في الأول من يناير/كانون الثاني 2024 أعلن رئيس أرض الصومال موسى بيهي عبدي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد التوصل إلى اتفاق تمنح بمقتضاه "جمهورية" أرض الصومال (غير المعترف بها دوليا) إثيوبيا مرفأ على البحر الأحمر يطل على خليج عدن.

ولم يمض يومان على ذلك الإعلان إلا وأكده بيان رسمي إثيوبي، واندلعت المظاهرات في مقديشو عاصمة دولة الصومال المركزية احتجاجا على الاتفاق الذي فتح الباب أمام اعتراف أديس أبابا بأرض الصومال دولة مستقلة.

ومن المرجح أن تفيد الصفقة بشكلها المعلن كلا الطرفين، ولكن حتى لو لم يتم تنفيذ الاتفاق بشكل كامل فإنه كفيل بإعادة صياغة التوازن الإقليمي وخارطة التحالفات الجيوسياسية على ضفتي هذا الجزء من جنوب البحر الأحمر، ناهيك عن إحياء صراعات قديمة في هذا الجزء المضطرب من أفريقيا.

وتبدو إثيوبيا مستعدة لأن تكون الدولة الوحيدة التي تعترف بـ"جمهورية" أرض الصومال مقابل الوصول إلى البحر الأحمر رغم أن هذا الإعلان أثار غضب دول شرق أفريقيا، حيث يمكن أن يشعل التحالف الجديد الصراع من جديد في المنطقة المضطربة بالفعل.

الصومال أعلن أن الاتفاق لاغ وباطل واصفا إياه بأنه عدوان مباشر على سيادته وسلامة أراضيه (وكالة الأناضول) صراع جغرافي

ومنذ أن فقدت إثيوبيا سواحلها على البحر الأحمر عقب استقلال إريتريا في العام 1993 باتت طموحات أديس أبابا الإمبراطورية للهيمنة على القرن الأفريقي مرهونة بإيجاد موطئ لقدمها على البحر الأحمر مرة أخرى.

فمنذ فقدانها سواحل إريتريا يزعم الإثيوبيون أن بلادهم تعرضت لعملية سطو لجزء أصيل من أراضيها، وذلك على الرغم من أن إريتريا حصلت على استقلالها من خلال تفعيل مواد الدستور الإثيوبي التي منحت أسمرا الحق في استعادة استقلالها.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023 ترجم رئيس الوزراء آبي أحمد تلك الدعاوى الشعبوية بتصريحه بأن البحر الأحمر هو "الحدود الطبيعية" لإثيوبيا، زاعما أن الإثيوبيين لا يمكنهم أن يحيوا داخل هذا "السجن الجغرافي".

وبشأن هذه المزاعم الإثيوبية والتي تساق كمبرر للاتفاقية التي أبرمتها مع أرض الصومال التي تمثل انتهاكا صارخا لميثاق الاتحاد الأفريقي أكد البروفيسور توماس ماندروب الأستاذ في معهد دراسات الحرب والإستراتيجية بكلية الدفاع الملكية الدانماركية للجزيرة نت أن ما شهدته إثيوبيا في عام 1993 جرى طبقا لدستورها الاتحادي.

واستطرد البروفيسور قائلا "أما في ما يتعلق باتفاقية استئجار إثيوبيا جزءا من ساحل أرض الصومال فإن ما شاب الاتفاقية من حديث عن اعتراف الأولى باستقلال الأخيرة فإنه يمثل اعتداء على السيادة الوطنية وتهديدا لها".

وعلى مدى العقود الماضية اعتمدت إثيوبيا على جيبوتي في نقل أكثر من 95% من وارداتها وصادراتها، لكن جيبوتي -التي تستضيف العديد من القواعد العسكرية الأجنبية- تفرض على إثيوبيا رسوما للموانئ بما يتجاوز مليار دولار سنويا، وهو الأمر الذي أنهك الاقتصاد الإثيوبي المنهك بالفعل، والذي وصل إلى حد أن فشل في سداد ديونه الخارجية مؤخرا، مما جعل الوصول المباشر إلى البحر الأحمر طوق نجاة له.

وبموجب الاتفاق مع أرض الصومال، ستؤمّن إثيوبيا وصولا أقل تكلفة وأكثر اعتمادية إلى البحر الأحمر عبر ميناء بربرة، وذلك باستئجار شريط ساحلي بطول 20 كيلومترا لمدة 50 عاما يسمح لها أيضا ببناء قاعدة بحرية وتطوير ميناء تجاري على خليج عدن الإستراتيجي، وهي منطقة -على عكس جيبوتي- ليست مركزا إقليميا، على الأقل حتى الآن.

أرض الصومال

وعلى عكس مستعمرة الصومال الإيطالية كانت أرض الصومال محمية بريطانية حتى العام 1960، وبعد حصولها على الاستقلال في 26 يونيو/حزيران من ذلك العام أصبحت أرض الصومال دولة مستقلة وذات سيادة لمدة 5 أيام فقط.

وفي الأول من يوليو/تموز 1960 اندمجت البلاد طوعا مع الأراضي الصومالية الخاضعة للإدارة الإيطالية، ثم ولدت جمهورية الصومال، وفي العام 1991 وفي أعقاب حرب ضروس بين الحركة الوطنية الصومالية -التي اتخذت قواعدها في أرض الصومال- ونظام سياد بري في مقديشو أعلنت أرض الصومال استقلالها مرة أخرى، ولكن هذه المرة تجاوز عمر الكيان 5 أيام ممتدا إلى الوقت الحالي.

ومنذ ذلك الحين نجحت أرض الصومال في أن تفرض نفسها كأمر واقع، فمن دون اعتراف دولي نجحت في تنفيذ نمط مغاير لبناء كيان الدولة، وهو نمط البناء من القاعدة إلى القمة، وبدمج السلطات القبلية في مؤسسات على النمط الغربي.

يبلغ عدد سكان أرض الصومال 5.7 ملايين نسمة، ولها دستورها وجواز سفرها وجيشها وعملتها الخاصة، كما أن لديها حكومة ورئيسا، فضلا عن انتخابات مباشرة منتظمة، ومع ذلك بقي غياب الاعتراف الدولي بها عائقا أمام الحصول على التمويل والمساعدات التي تحتاجها لتحقيق التنمية الاقتصادية.

ويتضمن الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال العديد من بنود التعاون، بما في ذلك بنود لجلب الاستثمار إلى ميناء بربرة وعلى طول الممر التجاري بربرة-هرجيسا -واجالي، وستحصل أرض الصومال -بموجب الاتفاق- على حصة 20% من الخطوط الجوية الإثيوبية، بالإضافة إلى تعاون عسكري على مستوى عال مع أديس أبابا، ولكن يبقى السؤال هو ما إذا كانت إثيوبيا ستعترف رسميا باستقلال أرض الصومال، وهو الأمر الذي أصبح أكثر إلحاحا وتعقيدا بعد اكتشاف احتياطيات النفط مؤخرا قبالة ساحل أرض الصومال، وهو ما يحرص الطرفان على عدم الترويج له.

مقدمات زلزال قرن أفريقي

وقوبلت الصفقة بحماسة في أرض الصومال، لكنها في الوقت نفسه أثارت احتجاجات، فبعد أسبوع فقط من الإعلان عن الاتفاق وفي 8 يناير/كانون الثاني استقال وزير الدفاع عبد الغني محمود عطية احتجاجا على الاتفاق، منتقدا رئيسه موسى عبدي لعدم استشارة مجلس الوزراء بشأن صفقة الميناء وأنهم علموا بمذكرة التفاهم من وسائل الإعلام الخاصة، وأن الاتفاق يسمح للقوات الإثيوبية بدخول أرض الصومال، مما يشكل تهديدا حيويا للأمن القومي.

وينحدر عطية من منطقة أودال في أرض الصومال، حيث يقال إن إثيوبيا تريد إقامة قاعدتها العسكرية في مدينة لوجايا الساحلية.

من جانبه، أعلن الصومال أن الاتفاق لاغ وباطل، واصفا إياه بأنه عدوان مباشر على سيادته وسلامة أراضيه، وأنه يتعارض مع سياسة الصومال الواحد ويضعف جهود تحقيق الاستقرار في مقديشو.

وفي عام 2006 نجحت إثيوبيا في الحصول على إذن من الرئيس المصري الأسبق حسنى مبارك بالتدخل عسكريا في الصومال وإيقاع هزيمة كبيرة باتحاد المحاكم الإسلامية التي كانت تسيطر على أجزاء من البلاد، وهو ما اعتبرته حركة الشباب غزوا تطور إلى احتلال إثيوبي، وذلك بالنظر إلى أن القوات الإثيوبية الغازية تحولت كي تشكل أكبر الكتائب المشاركة في قوات حفظ السلام بالبلاد.

وقد أدانت حركة الشباب الصفقة، ومن المرجح أن تستغلها لكشف نقاط ضعف الحكومة الفدرالية.

وقد تجد الحكومة الصومالية نفسها بين المطرقة والسندان، فقد يكون لتحدي أديس أبابا عواقب على الأمن الصومالي، بالنظر إلى أن القوات الإثيوبية تشكل واحدة من أكبر الوحدات بين مجموعات حفظ السلام في البلاد.

أما مصر فبالنظر إلى نزاعها مع إثيوبيا بشأن مياه النيل فإنها تخشى منافسة محتملة في البحر الأحمر، ومن أن الصفقة محاولة من أديس أبابا لزعزعة استقرار المنطقة وتأكيد هيمنتها.

وعلى صعيد إريتريا، فقد أدت طموحات إثيوبيا المتجددة إلى إشعال التوترات القديمة بين الجارتين، وهو ما دفع أسمرا إلى السعي للتقارب مع مقديشو.

أما الاتحاد الأفريقي فقد أعرب عن قلقه وحث جميع الأطراف على ممارسة "ضبط النفس ووقف التصعيد"، فبعد الموجة الأخيرة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها القارة تخشى المنظمة أن تسفر الاتفاقية بين أرض الصومال وإثيوبيا عن تجدد عدم الاستقرار في القرن الأفريقي قد يؤدي إلى نزاع مسلح.

وعلى الرغم من أن الاتحاد الأفريقي يخشى في الوقت ذاته من أن تؤدي الاتفاقية إلى تأسيس سابقة لحركات انفصالية أخرى في القارة فإن هذا التخوف يبدو متعارضا مع تعمد لجنة تقصي الحقائق التابعة للاتحاد الأفريقي في العام 2005، والتي خلصت إلى أن مطالبة أرض الصومال بالاستقلال تعد فريدة من نوعها تاريخيا ومبررة ذاتيا.

وبدا الاتحاد الأفريقي بذلك الوصف الذي أتت عليه لجنة تقصيه للحقائق -المسيطر عليها من جانب إثيوبيا الدولة المضيفة للاتحاد الأفريقي- وكأنه يبقي الباب مواربا لاستقلال محتمل لأرض الصومال.

وبشأن ماهية الإجراءات التي يمكن أن يتخذها الاتحاد الأفريقي بخلاف البيان المعتاد الذي يعبر عن القلق ويحث جميع الأطراف على ممارسة ضبط النفس ووقف التصعيد، أوضح البروفيسور توماس ماندروب أنه لا يمكن للاتحاد الأفريقي قبول تصرف دولة عضوة بما يخالف الميثاق، مشيرا إلى أن الاعتراف بأرض الصومال كأمر واقع ينظر له كعمل عدائي ضد الصومال ومبادئ الاتفاقيات الخاصة بمستقبله.

وقال ماندروب إن أرض الصومال ظلت منطقة مستقرة نسبيا لسنوات وإن امتنعت عن الرغبة في إعادة التوحيد مع بقية الصومال، أما بونتلاند فهي حالة مختلفة حيث إنها تتمتع بالحكم الذاتي، ولكنها ترغب في أن تكون جزءا من الصومال الكبير، وهو الأمر الذي يطرح احتمالين للصراع: الأول أكثر عدوانية ويكون مسلحا، والآخر يكون مكتوما.

أما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة -اللتان استثمرتا بشكل ضخم في تحقيق الاستقرار في الصومال- فإن الاتفاق يمثل تحديا خطيرا، فلأسباب تاريخية وجيوسياسية تعاون البلدان مع قادة أرض الصومال، ولكنهما امتنعا حتى الآن في الاعتراف بها رسميا كدولة.

احتجاجات بالصومال بعد توقيع اتفاقية استخدام إثيوبيا ميناء على البحر الأحمر (رويترز) سيناريوهات

الشاهد أن الاتفاق أسفر عن توترات جديدة في منطقة مزقتها الحروب، وهو ما يجعل استشراف ما هو قادم محصورا بشكل رئيسي في مشهدين:

المشهد المرجح: توترات متصاعدة

حيث إن طموحات إثيوبيا في الهيمنة من جانب وسعي أرض الصومال إلى الاعتراف بها من جانب آخر كفيلان بأن يؤديا إلى زيادة التوترات الجيوسياسية وتغيير الولاءات الإقليمية، ومن بين تلك التغيرات:

تقارب بدأ بالفعل بين مقديشو والقاهرة. تعاون أوثق بين مصر وإريتريا. تصادم وشيك بين أديس أبابا وأسمرا، وفي هذا الصدد أكد ماندروب أن الدخول في حرب يعتمد على درجة التحالفات مع الصومال، وهو الأمر الذي ما زال ضبابيا، مضيفا أنه يمكن للاتحاد الأفريقي أن يتوسط، وأن من خلال أجهزته المعنية لا يبدو حتى الآن أنه من المرجح حدوث صراع مسلح بين إثيوبيا وإريتريا. تنسيق وتعاون وثيق بين جيبوتي وكل من مصر والصومال وإريتريا بالتزامن مع ارتفاع وطيس المنافسة بينها وبين أرض الصومال. الاتفاق سيؤدي إلى إضعاف عملية بناء الدولة الجارية في الصومال. المشهد المرجح هو أن التوترات وإعادة صياغة التحالفات في المنطقة لن تصل إلى حد الصراع المسلح الإقليمي، وهذا المشهد لا يتضمن اعترافا دوليا بأرض الصومال، ولكنه سيرسخ وجودها كأمر واقع.

المشهد الأقل ترجيحا: صراع إقليمي

وفي ظل المشهد الثاني الأقل احتمالية فإن التوترات المتصاعدة من شأنها أن تؤدي إلى صراع إقليمي مسلح يشمل العديد من اللاعبين الفاعلين، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من الانقسام.

وقد يكون السبب وراء ذلك هو سياسة آبي أحمد لإحياء القومية الإثيوبية لحشد الإثيوبيين ضد عدو خارجي، وفي هذا المشهد سيتأكد لمصر أن طموحات إثيوبيا في البحر الأحمر -بما في ذلك القاعدة العسكرية على أرض الصومال- تشكل تهديدا وجوديا لأمنها القومي.

ومثل نهر النيل يعد البحر الأحمر حيويا بالنسبة لمصر، حيث تعتبر عائدات قناة السويس -التي وصلت في عام 2023 إلى أكثر من 9 مليارات دولار- أهم مصدر ثابت للعملة الصعبة لها.

ومن الممكن أن تؤدي الصراعات الداخلية إلى إشعال حرب إقليمية، مثل تصعيد الاشتباكات المسلحة في مدينة لاس عانود، وهي العاصمة الإدارية لمنطقة سول في أرض الصومال المتنازع عليها، والتي تقع على طول وادي نوجال الغني بالنفط بين أرض الصومال وبونتلاند، أو هجمات حركة الشباب في إثيوبيا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات للاتحاد الأفریقی الاتحاد الأفریقی على البحر الأحمر وهو الأمر الذی فی أرض الصومال أدیس أبابا أن الاتفاق إثیوبیا فی وهو ما إلى أن

إقرأ أيضاً:

تحالف حارس الأزهار.. البحر الأحمر ومعركة الملاحة العالمية

ليس واضحًا إن كانت الإدارة الأميركية قد قابلت تهديدات الحوثي باستهداف السفن الإسرائيلية، أو تلك المبحرة نحو موانئها في بادئ الأمر بالسخرية ذاتها التي قابل بها سفيرها السابق في اليمن جيرالد فايرستاين شعار الحوثي المعادي لأميركا، ووصفه له خلال مؤتمر صحفي عقده بصنعاء منتصف العام 2012 بالمضحك والسخيف، وذلك قبل سنتين من انقلاب الحوثي على المسار السياسي، وسيطرة جماعته المسلحة على العاصمة صنعاء، أم أنها أخذته على محمل الجِد.

محاولة للهروب

فمنذ بدء الهجمات التي يقول الحوثي إنه ينفذها إسنادًا للمقاومة الفلسطينية في غزة والأنظار تتجه نحو البحر الأحمر ومدخله الجنوبي وصولًا إلى بحر العرب. ورغم تشكيك البعض في قدرة جماعة الحوثي على مواصلة هذه الهجمات خصوصًا أن حرب إسرائيل على غزة قد أخذت مدى زمنيًا غير مسبوق، وسخرية القوى اليمنية المناوئة لها، فإن هجمات الجماعة ضد السفن الإسرائيلية، وتلك المتجهة إلى موانئها، وأيضًا السفن الأميركية والبريطانية في البحر الأحمر، وخليج عدن أخذت شكلًا تصاعديًا منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى" وحتى يومنا هذا. وفي المقابل كثف التحالف الأميركي البريطاني المسمى بتحالف (حارس الازدهار) غاراته الجوية مؤخرًا على مواقع للحوثيين في شمال اليمن، ووسع من دائرة أهدافه.

وكانت المخابرات الأميركية قد كشفت قبل أيام عن تأثر نحو 65 دولة جراء هذه العمليات، وتغيير ما لا يقل عن 29 شركة من شركات الشحن والطاقة الكبرى مساراتها بعيدًا عن المنطقة، وتعرّض أكثر من 12 سفينة تجارية للقصف بين نوفمبر/تشرين الثاني، ومارس/آذار، ناهيك عن محاولات الخطف، وإن كانت قليلة، كما انخفض شحن الحاويات عبر البحر الأحمر بنسبة 90 ٪؜ تقريبًا، وارتفعت أقساط التأمين، وذلك وفقًا لما أورده موقع أكسيوس الأميركي.

ولابد من التوضيح هنا أن الحوثي الذي يتحدث عنه المسؤولون الأميركيون ووسائل الإعلام الأميركية، وكذلك الحوثي الذي انبهرت بهجماته التضامنية مع غزة، الجماهير العربية والإسلامية منذ انطلاقها، يختلف تمامًا عن الحوثي الذي عرفه اليمنيون منذ ظهوره المشؤوم في شمال اليمن، مطلع القرن الحالي، والكثير منهم ينظرون إلى تصعيده في البحر الأحمر وخليج عدن، على أنه مجرد محاولة للهروب من أزماته الداخلية، وأنه استفاد من غزة أكثر من استفادة أهلها ومقاومتها منه.

وبالنظر إلى الأحداث التي شهدها البحر الأحمر كممر حيوي للتجارة الدولية خلال النصف قرن الأخير، على الأقل، فقد كان لافتًا نشر وزارة الدفاع المصرية مطلع هذا العام، وفي خضم معركة "طوفان الأقصى" وفي خطوة غير مسبوقة وثائق تاريخيّة للحرب العربية الرابعة التي شنتها مصر بالتعاون مع سوريا ضد إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 1973؛ لاستعادة أراضٍ عربيةٍ محتلة، ومن ضمن هذه الوثائق أمر بتحريك وحدات بحرية مصرية للتمركز في ميناء مدينة عدن اليمنية – المدخل الجنوبي للبحر الأحمر – قبل اندلاع الحرب بحوالي شهرين وتكليفها باعتراض السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل.

تجربة مريرة

أكدت الوثائق المصرية حديثة النشر ما سبق أن تحدث عنه الرئيس السابق للشطر الجنوبي من اليمن علي ناصر محمد، والذي كان يومها وزيرًا للدفاع، بأن حكومته استقبلت في تلك الفترة سفن الأسطول البحري المصري في عدن وباب المندب، وكانت تتنقل بين عدن والغردقة وبعض الجزر لنقل المواد الغذائية والتموينية، وأنه تم إغلاق مضيق باب المندب في وجه السفن الإسرائيلية، ولم يُفتح إلا بعد اتفاق مصر وإسرائيل على وقف إطلاق النار.

وذكر في مقال نشره قبل نحو سنتين بمناسبة الذكرى السنوية لحرب أكتوبر/تشرين الأول آنفة الذكر، أن حكومته ردت على الضغوط الإسرائيلية عبر حليفها آنذاك الاتحاد السوفياتي بقولها إنها معركة عربية.

ولذلك كانت إسرائيل ولا تزال حريصة كل الحرص على أن يكون لها حضور ما في الدول المطلة على البحر الأحمر، وفي جزره لإدراكها التام – ومن واقع تجربة مريرة – أهميته، وقلقها الدائم من أي استهداف مباشر أو غير مباشر يأتيها منه.

والمتتبع للمشهد على ضفتَي البحر الأحمر ومدخله الجنوبي، يلاحظ التسابق الدولي على التمركز العسكري فيه منذ فترة طويلة بداية بالقاعدة العسكرية الفرنسية في جيبوتي التي تأسّست مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أي بعد حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول بسنوات معدودة، وقبل أن يتحول هذا البلد الصغير إلى وجهة عسكرية لمعظم الدول الكبرى، بفضل موقعه المطل على غرب مضيق باب المندب الإستراتيجي، فأنشأت الولايات المتحدة الأميركية فيه أكبر قواعدها العسكرية في القارة السمراء، واختارته الصين لتمركز قاعدتها العسكرية الوحيدة خارج حدودها الجغرافية، وفيه قاعدة عسكرية يابانية هي الأولى لها خارج أراضيها منذ الحرب العالمية الثانية، ويستضيف على أراضيه قاعدة إسبانية، وأخرى إيطالية.

وبالقرب من جيبوتي لم يغب الجيش الأميركي عن الصومال، رغم خسارته القاسية فيما يعرف بمعركة مقديشو عام 1993 وإن بحضور محدود، وافتتحت تركيا الدولة العضو في حلف الناتو أكبر قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها في العاصمة مقديشو قبل نحو ثماني سنوات، رغم الاضطرابات الأمنية التي تعصف بالصومال، وتوجت وجودها العسكري في القرن الأفريقي بتوقيع اتفاقية للدفاع عن المياه الإقليمية الصومالية، وإعادة تنظيم قواتها البحرية في فبراير/شباط الماضي وعينها على سواكن السودانية، فيما خابت آمال الروس حتى يومنا هذا على الأقل في التموضع العسكري ببورتسودان، لاسيما بعد دخول السودان في دوامة الحرب الأهلية.

احتشاد بحري

وفي الضفة الأخرى للبحر الأحمر وخليج عدن كادت الولايات المتحدة أن تتمركز عسكريًا في مدينة عدن جنوبي اليمن عقب الهجوم الذي استهدف المدمرة يو إس إس كول في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2000 إلا أن حساباتها الأمنية حالت دون ذلك، واكتفت كما المملكة المتحدة بالحضور العسكري المحدود في اليمن تحت مبررات تدريبية وتنسيقية.

في ظل هذا الاحتشاد البحري سواء تحت مسمى عملية "حارس الازدهار" بقيادة أميركا وبريطانيا أو عملية "أسبيدس" التي أطلقتها دول أوروبية لحماية سفنها التجارية، تبدو الصين القطب التجاري الأكثر أهمية في عالم اليوم كمن يراقب الأحداث بصمت، فيما بادرت جارتها – اللدود – الهند إلى استغلال الأحداث لاستعراض عضلاتها ونشر قطعها البحرية قبالة السواحل الهندية، وصولًا إلى خليج عدن تحت غطاء الاستجابة السريعة، وتقديم المساعدة للسفن المستهدفة، دون أن تعلن انضمامها إلى أي تحالف بحري.

وإذا كانت القطع البحرية العسكرية لمعظم دول العالم المتحالفة والمتصارعة على حد سواء، بدءًا من أميركا، ووصولًا إلى إيران، لم تبرح مياه البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب منذ سنوات، تحت مبرّر مواجهة القرصنة التي نشطت بالقرب من باب المندب خلال الفترة الماضية، انطلاقًا من الأراضي الصومالية، فإنّ تزاحمها اليوم يضع المنطقة برمتها أمام سيناريوهات مفتوحة، قد يكون من الصعب التنبّؤ بمآلاتها، خصوصًا أنّ صراع القوى الكبرى في تصاعد مستمرّ، رغم التحذيرات المتكررة، والتأكيد على حاجة العالم الملحّة لخفض التوتر والتصعيد، وضمان تدفّق سلس ومتواصل لسلاسل الإمداد، وذلك للتغلب على تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي الذي تسبّبت به حرب روسيا على أوكرانيا، وتداعيات جائحة كورونا.

وبغض النظر عن النوايا الحقيقية سواء لتلك الدول التي سارعت في إرسال سفنها وبوارجها الحربية إلى البحر الأحمر وخليج عدن أو لجماعة الحوثي وبعد نحو تسعة أشهر من عملية "طوفان الأقصى، فإن هناك تساؤلات كثيرة تبحث عن إجابات.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • اتفاق حكومي على تفعيل الدفع الإلكتروني في الصيدليات والمذاخر
  • الجيش الأميركي يدمر 3 زوارق مسيرة للحوثي في البحر الأحمر
  • تدمير 3 زوارق مسيّرة لليمنيين في البحر الأحمر
  • «داعش» يعزز وجوده في منطقة الساحل الأفريقي
  • (وكالة) أبوظبي تعرض على واشنطن قاعدة في أرض الصومال بدلاً من حاملات الطائرات لمهاجمة الحوثيين
  • الأحزاب بجنوب أفريقيا تقترب من اتفاق لتشكيل حكومة ائتلافية
  • إعلان بريطاني: 12 قاربا حوثيا يحومون حول سفينة في البحر الأحمر
  • تحالف حارس الأزهار.. البحر الأحمر ومعركة الملاحة العالمية
  • الحوثيون يعلنون عن ”تغييرات في قواعد الحرب” في البحر الأحمر
  • الصومال: لا مفاوضات مع «الشباب» الإرهابية