خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف
تاريخ النشر: 8th, March 2024 GMT
مكة المكرمة
أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الأستاذ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي، المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه، وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم في المسجد الحرام: “أيها المسلمون ما أسرع انقضاء الليالي تمضي الأعوام تلو الأعوام وكأنها أضغاث أحلام، وقد جعل الله في تقلب الأيام ومرور الشهور والأعوام تذكرةً وعظةً للأنام؛ ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَار﴾” مستذكرًا بأنا مقبلون بإذن الواحد الجليل على مشارف موسم فضيل يحظى فيه من اغتنمه بالخير الوفير والأجر الجزيل، ومن فضل الله أن شَرعه لنا مواسم خيرات؛ لتدارك ما فات والاستباق إلى الأعمال الصالحات، والتعرض لنفحات رب البريات؛ طلباً لمغفرة الخطايا وتكفير السيئات”، مضيفاً: “إن شهر رمضان لمن أعظم المواسم وأجلها وأكثرها أجراً؛ لذا فما أجمل التواصي بما فيه النفع قبل حلول هذا المغنم الخيِّر الوفير والمتجر الرابح الكبير.
وسأل الله العلي القدير أن يلهم الجميع الرشد والصواب، وأن يتم التوفيق لصالح القول والعمل وحسن المآب، فمن أعظم ما يذكر به تجريد القصد والنية لله جل وعلا، وجَعْلُ الصيام والقيام لله خالصاً؛ فيترك المرء الرياء والعُجب، فإن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان لله خالصاً، وابتغى به صاحبُه وجه الله عز وجل، والحرص على أن يكون له خبيئة من العمل الصالح لا يراها إلا الله، وبما أن أعظم الربح في الدنيا إشغال النفس في كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها، فينبغي لكل منا أن يَعقد العزم من الآن على أن يكون في شهر الرحمات من السابقين إلى الخيرات المشمرين إلى الطاعات؛ فإن أوقاته غالية نفيسة لا تقدر بثمن، ولا يصلح أبداً أن تضيّع أو تهدر وهو يرى الناس يقبلون ويغتنمون، ومع تنوع العبادات في رمضان فمن أجلِّ ما يَقضي فيه العبد وقته أن يعيش مع كتاب ربه تلاوة وتدبراً وأن يعكف عليه آناء الليل وأطراف النهار، وفي المقابل فإنه يبتعد عن الصوارف وكل ما يحجبه عن ربه في هذا الشهر من الشواغل والملهيات، وأن يصون جوارحه عن محارم الله والمفسدات، وأن يكثر من العطاء بكل أنواعه في شهر الجود والبذل، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كما علينا أن نغتنم إقبال الناس في هذا الشهر وحرصهم على الخير بأن نحسن إليهم وأن ننفعهم بشتى أنواع النفع، وعلى رأس ذلك أن تكون من الأمور المشاعة بيننا النصيحة والتذكير والتوجيه والموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلمة الطيبة الصادقة”.
وأكد فضيلته أن الدعوة إلى الله من أعظم القربات إلى الله عز وجل، وقال: “إن من الأمور التي يؤكد عليها وينبغي عدم الغفلة عنها أن نتذكر إخوة لنا في الدين ممن رحلوا عنا وغيبهم الثرى أو نزلت ببعضهم المصائب والضوائق والخطوب أو اضطهدوا في دينهم أو امتحنوا بأن تكالب عليهم الأعداء فكانوا في شدة وكرب وبلاء؛ مبيناً أنه من الواجب نحو هؤلاء أن نستشعر حالهم وننفعهم بما يستطاع وأن نخصهم بدعوة صادقة في ظهر الغيب؛ فإن ذلك من حقوق الأخوة الإسلامية.
وأضاف:” معاشر المسلمين: والمؤمن إذا فاته شيء من الخير فيما مضى ندم عليه وتحسر على فواته، وحَرَص على تداركه واعتياضه؛ فهذا أَنَسُ بنُ النَّضْرِ رضي الله عنه وأرضاه لما غاب عن يوم بَدْرٍ أحس بألم ضياع ما فاته، فقال غِبْتُ عن أوَّلِ قِتَالِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ، وقد وفى بعهده فأبلى بلاءً حسناً في أحد، وكان يقول:
“الجنةَ وربِّ النضر، إني لأجد ريحها من دون أحد” فلما انتهت المعركة وجدوه قد قتل، ومثل به المشركون. وهذا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه وأرضاه يسلم عام الفتح، وشعر بما فاته من سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: “والذي نجاني يوم بدر يا رسول الله لا أدع نفقة أنفقتها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلته في الصد عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله”، ويبر بقسمه، فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا خاضها معهم، ولا خرجوا إلا كان معهم، وفي يوم اليرموك أوغل في صفوف الروم، فبادر خالد بن الوليد قائلاً: “لا تفعل يا عكرمة، إن قتلك على المسلمين سيكون شديداً”، قال: “إليك عني يا خالد، لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة، أما أنا وأبي أبو جهل فقد كنا أشد الناس على رسول صلى الله عليه وسلم، دعني أكفر عما سلف مني”، ولقي الله عكرمة مثخناً بجراحه.” منوهًا في الوقت نفسه لمن أصلح نفسه قبل رمضان وهيأها على حب الخير والرغبة في نيل الأجر والثواب من الله تعالى”.
وبين أن أفضل ما يستقبل به شهر رمضان توبة نصوحاً ونية جازمة على عدم العودة للذنوب والمعاصي والتحلل من أهل الحقوق؛ فلا بد لنا ونحن في هذه الأيام أن نجدد التوبة، فقد كان صلى الله عليه وسلم قدوتنا الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر ربه ويتوب إليه في اليوم مئة مرة. ولا عجب أن نبادر بالتوبة فهي واجبة على كل مؤمن قال تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾ “والتوبة أول منازل السائرين إلى ربهم وأوسطُها وآخرها”، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله. كما أن بقاءنا على المعاصي وعدم التوبة قبل رمضان قد يحرمنا من الجد في العبادة والاجتهاد في قراءة القرآن والقيام، ويمنعنا عن الاستكثار من الخير وصنع المعروف والاستقامة والإحسان، مسترسلاً بقوله: “فلنبادر عباد الله بالتوبة قبل رمضان لنحسن استقباله واغتنامه”.
وأشار إلى أن على كل مفرّط مسيئ فرّط في جنب الله أن يحمد الله على أن مد له في العمر واستبقاه وأمهله حتى يدرك مواسم الخيرات، فيجب المبادرة وتدارك النفس وتعويض ما فات من العمر، مستشهداً بقول ابن القيم رحمه الله: “وَإِنَّمَا حسن طول الْعُمر ونفع ليحصل التذكّر والاستدراك واغتنام الْفرَص وَالتَّوْبَة النصوح كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿أولم نعمّركم مَا يتذكّر فِيهِ من تذكّر﴾ فَمن لم يورثه التَّعْمِير وَطول الْبَقَاء إصْلَاحَ معائبه وتدارك فارطه، واغتنام بقيّة أنفاسه فَيعْمل على حَيَاة قلبه وَحُصُول النَّعيم الْمُقِيم وَإِلَّا فَلَا خير لَهُ فِي حَيَاته”.
وقال: “لذلك يا عباد الله لنأخذ أنفسنا بالجد ولندع التسويف والأماني ولنبادر بالإقبال والاغتنام، ولنعتبر بما يجري لغيرنا؛ فما أكثر من رحل ممن حولنا! قريب رحل، صديق رحل، جار رحل، وفي كل يوم نودع راحلاً ونشيع غاديًا ورائحًا إلى اللَّه عز وجل، حيث كم كانت عند هؤلاء الذين قد قضوا نَحْبَهُم، وَانقَضَت أَجْالُهُم من الآمال والأحلام والمطالب، كم كان منهم من يأمل أن يعيش ليدرك رمضان وأكثرهم فاجأه الموت وكان الأمر غير متوقع ولا مُعَدَّا له، وكثير منهم كان يرتب لحياة طويلة، فإذا به تأتيه منيته وتنقطع لذته، والآن نحن نأمل أن ندرك الشهر -ونسأل الله أن يوفقنا جميعاً لبلوغه ويعينَنا على اغتنامه- لكن كم من إنسان لا يبلغه، وإن كان لم يبق على دخوله إلا قليل، فلنحذر الغفلة وطول الأمل خشية أن يدهمنا الأجل، حيث قال ابن الجوزي رحمه الله: “العمر يسير وهو يسير، فاقصروا عن التقصير في القصير. من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر. الدنيا دار الآفات، الإثم بقي، والالتذاذ فات.
وأضاف: “أيها المشغول باللذات الفانيات متى تستعد لمُلمات الممات. يا شدة الوجل، عند حضور الأجل، يا حسرة الفوت عند حضور الموت ويا خجلة العاصين، يا أسف المقصرين. يا من يذنب ولا يتوب، كم قد كتبت عليك ذنوب، خل الأمل الكذوب، فرُبّ شروق ولا غروب، إن هممت فبادر، وإن عزمت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر. تفكروا في مصارع الذين سبقوا وتدبروا مصيرهم، أين انطلقوا، واعلموا أن القوم انقسموا وافترقوا، قوم منهم سعدوا، وقوم شقوا. من اجتهد وجد، وليس من سهر كمن رقد يا من شاب وما تاب، أموقن أنت أم مرتاب، يا من عمره يمضي بالساعة والساعة، يا كثير التفريط يا قليل البضاعة. مَن عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل. يا من أنفاسه محفوظة، وأعماله ملحوظة أيُنفق العمرُ النفيس في نيل الهوى الخسيس؟!”).
وفي المدينة المنورة أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ عبدالبارئ الثبيتي بتقوى الله تعالى، قال جل من قائل ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )), مبيناً أن اقتراب حلول شهر رمضان له في النفس أزكى مكانة وفي القلوب محبة نهاره خزائن من الرحمات وليله مغفرة.
وقال: إن الإقبال على الله في هذا الشهر ألذ ما في الكون وجوهر الإقبال إقبال القلب بجعل الله عزوجل هو الغاية وأن منافذ الإقبال على الله في رمضان متاحة ومتنوعة مشرعة والصيام من صور الإقبال على الله بترك المسلم طعامه وشرابه ابتغاء مرضاة الله.
وأوضح أن من أقبل على الله بالصيام أقبل الله عليه بجزاء لا يوصف وفضل لا يترك ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه (كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعفُ ؛ الحسنةُ بعشرِ أمثالِها ، إلى سَبْعِمائةِ ضِعفٍ ، قال اللهُ تعالى :إِلَّا الصَّوْمَ ؛ فإنَّه لِي ، وأنا أجزي به ، يَدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلِي ، وللصائمِ فرْحتانِ : فرحةٌ عند فِطرِه ، وفرحةٌ عند لقاءِ ربِّه ، ولَخَلُوفُ فمِ الصائمِ ، أطيبُ عند اللهِ من ريحِ المِسكِ ) .
وتابع إمام وخطيب المسجد النبوي أن الصلاة هي أعظم إقبال على الله فالوقوف بين يدي الله ومناجاته قال صلى الله عليه وسلم (إنَّ أحدَكم إذا قام يُصلِّي إنما يُناجي ربَّه ، فلْينظرْ كيف يُناجيه ) فالصلاة في رمضان روح وريحان, وقراءة القرآن في رمضان تزيد القارئ إقبالاً على الله فكل حرف يقرب من الله تعالى فاقتران رمضان بالقرآن هو النعيم فهو سبب لإقبال الله على العبد قال صلى الله عليه وسلم (يقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها ).
وبين أن على المقبل على الله استثمار كل لحظة من رمضان لأنه سريع الانقضاء فالجزاء عظيم والفضل كبير ففي الحديث عنْ أَبي هُريرةَ، أنَّ رسُولَ اللَّه قالَ ( يقُولُ اللَّه تَعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعهُ إِذَا ذَكَرَني، فَإن ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي، وإنْ ذَكَرَني في ملإٍ، ذكَرتُهُ في ملإٍ خَيْرٍ منْهُمْ ) وكذا الدعاء في رمضان مقامه عليّ وشأنه جليّ قال تعالى ((إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ? أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ? فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )).
وأشار إلى أن النفوس في رمضان تهفو إلى الاستجابة إلى مساعدة الآخرين والشعور لآلام المسلمين فهو جالب لرحمة عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما يبلغ به عن النبي صلى الله عليه وسلم : «الرَّاحمون يرحَمُهمُ الرحمنُ، ارحموا أهلَ الأرضِ، يرحمْكم مَن في السماءِ».
وأوضح أن إقبال الله على العبد يكون بجوده وكرمه ورحمته ومغفرته قال صلى الله عليه وسلم يقولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( مَن جَاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَن جَاءَ بالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ منه ذِرَاعًا، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ منه بَاعًا، وَمَن أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَن لَقِيَنِي بقُرَابِ الأرْضِ خَطِيئَةً لا يُشْرِكُ بي شيئًا، لَقِيتُهُ بمِثْلِهَا مَغْفِرَةً. وفي روايةٍ: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، أَوْ أَزِيدُ ).
وبين أن المسلم حين تحل به مواسم الطاعة يفرح بها ويشمر عن ساعد الجد ليغتنم مواسم الخير ويعمر أوقات الطاعة التي لا تفوت يسابق إلى المغفرة والجنة قال صلى الله عليه وسلم (مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ.
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: المسجد الحرام المسجد النبوي خطبة الجمعة قال صلى الله علیه وسلم إقبال على الله سبیل الله رضی الله فی رمضان ه عز وجل الله عز إلى الل
إقرأ أيضاً:
الوفاء وحفظ الجميل
من أهم الأخلاق التي حث عليها ديننا الحنيف الوفاء وحفظ المعروف ورد الجميل ومقابلة الإحسان بالإحسان , والمكافأة للمعروف بمثله أو أحسن منه والدعاء لصاحبه، قال الله تعالى : { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}, وقال تعالى: { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} .
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لاَ يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ". ( أحمد والترمذي وابن حبان ) . وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ". ( أحمد وأبو داود والنسائي).
بهذا بدأ حديثه حول الوفاء وحفظ الجميل وأ قائلا:
إن الوفاءَ وحِفظَ الجَميلِ خُلُقٌ جليلٌ ؛ بل هو من أخلاقِ الأوفياءِ الكِبارِ ؛ الذين لا ينسونَ المعروفَ ولو طالَتْ بهم الأعمارُ ؛ فلا يزالُ الكريمُ أسيرًا لصاحبِ الجميلِ؛ يُظهرُ له الوِدَّ ويُمطرُه بالثَّناءِ الجزيلِ .
وأما اللَّئيمُ فهو يتجافى عن أصحابِ العطايا الكبيرةِ ؛ لأنَّه يظُنُّ أنَّهم إنما أحسنُوا إليه لمصالحِ الدُّنيا الحقيرةِ .
وصدقَ الشَّاعرُ:إذا أنتَ أكْرَمتَ الكَريمَ مَلَكْتَهُ * وَإنْ أنْتَ أكْرَمتَ اللَّئيمَ تَمَرَّدَا
فهناكَ أُناسٌ قد اصطفاهم ربُّ العالمينَ، ليسَ لهم همٌّ إلا سعادةَ الآخرينَ، وليسَ لهم شُغلٌ إلا مساعدةَ الآخرينَ، فهم لغيرِهم بينَ سعادةٍ ومُساعدةٍ، لا يريدونَ من أحدٍ جزاءً ولا شُكورًا، وإنما يخافونَ من ربِّهم يومًا عبوسًا قمطريرًا ؛ يضعونَ بينَ أعينِهم: " اصْنَعِ الْمَعْرُوفَ إِلَى مِنْ هُوَ أَهْلُهُ، وَإِلَى مِنْ لَيْسَ أَهْلَهُ، فَإِنْ كَانَ أَهْلَهَ، فَهُوَ أَهْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلَهَ، فَأَنْتَ أَهْلُهُ " . ولسانُ حالِ أحدِهم:
ازرعْ جميلًا ولو في غيرِ مَوضعهِ * فَلا يضيعُ جميلٌ أينما زُرِعا
إنَّ الجميلَ وإن طالَ الزمانُ بهِ * فليسَ يَحصدُهُ إلا الذي زَرَعا
ولقد ضربَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ في الوفاءِ من المثالِ أجملَه، ومن النصيبِ أكملَه، ومن ردِّ الجميلِ أحسنَه وأعدلَه؛ ودلائل وفاءه صلى الله عليه وسلم لا تنتهي عند المواقف والأحداث التي كان يفي فيها بما التزمه، فقد شهد له أعداؤه بأنه يفي بالعهود ولا يغدر، فحين لقي هرقل أبا سفيان، وكان أبو سفيان على عداوته لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ سأل هرقل أبا سفيان عن محمد صلى الله عليه وسلم عددًا من الأسئلة، كان مما سأله فيه قوله: فهل يغدر؟. قال لا !!
للوفاء وحفظ الجميل صور ومجالات عديدة تشمل جميع فئات المجتمع ومن ذلك :
الوفاء ورد الجميل للوالدين: فالوالدان قد تحملا المشقة في الإنجاب والرعاية والتربية والتعليم؛ وإن من باب الوفاء رد الجميل لهما الذي قدماه لنا صغارًا ؛ فهما في حاجةٍ إليه كبارًا ؛ فهذا حبيبكم صلى الله عليه وسلم يحن شوقًا ووفاءً إلى أمه وعيناه تزرفان!! فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. فَقَالَ:” اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي؛ وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي؛ فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ.”(مسلم)؛ ولم يقتصر وفاؤه – صلى الله عليه وسلم – على أمه الحقيقية فقط بل عمَّ أمَّه من الرضاعة؛ ففي يوم من الأيام كان النبي عليه الصلاة السلام في الجعرانة يقسم الغنائم التي وضعت أمامه، وبينما هو منشغل بتقسيم الغنائم إذا به يلمح أمه من الرضاعة؛ فيخلع رداءه ويضعه أرضًا ويجلسها عليه، ويقول إنها أمي التي أرضعتني!!!
ومنها: الوفاء بين الأزواج: ففي الحديث :" أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ" . (متفق عليه) . فالوفاء بين الزوجين، يجعل الأسر مستقرة، والبيوت مطمئنة، فيكون رابط الوفاء بينهما في حال الشدة والرخاء، والعسر واليسر.
وما أجمل وفاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – لزوجه خديجة؛ فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرْتُ على أحدٍ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرْتُ على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِر ذِكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة، فيقول: ” إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولدٌ.” (البخاري) . وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ على رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ, فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ». قَالَتْ: فَغِرْتُ فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ، أَبْدَلَكَ الله خَيْرًا مِنْهَا .”(متفق عليه) .
وعن عائشة ، قالت : جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي ، فقال : لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أنت ؟ » قالت : أنا جثامة المزنية ، فقال : « بل أنت حسانة المزنية ، كيف أنتم ؟ كيف حالكم ؟ كيف كنتم بعدنا ؟ » قالت : بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فلما خرجت قلت : يا رسول الله ، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال : « إنها كانت تأتينا زمن خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان » .(الحاكم وصححه ووافقه الذهبي) يقول النووي “في هذا كله دليلٌ لحُسن العهد وحفظ الوُدّ، ورعاية حُرمة الصاحب والعشير في حياته وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب”.
ومنها: الوفاء مع الأقارب: فها هو صلى الله عليه وسلم يرد الجميل لعمه أبي طالب الذي تكفل بتربيته بعد وفاة جده عبد المطلب , فلا ينسى له ذلك , فحينما يتزوج السيدة خديجة رضي الله عنه يأخذ ابن عمه عليًا في كنفه ورعايته ردًا لجميل عمه ومساعدة له . وحينما حضرت الوفاة عمه أبا طالب كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يموت على الإسلام فأبى إلا أن يكون آخر كلامه: على ملة عبدالمطلب. فحزن صلى الله عليه وسلم عليه حزنًا شديدًا ؛ ودعا الله أن يخفف عنه العذاب. فعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ. هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ. وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ". (البخاري). فهذه شفاعةٌ خاصةٌ لعمِّه الذي دافعَ عنه وحماهُ، وردًا للجميل ؛ ولولا الكُفرُ لشفعَ له حتى نجاه من العَذَابِ .
قائلا:
ومنها: الوفاء مع غير المسلمين: فبعدَ عَودةِ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وبصحبتِه زيدُ بنُ حارثةَ من الطَّائفِ، وقد لَقيَ من ثَقيفٍ ما لقيَ من الإيذاءِ والضَّربِ بالحجارةِ، قَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَى قُرَيْشٍ وَهُمْ أَخْرَجُوكَ؟، فَقَالَ: "يَا زَيْدُ إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ"، ثُمَّ انْتَهَى إِلَى حِرَاءٍ فَأَرْسَلَ رَجُلاً مِنْ خُزَاعَةَ إِلَى مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ يَسْأَلُهُ: "أأَدَخُلُ فِي جِوَارِكَ؟"، فَقَالَ: نَعَمْ، وَدَعَا بَنِيهِ وَقَوْمَهُ فَقَالَ: تَلَبَّسُوا السِّلاَحَ، وَكُونُوا عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ فَإِنِّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمَّدًا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَامَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمَّدًا فَلاَ يَهِجْهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَانْتَهَى صلى اللهُ عليهِ وسلمَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَانْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَوَلَدُهُ مُحِيطُونَ بِهِ. (طبقات ابن سعد).
وبعدَ سنواتٍ من هذه الحادثةِ هاجرَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ إلى المدينةِ، ثُمَّ ماتَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ على الشِّركِ قبلَ غزوةِ بدرٍ، وفي يومِ بدرٍ نصرَ اللهُ المسلمينَ، وأُسرَ من المشركينَ سبعينَ، وفي هذا الموقف تذكر صلى الله عليه وسلم موقف المطعم بن عدي والجميل الذي قدمه وذلك من باب الوفاء؛ فعن جُبير بن مُطعِمٍ بنِ عَدِيٍّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ". (البخاري).أي لأطلَقَهم له جميعًا دونَ فديةٍ، ردًّا للجميلٍ الذي كانَ منه في مكةَ.
ومنها: الوفاء للوطن الذي نعيش فيه: وذلك بالحفاظ على معالمه وآثاره ومنشآته العامة والخاصة؛ والحفاظ على مياه نيله التي تربينا عليه وروينا منها أكبادنا !! وعدم الإفساد في أرضه؛ أو تخريبه وتدميره؛ وعدم قتل جنوده وحراسه الذين يسهرون ليلهم في حراستنا وحراسة أراضينا!! والذين تمتد إليهم يد الغدر والخيانة بين الحين والحين!! فعن الأصمعي قال: ” إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه.” ( الآداب الشرعية لابن مفلح).
إن الوفاء يتَّخذُ أشكالاً وألواناً عديدةً، فهو أشبهُ بأنواع الزُّهور، فعبيرُ كلِّ واحدةٍ منها يختلفُ عن عَبير الأُخرَيات؛ ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق!! فعلينا أن نكون أوفياء في كل صور الوفاء ومجالاته .
إننا بحاجة ماسة إلى خلق الوفاء وحفظ الجميل؛ لكل مَن له علينا معروف، والحذر مِن نكران الجميل؛ فإنه خبث في الطبع، وحمق في العقل . قال بعض العقلاء: "تعلموا أن تنحتوا المعروف على الصخر، وأن تكتبوا آلامكم على الرمل؛ فإن رياح المعروف تذهبها!". وهذه قصة لطيفة في هذا المضمون: والقصة تبدأ عندما كان هناك صديقان يمشيان في الصحراء ، خلال الرحلة تجادل الصديقان فضرب أحدهما الآخر على وجهه. الرجل الذي ضُرب على وجهه تألم ولكنه دون أن ينطق بكلمة واحدة؛ فكتب على الرمال: اليوم أعز أصدقائي ضربني على وجهي. استمر الصديقان في مشيهما إلى أن وجدوا واحة فقرروا أن يستحموا. الرجل الذي ضُرب على وجهه علقت قدمه في الرمال المتحركة و بدأ في الغرق، ولكن صديقة أمسكه وأنقذه من الغرق. وبعد أن نجا الصديق من الموت قام وكتب على قطعة من الصخر: اليوم أعز أصدقائي أنقذ حياتي. الصديق الذي ضرب صديقه وأنقده من الموت سأله: لماذا في المرة الأولى عندما ضربتك كتبت على الرمال؛ والآن عندما أنقذتك كتبت على الصخرة ؟! فأجاب صديقه: عندما يؤذينا أحد علينا أن نكتب ما فعله على الرمال؛ حيث رياح التسامح يمكن لها أن تمحيها، ولكن عندما يصنع أحد معنا معروفًا فعلينا أن نكتب ما فعل معنا على الصخر؛ حيث لا يوجد أي نوع من الرياح يمكن أن يمحوها .
فتعلموا أن تكتبوا آلامكم على الرمال لتمُحى؛ وأن تنحتوا المعروف على الصخر ليُحفظ الجميل ؛ لأن أقسى شيء على نفس الإنسان؛ أن يُقابل جميله بالنكران؛ ومعروفه بالكفران.
فيا أهلَ الإسلامِ: دينُّكم دينُ الوفاءِ؛ ونبيُّكم أوفى الأتقياءِ؛ فتمسكوا بدينِكم واقتدوا بنبيِّكم؛ وكونوا مضربَ مثلٍ لسائرِ الأممِ في الوفاءِ؛ فإن كثيرًا منهم قد فَقَدَ الوفاءَ في الأحبابِ؛ ولم يجده إلا عندَ الكلابِ.
إن الوفاء خُلق الكرام، به يسعد الفرد في الدنيا والآخرة؛ وبه يعيش المجتمع في أمن وأمان؛ والحب والتراحم يسود بين أفراد المجتمع؛ وبه ينال المسلم رضا ربه ويهنأ بدخول جنته.