص أم لا ،وبلغة دستورية، لايمكن للأمانة العامة نشر مشروع القانون التنظيمي لممارسة حق الإضراب دون وجود ملاحظات المحكمة الدستورية في ملحق مع مشروع القانون التنظيمي .فوجود ملاحظات المحكمة الدستورية شرط جوهري لنشره في الجريدة الرسمية ،فلننتظر كيف سيتم نشر مشروع القانون التنظيمي لممارسة حق الإضراب .