كنت فى الجزائر عندما عقد المجلس الوطنى الفلسطينى دورته السابعة عشرة منذ تأسيسه والأولى بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، فى شهر فبراير عام 1983. حملت طائرة خاصة فيما أتذكر، وفدا كبيرا من قادة أحزاب المعارضة المصرية فضلا عن كتاب وفنانين ومخرجين وصحفيين ومحامين ونقابيين وشخصيات عامة، للمشاركة فى أعمال تلك الدورة بهدف لا أظن أن سلطة الرئيس مبارك كانت تعترض عليه، وهو إبداء الدعم والمساندة من القوى الشعبية المصرية لياسر عرفات وللمقاومة الفلسطينية، لاسيما أن استقبالا شعبيا ورسميا فى مدن القناة كان قد جرى للترحيب بسفن المقاومة القادمة من بيروت أثناء عبورها البحر المتوسط وهى ترسو أمام الشواطئ المصرية وكان عرفات على متنها بطبيعة الحال.
ودورة المجلس الوطنى الفلسطينى تقترب من إنهاء عملها، ألقى «محمود درويش» معلقته البديعة «مديح الظل العالى» التى كان يرثى فيها معشوقته بيروت «بيروت قلعتنا.. بيروت دمعتنا» وخذلان النظام العربى للفسطينى «واسحب ظلالك عن بلاط الحاكم العربى، حتى لا يعلقها وساما، واكسر ظلالك كلها، كيلا يمدوها بساطا أو ظلاما» وتعد واحدة من أجمل قصائد الشعر العربى الحديث. لم يقرأ أحد شعر «محمود درويش» بأجمل مما فعل هو. خطف درويش قلوب مستمعيه من الوفود العربية الغفيرة داخل قاعة الاجتماع بإلقائه البديع والفريد. كان صوته يعلو وينخفض، ويلوح بيده بعنف ثم يومئ بلطف، وينحنى ويستقيم، وتحمر وجنتاه انفعالا، وتنعقد خطوط جبينه وتنبسط، والقاعة لا تكف عن التصفيق والهتاف والصخب بعد كل مقطع يدمى القلوب المتلهفة لعدل العالم. بعد هذا اليوم صرت أظن أنه لو لم يكن محمود درويش شاعرا فذا، لربما غدا ممثلا عبقريا. اقترب درويش من إنهاء إلقاء قصيدته قائلا:
ما أوسع الثورة
ما أضيق الرحلة
ما أكبر الفكرة
ما أصغر الدولة
انتفض «أبوعمار» من مقعده واقفا، وهو يشير بيديه الاثنتين نحو محمود درويش ملوحا بالرفض لرسالة القصيدة الأخيرة، التى تحثه على رفض مشاريع التسوية التى تنتقص من حقوق الشعب الفلسطينى وقال: لا.. لا أوافق أعطنى دولة ولو «متر فى متر».
تذكرت هذه الحكاية بعدما قرأت الحوار الهام الذى أجراه الأستاذ «غسان شربل» رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط مع القائد الفلسطينى «ياسر عبدربه» أمين السر السابق للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأحد المقربين من ياسر عرفات ممن شاركوا فى جولات المفاوضات المتعددة مع الجانبين الإسرائيلى والأمريكى سعيا لتنفيذ تعهدات اتفاقيات أوسلو، وكشف فيها عن المناورات الأمريكية – الإسرائيلية المشتركة للمراوغة والتنصل من العهود. وأوضح كيف ساهمت إدارتا كلينتون وبوش الابن فى إضعاف سلطة عرفات بعد تشكل السلطة الوطنية فى أعقاب أوسلو، وبترويج الأكاذيب خدمة لضمان نجاح الحكومة الإسرائيلية القائمة، ليتم التأكد مجددا أن ممارسة الضغوط على الفلسطينيين لتقديم مزيد من التنازلات للتحكم فى نتائج الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية، كم يحدث الآن، بات سياسة ثابتة لدى الطرفين الأمريكى والإسرائيلى، وعصفا بمبادئ القانون الدولى وقيمه الأخلاقية. كما تم وصم عرفات بالإرهاب والمراوغة بعد مصادرة سفينة محملة بالأسلحة متجهة إلى غزة وتحميله المسئولية عن خرق الاتفاقات التى لم تلتزم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أصلا ببنودها، والضغط عليه لتشكيل حكومة وتولى محمود عباس رئاستها ورفض المسئولين الأمريكيين والإسرائيليين التعامل معه.
كان محمود درويش يحب ياسر عرفات، لكنه لا يثق فى حسن تقديراته، وظل هو وإدوارد سعيد مستشارين مقربين من عرفات، وعضوين بالمجلس الوطنى الفلسطينى حتى اتفاقات أوسلو. لكن ادوارد سعيد وجه انتقادات صحيحة شكلية وموضوعية فى الوفد الذى تشكل مع عرفات فى مفاوضات أوسلو، وفى القلب منها أن «أبوعمار» وأحمد قريع الذى كان يوصف بمهندس اتفاقات أوسلو لم يكونا يعرفان اللغة الإنجليزية بالقدر الكافى، الذى يجنب المفاوض الفلسطينى الوقوع فى براثن المصطلحات اللغوية المراوغة التى يتقنها الجانب الإسرائيلى، وتفرض حقائق على الأرض لم تظهر بشكل واضح للجانب الفلسطينى أثناء التفاوض، لكنها تجلت فى الوضع القائم الآن «دولة متر فى متر»!
وللحديث بقية
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: على فكرة أمينة النقاش المجلس الوطني الفلسطيني المقاومة الفلسطينية محمود درویش
إقرأ أيضاً:
مجزرة الصالحة.. متى يستيقظ ضمير الكفيل والعميل؟!!
مجزرة تدمي القلوب نفذتها المليشيا فى يوم دام بصالحة امس وهي تقدم على تصفية 31 مواطنا اعزلا بدم بارد.
جرائم المليشيا ليست جديدة فقد فعلوها كثيرا ” ود النورة والتكينة ، وعدد من المناطق،” بولاية الجزيرة ، ومازالوا يرتكبونها فى الفاشر وما حولها وبشكل يومي وقد نفذوها فى الجنينة بحق الوالي الشهيد خميس ابكر وباهلنا المساليت، الغريب فى الامر ان العالم مازال يلتزم الصمت المخزي تجاه ما يحدث من جرائم بحق السودانيين ..
والغريب كذلك ان بعض القوى السياسية الخائبة المتحالفة مع الجنجويد تنظر اليهم ك”طرف” يساوونه مع الجيش رغم ما اقترفوه من جرائم وما ارتكبوه من موبقات بحق المواطن السوداني الأعزل…
تمنيت ان تيقظ هذه الجريمة البشعة ضمير العالم ، وتحرج المتواطئين مع المليشيا من شذاذ الافاق الذين اختاروا العيش عبدة للعمالة الجالبة للدولار والدرهم، ولكن ما اظن ان لهؤلاء نخوة او انسانية اواخلاق تسعفهم ليكونوا حتى بشرا عاديين يالمون لالم الشعب السوداني ، ويغضبون لغضبه، فقد باعوا الوطن واهله فى مزادات شراء الضمائر منذ ان اختاروا موالاة “عصابة ال دقلو المجرمة”..
ومثلما فعلوا حينما قتلوا خميس ابكر والي غرب دارفور ومثلوا بجثته هاهم الجنجويد يوثقون لفعلتهم، ويخرج مستشاروهم العملاء ليعلنوا فى القنوات الفضائية انهم اعدموا المواطنين لانهم يتبعون للجيش، ومن قال ان الاسير يفتل حتى ولو قبلنا ما يقولون..
ماحدث فى صالحة امس يلخص بوضوح دموية المليشيا وبؤس توجهها القائم على قتل الشعب وسحل المدنيين، ويؤكد ان هؤلاء القتلة لايمكن ان يكونوا امينين على دولة وشعب يصفونه كل يوم بدم بارد..، ما حدث بلاغ فى بريد العملاء الذين يسعون صباح مساء لفتح مسارات التفاوض مع الجنجويد والتسامح مع ما اقترفوه من جرائم لن تسقط قطعا بالتقادم… ماحدث رسالة الى العالم الذى مازال يخذلنا، للقوى الكبرى التى تدعي انحيازها للانسانية والعدالة والسلام وهي تفشل فى ردع دويلة الشر الامارات كفيل المليشيا الذى وفر السلاح لقتل السودانيين فى كل يوم…
ماحدث فى صالحة بالامس يملؤنا يقينا بانه “ماحك جلدك مثل ظفرك فتول انت جميع امرك”، ويبدو ان المليشيا لاتابه بالعالم لانها تعلم قوة صوت الكفيل الاماراتي الذى يشتري صمت المؤسسات الدولية بالمال والنفوذ والمصالح.. الصمت فضيحة للعالم ولمؤسساته الدولية ولكل القوى التى اصطفت الى جانب التمرد..
ليس لدينا ملجأ الا الله نبتهل اليه صباح مساء ان يكلل بلادنا بنصر تتعجب منه الخلائق، وان يقصم ظهر المليشيا وداعميها فى الامارات وحاضنتهم السياسية فى “صمود وتقدم” ، وليس امامنا سوى جيشنا وقواته المساندة هم من نعول عليهم لتاديب هؤلاء القتلة الغجرة الذين يعيثون فسادا فى الارض ويستحلون دماء واعراض اهل السودان فى كل يوم…
محمد عبدالقادر
إنضم لقناة النيلين على واتساب