أما آن لك أن ترجع إلى الله
تاريخ النشر: 9th, March 2024 GMT
حمد الحضرمي **
جميع بني آدم بلا استثناء غير معصومين من الخطأ، إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقعنا في أخطاء فأصبحنا مطالبين بالتوبة وطلب المغفرة من الله عز وجل، والله يعرض علينا التوبة ليل نهار ونحن نعرض عن ذلك، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل"، ورغم أن باب التوبة مفتوح إلّا أن بعضنا يستمر في ارتكاب الأخطاء ويعرض عن التوبة، معتقدًا بأن الوقت لم يحن للتوبة، ويغره شبابه وصحته وقوته، وتحدثه نفسه بأن العمر ما زال طويل، وعليه أن يستمتع بالحياة كيف ما يشاء، وبعضهم يقول بأن معاصيه كثيرة ومنذ زمن طويل فلن تقبل توبته.
والإنسان لا يعلم متى يحين أجله ورحيله عن هذه الدنيا الفانية، فعليه الإسراع في التوبة وعدم تأجيلها، يقول الله تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين" (آل عمران: 133). كما إن الله تعالى رحمته وسعة كل شيء ولا يطرد أي إنسان يلجأ إليه تائبًا من معاصيه ولو كانت كثيرة وعظيمة، يقول تعالى "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم" (الزمر: 53) وقد جاء في الحديث القدسي "يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك"، وهنا يتبين لنا جميعًأ بأن الله جل وعلا دائمًا يجعل باب الأمل مفتوح أمام المؤمن ليتوب بلا تردد، فيجد الله قد قبل توبته وأدخله برحمته الواسعة جنته.
وحتى تكون التوبة مقبولة يجب أن تكون خالصة لله سبحانه، وأن يرافقها ندم وأسف على ما مضى من خطأ، وأن يقلع عن المعصية ويتركها في الحال، وإن كان عليه حق لإنسان سارع في رده إليه وطلب العفو منه، وأن يعزم التائب على عدم العودة إلى المعصية، ويفتح صفحة جديدة مع الله، ويشغل نفسه بذكر الله وتلاوة القرآن، ويرافق الصالحين والأخيار ويترك رفاق السوء، ويطهر قلبه من العداوة والبغضاء والكراهية والحقد والحسد، وأن لا يمد يده إلى الحرام، وأن لا يأكل إلا الحلال، وإن فعل التائب ذلك فقد استحق أن يكون حبيب الله، قال تعالى "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" (البقرة: 222).
وحتى تزيل آثار المعصية وما تسببه من ضيق وهم عليك بالاستغفار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن المؤمن إذا أذنب كانت نُكْتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه..." وقد كان علي رضى الله عنه يقول: العجب ممن يقنط ومعه النجاة، فقيل وما هي النجاة، قال كثرة الاستغفار، وأفضل الاستغفار ما كان عند الأسحار، قال الله تعالى "وبالأسحار هم يستغفرون" (الذاريات: 18) وعندما يتوب الإنسان توبة صادقة ويستغفر الله يصبح إنسانًا طاهرًا ويتغير حاله إلى أحسن الأحوال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب"؛ فبالتوبة والاستغفار ينشرح الصدر ويرتاح البال وتنزل السكينة على النفس ويطمئن القلب، ويصبح العقل والجسم سليمان، ويدفع الله عنه الفتن والمحن، ويرزقه الرزق الحلال الطيب في كل شؤون حياته.
فلا تيأس مهما بلغت أوزارك ولا تقنط مهما بلغت خطاياك، فما جعل الله التوبة إلا للخطاة وما أرسل الأنبياء إلا للضالين وما جعل المغفرة إلا للمذنبين وما سمى نفسه الغفار التواب العفو الكريم إلا من أجل أنك تخطئ ليغفر لك. يقول أبو نواس:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة // فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن // فمن الذي يدعو ويرجو المجرم
وشهر رمضان على الأبواب وهي فرصة ثمينة أن يبادر المسلم إلى التوبة لله عز وجل وإصلاح العلاقة مع ربه، واستثمار أيام وليالي الشهر في الأعمال الصالحة والعبادات الخاصة لله تعالى وكثرة الاستغفار مع التوبة ليعم الخير حياته، كما رغب سيدنا نوح عليه السلام قومه بالاستغفار حتى تتنزل عليهم الخيرات، قال تعالى "فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا * يرسل السماء عليكم مدرارًا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا" (نوح: 10- 12).
فما أجمل أن يسارع المسلم إلى التوبة ويحافظ عليها، فالله سبحانه يفرح بتوبة عبده إليه، لأن التائب من ذنوبه يكون قريبًا من الله، يتمتع بقلب نقي لا يعكره ذنب، ويبتغي ما عند الله من الثواب، فتوبوا إلى الله قبل الموت والرحيل، وابتعدوا عن كل المعاصي والذنوب والأخطاء، وافتحوا لحياتكم صفحة جديدة من بداية شهر رمضان المبارك، تكون كلها أعمال صالحة تقربكم إلى الله وتكون العلاقة قوية مع ربكم والوالدين والأولاد والإخوة والأقارب والجيران والأصدقاء، وتسامحوا ونظفوا وطهروا قلوبكم من كل الأحقاد والضغائن والبغضاء، واقبلوا على الله بقلوب نقية ونفوس صافية لتنالوا محبته ورضوانه.
وعليكم بدعاء سيد الاستغفار "اللهم أنت ربي، لا إله إلا الله، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". وعلينا جمعًا المبادرة بالتوبة إلى الله، قال تعالى "وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون" (النور: 31). وعلينا المداومة على الاستغفار لأنه العلاج الناجح من الذنوب والخطايا، والله يرضى عن التائب المستغفر الصادق لأنه يعترف بذنبه ويستقبل ربه تائبًا إليه راجيًا سعة حلمه وكريم عفوه وعظيم جوده ورحمته التي وسعت كل شيء، اللهم بلغنا رمضان بقلوب صالحة تقية نقية مخلصة محبة تائبة لك، ساعية لرضاك، طالبة جنتك، راغبة طاعتك، عازفة عن المعاصي، اللهم اجعلنا من التوّابين المتطهرين وأدخلنا في رحمتك يا رب العالمين.
** محامٍ ومستشار قانوني
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
خطيب المسجد الحرام: أحبُّ الخلق إلى الله من يشكره على النعم
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام، الشيخ الدكتور ياسر بن راشد الدوسري، المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال إمام وخطيب المسجد الحرام، في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام "إِنَّ مِنْ أعظم العبادات وأرجَاهَا، وأجلها وأسماهَا، عِبَادَةَ الشُّكْرِ، فَكم أسبغ الله علينا من نعمة، ومنّ علينا مِنْ مِنَّةٍ، وكشف عنَّا مِنْ كُرَبَةٍ، وَفَرَّجَ عَنَّا مِنْ نِعْمَةٍ، ولو كَشَفَ الله لنا الغطاء عن ألطافه وصنعه بنا لذابت قلوبنا محبة وشكرًا له وشوقًا إليه، فنعمه تترى علينا في كل حين، نتقلب فيها ممسين ومصبحين، {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}، .
وأكد الدوسري، أن أحبُّ خَلْقِ اللهِ إلى الله من اتصف بصفة الشكر وداوم عليها، كما أن أبغض خَلْقِهِ إِليه مَنْ عَطَّلَهَا واتصف بضدها، وقدْ بَلَغَ مِنْ عِظَم منزلة الشكر أنَّ اللهَ تعالى سَمَّى نَفْسَهُ شَاكِرًا وَشَكُورًا، وَسَمَّى به الشَّاكِرِينَ، فَأَعْطَاهُمْ مِنْ وَصْفِهِ، وَسَمَّاهُمْ بِاسْمِهِ، وَحَسْبُكَ بِهَذَا مَحَبَّةٌ لِلشَّاكِرِينَ وَفَضْلًا، فالشكر ثوابه عظيم، وأجره عميم، قال العزيز العليم: { وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ } ، ولم يذكر الله في الآية جزاء الشكر ليدل ذلك على كثرته وعظمته.
وأشار إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أن الشكر أمان من العقوبات، ونجاة من المكروهات قالَ اللهُ عَزَّ وجلَّ : {مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}، فَمَنْ ضَيَّعَ شُكر النعم حلَّتْ بِهِ النقم، ومن لم يُحاسب نفسه قبل يوم القيامة حل به الندم.
وذكر الدكتور الدوسري أن نصوص الوحيين دلت على أن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فيظهر الشكر في القلب إقرارًا بالنعم وإيمانًا، ونسبتها لواهبها تفضلًا منه وإحسانًا، قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي } ، وقال: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ» ، كما ظهر الشكر في اللسان حمدًا وثناء وتحدثًا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدَّثْ، ويظهر الشكر في الجوارح عبادة وطاعة واستعمالًا، فصرف النعم فيما يُرضي الله هو حقيقة الشكر وبرهانه، ويكون الشكر بتسخير النعم في تحقيق الفضائل، فكذلك يكون في التوفي والحذر من أن تكون النعم مطية للمعاصي والرذائل، فالمعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النارُ الحَطَبَ، وبذلك يعلم أنَّ الشكر الله هو الاعتراف بنعم الله، والتحدث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعم دون معصيته، ولا بد أن يقترن هذا بالخضوع للمنعم ومحبته، فبهذه الأركان يكون الشكر تامًا.
وأضاف أن العبد مهما أطاع ربه وشكره، وتقرب إليه بأنواع القربات والطاعات، فلن يقوم بالشكر على الكمال والتمام؛ لأن شكره الله هو محض توفيق من الله، وكلما كان العبد أكثر شكرًا لربه فالله أكثر، وسيجزي الله الشاكرين، فاشكروا ربكم على ما حياكم من النعم، وأولاكم من المنن، ودفع عنكم من النقم، وخصكم بجميل العطايا والكرم، وإن أعظم الشكر هو الإيمان بالله تعالى، والمبادرة إلى عبادته وأداء فرائضه وواجباته، والبعد عن محرماته، قال تعالى: { بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، كما أن أعظم كفران النعم هو الكفر بالله، وترك فرائضه وواجباته، وفعل المعاصي.
وقال إمام وخطيب المسجد الحرام "إن النعم نوعان: مستمرة ومتجددة: فالنعم المستمرة شكرها يكون بالعبادات والطاعات، والنعم المتجددة شرع لها سجود الشكر، شكرًا الله عليها، وخضوعًا له وذلًا واعترافًا بفضله وإحسانه، وإِنَّ مِنَ النعم المتجددة ما يعيده الله تعالى على الأمة من مواسم الخيرات في الشهور والأيام، وها قد أظلكم شهر يغفل عنها كثير من الأنام، وهو شهر شعبان الذي ترفع فيه الأعمال، ومما ينبغي على المسلم في شهر شعبان المبادرة إلى قضاء ما فاته من شهر رمضان، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ.
وبين أنَّ مِنَ النعم الكبرى، والمِنَن العظمى التي تستوجب منا الشكر والامتنان، ما أكرم الله به بلادنا من نعمة الإيمان والأمن والأمان، وما نعيشه في ربوعها مِنْ رَغدِ عيش وسعادة واطمئنان، في ظل قيادتنا الرشيدة، فنسأل الله تعالى أن يجزي ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، خير الجزاء وأعظمه وأوفاه، على ما تحققه بلادنا الغالية المملكة العربية السعودية من نجاحات باهرة، وإنجازات ظاهرة، في جميع الميادين المحلية والإقليمية، والأصعدة الدولية والعالمية، فنسأل الله جل وعلا أن يحفظ على هذه البلاد عقيدتها وإيمانها وولاة أمرها، وأمنها ورخاءها واستقرارها، وأن يجعلها شامخة عزيزة إلى يوم الدين.