خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف
تاريخ النشر: 8th, March 2024 GMT
مكة المكرمة
أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الأستاذ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي، المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه، وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم في المسجد الحرام: “أيها المسلمون ما أسرع انقضاء الليالي تمضي الأعوام تلو الأعوام وكأنها أضغاث أحلام، وقد جعل الله في تقلب الأيام ومرور الشهور والأعوام تذكرةً وعظةً للأنام؛ ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَار﴾” مستذكرًا بأنا مقبلون بإذن الواحد الجليل على مشارف موسم فضيل يحظى فيه من اغتنمه بالخير الوفير والأجر الجزيل، ومن فضل الله أن شَرعه لنا مواسم خيرات؛ لتدارك ما فات والاستباق إلى الأعمال الصالحات، والتعرض لنفحات رب البريات؛ طلباً لمغفرة الخطايا وتكفير السيئات”، مضيفاً: “إن شهر رمضان لمن أعظم المواسم وأجلها وأكثرها أجراً؛ لذا فما أجمل التواصي بما فيه النفع قبل حلول هذا المغنم الخيِّر الوفير والمتجر الرابح الكبير.
وسأل الله العلي القدير أن يلهم الجميع الرشد والصواب، وأن يتم التوفيق لصالح القول والعمل وحسن المآب، فمن أعظم ما يذكر به تجريد القصد والنية لله جل وعلا، وجَعْلُ الصيام والقيام لله خالصاً؛ فيترك المرء الرياء والعُجب، فإن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان لله خالصاً، وابتغى به صاحبُه وجه الله عز وجل، والحرص على أن يكون له خبيئة من العمل الصالح لا يراها إلا الله، وبما أن أعظم الربح في الدنيا إشغال النفس في كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها، فينبغي لكل منا أن يَعقد العزم من الآن على أن يكون في شهر الرحمات من السابقين إلى الخيرات المشمرين إلى الطاعات؛ فإن أوقاته غالية نفيسة لا تقدر بثمن، ولا يصلح أبداً أن تضيّع أو تهدر وهو يرى الناس يقبلون ويغتنمون، ومع تنوع العبادات في رمضان فمن أجلِّ ما يَقضي فيه العبد وقته أن يعيش مع كتاب ربه تلاوة وتدبراً وأن يعكف عليه آناء الليل وأطراف النهار، وفي المقابل فإنه يبتعد عن الصوارف وكل ما يحجبه عن ربه في هذا الشهر من الشواغل والملهيات، وأن يصون جوارحه عن محارم الله والمفسدات، وأن يكثر من العطاء بكل أنواعه في شهر الجود والبذل، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كما علينا أن نغتنم إقبال الناس في هذا الشهر وحرصهم على الخير بأن نحسن إليهم وأن ننفعهم بشتى أنواع النفع، وعلى رأس ذلك أن تكون من الأمور المشاعة بيننا النصيحة والتذكير والتوجيه والموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلمة الطيبة الصادقة”.
وأكد فضيلته أن الدعوة إلى الله من أعظم القربات إلى الله عز وجل، وقال: “إن من الأمور التي يؤكد عليها وينبغي عدم الغفلة عنها أن نتذكر إخوة لنا في الدين ممن رحلوا عنا وغيبهم الثرى أو نزلت ببعضهم المصائب والضوائق والخطوب أو اضطهدوا في دينهم أو امتحنوا بأن تكالب عليهم الأعداء فكانوا في شدة وكرب وبلاء؛ مبيناً أنه من الواجب نحو هؤلاء أن نستشعر حالهم وننفعهم بما يستطاع وأن نخصهم بدعوة صادقة في ظهر الغيب؛ فإن ذلك من حقوق الأخوة الإسلامية.
وأضاف:” معاشر المسلمين: والمؤمن إذا فاته شيء من الخير فيما مضى ندم عليه وتحسر على فواته، وحَرَص على تداركه واعتياضه؛ فهذا أَنَسُ بنُ النَّضْرِ رضي الله عنه وأرضاه لما غاب عن يوم بَدْرٍ أحس بألم ضياع ما فاته، فقال غِبْتُ عن أوَّلِ قِتَالِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ، وقد وفى بعهده فأبلى بلاءً حسناً في أحد، وكان يقول:
“الجنةَ وربِّ النضر، إني لأجد ريحها من دون أحد” فلما انتهت المعركة وجدوه قد قتل، ومثل به المشركون. وهذا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه وأرضاه يسلم عام الفتح، وشعر بما فاته من سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: “والذي نجاني يوم بدر يا رسول الله لا أدع نفقة أنفقتها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلته في الصد عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله”، ويبر بقسمه، فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا خاضها معهم، ولا خرجوا إلا كان معهم، وفي يوم اليرموك أوغل في صفوف الروم، فبادر خالد بن الوليد قائلاً: “لا تفعل يا عكرمة، إن قتلك على المسلمين سيكون شديداً”، قال: “إليك عني يا خالد، لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة، أما أنا وأبي أبو جهل فقد كنا أشد الناس على رسول صلى الله عليه وسلم، دعني أكفر عما سلف مني”، ولقي الله عكرمة مثخناً بجراحه.” منوهًا في الوقت نفسه لمن أصلح نفسه قبل رمضان وهيأها على حب الخير والرغبة في نيل الأجر والثواب من الله تعالى”.
وبين أن أفضل ما يستقبل به شهر رمضان توبة نصوحاً ونية جازمة على عدم العودة للذنوب والمعاصي والتحلل من أهل الحقوق؛ فلا بد لنا ونحن في هذه الأيام أن نجدد التوبة، فقد كان صلى الله عليه وسلم قدوتنا الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر ربه ويتوب إليه في اليوم مئة مرة. ولا عجب أن نبادر بالتوبة فهي واجبة على كل مؤمن قال تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾ “والتوبة أول منازل السائرين إلى ربهم وأوسطُها وآخرها”، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله. كما أن بقاءنا على المعاصي وعدم التوبة قبل رمضان قد يحرمنا من الجد في العبادة والاجتهاد في قراءة القرآن والقيام، ويمنعنا عن الاستكثار من الخير وصنع المعروف والاستقامة والإحسان، مسترسلاً بقوله: “فلنبادر عباد الله بالتوبة قبل رمضان لنحسن استقباله واغتنامه”.
وأشار إلى أن على كل مفرّط مسيئ فرّط في جنب الله أن يحمد الله على أن مد له في العمر واستبقاه وأمهله حتى يدرك مواسم الخيرات، فيجب المبادرة وتدارك النفس وتعويض ما فات من العمر، مستشهداً بقول ابن القيم رحمه الله: “وَإِنَّمَا حسن طول الْعُمر ونفع ليحصل التذكّر والاستدراك واغتنام الْفرَص وَالتَّوْبَة النصوح كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿أولم نعمّركم مَا يتذكّر فِيهِ من تذكّر﴾ فَمن لم يورثه التَّعْمِير وَطول الْبَقَاء إصْلَاحَ معائبه وتدارك فارطه، واغتنام بقيّة أنفاسه فَيعْمل على حَيَاة قلبه وَحُصُول النَّعيم الْمُقِيم وَإِلَّا فَلَا خير لَهُ فِي حَيَاته”.
وقال: “لذلك يا عباد الله لنأخذ أنفسنا بالجد ولندع التسويف والأماني ولنبادر بالإقبال والاغتنام، ولنعتبر بما يجري لغيرنا؛ فما أكثر من رحل ممن حولنا! قريب رحل، صديق رحل، جار رحل، وفي كل يوم نودع راحلاً ونشيع غاديًا ورائحًا إلى اللَّه عز وجل، حيث كم كانت عند هؤلاء الذين قد قضوا نَحْبَهُم، وَانقَضَت أَجْالُهُم من الآمال والأحلام والمطالب، كم كان منهم من يأمل أن يعيش ليدرك رمضان وأكثرهم فاجأه الموت وكان الأمر غير متوقع ولا مُعَدَّا له، وكثير منهم كان يرتب لحياة طويلة، فإذا به تأتيه منيته وتنقطع لذته، والآن نحن نأمل أن ندرك الشهر -ونسأل الله أن يوفقنا جميعاً لبلوغه ويعينَنا على اغتنامه- لكن كم من إنسان لا يبلغه، وإن كان لم يبق على دخوله إلا قليل، فلنحذر الغفلة وطول الأمل خشية أن يدهمنا الأجل، حيث قال ابن الجوزي رحمه الله: “العمر يسير وهو يسير، فاقصروا عن التقصير في القصير. من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر. الدنيا دار الآفات، الإثم بقي، والالتذاذ فات.
وأضاف: “أيها المشغول باللذات الفانيات متى تستعد لمُلمات الممات. يا شدة الوجل، عند حضور الأجل، يا حسرة الفوت عند حضور الموت ويا خجلة العاصين، يا أسف المقصرين. يا من يذنب ولا يتوب، كم قد كتبت عليك ذنوب، خل الأمل الكذوب، فرُبّ شروق ولا غروب، إن هممت فبادر، وإن عزمت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر. تفكروا في مصارع الذين سبقوا وتدبروا مصيرهم، أين انطلقوا، واعلموا أن القوم انقسموا وافترقوا، قوم منهم سعدوا، وقوم شقوا. من اجتهد وجد، وليس من سهر كمن رقد يا من شاب وما تاب، أموقن أنت أم مرتاب، يا من عمره يمضي بالساعة والساعة، يا كثير التفريط يا قليل البضاعة. مَن عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل. يا من أنفاسه محفوظة، وأعماله ملحوظة أيُنفق العمرُ النفيس في نيل الهوى الخسيس؟!”).
وفي المدينة المنورة أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ عبدالبارئ الثبيتي بتقوى الله تعالى، قال جل من قائل ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )), مبيناً أن اقتراب حلول شهر رمضان له في النفس أزكى مكانة وفي القلوب محبة نهاره خزائن من الرحمات وليله مغفرة.
وقال: إن الإقبال على الله في هذا الشهر ألذ ما في الكون وجوهر الإقبال إقبال القلب بجعل الله عزوجل هو الغاية وأن منافذ الإقبال على الله في رمضان متاحة ومتنوعة مشرعة والصيام من صور الإقبال على الله بترك المسلم طعامه وشرابه ابتغاء مرضاة الله.
وأوضح أن من أقبل على الله بالصيام أقبل الله عليه بجزاء لا يوصف وفضل لا يترك ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه (كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعفُ ؛ الحسنةُ بعشرِ أمثالِها ، إلى سَبْعِمائةِ ضِعفٍ ، قال اللهُ تعالى :إِلَّا الصَّوْمَ ؛ فإنَّه لِي ، وأنا أجزي به ، يَدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلِي ، وللصائمِ فرْحتانِ : فرحةٌ عند فِطرِه ، وفرحةٌ عند لقاءِ ربِّه ، ولَخَلُوفُ فمِ الصائمِ ، أطيبُ عند اللهِ من ريحِ المِسكِ ) .
وتابع إمام وخطيب المسجد النبوي أن الصلاة هي أعظم إقبال على الله فالوقوف بين يدي الله ومناجاته قال صلى الله عليه وسلم (إنَّ أحدَكم إذا قام يُصلِّي إنما يُناجي ربَّه ، فلْينظرْ كيف يُناجيه ) فالصلاة في رمضان روح وريحان, وقراءة القرآن في رمضان تزيد القارئ إقبالاً على الله فكل حرف يقرب من الله تعالى فاقتران رمضان بالقرآن هو النعيم فهو سبب لإقبال الله على العبد قال صلى الله عليه وسلم (يقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها ).
وبين أن على المقبل على الله استثمار كل لحظة من رمضان لأنه سريع الانقضاء فالجزاء عظيم والفضل كبير ففي الحديث عنْ أَبي هُريرةَ، أنَّ رسُولَ اللَّه قالَ ( يقُولُ اللَّه تَعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعهُ إِذَا ذَكَرَني، فَإن ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي، وإنْ ذَكَرَني في ملإٍ، ذكَرتُهُ في ملإٍ خَيْرٍ منْهُمْ ) وكذا الدعاء في رمضان مقامه عليّ وشأنه جليّ قال تعالى ((إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ? أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ? فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )).
وأشار إلى أن النفوس في رمضان تهفو إلى الاستجابة إلى مساعدة الآخرين والشعور لآلام المسلمين فهو جالب لرحمة عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما يبلغ به عن النبي صلى الله عليه وسلم : «الرَّاحمون يرحَمُهمُ الرحمنُ، ارحموا أهلَ الأرضِ، يرحمْكم مَن في السماءِ».
وأوضح أن إقبال الله على العبد يكون بجوده وكرمه ورحمته ومغفرته قال صلى الله عليه وسلم يقولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( مَن جَاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَن جَاءَ بالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ منه ذِرَاعًا، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ منه بَاعًا، وَمَن أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَن لَقِيَنِي بقُرَابِ الأرْضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بي شيئًا، لَقِيتُهُ بمِثْلِهَا مَغْفِرَةً. وفي روايةٍ: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، أَوْ أَزِيدُ ).
وبين أن المسلم حين تحل به مواسم الطاعة يفرح بها ويشمر عن ساعد الجد ليغتنم مواسم الخير ويعمر أوقات الطاعة التي لا تفوت يسابق إلى المغفرة والجنة قال صلى الله عليه وسلم (مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ.
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: المسجد الحرام المسجد النبوي خطبة الجمعة قال صلى الله علیه وسلم إقبال على الله سبیل الله رضی الله فی رمضان ه عز وجل الله عز إلى الل
إقرأ أيضاً:
ملحمة أوبريت الشريف زين العابدين الهندي
أولا نترحم على روح الشريف زين العابدين الشريف يوسف الهندي ونسأل الله أن يتقبله في عليين. ثم نرفع أكف الضراعة لروح الأستاذ عبد الكريم الكابلي وندعو الله أن ينزله الفردوس الأعلى من الجنان .
ثانيا أدخل إلى غور هذه الملحمة الشعرية ذات العوالم والمعالم البارزة والملونة نصاً شعبياً طاف البلاد وديانها وسهولها بواديها وحضرها تلالها وكثبانها أنهارها بكل عنفوانها وصخبها وبحارها ، وحتى الأشجار والأطيار نالت حظها من الذكر والتوثيق ، لم يترك الزين شاردة ولا واردة إلا ونصب خيمته في الزمان والمكان وأخرج سحرها من بين أضلعه وفؤاده الذي أكتنز سودان العزة والشموخ كنزاً يسمو فوق كل الصغائر ؛ ولم يترك التاريخ عراكاً وشموخاً في ممالك دانت لها الدنيا وشخصيات كُتِبتْ ورُسِمتْ بماء الذهب ذكرى للذاكرين وعبرة للغافلين . والحديث عن هذا الأوبريت الملحمة ضربٌ من المجازفة خاصةُ فيما يتعلق باللحن الكابلي لأنَّ بحره الشعري سهلٌ ممتنعٌ وشعبيٌ يسهل هضمه وحفظه ومَثَلُه كَمَثلِ الفولكلور السوداني أغاني وصفقة وعرضة وكمبلا وسديري وسيف وسكين ورقصة رقبة وشبّال وبُطان ودلُّوكة وشَتَم وتُمتُم وهلُّم جرّا .
زاد الأستاذ عبد الكريم الكابلي النص الشعري ألقاً وبهاءاً وألبسه ثوب عُرسٍ فخرج على المسرح ملحمةُ تتلفعُ ثوب زفافٍ يزِينُها تاجٌ مُرصَّعٌ بألماسِ العزة وبريق التاريخ ورائحة مهيرة وجسارة الكنداكة. هتفَ لها وهَلّلَ وابتهجَ وذُهِل كلُّ منْ حضر تلك الليلة لِجمالِها وكمالِها.
أنظُر - يا رعاك الله - ماذا ترى؟وكيف انساك ؟ وكيف انساك وذكراك لي دماهو عروق ..
ومما الهجرة حلت ليهو، لابسك إنت عمة وطوق ..
وعايشك جوا وجدانه ،معايشة الحنين للشوق ..
وممزوج فيك .. ممازجة اللسان للضوق
ألا ترى الشاعر في انصهارٍ تام مع الوطن الرمز ؟ فالذكرى تجري مجرى الدم في العروق وتمتزج شوقاً في حنين عارم . والنَّصُّ الملحمي مفعمٌ بالصور البلاغية من تشبيهٍ ومجازٍ وكنايةٍ وطباقٍ وغيرِها .
وما بنساك ؛ وما بنساك عشان بطراك في الأزمان ..
قريب منك ، قرابة الحدقة للإنسان ..
وجايل فيك ، جولة الدم علي الوردان ..
وقيمتك عنده ، زي قيمتك معاه زمان ..
يعيشك هضبة ، بتشارف تلال قيسان ..
ويحياك موية في دارفور، تبل عطشان ..
ويديّم فيك من سنار، ترع خزان ..
ويدفق خيره بي عند الرهد بستان ..
ويقول للدندر الغاضب ، كفاك جيشان ..
ويسهر لي وليداتك ، يعشي الحاري والجيعان ..
يا سلام ! كلُّ مقطعٍ يحمل صوراُ بيانيةٍ تعكسُ جمالَ وعظمةَ وقيمةَ الأمكنة بالنسبة للشاعر ، وما أكثر المقاطع verses في هذه الملحمة . في المقطع أعلاه وردتْ هضاب وتلال قيسان ، ثم دارفور ، وسنار والرهد والدندر ومع كل وِرد مَزِيَّة ووظيفة ومدح ، وذلك شأن الأماكن في كل المقاطع .
في غروبك ؛ ربوع خصبة وتبر مبهول ..
وديان من عقيق ، مغسولة مطر وسيول ..
وكثبان تابة ، بطرز حواشي سهول ..
تجود بالكركدي ، وصمغ الهشاب والفول ..
وتدى القنقليس ، طول الشهور والحول ..
وفيك حفرة نحاس ، وأبوتولو غير مصقول ..
والعيش ، والسماسم ، والصمغ ، والكول ..
والتور ، والخروف .. والناقة ، والكاتول ..
علي دينار، كسب ليها الشرف والطول ..
أبو زكريا أداب العصاة ، زول زول ..
من وداي مكربت في ربوعها ويجول ..
لي الكفرة وصحاريها العجاف والفول .
وكلمة " غروبك " يقصد بها غرب السودان وما به من خيراتٍ حِسان وممالك كان لها شأنٌ بِتاجِ فخارٍ وسلطان . تأمّل المفردات في المقطع أعلاه واحدة تلو أخرى تجد الخير والنعيم في أراضي دارفور التي تعادل مساحة فرنسا . ألا يرعوي الذين ينادون بانفصالها أم إن حب السلطة والسلطان أعمى الأفئدة والعقول والبصائر ؟؟؟
مطروحة الجبين من سوبا لي سنار ..
نيليك من غرامن لبسوك سوار ..
أكنافك موطأة فيها ماء وخضار ..
ولي عزاز القبائل .. صرتي أحسن دار.
محصولك دهب ما بكيلو بالعبار ..
مواسمك عدة محسوبات طوال وكتار..
أرضك في الجمال محسوبة بالأشبار..
مشكلة بالتراب .. لكن لجين ونضار.
???? ذلكم هو وسط السودان من سوبا إلى سنار قلب الجزيرة النابض وواسطة العقد خضرة ونضرة وزفة ألوان وقمحاٍ ووعداً وتَمَني ، موشحةً بالتِّبر الأبيض طويل التيلة وقصيره والذي كان يكسو السودان عزاً وفخراً ومهابة قبل أنْ يكسونا الذُّل والهوان وتصرَعُنا الأطماعُ والأنانية .
كلك أدباء من عشاق وفنانين ..
شالوك في عيونم وصوروك تلوين ..
وشاشوبك شعر مطبوع جزيل ورصين ..
فيه أم در.. وفيه الأسكلة وستين .
وعازة الفي هواك ، نحن الجبال ثابتين ..
يا فلق الصباح ، قول لي نهارك وين ..
ترعاك في الفؤاد ، بعناية الحارسين ..
يا كروان كرومه .. خليل فرح ما يلين .
يا ود الرضي القلبه انقطع نصين ..
ترى العبادي ماسك الدابي بالليدين..
مع أبو صلاح ونورالكهربائي الزين ..
فيك الحاج سرور، غني الفراق لي متين ..
وما عارف المفارق ، قدموماش لي وين ..
وياعازة الفراق .. طال بي ، وكله حنين .
وهذا المقطع يمدح عشاق الفن والجمال في أم دٌر : كرومة ، خليل فرح ، ود الرضي ، العبّادي، أبوصلاح والحاج سرور وأغاني الحقيبة الخالدة: ماهو عارف قدمه المفارق وعازة الفراق بي طال وسال سيل الدمع هطال يا عازة . نماذج فقط لإبداع لا يغشاه الضُّمور .
عزيزي القارئ هذا تناولٌ موجَز لبعض مقاطع الأوبريت الملحمة التي خطَّها يراعُ الشريف زين العابدين الهندي . ولمّا كان هذا الشعر شعبياً وعامراً بالصُّور والأخْيِلة الأدبية التي تحتضن نماذج من الجغرافيا والتاريخ والفن والتراث والتربية الوطنية ، فَحَرِّي بنا وبوزارة التربية والتعليم في بلادي أن تُدخِلَ مثلَ هذا العمل العظيم في مناهج المدارس عندنا .
وتتحول ملحمة الشريف زين العابدين إلى " أوبريت " بديع لحنا وموسيقى وتوزيع يخرج بها الكابلي عن المألوف ويصنع منها عملا فنيا كبيرا متكاملا لعبتْ فيه الفرقة الموسيقية والكورال والفنانين أدواراً مُبهرةُ نشرتْ فنّاً وغناءاً ساحراً مُلوّناً بكل الترانيم التي تُطرِبُ وتُحوِّل الشِّعر إلى عملٍ مُبهرٍ يرقى إلى مصّاف مسرحيات شكسبير على مسرح جلوب Shakespeare's Globe .
رحم الله الأستاذ عبد الكريم الكابلي رحمةً واسعةً وتَقبّلَ الله الشريف زين العابدين وأنزلهما الفردوس الأعلى من الجنان .
محمد عمر الشريف عبد الوهاب
جدة في ١٦ / ١١ / ٢٠٢٤م
m.omeralshrif114@gmail.com