المصالح الأمريكية في المنطقة ..هل حانت لحظة الحقيقة؟
تاريخ النشر: 9th, March 2024 GMT
منذ الحرب العالمية الثانية، اندفعت الولايات المتحدة لتعزيز مصالحها في الشرق الأوسط عبر ثلاثة محاور أولها ضمان تدفق النفط من الخليج وضمان أمن إسرائيل والحد من نفوذ الكتلة السوفييتية آنذاك، وتم لاحقًا إضافة مكافحة الإرهاب والحد من امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وفق ما هو منشور في أكثر من موقع أمريكي مثل: (https://world101.
والمتتبع لتاريخ المنطقة وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، لعله سيجد كم هي مكلفة ودموية هذه العلاقة، حيث دفعت شعوب المنطقة أثمانًا باهظةً لتطبيق تلك السياسات (حربًا أو سلامًا) وأفضت إلى غزو دول عربية شملت العراق وسوريا وتفتيتها وفق محاصصة طائفية يدفع ثمنها العراق ما بعد النظام السابق لغاية اليوم في حين تعرضت سوريا لأكبر هجمة إرهابية شنت بعد الحرب العالمية الثانية على شعب أعزل لم يقم بأي عمل عدائي ضد الولايات المتحدة! وجرى تقسيم السودان والدفع بليبيا إلى خانة عدم الاستقرار والفوضى والأعتى من ذلك غرس نظام عنصري ودموي في قلب الأمة العربية تدفع ضريبة وجوده منذ 1948عام.
من الواضح أن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة شائكة ومعقدة ولا يمكن الاستخفاف بها. عسكريا، فإن ما نسبته 41% من مبيعات الأسلحة الأمريكية قد ذهبت لدول المنطقة بنهاية عام 2022 وفق مقال نشرته صحيفة القدس العربي بتاريخ 18 مارس 2023 علمًا أن الصادرات العسكرية الأمريكية للخارج ارتفعت خلال عام 2022 لتصل ما قيمته 205.6 مليار دولار مرتفعا بنسبة 49%. في السياق ذاته أصبحت الولايات المتحدة المزود الرئيسي تقريبًا لإمدادات السلاح للعديد من الدول العربية خاصة الخليجية، وتبرر الأوساط الأمريكية الرسمية هذه الصفقات بحجة أنهم إذا لم يوافقوا على تمريرها، فإن غيرهم سيبيعها لهذه الدول، في إشارة إلى روسيا والصين، وسمحت أن تقوم شركة مثل: (CyberPoint) الأمريكية بالتعاون مع إحدى الدول الخليجية لتطوير منظومة تجسسية استهدفت النشطاء والشخصيات السياسية والإعلامية حول العالم وفق ما نشره موقع (https://warontherocks.com/) بتاريخ 11 أغسطس 2023. في ذات الوقت هناك ما يقرب من 30 ألف جندي أمريكي في المنطقة إلى جانب العديد من القواعد العسكرية الأمريكية.
كما تتزايد الآن النبرة بأن هذه الصفقات تسهم في إبعاد النفوذ العسكري الصيني والروسي عن المنطقة وهو طرح يشبه الذرائع التي سيقت إبان الحرب الباردة حول دعم بعض هذه الدول عسكريًا ردعًا للنفوذ السوفييتي قبل أن تلاحقهم مصائر الامبراطوريات وتضرب مآلات التاريخ سؤددهم.
على المسار ذاته، تجمع الولايات المتحدة ودول المنطقة مصالح اقتصادية وتجارية هائلة، حيث بلغ التبادل التجاري بحسب ما نشر في موقع (سكاي نيوز عربية) بتاريخ 20 أكتوبر 2023 ما قيمته 121 مليار دولار. على الـجانب التعليـمي في العام الدراسي 2022/ 2023 كان هناك نحو مليون طالب أجنبي في الولايات المتحدة، 10% منهم من دول الشرق الأوسط وإفريقيا بحسب موقع (https://www.statista.com/).
تشير المعطيات والوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها أن هذه العلاقات حيوية وعميقة وحساسة رغم كل التقلبات السياسية والعسكرية والحروب المتتالية التي دارت رحاها على خرائط الشرق الأوسط ولم تفض إلا إلى الخراب والتفتيت والتقسيم. ويؤسس هذا العبور على مشهد المصالح الأمريكية في المنطقة إلى طرح مزيد من الأسئلة حول الخيارات المتاحة لهذه العلاقات، ويعكس وجود مساحات براغماتية ومصالح كبرى بين دول المنطقة والولايات المتحدة، ولعله من المخل أن تختزل مختلف الإدارات الأمريكية المتعاقبة في البيت الأبيض كل هذا الحراك الضخم في الشرق الأوسط من أجل ضمان أمن إسرائيل بهذه الطريقة المجحفة التي تفقدها كل مصداقية وقبول في المنطقة (وحتى في الداخل الأمريكي مؤخرًا) في ظل تمترسها وراء كيان لا يتردد في شن حروب الإبادة وتجاهل كافة الأعراف الإنسانية والدولية والقانونية بطريقة لم نر ما يماثلها من بشاعة وتنكيل إلا في الهولوكوست ضد اليهود أنفسهم أو ما اقترفته داعش من فظائع في حق الشعب العراقي والسوري.
وحري بالولايات المتحدة في خضم كل هذه المصالح المهمة والشائكة أن تعيد النظر في تعاطيها مع قضايا المنطقة قبل أن تفقد ما تبقى لها من مصداقية وتقدير على المستوى الشعبي العربي والشرق الأوسطي، فإسقاط المساعدات الغذائية على الغزاويين جوًا من ناحية ومنح إسرائيل أكثر الأسلحة فتكًا وقتلًا في ذات الوقت لإبادة الشعب الفلسطيني، لا يمكن أن يكون سلوك دولة عظمى تريد أن تقدم للعالم نموذجًا مختلفًا في السلوك السياسي والحضاري، لاسيما وأن العالم العربي قدم المبادرات تلوى المبادرات السياسية لتحقيق سلام عادل ودائم مع القيادة الإسرائيلية وتغيير مصير الشرق الوسط نحو السلام والازدهار ولكن من الواضح أن الآخر «لا يرى» في السلام مع الطرف الفلسطيني نهاية لهذه المأساة المستعرة منذ 75 عاما، بل لعله يرى في السلام مقبرة لطموحاته وأوهامه.
ويبقى السؤال مشرعًا باتساع أفق الأماني والتفاؤل (حتى وإن بدا ساذجًا) إلى متى ستقف الولايات المتحدة داعمة لهذا الوضع البائس في المنطقة؟ أولم يئن أن تقوم الولايات المتحدة بدورها الحقيقي كدولة عظمى يرى العالم أن بيدها مفاتيح الحل والعقد!، وكم من الضحايا والشهداء يجب أن يلقوا حتفهم في هذا الصراع من الطرفين؟ قبل أن تقتنع واشنطن أنه لا مناص من السلام ومن الاعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة، كي يتسنى لأجيال المستقبل حياة كريمة ومستقبلا لا ينزل على رؤوسهم بقنابل فوسفورية من الأف – 18 الأمريكية الصنع وتحكمهم في أيديولوجيات العنصرية والإقصاء ومجرمي الحروب ويعبرون سنوات الصبا مشتعلين غضبًا للانتقام من قتلة أهلهم وذويهم. ولعل هذه اللحظة التاريخية الفارقة بعد السابع من أكتوبر فرصة تاريخية أيضًا للدفع بالسلام والاستقرار ووقف شلالات الدم والدمار.
يحيى العوفي كاتب ومترجم عماني – صحيفة عمان
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الشرق الأوسط فی المنطقة
إقرأ أيضاً:
هل الشرق الأوسط على أبواب ربيع جديد؟ قراءة في كتابات غربية
لم يكن "طوفان الأقصى" قاصراً على إسرائيل وحدها؛ فتأثيراته ممتدة زمانا ومكانا ومجالا إلى أبعد من غزة بكثير. وهذا ماكتبه باحثون إسرائيليون وغربيون عقب الطوفان، وأعادوا تأكيده بعد هذا السقوط السريع والمذهل لنظام بشار الأكثر قمعية في الشرق الأوسط:
1 ـ "حتى لو اقتصرت الحرب على غزة، فسيكون لها تغييرات جيوسياسية واسعة النطاق، وسيكون الشرق الأوسط المنطقة الأكثر تأثرا بها": ستيفن والت، العالم لن يكون كما هو بعد الحرب، فورين بوليسي، 8/11/2023.
2 ـ "هذه الحرب قد تكون سببا في تأجيج جمر الإسلام السياسي": الإيكونوميست، ثورة دينية تجري في الشرق الأوسط، 29/11/2023.
3 ـ "يعد سقوط نظام بشار إنجازاً آخر لحماس، وأول هزة ارتدادية كبرى للصراع الزلزالي الذي هز الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر تشرين الأول، ومن المرجح ألا يكون الأخير": زوهار بالتي، سوريا في أول هزة ارتدادية كبرى للسابع من أكتوبر مع المزيد في المستقبل، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 11/12/2024.
4 ـ "اقتلع السوريون سلالة الأسد الاستبدادية، وقلبوا النظام السياسي في الشرق الأوسط. إنه حقا زلزال جيوسياسي، والتحول الأكثر أهمية منذ الثورة الإيرانية عام 1979": شيلدون كيرشنر، الزلزال السياسي في سوريا، تايمز أوف إسرائيل، 9/12/2024.
5 ـ "لا يوجد شيء أسوأ من اليأس، ولا شيء أكثر تدميرا للروح من التشاؤم والحزن. لذا، يوفر السقوط المفاجئ للنظام المدعوم من روسيا وإيران إمكانية التغيير. وهذا سوف يبعث الأمل في جميع أنحاء العالم": آن اليزابيث أبلباوم، الانهيار المباشر لبشار، أتلانتيك، 8/12/2024.
6 ـ "نجاح القوى الإسلامية في الإطاحة بنظام الأسد، إلى جانب النجاح المثير لحماس ضد إسرائيل في هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، يثير مخاوف الأنظمة الخليجية بشأن موجة إسلامية محتملة تجتاح المنطقة. وهو ما يعتبرونه تهديدا سياسيا رئيسيا لهم": يوئيل جوزانسكي، دول الخليج والسقوط المفاجئ للأسد، INSS، 12/12/2024.
سقوط لم يتوقعه أحد
"كان الإجماع الدولي منعقدا على أن بشار الأسد رغم ضعفه واعتماده على روسيا وإيران؛ إلا أنه لا يزال قويا بما يكفي لاعتباره حقيقة من حقائق الحياة في الشرق الأوسط، ويمكن أن يكون مفيدا. ولقد رأى نتنياهو وبايدن فيه جزءا من استراتيجيتهم لاحتواء إيران وإلحاق الضرر بها، مما يشير بوضوح إلى أنهم لم يعتقدوا للحظة أنه على بعد أيام من هروبه إلى روسيا. وبذلك، فقد ساهما في نهايته عن طريق الصدفة أكثر من التصميم على ذلك": جيريمي بورين، سوريا تواجه نقطة تحول زلزالية، BBC، 8/12/2024.
للخطاب الإسلامي دور رئيسي في الخطاب السياسي العربي. ويستخدم القادة العرب المؤسسات الدينية لإحباط المعارضة الإسلامية. وقد سعت الإمارات إلى نشر عقيدة دينية سياسية تُعرّف السلام كعنصر أساسي للهوية، وقيمة إسلامية، وبديل أيديولوجي لمفاهيم الإسلام السياسيوفي ضوء ماسبق: ما هي احتمالات وسيناريوهات الربيع الجديد في المنطقة؟ وهل هناك مستقبل للإسلام السياسي الذي كان أحد القوى الرئيسية في الربيع العربي وما تلاه من أحداث؟:
أولا ـ من الربيع إلى الطوفان والزلزال
شكلت حادثة البوعزيزي حدثا مفصليا في تاريخ المنطقة، وبداية ربيع عربي سرعان ما تحول إلى شتاء عربي صاحبه تغيرات استراتيجية وسياسية ومفاهمية كبيرة في المنطقة لمنع عودة الربيع مرة أخرى:
1 ـ تغير نظرة النظم العربية لإسرائيل:
بعد الربيع الربيع، حدثت تحولات كبيرة في تحديد النظم العربية لمن هو العدو، وتغيرت نظرتها إلى إسرائيل تغيرا جذريا:
ـ "تحولت إسرائيل من قوة توحد العالم السني إلى قوة تقسمه، وتوسع تعاونها مع السعودية والإمارات ومصر": جاليا ليندشتراوس، الخلافات والصدامات في العالم السني، INSS، 4/62020/.
ـ "نجحت إسرائيل في إقناع معظم الدول العربية بأن إسرائيل القوية لا تشكل تهديدا لها؛ بل هي شرط أساسي لبقائها": دان شويفتان، هل حانت بداية النهاية للصراع العربي الإسرائيلي؟، INSS، نوفمبر تشرين الثاني، 2021.
2 ـ ظهور سياسات عربية جديدة:
كانت السياسات العربية المعلنة قبل 2011 أن شرط التطبيع وحل الصراع مع إسرائيل هو إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية؛ لكن بعد الربيع ظهرت سياسات جديدة، منها:
ـ "عدم رقص الدول العربية على أنغام الفلسطينيين، فاعترف بعضها علنا بحق إسرائيل في الوجود": فرانك موسمار، إسرائيل مفتاح للجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، BESA، 2/1/2020.
ـ "اعتماد تعزيز العلاقات الإسرائيلية المصرية على أمور منها إضعاف الإخوان المسلمين، وتعزيز القوى البراجماتية والليبرالية": عوفير وينتر، محمد مرسي: شهيد أم خائن؟، INSS، 1/7/2019.
ـ "تهميش اتفاقيات إبراهام للقضية الفلسطينية، وقضائها على إمكانية إقامة دولة فلسطينية": برانكو ماريتيك، إنسَ السلام، معهد الحكم المسئول، 20/10/2023.
3 ـ تشكيل أربعة معسكرات استراتيجية رئيسية:
تشكلت عقب الموجة الأولى للربيع العربي أربعة معسكرات استراتيجية رئيسية متصارعة، تتنافس على الهيمنة والسيادة وصياغة الأفكار والقيم:
ـ "المعسكر الشيعي: يضم إيران ووكلاءها وحلفاءها.
ـ المعسكر الجهادي: يضم داعش والقاعدة، والتنظيمات المرتبطة بهما كولاية سيناء.
ـ معسكر الإخوان المسلمين: ويضم حماس وفروع الإخوان في الأقطار المختلفة؛ لكنه تراجع بعد انقلاب 2013. ومع ذلك، لا تزال فكرته "الإسلام هو الحل" تتمتع بدعم واسع في الشرق الأوسط.
ـ معسكر الاعتدال: معسكر موال للغرب، يضم مصر والأردن والمغرب والسعودية والإمارات. وتمثل إيران العدو الرئيسي للسعودية والإمارات وإسرائيل. أما الإخوان المسلمون وحماس فهما الخطر الوجودي لمصر والسلطة الفلسطينية. ويمتد هذا المعسكر إلى شرق المتوسط لمواجهة تركيا": معهد دراسات الأمن القومي INSS، تقييم الوضع الإستراتيجي لإسرائيل عن عام 2019-2020، يناير كانون الثاني، 2020.
4 ـ توظيف الدين لصالح التطبيع والهوية الجديدة:
"للخطاب الإسلامي دور رئيسي في الخطاب السياسي العربي. ويستخدم القادة العرب المؤسسات الدينية لإحباط المعارضة الإسلامية. وقد سعت الإمارات إلى نشر عقيدة دينية سياسية تُعرّف السلام كعنصر أساسي للهوية، وقيمة إسلامية، وبديل أيديولوجي لمفاهيم الإسلام السياسي": أوفير وينتر ويوئيل جوزانسكي، الإسلام في خدمة السلام، INSS، 6/9/2020.
لماذا يخافون من الإسلام السياسي؟
وقفت بعض دول الخليج موقفا معاديا من الإسلام السياسي، وصنفت تياراته منظمات إرهابية، وأنفقت عشرات المليارات لإنجاح الثورات المضادة، وشنت ضده حربا إعلامية ودبلوماسية في مؤسسات صنع القرار الغربية، وساندتها إسرائيل واللوبيات اليهودية في هذه الحرب، خصوصا في الولايات المتحدة، فما الأسباب؟!:
1 ـ الإسلام السياسي نموذج وآلية للتغيير:
"يمثل الإسلام السياسي تهديدا للنظم الحاكمة، فهو يقدم نموذجا بديلا لها، ويوفر إطارا سياسيا يرتكز على الشرعية الدينية، ويروج للانتخابات الديمقراطية، وأثبت قدرته على إسقاط الحكومات. لذلك حورب وفشل أو أُفشل لأسباب ذاتية أو بفعل قوى داخلية وخارجية": عوديد عيران، الإسلام السياسي في موقف دفاعي، INSS، 20/3/2014
2 ـ التنافس على الهيمنة والسيطرة الإقليمية:
"تميز النظام الإقليمي بتنامي الصراع على شكل الشرق الأوسط؛ والمواجهة داخل الدول الفردية بين الجماهير والنخب الحاكمة، مدنية أو عسكرية، حول القضايا المتعلقة بالاقتصاد والحوكمة والهوية الأساسية. وانقسمت الدول السنية إلى معسكرات وفق سياستها تجاه أطياف الإسلام السياسي، وتنافسها على المكانة، ومحاولات السيطرة على المواقع الاستراتيجية على طول ساحل البحر الأحمر": يوئيل جوزانسكي، عائلة مختلة، INSS، 4/6/2020.
3 ـ الإسلام السياسي تعبير عن روح الأمة وأمانيها:
"تعبر المقاومة عن صراع ديني قومي لتحدي الهيمنة الصهيونية وإضعافها حتى زوالها النهائي. إذاً، الأمل لا اليأس هو الذي يولد المقاومة؛ أو كما قال جابوتنسكي: طالما لدى العرب بصيص أمل في التخلص منا، فلن يتخلوا عن هذا الأمل": جيرشون هكوهين، حرب وجودية جديدة، BESA، 8/11/2024.
مازال الإسلام السياسي حاضرا في المشهد
رغم إخفاقات الربيع ورغم حملات التشويه والقمع وسياسة القبضة الحديدة، فإن الإسلام السياسي مازال حاضرا في المشهد، وهذا ما أكدته مراكز الأبحاث الإسرائيلية والغربية:
ـ "رغم أن قوة الإسلام السياسي قد تضاءلت؛ إلا أنه من الصعب إعلان احتضاره. وسيعتمد مستقبله على مدى تحقيق المحتجين لأهدافهم. وقد يؤدي الفشل إلى إحياء إسلام سياسي أكثر صلابة": هيلل فريش، الإسلام السياسي في حالة تراجع بالشرق الأوسط، BESA، 18/10/2019.
يمثل الإسلام السياسي تهديدا للنظم الحاكمة، فهو يقدم نموذجا بديلا لها، ويوفر إطارا سياسيا يرتكز على الشرعية الدينية، ويروج للانتخابات الديمقراطية، وأثبت قدرته على إسقاط الحكومات. لذلك حورب وفشل أو أُفشل لأسباب ذاتية أو بفعل قوى داخلية وخارجيةـ "قد يكون الاحتجاج المقبل أكثر تفجرا وأقل سلاما مما قد يؤدي إلى انهيار هياكل الدولة في مصر أكبر دولة من حيث عدد السكان في الجوار الأوروبي": ستيفن رول، ثلاثة سيناريوهات لنظام السيسي في مصر، المعهد الألماني للشئون الدولية والأمنية SWP، 28/3/2019.
ـ "يُظهر التاريخ متانة حركة الإخوان المسلمين وجاذبية أفكارها. ومازالت الأحزاب الإسلامية تحقق إنجازات كبيرة في البلاد العربية التي تجري فيها انتخابات حرة وتعددية": عوفير وينتر، من المبكر جدا تأبين الإخوان المسلمين، INSS، يوليو 2021.
ـ "الصراع حول جماعة الإخوان هو شبكة معقدة من العوامل المتفاعلة. وهو صراع يبقى سائلاً من يوم لآخر، ويمكن أن يتغير في أي وقت. ونتيجة للتنافس الاستراتيجي على منطقة القرن الأفريقي، فهناك تحركات لإنشاء حكومات تعود بالفائدة على البلدان المتنافسة. ولذلك، تبدو الإخوان والجماعات الإسلامية أحد عناصر هذا الصراع": مركز ميتوسي الياباني، الصراع ثنائي القطب في الشرق الأوسط حول جماعة الإخوان المسلمين، 16/5/2021.
مستقبل ما بعد حرب غزة
"تسعى إسرائيل إلى إرساء مبدأ جديد للاستقرار الإقليمي يقوم على إضعاف الإسلام السياسي، وإبعاد الجهات الفاعلة الإسلامية السياسية التي تتولى الحكم في بعض الدول العربية عن السيطرة الحصرية على القوى العسكرية والأمنية في هذه الدول": شاي شابتاي، إنه نظام إقليمي جديد، BESA، 15/10/2023.
ومع ذلك، فتحقيق هذا الهدف يرتبط بمن المنتصر في هذه الحرب، فأهداف إسرائيل منها عصية على التحقيق، و"من المحتمل جدا أن تكون حرب غزة هي الحرب الأولى في تاريخ إسرائيل التي تخسرها. وستكون خسارة كارثية لها، ومدمرة للغاية للولايات المتحدة": جون ألترمان، إسرائيل قد تخسر، CSIS، 7/11/2023.
عوامل مؤثرة على مستقبل الإسلام السياسي
في ضوء طوفان الأقصى وزلزال سوريا، وكذلك المتغيرات التي شهدتها المنطقة منذ 2011 وحتى الآن، فإن مستقبل الإسلام السياسي يرتبط بعوامل متعددة نوجزها فيما يلي:
1 ـ الدعم الإقليمي:
"يرتبط الدعم الإقليمي سواء لقوى الإسلام السياسي أو القوى المُضعِفة له بمعركة القوة الناعمة من أجل النفوذ الجيوسياسي والهيمنة. هذه المعركة من أجل روح الإسلام تضع القوى الشرق أوسطية والآسيوية المتنافسة ضد بعضها البعض": جيمس دورسي، المعركة على روح الإسلام، BESA، 17/1/2021.
2 ـ حماية أنظمة محور الاعتدال و الحفاظ على استقرارها:
"يدرس الاتحاد الأوروبي إبرام اتفاقية شراكة مع مصر تركز على الهجرة والتعاون الاقتصادي، منها حزمة دعم مالي رئيسية. وبالمثل، فإن دول الخليج تشعر بالقلق إزاء تأثير الحرب على استقرار مصر، لذا فهي تفكر في زيادة ودائعها في البنك المركزي المصري لتعزيز اقتصاد مصر الهش، مما يوفر لها الإغاثة الاقتصادية": مجموعة الأزمات، حرب غزة يتردد صداها في أنحاء الشرق الأوسط، 4/11/2023.
3 ـ سعي واشنطن لتحسين صورتها في المنطقة:
"زادت حرب غزة من عزلة الولايات المتحدة. وإذا لم تنته هذه الحملة الدموية قريبا، فإن اتفاقيات إبراهام قد تبقى بالاسم فقط. ذلك، أن الاشمئزاز الشعبي ضد إسرائيل في تلك البلدان سيسلبها أي قيمة": باتريك سيروس، من هي القوة العظمى هنا؟"، مركز الحكم المسئول، 12/1/2024.
4 ـ ظهور تنظيمات جهادية:
"كلما زاد الاعتقاد بأن واشنطن تتغاضى عن الدمار غير المسبوق لغزة وقتل وجرح عشرات الآلاف من الفلسطينيين، كلما زاد احتمال توسع الصراع إلى جهاد عالمي، وكلما زاد احتمال ظهور جيل جديد من الجهاديين العالميين. هل نظر صانعو السياسة الأمريكيون في الآثار طويلة المدى لمثل هذا التطور؟ وهل ستساهم الولايات المتحدة بغباء في صنع كوادر جديدة من الجهاديين؟": إميل نخلة، هل ستساهم واشنطن في خلق جيل جديد من الجهاديين، مركز الحكم المسئول، 28/12/2023.
5 ـ المفاضلة بين الخيارين الديمقراطي والاستبدادي:
"تكمن الفرصة الوحيدة لتحقيق الاستقرار في المنطقة في إنشاء مؤسسات حكومية فعالة وصادقة كجزء من الكفاح المستمر والحازم ضد الفساد الحكومي، فضلاً عن تشكيل أنظمة ديمقراطية جديدة. عندها فقط، سيتم تجنب العودة إلى العنف الذي تسببه الأنظمة الاستبدادية. لكن هذه الخطوات أثبتت أن الضرر الذي تسببه يتجاوز بكثير الاستفادة التي تقدمها هذه القوى": كسينيا سفتيلوفا، هل يمكن تحقيق الرؤية الديمقراطية في العالم العربي؟، مجلة السياسة والشئون الاستراتيجية، مركز هرتسليا، 2021.
6 ـ الوزن الاستراتيجي للدولة:
كلما زاد الوزن الاستراتيجي للدولة، زادت أساليب التحجيم والتقزيم والتمزيق والضرب بحقوق الإنسان. ومع ذلك، فقد تتزايد احتمالات التغيير المتحكَم فيه لتخفيف الاحتقان داخلها. ومثال ذلك مصر، فهي:
ـ "حجر الزاوية في أي هيكل إقليمي، وأحد مفاتيح تطور الشرق الأوسط طوال التاريخ.
ـ الدولة الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم. وهي أكبر دولة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وتتفوق على كل من تركيا وإيران من حيث عدد السكان.
ـ تمتد بين أفريقيا وآسيا. وبالتالي، فهي اليوم لاعب رئيسي في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا.
ـ تسيطر على قناة السويس أحد أهم ممرات الاتصال البحرية الرئيسية في العالم.
ـ نظرا للأهمية الاستراتيجية المتزايدة لشرق المتوسط، فلا تزال مصر لاعبا رئيسيا في الشؤون العالمية.
ـ مسرح لمعركة أفكار حول الدور السياسي والاجتماعي للإسلام.
ـ يجب إدراج خطر عدم استقرار في مصر كجزء من العقيدة الاستراتيجية الشاملة الإسرائيلية": عيران ليرمان، استقرار مصر ومستقبل شرق المتوسط، JISS، 16/8/2018.
سيناريوهات وسياسات لمنع عودة الربيع العربي
مع هذه العوامل والمتغيرات الإقليمية والدولية، فإن سيناريوهات وسياسات الأنظمة العربية لمواجهة احتمالات التغيير وحدوث ربيع جديد:
1 ـ الإصلاح الجزئي:
يهدف هذا النوع من الإصلاح إلى حماية الأنظمة العربية، حتى تلك التي لم يمتد إليها الربيع العربي، لامتصاص الغضب الشعبي وتقليل احتمالات الانفجار. من أمثلة هذا الإصلاح: تخفيف القبضة الأمنية، إخراج جزئي للمعتقلين، استخدام آلية التدابير الاحترازية، تغييرات شكلية ودعائية في بنية الأنظمة ومحاولة تحسين صورتها بكشف بعض قضايا الفساد، تفعيل شكلي أو محدود لدور البرلمانات والأحزاب، والتحسين الجزئي للسياسات الاجتماعية والاقتصادية.
2 ـ الدمج المتحكم فيه:
"يمكن للإسلام السياسي والاجتماعي المشاركة في العملية السياسية الديمقراطية، والقضايا المجتمعية والاقتصادية. وينبغي إنشاء آليات سياسية ودستورية لمنعه من السيطرة على الجيوش والمنظمات الأمنية": شاي شابتاي، إنه نظام إقليمي جديد، BESA، 15/10/2023.
3 ـ التهميش والإضعاف:
يقوم هذا السيناريو على استمرار حملات التشويه والتهميش، مع ايجاد بدائل ليبرالية أو يسارية، وتقوية السلفية المدخلية والتيار السلفي والصوفي بوجه عام. وزيادة النشاط الاجتماعي المتحكم فيه. وكذلك، تأجيج الصراعات المذهبية والعرقية والطائفية، مع التركيز على تشويه المقاومة وعلاقتها بإيران. ويرتبط هذا السيناريو بحرب الهوية وما سمي بتجديد الخطاب الديني .
4 ـ حرب الهوية والخطاب الديني:
"منذ بداية رئاسة السيسي، وخاصة ولايته الثانية، روج لحملة رسمية لتشكيل الهوية الوطنية المصرية وخلق المصري الجديد. ويكشف تحليل الحملة عن موضوعين رئيسيين:
أولا ـ يتم تصور "المصري الجديد" على أنه نقيض ل "الآخر الإسلامي".
سعى إسرائيل إلى إرساء مبدأ جديد للاستقرار الإقليمي يقوم على إضعاف الإسلام السياسي، وإبعاد الجهات الفاعلة الإسلامية السياسية التي تتولى الحكم في بعض الدول العربية عن السيطرة الحصرية على القوى العسكرية والأمنية في هذه الدولثانيا ـ بُنيت الهوية المصرية كفسيفساء غنية من سبعة أعمدة: الفرعونية، واليونانية الرومانية، والقبطية، والإسلامية، والعربية، والمتوسطية، والأفريقية.
يشجب الخطاب الرسمي للهوية التفضيل الواضح للمكون الإسلامي المنسوب للإخوان المسلمين. وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها النظام لغرس هوية جديدة، إلا أن رسائله تواجه تحديا من القوى المتنافسة، ومن السابق لأوانه تقييم إلى أي مدى يتم استيعابها من قبل عامة الشعب المصري": أساف شيلواح، الهوية السيسي في عصر السيسي، INSS، 4/1/2019.
5 ـ دعم الأنظمة القائمة:
"يعتمد مستقبل نظام السيسي على مدى قدرته على الحفاظ على تماسك البلاد اقتصاديا واجتماعيا وأيديولوجيا وسياسيا، والتغلب على التحفظات العميقة عليه في الولايات المتحدة وعبر أوروبا. لذا:
ـ يجب أن يكون استمرار استقرار مصر على رأس أولويات السياسة الخارجية لإسرائيل.
ـ المشورة والمساعدة السرية في قضايا المياه، والاقتصاد، وتأمين سيناء، ومساعدة مصر في الكونجرس.
ـ تعزيز التعاون السري في المجالين العسكري والاستخباراتي.
ـ توسيع الكويز وتقديم الخبرة في تكنولوجيا المياه، ومساعدة مصر على مواجهة عواقب سد النهضة.
ـ التوصل إلى أرضية مشتركة بشأن سكان غزة، مما يعزز مصداقية السيسي الدولية.
ـ يجب على إسرائيل الاستعداد للاحتمال الخطير بتفكك نظام السيسي وتعريض معاهدة السلام للخطر. وإدراج ذلك كجزء من العقيدة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي": عيران ليرمان، استقرار مصر ومستقبل شرق المتوسط، JISS، 16/8/2018.
6 ـ سيناريو الربيع الجديد:
هذا السيناريو ليس مستبعدا تماما، فالمنطقة على صفيح ساخن، وهناك حالة شديدة من الشعور بالهوان والعجز أوقعت فيه الأنظمة العربية شعوبها في حرب غزة. وهنا لا بد أن نشير إلى ما يلي:
1 ـ "هناك قلق مستمر من أن تكتسح موجة ثالثة للربيع العربي المناطق التي هزتها من قبل مثل مصر: فحالتها الاقتصادية حساسة، ومعلقة باستمرار بخيط رفيع. وهي بركان جاهز للانفجار في أي لحظة": مايكل ميلشتاين، صورة للاضطرابات التي غيرت الشرق الأوسط، مجلة السياسة والشئون الخارجية، المجلد 1، 2021.
2 ـ "القمع في أحسن الأحوال يشتري الوقت للأنظمة؛ لكنه في كثير من الأحيان يعزز تصميم المحتجين. وقد مكّن القمع القاسي حكومة السيسي، أحد أكثر قادة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحشية، من قمع احتجاجات سبتمبر عام 2019. لكن السؤال هو: حتى متى؟": جيمس دورسي، 2019: تميز بالتحدي والمعارضة، BESA، 6/1/2020.
الخلاصة
سيجرف طوفان الأقصى والزلزال السياسي السوري الكثير من الأوضاع والسياسات. والسؤال الذي يتردد بقوة على كافة الأصعدة: من التالي لبشار؟ وهل سنشهد ربيعا جديدا؟ وهل ستسعى الأنظمة القائمة للتصالح مع شعوبها وتلافي أخطائها؛ أم ستستمر في فشلها وغيها؟ هذا ما ستخبرنا به الأيام القادمة.