الجغرافيا تصنع الفارق.. مناهضة التطبيع وسيناريو ألمانيا الغربية في سوريا
تاريخ النشر: 9th, March 2024 GMT
تَوافق مجلس النواب الأمريكي بأغلبية أعضائه من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على مشروع قانون "مناهضة التطبيع مع نظام بشار الأسد"، بعد قانون قيصر، وقانون الكبتاغون، ليكشف نظام الأسد فوق ما هو عليه من بشاعة وإجرام، بأنه داء سرطاني، وأصبح يهدد الاستقرار والأمن العالمي، فالقانون لا يُدين انتهاكات الأسد وعصاباته وحُلفائه بحق السوريين، وإنما يُبين أبعاد خطرهم وإرهابهم، وهذا القانون هو بمثابة تحذير لكل جهة أو حكومة قريبة من النظام السوري، أو تحاول أن تطبع علاقاتها معه بأي شكل من الأشكال.
لم تفلح المقاربات والطروحات الروسية والتركية والإيرانية من جهة، أو المبادرات العربية من جهة ثانية في وضع حد لمأساة الشعب السوري، وهذا سببه طبيعة الخلاف البيني بين النظام والشعب، فطبيعة خلافات الأسد مع الشعب السوري ليست شكلية أو إجرائية لتحسين الظروف المعيشية والخدمية، ووقف التجاوزات الأمنية فقط، بل هي قضية الملايين من السوريين، الذين تعرضوا لكل أشكال القمع والوحشية، والتهجير، باتوا يعيشون في مخيمات اللجوء، وفي دول الجوار، وفي الشتات العالمي؛ قدوا مئات آلاف الشهداء، وتهدمت بيوتهم، وهاجر سكان مدن وقرى وبلدات بأكلمها قسراً، ودَمر النظام ما يزيد عن 60 % من البنى التحتية، وهناك الآلاف من المفقودين والمعتقلين في سجونه؛ يعانون العذاب والقهر يومياً، بالإضافة إلى الشرخ الاجتماعي والجغرافي، والانهيار الاقتصادي الشامل.
وأمام حالة الاستعصاء السياسي والأمني والاقتصادي، ظهرت مجموعة من الطروحات، ولا ننسى أن الجهد الاستثنائي الذي بذله "التحالف الأمريكي لأجل سورية"، وأبناء الجالية السورية في الولايات المتحدة الأمريكية، في استصدار تشريعات وقوانين أمريكية تضع الأسد في خانة مجرم الحرب على الأقل في نظر اللاعبين الغربيين الذين يمتلكون الكثير من أوراق الضغط والتأثير في النظام وداعميه، كما دأب عدد من الخبراء، ومن بينهم الخبير الاقتصادي السوري الدكتور أسامة القاضي في طرح مشروعات استشرافية لمستقبل سورية الموحدة والحرة، وهو الذي كان له دور في وضع الدراسة الاستشرافية مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP عام 2007م، بعنوان: "استشراف مستقبل سورية عام 2025م"، وانبثقت فكرته من طبيعة الجغرافيا السورية، ومن حالة الاستعصاء التاريخي أمام إخفاق لقاءات جنيف وأستانا وسوتشي وإستانبول، وفشل اللقاءات الأردنية - العربية مع نظام الأسد في الآونة الأخيرة.
طرح الدكتور أسامة القاضي مشروع توحيد سورية بما يحاكي نموذج ألمانيا الغريية بنهكة الاقتصاد السياسي، والذي يندرج ضمنه إعادة إعمار سورية، وهذا المشروع يمهد للحرية والسلم الأهلي. فما هو هذا المشروع؟
استند القاضي في طرحه على ميثاق الأمم المتحدة في المادة (1)، ومقاصد المنظمة الدولية للحفاظ على السلم الداخلي الذي تسبب بهدره نظام الأسد وحلفاؤه، ومن أجل وقف نزيف الدم السوري، واستعادة أكثر من عشرة ملايين نازح قسري، وللحفاظ على السلام مع الإقليم والعالم بعدما نجم عن سياسة نظام الأسد في تصنيع وتهريب الكبتاغون والمخدرات والسموم والأسلحة إلى الأشقاء العرب ودول المنطقة، ما أدى إلى وضع سورية تحت العقوبات الاقتصادية، وأحالها مركزاً لتصدير العنف يستعدي العالم كله، وعليه جرى طرح هذا المشروع لأول مرة في عام 2022 من جانب "منظمة غلوبال جستس" و"التحالف العربي الديموقراطي" في ظل "المبادرة السورية الأميركية"، وعبر مبادرتي "سيناريو ألمانيا الغربية" و "الأرض الحرام"، وسُلّمتا رسمياً للدول الفاعلة، والجهات المعنية بالقضية السورية، وتفاعلت معها قوى اجتماعية وسياسية وعسكرية نخبوية وشعبية مختلفة.
انغماس الروس والإيرانيين في الدم السوري، وعجز الأمم المتحدة عن تطبيق 13 قراراً أممياً بخصوص الملف السوري، فضلاً عن إخفاقها في حماية اللاجئين السوريين في لبنان من الإهانة والترحيل، وحرمانهم من العمل والتعليم، ومخالفة القرارات الأممية 2118 لعام 2013، و2139 لعام 2014 ، و2165 لعام 2014، و2191 لعام 2014 ، و2254 لعام 2015، و2258 لعام 2015 وغيرها، وتفريغ القرار 2254 من محتواه، بحيث اختصرت العملية السياسية على أيدي الروس بـ "إصلاحات قانونية شكلية" تُعرض على مجلس الشعب في نظام الأسد، وحكومة وحدة وطنية بوجود نظام الأسد، وتقديم روسيا وإيران عبر مسار أستانا على أنهما الضامنان للحل السياسي لتكريس وجودهما على الأرض السورية، وهذا ما يعني إلزام عشرات الأجيال السورية القادمة بعقود بيع الأصول السيادية السورية التي وقعها نظام الأسد، وستكون كارثة اقتصادية وأمنية على الشعب السوري.
"الاستثناء السوري" كما أطلقت عليه الكاتبة الفرنسية كارولين دوناتي في كتابها الذي طبعته دار لاديكوفيرت الفرنسية، والذي صدر عام 2009م، وتمحور حول الممانعة عن مشروع الحداثة بقيادة نظام الأسد، وهذا الاستثناء لم يتغير طالما أن الأسد يتربع على عرش آلام السوريين، ويُذيقهم من كأس الإذلال والقهر على أيدي مخابراته وشبيحته وحُلفائهشكل مشروع توحيد ألمانيا الغربية تحولاً تاريخياً سياسياً واقتصادياً وأمنياً هائلاً على مستوى ألمانيا وأوروبا والعالم، والذي اِبتدأ بتوحيد مناطق الحماية البريطانية والأمريكية في ألمانيا بما عُرف بـ "ألمانيا الغربية"، وانتهى بتوحيد شطري ألمانيا؛ إذ كانت هذه العملية تهدف إلى دمج جمهوريتي ألمانيا الفيدراليتين الغربية (البوندسريبوبليك) والجمهورية الديمقراطية الألمانية (شرق ألمانيا) لتشكيل دولة ألمانيا الموحدة، وقد وقعت الدولتان اتفاقيات توحيد في مايو 1990م، تم بموجبها إجراء انتخابات في ألمانيا الشرقية، وفي يوليو 1990م، وُحدت العملة الألمانية، وطُبق الدينار الألماني الغربي في الشرق، وأُجريت إصلاحات اقتصادية لتكامل النظامين. وفي 3 أكتوبر 1990م، دخل توحيد ألمانيا حيز التنفيذ. وقد جاءت هذه العملية بتحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، ولكنها نجحت في تحقيق الوحدة والتكامل في السنوات التي تلت سقوط الجدار البرليني، فكان مشروع الدكتور القاضي "نموذج ألمانيا الغربية"، بمثابة مقاربة منطقية لإنهاء الأزمة في سورية بشكل تدريجي ومدروس.
ويقضي المشروع بتوحيد مناطق النفوذ التركية (10.98%)، والنفوذ الأمريكية (25.64%) في شمال وشرق وجنوب سورية، لتشكل بهذه العملية حزاماً جغرافياً، يمتد من جبل التركمان في شمال غرب سورية حتى جبل العرب في جنوب غرب سورية، وتكون مناطق سيطرة نظام الأسد التي تحكمها القوات الروسية والحرس الثوري الإيراني والميليشيات التابعة لإيران والأسد في الوسط السوري، محاطة بهذا الطوق الأمني والسكاني والاقتصادي الكبير، والذي يدعمه وجود نحو 3,6 مليون لاجئ سوري في تركيا، وأكثر من مليون لاجئ في الأردن ومثلهم في لبنان، وأكثر من 6,7 مليون نازح داخلياً معظمهم يقيمون في منطقة النفوذ التركي، ويعزز هذا الزخم السكاني الأهمية البالغة للحدود بين سورية وتركيا التي يبلغ طولها نحو 911 ميلاً (1466كم)، وتعتبر بوابة السوريين إلى الأسواق التركية والآسيوية والأوروبية.
إن طرح مشروع اقتصادي وسياسي وأمني، يشمل مناطق نفوذ الأتراك والولايات المتحدة الأمريكية، هو ما يحقق مصالح الفاعلين الإقليميين في تطويق الأسد وعصاباته وحلفائه، والحيلولة دون تصدير مزيد من أطنان الكبتاغون إلى الأردن، والبحر الأبيض المتوسط والعراق وتركيا، ويقوض من علاقاته العربية والدولية، وهو ما يضمن التقليل من حجم الكارثة السورية، وشرورها العالمية، ويؤدي إلى ضمان عودة الشعب السوري لمناطقه الآمنة. وهنا سيكون لزاماً على المقيمين في مناطق سيطرة الأسد الهجرة العكسية أو التذمر ضد الأوضاع القائمة في مناطق في ظل التدهور الاقتصادي، والتسلط الأمني، وتزايد حالات الخطف، والجوع والإذلال التي باتت السمة الغالبة، والقاسم المشترك في مناطق النظام السوري.
ولا بد بهذه الحالة من البدء بعملية تقويض الحضور الفصائلي في مناطق النفوذ التركية والأمريكية بدعم دولي وعربي، وبالتالي، تشكيل حكومة تكنوقراط سورية مؤقتة، تُنظم عملية انتخابات لمجلس نيابي خاص بمناطق الحماية. وإجراء انتخابات حرة ومستقلة لبناء مجالس المدن والمحافظات، وفقاً لقانون الإدارة المحلية السوري رقم 15 الصادر بتاريخ 11/5/1971م، الذي عطَّله نظام حافظ الأسد (الأب)، وتُنظم الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، وممثلين عن الدول العربية، وعبر لجنة وطنية سورية، تدير الانتخابات ضمن ظروف آمنة وحرة، هو ما سيجعل "مشروع ألمانيا الغربية" البداية الفعلية لحل الأزمة من جذورها.
"الاستثناء السوري" كما أطلقت عليه الكاتبة الفرنسية كارولين دوناتي في كتابها الذي طبعته دار لاديكوفيرت الفرنسية، والذي صدر عام 2009م، وتمحور حول الممانعة عن مشروع الحداثة بقيادة نظام الأسد، وهذا الاستثناء لم يتغير طالما أن الأسد يتربع على عرش آلام السوريين، ويُذيقهم من كأس الإذلال والقهر على أيدي مخابراته وشبيحته وحُلفائه، وطالما أن الجغرافيا السورية مسلوبة بهذا الشكل الصارخ لكل القوى المتصارعة محلية وإقليمية ودولية، فالطرح الذي جاء به الدكتور القاضي من بوابة الاقتصاد السياسي يحقق الانتقال الإستراتيجي نحو المستقبل الأفضل، وهو ما سيحقق تدريجياً دولة متوازنة، يتماهى فيها السوريون على اختلاف اثنياتهم وثقافاتهم ومناطقهم، فلا أحد يفضل الموت جوعاً أو الركوع للطغاة كبديل عن التنمية والازدهار والإعمار، وبناء دولة السلام والاستقرار.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العقوبات سوريا امريكا عقوبات رأي مقالات مقالات مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ألمانیا الغربیة الأمم المتحدة الشعب السوری نظام الأسد الأسد فی فی مناطق
إقرأ أيضاً:
الأدب السوري مترجمًا.. كيف شوّهت سياسات الهوية السردية السورية
اقترب منّي مدفوعا على الأرجح بمكان ميلادي المسجل على البيوغرافيا المطبوعة على أغلفة كتبي بالإيطالية: "دمشق".. وبعد التأكد من انفضاض جميع القراء من حولنا وانتهاء جلسة التوقيع، عرّفني بنفسه وطرح علي سؤاله المباشر دون الكثير من المقدمات: هل صحيح ما يقال عن (النظام) في سوريا؟
حصل ذلك قبل حوالي 6 سنوات خلال حفل الوحدة "Festà dell’Unità" في تورينو، وهي واحدة من أهم التظاهرات الثقافية في إيطاليا، وقد كنتُ مدعوة لندوة مخصصة عن أدب الثريلر رفقة عدد من الكتاب والفنانين الإيطاليين. والحقيقة أن هذه نوعية من الدعوات لا توجه عادة للكتاب العرب في الغرب والذين يشاركون عامة في الحوار العام ضمن اختصاص الحرب والإرهاب، والنسوية مقابل الذكورية (فرع الكاتبات)، أو المثلية والكويرية (فرع النضال الحقوقي). إلا أنني كنت من جهتي واضحة مع دور نشري الإيطالية بكوني غير مستعدة لحضور أي لقاء عام لا يكون محوره فنيا صرفا بعيدا عن كل هذه "الأفرع".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"من النهر إلى البحر" لسامر أبو هواش: رحلة في قلب الألم الفلسطيني والذاكرة الشعريةlist 2 of 2معزوفة اليوم السابع.. جديد الروائي الأردني جلال برجسend of listوالأمر يعود لكوني "ابنة البلد"، وأعلم أن القارئ الإيطالي يدرك تمام الإدراك أنه ما من كاتب في الغرب يُمنح منصة للحديث في السياسة والأيديولوجيا دون أن يكون وراءه "سيد" يمول خرجاته يطلقون عليه باللفظ الإيطالي اسم: Padrone (بادروني). ومن هنا أتى شعار شهير لصحيفة إيطالية كبرى هي "إل فاتو كوتيديانو": صحافة بلا "بادروني". ومفردة "بادروني" بالمناسبة من نفس عائلة Padrino بادرينو(العرّاب)!
إعلانواعتقادي أنه لا يجري على الأغلب إطلاع الكاتب العربي لدى حضور ندوات أوروبية بدعوة من مترجميه عن هوية "البادروني" الذي يقف وراء تمويل رحلته، ويتم الاكتفاء بإخباره عادة عن جمعيات مدنية تنظم الحدث الثقافي الذي يحضُره، لتقديم انطباع يوحي بأننا أمام مهرجان شعبي ممول "من الأسفل" بالتعبير الإيطالي (أي من الجماهير وليس "من فوق" أي من طرف السّاسة).
ولكن بالتأكيد ما من عاقل من شأنه أن يصدق أن أي جمعية أهلية في العالم تعيش على تبرعات الأفراد، بل إن أحدث الإحصائيات الإيطالية تتحدث عن "انحسار كبير ومطرّد للتبرع للجمعيات الأهلية" والسبب "تراجع الثقة في منظمات القطاع الثالث" كما ورد في تقرير لصحيفة" تورينو كروناكا" نُشر بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث أكد رئيس "المعهد الإيطالي للتبرع" أن واحدا من بين كل إيطاليَين "لا يثق في هذه المؤسسات"، لذا فهو لا يتبرع لها أساسا حتى إن اقتُطع المبلغ من ضرائبه، مما يجعل تمويل المنظمات المدنية يكاد يأتي بالكامل من جهات مؤسساتية تصب في برامج ثقافية تضمَن الترويج لسردياتها وتوجهها الأيديولوجي.
على الأغلب لا يجري إطلاع الكاتب العربي لدى حضور ندوات أوروبية بدعوة من مترجميه على هوية "البادروني" الذي يقف وراء تمويل رحلته (شترستوك)وعملية تمويه خطوط تمويل المهرجانات الثقافية في أوروبا (والتي يسهل تتبعها ولا تخفى على المواطن الغربي) غالبا ما تنطلي على الكاتب العربي غير المعتاد على هذه الديناميكية السلطوية المركّبة في تحريك العمل الثقافي، وهو من يجلس عادة في الندوات العربية وصورة الزعيم معلقة مباشرة فوق رأسه (ليفهم القاصي والداني دون كبير عناء هوية عرّاب الجلسة)، بينما في أوروبا يجد الكاتب العربي نفسه يُلقي بعضا من ندواته في بارات رخيصة تفوح منها رائحة العطن، للإيغال في إيهامه بقربه من الجماهير الشعبية، على الرغم من أنه يدرك يقينا أنّ مسوغ نقله للسوق الأوروبية يعود لأسباب سياسية أيديولوجية، ولكنه يجلس مع ذلك قبالة جمهور فضولي ينظر إليه بشفقة صادقة، وهو يتكلم عن الحروب الأهلية والذكورية والكويرية.
إعلان سماسرة الأدب العربي في أوروباوعادة ما يكون الجمهور الأوروبي ممتنا فعلا لرؤية مخلوق أسمر لطيف يرتدي ثياب البشر أتاهم من وراء البحار للحديث بلغة عصرية، تماما كمن يشاهد عرضا لطيفا في السيرك، يحصل بعده السّائس/المترجم على مكافأته المادية مباشرة من المنظمين ضمن المهرجانات الكبرى، أما في إطلالات "البارات" والمكتبات الصغيرة فغالبا ما تكون المكافأة غير مباشرة، أي أنها تأتي من الجامعة التي ينتمي إليها المترجم.
وقد أقرّت أقسام الدراسات الاستعرابية في إيطاليا، قبل سنوات قليلة، ما يطلق عليه نشاطات "القطاع الثالث" ضمن سلم تنقيط الأساتذة، وذلك يعني أن إخراج الترجمات والدراسات العربية -من أسوار الجامعة إلى فضاء التقديم بالمكتبات والمهرجانات والمعارض (أو بتعبير أدق فضاء البيع والشراء)- يساهم مباشرة في رفع رتبة الأستاذ الجامعي المترجم.
وأما الكُتاب الذين يجري استدعاؤهم لرفع الدرجة المهنية للمستعربين (ومعها راتبهم الشهري) فتقتصر مكافأتهم عادة على التأشيرة، و"سيلفيهات" ظريفة أمام معالم المدينة الشهيرة، والأهم من ذلك ما يعتقد الكاتب العربي أنه ترويج يحظى به في السوق الأوروبية يوهمه بأنه تحول إلى كاتب عالمي.
والحقيقة هي أن القارئ الغربي لا يعتبر الكُتاب القادمين مع سماسرة الأدب العربي في أوروبا سوى وكلاء بيع لأكاذيب وسرديات زائفة ممولة من جهات لا تحظى أساسا باحترامهم، فيجد الأوروبي نفسه مضطر دوما للبحث على الحقيقة بعيدا عن آلة الكذب التي غدت مكشوفة بالنسبة له.
مهمة الأدب يفترض أن تكون أداة الكاتب النبيلة ليدلف بانسيابية من خلالها إلى النفس البشرية ويفهم نوازع الشر فيها (بيكسلز)"على هؤلاء أن يتوقفوا عن الكذب" هذا ما قاله لي بصراحة فرانتشيسكو بورغونوفو، وهو واحد من أبرز صحفيي إيطاليا المعاصرين مشيرا للمستعربين الذين وصفهم بـ"مدعي الطيبة". وقبله، فاعل ثقافي إيطالي وجّه لي -على هامش التحضير لإحدى الندوات بخصوص الأدب العربي- سؤالا مربكا ".. هل تقول هذه الشاعرة الحقيقة أم أنها تكذب؟" هكذا ببساطة.
إعلانوالواقع أن سرديات الأدباء السوريين التي أتت محفوفة في السنوات الأخيرة بالكثير من جهات التمويل السلطوية الأوروبية (والمرتبطة بالجامعات والمنظمات غير الحكومية ذات التمويل المؤسساتي) جعلت الكثير من القراء الإيطاليين يشككون في سردية الثورة السورية من أساسها. والمفزع في كل هذا هو كيفية تحول صوت الأديب العربي الذي يفترض أن يكون صوت الشعوب إلى صوت الكذب في نسخته المترجمة؟ والجواب يكمن في الخطاب الأيديولوجي، والحديث هنا تحديدا عن "سياسات الهوية" Identity politics.
فما الذي يعنيه أدب يركز على ثيمة "اضطهاد الأقليات" في بلد كان رئيسه ينتمي لواحدة من أصغر الأقليات في المنطقة، بل في العالم بأسره، ولكنه حكم مع ذلك شعبا ينتمي إلى الأغلبية طيلة عقود، وبالحديد والنار؟ وما الذي يعنيه التباكي من الذكورية في بلد كانت مرجعية نظامه العقائدية هي الماركسية؟
وما الذي يعنيه التحذير من خطر "أسلمة" سوريا في حين أن الفئة المستباحة كانت هي نفسها المسلمة؟ كيف يمكن تركيب هذه العناصر مع بعضها على نظرية "سياسات الهوية" دون أن يقع الكاتب في تناقض صارخ مع كل خطوة يخطوها، ودون أن يتوقع أن يتهمه القارئ الأوروبي بفبركة سرديته ويضعه في خانة "دجالي الفكر"؟
وهل هذا يعني أن السردية السورية كانت ضحية عملية تشويش وتشويه ممنهجة في أوروبا طيلة سنوات الثورة، قادها "مدّعو الطيبة" بتعبير بورغونوفو، من خلال دفعها إلى زوايا ميتة؟ أم أننا حيال ظاهرة كسل فكري لمثقفين اختاروا الاستكانة لأيديولوجيا مستوردة بدل نحت سرديتهم بمفردات تحترم تاريخ وخصوصية بلدهم الحضارية، والأسوأ من كل هذا الحياد هو مهمة الأدب الذي يفترض أن يكون أداة الكاتب النبيلة ليدلف بانسيابية من خلالها إلى النفس البشرية ويفهم نوازع الشر فيها بعيدا عن ضرورة سلخ نظريات أيديولوجية "على الموضة" لا تنتمي للتكوين الثقافي لمجتمعه من أجل صياغة خطاب يتواءم مع السرديات الرائجة.
الجمهور الغربي سئم كم الزيف الذي يحف كل السرديات التي أصبحت تقدم له وبات الكاتب العربي للأسف أبرز المتهمين بالتواطؤ (شترستوك) سردية الثورةوالحقيقة أن ما لا يعرفه الكاتب العربي هو أن الوعي الشعبي الأوروبي بالقضايا العربية أكبر بكثير مما يتخيل. وهنا يحذر الصحفي الإيطالي الكبير "فولفيو غريمالدي" على قناة "بيوبلو" -في حوار أُجري معه بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2024- المشاهدين من فخ الوقوع في سرديات "سياسات الهوية" الملفقة على الواقع السوري، مؤكدا أن "المنطقة العربية منطقة إستراتيجية طالما أراد الغرب تفتيتها". ونبّه غريمالدي من ورقة الأقليات الذين سمى إحداها "رجال أميركا في سوريا الذين قد ترغب الولايات المتحدة في تحويلهم إلى كيان وظيفي آخر في المنطقة يشبه الكيان الصهيوني". وليس بعيدا عن كل هذا يرى الإيطاليون مستعربيهم يشتغلون طيلة سنوات على ترجمة أدبيات "الأقليات المتأمركة" والترويج المحموم لخطاباتها حول المنطقة العربية ضمن جميع الفضاءات الثقافية المتاحة.
إعلانلذا فأول ما ينبغي أن يبدأ الكاتب العربي بمعرفته عن القارئ الغربي أنه ليس بالسذاجة التي يتصورها، أو يخاله وعاءً فارغا ينتظر ملأه بأي سردية يتم تركيبها كيفما اتفق، ذلك أن فجوات السرديات المهلهلة لا تسدها حالات البكاء على المسرح وأجواء الانهيارات العاطفية التي تتخلل تقديمات المترجمين الإيطاليين لكتابهم وشعرائهم العرب. إنها مشهديات لا تدغدغ مشاعر أحد بقدر ما تثير شعور التقزز لدى الأوروبي من حالة استعراضية هزيلة تشبه تماما التقرير الذي سجلته مراسلة قناة "سي إن إن" بعد سقوط النظام السوري، والذي ادعت فيه أنها حررت معتقلا سوريا من سجون النظام ليتبين لاحقا أن المشهد كان تمثيليا، والأسوأ أن "المعتقل" المزعوم ضابط في فرع المخابرات الجوية.
ولعل ما لا يعرفه الكاتب العربي أيضا أن الجمهور الغربي قد سئم من كم الزيف الذي يحف كل السرديات التي أصبحت تقدم له، وقد بات للأسف أبرز المتهمين بالتواطؤ معها. لذا قد يكون من المفيد في هذا السياق التذكير برسالةٍ كتبها جورجيو أغامبين، وهو واحد من أبرز الفلاسفة الإيطاليين وفلاسفة الغرب في التاريخ المعاصر، تحدث فيها عن السعي المحموم لتدجين المثقفين في الغرب، وبشاعة الانصياع لصناع السرديات الزائفة.
لكن الأبشع من ذلك الادعاء بعدم معرفة ما يحصل في أروقة صناعة الكذب والاستمرار في طاعة أوامر "السادة": وفي الوضع الكئيب الذي نعيشه، ثمة أحيانا أخبار جيدة. أحدها بالنسبة لي هو قرار ما يسمى بكبريات الصحف عدم مراجعة كتبي أو مجرد ذكر اسمي بأي شكل من الأشكال.
والواقع أن ظهور اسمي على تلك الصفحات من شأنه أن يزعجني، لذا لا يسعني سوى أن أكون ممتنًا للصحفيين على قرارهم هذا. ولكن عندما يعود المؤرخون في يوم من الأيام للتحقيق في الماضي، ستظهر وسائل الإعلام في طليعة المتواطئين. تماما كما حدث خلال 20 عامًا من حكم الفاشية، كانوا بلا شك يعرفون ولكنهم يطيعون أوامر سادتهم.. ليختم صاحب "الإنسان المستباح" رسالته التي وقّعها بتاريخ 12 سبتمبر/أيلول 2022، بسؤال مرير: "لماذا صمتوا؟ لماذا أطاعوا؟".
وهكذا جرى عزل فيلسوف عملاق بحجم أغامبين من النقاش العام لمجرد تعارض رؤيته مع السرديات المهيمنة، في حين أن سرديات الكتاب الغثة والمستلة من نظريات اجتماعية مرقّعة على الواقع العربي تُدرّس ضمن مقررات الأدب والحضارة العربية في الجامعات الأوربية، وتُمنح أيضا الجوائز المتنوعة، وكل ذلك لإنتاج تاريخ ملفّق لشعوب المنطقة. ليغدو الأدب العربي مترجمًا أداة المستعمرين الجدد في تزييف الوعي وصناعة تاريخ مفبرك لأوطان لا يزالون يحلمون باستباحتها.