مارس 8, 2024آخر تحديث: مارس 8, 2024

إبراهيم أبو عواد

كاتب من الأردن

 

     إنَّ عِلْمَ النَّفْسِ قائمٌ على تَحليلِ العَالَمِ الداخلي للإنسان ، وإرجاعِ حياته الباطنية إلى عناصرها البِدائية الأوَّلِيَّة ، وربطِ السلوكِ اليَومي بتأثيراتِ العقلِ وإفرازاتِ الشخصيةِ وأساليبِ التفكيرِ ، مِن أجْلِ فَهْمِ وُجودِ الإنسان كَكَائن حَي وحُر ، والتَّحَكُّمِ بِمَسَارِه ، والتَّنَبُّؤ بِمَصِيرِه .

وكُلُّ إنسان لَدَيه حَيَوَات كثيرة وشخصيات مُتعددة ، وَوَحْدَها اللغةُ هي القادرةُ على وَضْعِ الخُطوطِ الفاصلةِ بَين حَيَوَاتِ الإنسانِ ، وتَحديدِ نِقَاطِ الاتصالِ والانفصالِ بَيْنَ شخصياته . وهذا لَيس غريبًا ، فاللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ التي تَجْمَع بَين السُّلوكِ والشُّعورِ في إطار التَّسَلْسُلِ الفِكري المَنطِقي .

     واللغةُ لا تَتَجَسَّد حُلْمًا وواقعًا إلا في الأدب ، باعتباره الشكل الإبداعي المُعَبِّر عَن عواطف الإنسان ، والتَّعبير الفَنِّي المُظْهِر لأفكارِه وهَوَاجِسِه ، كما أنَّ اللغة لا تَتَشَكَّل كِيَانًا وكَينونةً إلا في التاريخ ، باعتباره الوِعاء الوُجودي للتُّرَاثِ الثقافي ، والتأويل العقلاني للفِعْلِ الاجتماعي المُتَدَفِّق في الزمانِ والمكانِ . وهكذا تُصبح اللغةُ مِحْوَرَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الغريزةِ الفِطْرِيَّةِ والإرادةِ الحُرَّة ، ونُقْطَةَ الالتقاءِ بَيْنَ الرُّوحِ والمَادَّةِ .

     وعِلْمُ النَّفْسِ على ارتباط وثيق بالأدبِ والتاريخِ _ تأثُّرًا وتأثيرًا _ ، باعتبارهما مِن أهَمِّ العُلومِ الإنسانية التي تَهدِف إلى تَجذيرِ مَعرفةِ الإنسانِ بِوُجوده ، وتحليلِ عَلاقته بالكائناتِ الحَيَّةِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ وعَناصرِ الطبيعة .

     ومِن أبرزِ الأمثلةِ على تأثير الأدبِ في عِلْمِ النَّفْسِ ، رِوايةُ ” لوليتا ” ( 1955 ) ، للروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف (1899 _ 1977 )، وقد تَمَّ تَحويلُها إلى فِيلم سينمائي صدر في سنة 1962 ، مِن إخراج الأمريكي ستانلي كوبريك ( 1928 _ 1999 ) الذي يَعتبره الكثيرون واحدًا مِن أعظم صُنَّاع الأفلام في التاريخ .

     أبرزت الروايةُ مَواضيع مُثيرة للجدل ، ومُنِعَتْ في الكثير مِن البُلْدَان بوصفها تتناول حالةً مُخالِفة للقانون ، وسُلوكًا يُعْتَبَر تَحَرُّشًا جِنسيًّا بالأطفال ، فبطلُ الرواية ” هَمْبِرْت هَمْبِرْت ” هو أستاذ أدب في مُنتصف العُمر ، مريض بشهوة المُراهقين ، يَرتبط بعلاقة جنسية معَ الفتاة دولوريس هيز ذات الاثنَي عشر عامًا ، بعد أن أصبحَ زَوْجًا لأُمِّهَا ، و ” لوليتا ” هو لقب دولوريس الخاص .

     يعتمد أسلوب المؤلف في هذه الرواية على السَّرْد الذاتي ، حيث يقوم ” همبرت همبرت ” بسرد قِصَّته معَ دولوريس مِن جانب واحد ، كاشفًا عن مشاعره الذاتية وأحاسيسه الشخصية ، مُحَاوِلًا كسب تعاطف القارئ ، وهذه العلاقة المتوترة تنتهي بشكل مأساوي . وقَد قَدَّمَت الروايةُ تحليلًا نَفْسِيًّا للهَوَسِ الجِنسي بالصغيرات     ( البيدوفيليا ) .

     صارتْ ” عُقْدَة لوليتا ” ( عُقْدَة الحِرمان الكبير ) مِن أشهر العُقَد النَّفْسِيَّة بَين المُراهِقَات ، وهي وُقوع الفتاة في حُب رَجُل يَكْبُرها بِضِعْفِ عُمرها على الأقل، أوْ في عُمر أبيها ، لَيْسَ هذا فقط ، بَلْ إنَّها كذلك تُحاول لَفْتَ نَظَرِه وَجَذْبَ انتباهِه بِكُلِّ مَا تَملِكه مِن قُدرة على فِعْل ذلك . وغالبًا مَا يَكُون السببُ وراء ذلك هُوَ حِرمانها مِن والدها في الطفولةِ ، أوْ فِقْدَانها لاهتمامه . وبما أنَّها لَمْ تَجِد الاهتمامَ داخل البَيْت ، فإنَّها تَبحَث عَنه خارج البَيْت . وهذا دائمًا يَرجِع إلى أسباب نَفْسِيَّة عِند الفتاة أوْ أسباب اجتماعية تَتَعَلَّق بالمَادَّة . والجديرُ بالذِّكْر أنَّ مَلْءَ الفراغ العاطفي يَبدأ مِن داخل الإنسان .

     ومِن أبرز الأمثلةِ على تأثير عِلْمِ النَّفْسِ في التاريخِ ، نظريةُ التَّحَدِّي والاستجابةِ ، التي وضعها المُؤرِّخ البريطاني أرنولد توينبي (1889_ 1975 )، وهو مِن أشهر المُؤرِّخين في القرن العشرين، ويُعْتَبَر أهَمَّ مُؤرِّخ بحث في مسألة الحضارات بشكل مُفصَّل وشامل .

     ويُفَسِّر توينبي نُشُوءَ الحَضارات الأُولَى ، أوْ كما يُسَمِّيها الحضارات المُنقطعة ، مِن خلال نظريته الشهيرة الخاصة بـ ” التَّحَدِّي والاستجابة ” ، التي يَعترف بأنَّه اسْتَلْهَمَهَا من عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي ، وعلى وَجه الخُصُوص مِن عَالِم النَّفْس السويسري كارل يونغ ( 1875 _ 1961 ) مُؤسِّس عِلْم النَّفْس التَّحليلي ، الذي يَقُول إنَّ الفَرْدَ الذي يَتعرَّض لصدمة قَد يفقد توازنه لفترة ما، ثُمَّ قَد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة :

     أ _ استجابة سلبية : تَتَمَثَّل في النُّكُوصِ والرُّجُوعِ إلى الماضي والتَّمَسُّك به ، ومُحاولة استرجاعه واستعادته تعويضًا عن واقعه المُرِّ في مُحاولة يائسة ، فَيُصبح الفردُ مُتَوَحِّدًا انعزاليًّا انطوائيًّا .

     ب _ استبجابة إيجابية : تَتَمَثَّل في تَحَدِّي الواقع والاعتراف بالصدمة ومُحاولة التَّغَلُّب عليها ، فَيُصبح الفردُ مَرِنًا تفاعليًّا انبساطيًّا .

     إنَّ ” التَّحَدِّي والاستجابة ” نظرية في التاريخ، اقْتَبَسَهَا توينبي مِن عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي ( العِلْم الذي يَدرس العلاقةَ بين العقلِ والسُّلُوكِ مِن أجْلِ اكتشافِ أنماطِ السُّلُوكِ وخَصائصِ الأفعالِ ) ، وقامَ بتطبيقها على الأُمَمِ والحضاراتِ ، فالأُمَمُ حِين تَتَعَرَّض للمخاطرِ العظيمةِ والأزماتِ الشديدة، وتَكُون هي الحَلْقَةَ الأضعف ، ويَكُون تَوَازُن القُوى في غَيْرِ مَصلحتها ، فإنَّها تَعُود إلى تُراثِها الحضاري ، وذاكرتها المَاضَوِيَّة ، في مُحاولة لاستجماعِ قُوَّتها ، واستنهاضِ قُدرتها على مُواجهة التَّحَدِّي ، فالتاريخُ لا يُمكِن استرجاعُه إلا بشكل تَمَاثُلِي أوْ تَشَابُهِي ، ولا يُمكِن استعادته إلا كَمَأسَاةٍ أوْ مَلْهَاةٍ .

     والحضارات _ حَسَب نظرية توينبي _ تَصْعَد أوْ تَسْقُط على قَدْرِ استجابتها للتحدياتِ والأزماتِ التي تُواجهها، فإمَّا أن تَنكمش على ذاتها ، وتَتَقَوْقَع على نَفْسِها ، وتَنسحب مِن الحياة، وتَرْجِع إلى الوراء ، وإمَّا أن تَتَحَدَّى الواقعَ بالإبداعِ والابتكارِ في مُحاولة مِنها لتجاوزه ، وصناعة واقع جديد مُنَاسِب لِمُتَطَلَّبَاتِ العَصْرِ ومُقتضياته .

المصدر: وكالة الصحافة المستقلة

كلمات دلالية: فی التاریخ م حاولة الذی ی

إقرأ أيضاً:

صراع الهبوط والقمة والمقاعد الأوروبية| الدوري الإنجليزي يدخل مراحله الحاسمة.. دراما كروية حتى النفس الأخير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يقترب الدورى الإنجليزى الممتاز ٢٠٢٥ من نهايته، ومع كل جولة تزداد الإثارة، حيث بدأت تتحدد معالم المعارك الثلاث الكبرى: صراع الهبوط، معركة البقاء للفرق الكبرى، وحرب المراكز المؤهلة للبطولات الأوروبية، إضافة إلى معركة اللقب المثيرة بقيادة ليفربول.

وعلى الرغم من أن الدوري لم ينته رسميًا ولا تزال هناك ١٥ نقطة كاملة متاحة لكل فريق من خلال ٥ مباريات متبقية، إلا أن ملامح كثيرة بدأت تتضح مبكرًا سواء فى قاع الجدول أو قمته.

ثلاثى الهابطين يقترب من الاكتمال

حتى الآن، تم تأكيد هبوط فريقين رسميًا إلى الدرجة الأولى، وهما ساوثهامبتون الذى حصد فقط ١١ نقطة طوال الموسم، وليستر سيتى الذى جمع ١٨ نقطة. 

وبدت رحلة الفريقين مأساوية، مع عجز واضح عن مجاراة إيقاع البريميرليج. أما إبسويتش تاون، الذى يقاتل للبقاء، فلم يتبق له سوى نقطة واحدة إضافية مهدرة ليُحسم مصيره رسميًا ويلتحق بالهابطين، حيث لم يتمكن من تحسين نتائجه بشكل كافٍ فى الأسابيع الأخيرة.

بقاء مانشستر يونايتد وتوتنهام رسميًا

وسط المعركة المحتدمة للهروب من الهبوط، تمكن مانشستر يونايتد من ضمان البقاء رسميًا بعد أن وصل إلى النقطة ٣٨، مبتعدًا عن مناطق الخطر. كما تأكد بقاء توتنهام هوتسبير أيضًا برصيد ٣٧ نقطة، ليحافظ الفريقان الكبيران على تواجدهما فى البريميرليج الموسم المقبل، رغم الأداء المتذبذب الذى وضع جماهيرهما فى حالة قلق لفترات طويلة.

كراسى موسيقية مشتعلة

لا تقل معركة حجز مقاعد البطولات الأوروبية سخونة عن صراع القاع. فهناك صراع حامى الوطيس بين عدد كبير من الفرق، من المركز الثانى حتى المركز العاشر، لحجز تذاكر التأهل إلى دورى أبطال أوروبا، الدورى الأوروبي، ودورى المؤتمر الأوروبي.

فى صدارة هذه المعركة، يحتل آرسنال المركز الثانى برصيد ٦٦ نقطة، وهو الأقرب لضمان مقعد فى دورى الأبطال. ويطارده نيوكاسل يونايتد بـ٥٩ نقطة، بينما يحل مانشستر سيتى ثالثًا بشكل مؤقت بـ61 نقطة، ويلاحقه تشيلسى سادسًا بـ٥٧ نقطة. 

المفاجأة تتمثل فى تواجد نوتينجهام فورست وأستون فيلا أيضًا بنفس رصيد تشيلسى (٥٧ نقطة)، مما يجعل الصراع على أشده على المراكز المؤهلة للأبطال والدوري الأوروبي.

فى وسط الجدول، يحاول بورنموث (٤٩ نقطة)، فولهام (٤٨ نقطة) وبرايتون (٤٨ نقطة) اللحاق بالركب، حيث يملكون فرصًا واقعية لخطف بطاقة المشاركة فى دورى المؤتمر الأوروبى على الأقل، بحسب نتائج الجولات الأخيرة.

بهذه الصورة، لا توجد أى مقاعد أوروبية محسومة بعد، مما يجعل كل مباراة متبقية بمثابة نهائى بالنسبة لهذه الفرق.

خطوة واحدة عن اللقب

أما معركة اللقب، فتبدو خاصة جدًا هذا الموسم. إذ يقترب ليفربول من التتويج رسميًا بلقب الدورى الإنجليزى الممتاز، ويحتاج فقط إلى الفوز فى مباراته المقبلة ضد توتنهام لضمان اللقب بغض النظر عن نتائج الفرق الأخرى.

كما أن ليفربول قد يحسم اللقب مبكرًا حتى دون أن يلعب، فى حال تعرض ملاحقه آرسنال للهزيمة أمام كريستال بالاس فى الجولة القادمة. 

بهذه الحسابات، فإن الفريق الأحمر يمتلك مصيره بالكامل بيده، ليواصل مسيرته التاريخية هذا الموسم تحت قيادة آرنى سلوت ليفربول أظهر طوال الموسم اتزانًا كبيرًا بين الدفاع والهجوم، ما جعله الفريق الأكثر استحقاقًا للقب.

نهاية مشتعلة

مع تبقى أسابيع قليلة على النهاية، تزداد الأجواء اشتعالًا سواء فى القمة أو القاع ينتظر عشاق البريميرليج نهاية درامية مليئة بالتحولات والمفاجآت حتى اللحظة الأخيرة، فى موسم استثنائى لن يُنسى بسهولة.

مقالات مشابهة

  • الأمم المتحدة تحث الهند وباكستان على ضبط النفس بعد الهجوم المسلح بإقليم كشمير
  • الأمم المتحدة تدعو الهند وباكستان إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس
  • السيسي: ستبقى مصر رافعة الرأس عزيزة النفس شديدة البأس ترعى الحق
  • ضبط النفس.. الأمم المتحدة توجه نداءا عاجلا إلي كلا من الهند وباكستان
  • "أنا سينا".. أغنية جديدة من الشئون المعنوية تجسد روح الأرض والتاريخ في ذكرى تحرير سيناء
  • باكستان تلوح بالحرب والرد على الهند والتاريخ يقول غير ذلك.. نخبرك القصة كاملة
  • نصيحة أمين الفتوى لشاب كلما أقلع عن الذنب عاد إليه من جديد
  • المحللون يستخدمون الذكاء الاصطناعي لرسم صورة نفسية للاعبي كرة القدم
  • نسور العراق… حراس السماء والتاريخ
  • صراع الهبوط والقمة والمقاعد الأوروبية| الدوري الإنجليزي يدخل مراحله الحاسمة.. دراما كروية حتى النفس الأخير