الآلية الأفريقية تتحاور مع جميع القوى السودانية ولا خصوصية للبرهان
تاريخ النشر: 8th, March 2024 GMT
تشهد الساحة السودانية زخما مع نشاط مكثف للآلية الأفريقية رفيعة المستوى، والتي تأتي في سياق مجهود متعدد الأطراف للتوصل إلى هدنة خلال شهر رمضان، تكون مدخلا للبحث في تسوية دائمة للصراع الذي شارف على استكمال عامه الأول.
الخرطوم – كثفت الآلية الأفريقية رفيعة المستوى الخاصة بالسودان من تحركاتها لحل الأزمة المستعصية، ووسعت من نطاق حواراتها مع عدد كبير من القوى في داخل السودان وخارجه، وهو ما تزامن مع توجه جديد داخل مجلس الأمن، الخميس، لوقف صراع بدأ يثير قلقا دوليا من اتساعه، وخوفا من استغلال بعض القوى له في تحقيق مصالح إستراتيجية في منطقة حيوية.
وأكدت حوارات الآلية مع أطراف سودانية متباينة أنه لا خصوصية لقائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وأن هناك رغبة في المساواة بين جميع القوى لاستطلاع موقفها، دون استثناءات لأحد، ما فتح الباب لاستنتاجات قد لا تكون في صالح البرهان والآلية معا، فالأول سيعامل كطرف في الأزمة وليس رئيسا لمجلس السيادة، بينما تبدو الآلية مستعدة للانفتاح على قوى محسوبة على النظام السابق.
ومن المنتظر أن تعقد الهيئة القيادية لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) اجتماعا جديدا مهما مع الآلية الأفريقية بشأن السودان في أديس أبابا لبحث مساعي إنهاء الحرب في السودان والتواصل مع طرفي القتال وتوسيع الجبهة المدنية.
وأشارت تقارير سودانية إلى أن الاجتماع تسبقه زيارة وفد “تقدم” برئاسة عبدالله حمدوك لمصر وإجراء لقاءات مع المسؤولين حول الدور الذي يمكن أن تقوم به لوقف الحرب في السودان، خاصة أن القاهرة ضاعفت من نشاطها أخيرا، وبدت مستعدة بشكل أكبر للمشاركة في إيجاد حل مناسب للصراع في السودان.
أنطونيو غوتيريش: يجب وقف الأعمال القتالية في السودان خلال شهر رمضان
أنطونيو غوتيريش: يجب وقف الأعمال القتالية في السودان خلال شهر رمضان
وقال عضو اللجنة التنفيذية لتنسيقية “تقدم” اللواء كمال إسماعيل إن السودان يشهد نشاطا لوقف الحرب، أو على الأقل التوصل إلى هدنة إنسانية في شهر رمضان، وبدأ النشاط منذ زيارة البرهان للقاهرة التي مارست ضغطا عليه لوقف الحرب وتخفيف المعاناة الإنسانية، مشيرا إلى أن تحركات الآلية الأفريقية ومجلس الأمن تأتي في هذا السياق.
وأضاف إسماعيل في تصريح لـ”العرب” أن زيارة حمدوك للقاهرة (الجمعة) تأتي في سياق التحركات العامة والحثيثة للضغط على طرفي الصراع للتعامل بجدية مع الأزمة الإنسانية الصعبة، وتشير الأجواء الراهنة إلى وجود توافق إقليمي بشأن الموقف من التوصل إلى اتفاق هدنة خلال رمضان، يفضي إلى وقف شامل للحرب.
وشدد القيادي في “تقدم” على أن اجتماعات التنسيقية والآلية الأفريقية لم تنقطع خلال الأسابيع الماضية، وهناك تنسيق كامل بشأن الضغوط التي تمارسها الآلية لوقف الصراع. ويؤكد مراقبون أن “تقدم” قد تكون قناة رئيسية لتجسير الهوة بين قوى عديدة، على الرغم من تحفظات البعض على بعض مواقفها واتهامها بالإنحياز لقوات الدعم السريع، لكنها في النهاية تمثل واجهة مدنية يمكن الالتفاف حولها ودعمها سياسيا.
ويشير هؤلاء المراقبون إلى مغزى التحركات التي تقوم بها جهات محلية وإقليمية ودولية وما يمكن أن توفره من زخم يوقف الحلقة المفرغة التي أسهم الجنرال البرهان في توسيعها بسبب تصوراته ومراوغاته لإفشال العملية السياسية، وتصب الجهود الخارجية العازمة على إيجاد نافذة أمل للحل في خانة تضييق الخناق عليه.
وعقد وفد تنسيقية “تقدم” اجتماعات مؤخرا مع قوى خارجية، أبرزها رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي وزعماء جنوب السودان وكينيا وغانا، ولقاء وزير خارجية تشاد وسكرتير عام منظمة إيغاد، والمبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، وأخرى داخلية في مقدمتها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) ووقعا إعلانا مشتركا يتضمن بذل جهود لوقف الصراع في السودان، بينما تنصل البرهان حتى الآن من الاجتماع مع وفد تقدم داخل السودان أو خارجه.
وأجرت الآلية سلسلة لقاءات الأيام الماضية مع البرهان، وبعض القوى السياسية داخل السودان، منها قوى الحرية والتغيير/ الكتلة الديمقراطية، وحركة الإصلاح الآن (إسلامية)، وحزب المؤتمر الشعبي/ جناح هيئة الشورى (إسلامي)، والتقت في القاهرة بممثلين لحزب المؤتمر الوطني المنحل (إسلامي).
وبدا لقاء الآلية الأفريقية مع ممثلين لحزب المؤتمر الوطني في القاهرة هو الأكثر إثارة للانتباه، على مستوى المكان والزمان، حيث يعني أن هناك قيادات تنتمي إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير تقيم في مصر التي لديها موقف صارم من ذوي التوجهات الإسلامية، وأن الآلية عازمة على عدم استثناء أي قوى سياسية، وعلى استعداد للحوار مع الجميع، ما يوقعها في حرج مع قوى الثورة الرافضة لأي دور للفلول.
وذكر موقع “سودان تربيون” أن ممثلي حزب المؤتمر الوطني أبلغوا الآلية الأفريقية بعدم وجود تفويض معهم لمناقشة الأجندة المطروحة حاليا، وجرى نصح وفد الآلية بالاجتماع مع قيادة الحزب الموجودة داخل السودان.
وكان البرهان قد رهن قبول حلول الاتحاد الأفريقي بتسوية النزاع في البلاد بإعادة عضوية السودان في التكتل القاري، عندما التقى وفد الآلية الأفريقية برئاسة محمد بن شمباس، الأحد الماضي، حيث علّق الاتحاد الأفريقي عضوية السودان بعد الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021 على الحكومة المدنية برئاسة عبدالله حمدوك. وشكلت مفوضية الاتحاد الأفريقي في يناير الماضي آلية رفيعة المستوى لاستعادة الاستقرار والنظام الدستوري في السودان، تعمل مع الأطراف العسكرية والقوى المدنية والمجتمعين الإقليمي والدولي بهدف تنفيذ ولايتها.
وتشمل خطة الاتحاد الأفريقي وقف إطلاق النار الدائم، وتحويل الخرطوم إلى منطقة منزوعة السلاح، وتمركز قوات الجيش والدعم السريع في أماكن تبعد 50 كيلومترا عن العاصمة، مع نشر قوات أفريقية لحراسة المؤسسات الحيوية، ومعالجة الأزمة الإنسانية والبدء في عملية سياسية لتسوية الصراع. ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الخميس إلى وقف الأعمال القتالية في السودان خلال شهر رمضان.
وقال غوتيريش أمام مجلس الأمن الدولي “هذا الوقف للأعمال القتالية يجب أن يؤدي إلى توقف القتال بشكل نهائي في جميع أنحاء البلاد، ورسم طريق محدد نحو السلام الدائم للشعب السوداني“. وكشف دبلوماسيون أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يدرس مقترحا بريطانيا ينص على وقف فوري للأعمال القتالية قبل حلول الشهر المبارك، وقد يطرح التصويت عليه الجمعة.
ويدعو مشروع القرار جميع الأطراف إلى ضمان إزالة أي عقبات، وإتاحة وصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن ودون عوائق، بما في ذلك عبر الحدود وعبر مختلف النقاط، والامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي. ويحث مشروع قرار مجلس الأمن جميع الدول على الامتناع عن التدخل الخارجي الذي يسعى إلى إثارة الصراع وعدم الاستقرار، ويطالب بدعم جهود تحقيق السلام.
العرب الدولية
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الآلیة الأفریقیة الاتحاد الأفریقی خلال شهر رمضان داخل السودان مجلس الأمن فی السودان
إقرأ أيضاً:
السودان: ثورات تبحث عن علم سياسي
السودان: ثورات تبحث عن علم سياسي (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر عام 1964 نشرها في كتابه “حوار مع الصفوة” (1979). فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ”القوى الكسبية” و”القوى الإرثية”. فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً. وهذا بخلاف الطبقة الإرثية التي قال منصور إنها تليدة وعليها ركائز المجتمع “الوصائي” (الأبوي) في العشائر والطرق الصوفية في الريف بخاصة، وتعلي النسب على الكسب.
مرت الخميس الماضي الذكرى السادسة لثورة الـ19 من ديسمبر عام 2018 في السودان. وربما لم يُعدّها ثورة في يومنا قوم حتى من بين مَن قاموا بها قياساً بأعراف فكرية نزعت صفة الثورة عن ثورات سبقت ثورة 2018، في أكتوبر عام 1964 وأبريل عام 1985. فبين الثورة السودانية وعلمها جفاء، إن لم نقُل خصومة. فكانت صفوة من كتابنا تواضعت على نقد خطأ شائع، في رأيهم، وصف الحراكين المذكورين بالثورة. فالثورة في مفهومهم هي التي لا تسقط النظام القديم فحسب، بل تغير ما بنا تغييراً مشهوداً أيضاً. فالثورتان المزعومتان لم تغيرا ما بنا وإن نجحتا في إزالة النظامين اللذين خرجتا لإسقاطهما.
فقال الأكاديمي والعضو المخضرم في الحزب الجمهوري النور حمد إن ثورة أكتوبر ليست “ثورة” لأنها، وإن نجحت في إسقاط نظام الفريق عبود العسكري (1958-1964)، لم تحدث تحولاً جوهرياً مما نُعدّه نقلةً إلى الأمام في الواقع السوداني. فعادت الأحزاب التقليدية التي حكمت قبل الفريق عبود عودة أسوأ مما كانت قبلاً. واستكثر المؤرخ والوزير والدبلوماسي حسن عابدين أن يسمي أكتوبر “ثورة” وقال إنها “انتفاضة” في خفض لمرتبتها لأنها “لم تكُن ثورة، وإنما انتفاضة لأن الصحيح أن تُحدث الثورة تغييراً في نظام الحكم، وفي حركة المجتمع والدولة والثقافة والاقتصاد، وتغييراً في كل شيء، وهذا لم يحدث في أكتوبر”.
وعموماً فالتخليط في علم سياسة الثورة في السودان متفشٍّ. فاشتهر الحراك الذي أسقط نظام الرئيس جعفر نميري عام 1985 بـ “انتفاضة أبريل”، في حين أنها أسقطت نظاماً قديماً مثلها في ذلك مثل “حراك أكتوبر” الذي يسمى “ثورة”. بل يكفي أن مفكراً في مقام الوزير والكاتب منصور خالد وصف أكتوبر بأنها “ثورة” و”لا ثورة” في الكتاب نفسه وعلى مسافة 23 صفحة من الصفتين في كتابه “النخبة السودانية وإدمان الفشل، الجزء الأول”. فقال في الموضع الأول من الكتاب إن أكتوبر “ثورة لا يعادل خطرها سوى مؤتمر الخريجين (1938)” الذي كان طليعة التحرر الوطني ضد الاستعمار البريطاني. فهي عنده ثورة لأن قوامها “قوى حديثة مصممة على الانعتاق من ربقة القديم إلى رحاب الجديد وهو انتقال إلى لب السياسة”. ووصفها في الموضع الآخر بأنها ثورة “من باب التبسيط”. فالثورة في قول منصور “صناعة للتاريخ ولها مقومات لم تتوافر في أكتوبر”.
شرط التغيير الجذري
لن يجد المرء سنداً لاشتراط هذه النخبة أن تقوم الثورة، متى قامت، بالتغيير الجذري بعد إسقاط النظام مباشرة وإلا صارت “انتفاضة” في أحسن الأحوال. فالثورة تعريفاً ثورة متى أسقطت حكومة النظام القديم. أما التغيير فلا يأتي للتو بعد سقوطه. فهو مما تختلف الآراء فيه وفي سبله بين من ائتلفوا لإسقاط النظام القديم. فمن وقف على الثورة الفرنسية (1789) وتضاريسها رأى أن جماعاتها الثورية اختلفت بعد سقوط النظام القديم حول التغيير محلياً وأوروبياً اختلافاً مضرجاً كبيراً. فلا الجمهورية ولا العلمانية، وهما العقيدتان من وراء الثورة، تحققتا في اليوم العاقب لسقوط النظام القديم كما يزعم بعض صفوتنا. ويكفي أنه جرى استرداد الملكية التي أسقطتها الثورة نفسها للعرش ثلاث مرات ولم تتوطد عقيدة الجمهورية إلا في ثمانينيات القرن الـ19. كما لم يقع فصل الدين عن الدولة إلا في دستور 1905 ولينص دستور 1958 صريحاً على العلمانية للمرة الأولى. وتستغرب هذا التباطؤ في العلمانية من ثورة ألغت الدين المسيحي في طورها الباكر واستبدلته بـ”الربوبية” وهي دين يعترف بالرب الذي سرعان ما توارى عن الكون بعد الخلق.
قلَّ أن تتوقف أقلام هذه النخبة عند ما حال دون الثورة والتغيير الذي تكون به أو لا تكون، وكأن امتناع وقوع التغيير عاهة أصل في الثورة لا نتيجة لخلافات حوله بين قوى الثورة نفسها وقوى النظام القديم رجحت فيه كفة النظام القديم. فذكر النور حمد أن ثورة أكتوبر “أُجهِضت” بعد أربعة أشهر فقط من قيامها وأجهزت عليها الانتخابات التي قامت عام 1965، فعادت بها الأحزاب القديمة للحكم كما كانت قبل انقلاب الجيش عليها عام 1958. ولم يتوقف النور أو غيره عند سياسات ذلك الإجهاض للثورة الذي امتنع به التغيير.
صح السؤال هنا، على ضوء عبارة النور عن إجهاض ثورة أكتوبر من دون إحداث التغيير الجذري الذي انتظره، ما كان ذلك التغيير المنتظر؟ وما هي القوى التي تصارعت حوله في الثورة؟
الصراع حول التغيير
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر 1964 نشرها في كتابه “حوار مع الصفوة” (1979)، فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ”القوى الكسبية” و”القوى الإرثية”. فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً. وهذا بخلاف الطبقة الإرثية التي قال منصور إنها تليدة وعليها ركائز المجتمع “الوصائي” (الأبوي) في العشائر والطرق الصوفية في الريف بخاصة وتعلي النسب على الكسب. وقال عنها إنها تشكل بتصوراتها وممارساتها عقبة كؤوداً في وجه التطور الذي يقوده المجتمع القومي، مما يجعلها خصماً للعقلانية والفردية التي هي سمة الطبقة الكسبية الحداثية.
وكانت الديمقراطية هي عظمة النزاع بين الطبقة الإرثية والطبقة الكسبية في ما بعد سقوط الأنظمة بالثورة، فتعاني الطبقة الكسبية حيال هذا المطلب محنة يصفها الأعاجم بـ”كاتش 22″ أي إنها المأزق الذي لا فكاك منه لأن أحواله إما تناقض واحدها مع الآخر، أو وجِدت معاً لا يستغني أحدها عن الآخر. فبينما تطلب الطبقة الكسبية الديمقراطية إلا أنها مدركة في الوقت نفسه أنها لن تحظى بتمثيل ذي معنى في البرلمان لضآلة عددها في المجتمع، قياساً بغزارة الطبقة الإرثية. وقال منصور عن فرط نفوذ هذه الطبقة الإرثية في الريف أنها جعلته “مستودعاً لاستجلاب الناخبين والهتيفة”.
ولا أعرف من سبق إلى تشخيص أزمة هذه الطبقة مع البرلمانية مثل الأكاديمي والوزير محمد هاشم عوض، وفي وقت باكر عام 1968 باستقدامه لمفهوم “البلوتكرسي” إلى طاولة البحث، والمصطلح إغريقي لحكم الأثرياء الوراثي في بلد ما، فدولة الإرث هذه هي ما ساد في النظم البرلمانية عندنا وحال دون الطبقة الكسبية وإطلاق العنان لمشروعها الحداثي. ووصف عوض الحكم في بلدنا بـ”البلوتكرسي” من خلال تحليل اقتصادي واجتماعي نيّر، فنظر إلى عنصر الإرث ومؤسساته في الجماعة الدينية والعشائرية الحزبية، محللاً منازل أهل الحكم عندنا في المجالس النيابية تحليلاً شمل المجلس الاستشاري لشمال السودان (1944) والجمعية التشريعية (1948) والبرلمان الأول والثاني (1954-1958)، فوجدنا دولة للأغنياء سادوا جَامعين تليد النفوذ القبلي والطائفي إلى طريف الجاه والمال.
ونواصل عن الطبقة الكسبية التي لا تريد الديمقراطية ولا تحمل براها.
صورة تذكارية للفصل النهائي لمدرسة الفاشر الثانوية في نحو 1962 ومنه الشهيد أحمد القرشي الذي اشعل مصرعه ثورة أكتوبر مؤشراً عليه بسهم. وبدا في الصورة ناظر المدرسة بربطة العنق الذي أذكر أن قيل أنه أحمد هاشم أبو القاسم الذي كان نائب الناظر في عطبرة الثانوية في نهاية الستينات.
السودان: ثورات تبحث عن علم سياسي (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله بعد ثوراتنا الثلاث هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر عام 1964 نشرها في كتابه “حوار مع الصفوة” (1979). فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ”القوى الكسبية” و”القوى الإرثية”. فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً. وهذا بخلاف الطبقة الإرثية التي قال منصور إنها تليدة وعليها ركائز المجتمع “الوصائي” (الأبوي) في العشائر والطرق الصوفية في الريف بخاصة، وتعلي النسب على الكسب. وقلنا أن الطبقة الكسبية في مأزق: فالديمقراطية هي بيئتها المثالية ولكن الديمقراطية الليبرالية (صوت لكل مواطن مستحق) تحول دونها والتمثيل الفعلي في البرلمان لأن الواحد من الطبقة الإرثية له صوته وأصوات شيعته كلها كما تجري العبارة.
جاءت الطبقة الكسبية بمأزقها مع الديمقراطية إلى ساحة ثورتي 1964 وأبريل 1985، وكان التغيير الجذري الذي طلبته هو إصلاح عميق في البرلمانية يأذن لها بتمثيل مرموق فيها يمكّنها من وضع بصمتها على التشريع صوب الحداثة. فسعت في ذلك الإصلاح إلى “التحايل”، إذا شئت، على مبدأ “صوت واحد للمواطن” الذي يربح منه الإرثيون بينما يكاد يلغي وجود الكسبيين في البرلمان. وكان لب اقتراح طبقة الكسب هو افتراع كليات مهنية وقطاعية انتخابية لها فيها نفوذ مؤكد تكسر به حدة غزارة جمهور الطبقة الإرثية.
فتبنت الطبقة الكسبية، ناظرة لمأزقها السياسي المشاهد، ثلاثة إصلاحات تؤمن بها لنفسها تمثيلاً معتبراً في البرلمان يعوضها قلة نفرها الاقتراعية.
الإصلاح الأول
طالبت هذه القوى مرتين بعد ثورتي 1964 و1985، تطويل المرحلة الانتقالية قبل إجراء الانتخابات للجمعية التأسيسية المنتظرة، فواضح أنهم كانوا يريدون شراء الوقت وهم في “عسى ولعل” أن دروس الثورة والتغيير تنسرب لوعي الجمهور، فيميل ناحيتها ويرجح كفتها في تلك الانتخابات، وكانت الأحزاب التقليدية تريد الفترة الانتقالية “قصيرة وعسل” في عبارة إنجليزية ماتعة. فطمعت الطبقة الكسبية بعد انتفاضة 1985 أن تطول الفترة الانتقالية لخمس سنوات، وكانت حجتهم للتطويل أن البلد بحاجة إليه لإزالة “آثار مايو”، أي حكم نميري الذي جاء بانقلاب في مايو (أيار) عام 1969، ووضع القواعد لسودان ليبرالي موحد. ثم اكتفوا بسنتين للمهمة الانتقالية في مفاوضات صاخبة مع الطبقة الإرثية والمجلس العسكري الانتقالي الذي فرض ولايته على البلاد بعد نجاح الثورة بعزم التدرج بها للحكم الديمقراطي. وقد أرادها المجلس أيضاً قصيرة وعابرة، ثم عادت القوى الحديثة من الغنيمة بعام واحد للفترة المقصودة لإصرار المجلس والقوى التقليدية على تقصير الفترة الانتقالية. وفي ثورة 2018 نجحت هذه القوى بجعل الفترة الانتقالية ثلاث سنوات قابلة للتمديد.
الإصلاح الثاني
وكانت حيلة الطبقة الكسبية الثانية أن يقوموا بإصلاح يؤمن لهم تقلد زمام الفترة الانتقالية وما بعدها، فبعد ثورة أكتوبر نادوا بأن تصبح جبهة الهيئات التي قادت الثورة كياناً دائماً ليؤمن مسار الثورة، ورفضت القوى الإرثية تلك الدعوة ووجهت منسوبيها للتحريض على سحب نقاباتهم من عضويتها. وعام 1985 اقترحوا حكومة ثلاثية التكوين قوامها مجلس وزراء تنتخب النقابات 60 في المئة من عضويته، ويأتي 40 في المئة منه من الأحزاب الإرثية مع حرمان الإخوان المسلمين (الجبهة الإسلامية القومية) من التمثيل فيه جزاء وفاقاً لتعاونهم مع نظام الرئيس نميري حتى قبيل خلعه بقليل، ومجلس منتخب من النقابات بمثابة مجلس تشريعي، إضافة إلى مجلس سيادة، ورفضت القوى الإرثية الخطة بالكلية.
الإصلاح الثالث
وجاءت مشاريع إصلاح النظام الانتخابي للقوى الكسبية متوافقة مع خطتها لاكتساب الغلبة في البرلمان المنتظر غلبةً لا تستحقها بأعدادها القليلة بين السكان، فبعد ثورة أكتوبر 1964 استلهموا تجربة الناصرية فطالبوا بأن تقوم الانتخابات، إلى جانب الأسس الجغرافية، في دوائر مخصصة لمهن الناخبين وقطاعاتهم، وعليه ستكون للعمال والمزارعين والمثقفين دوائر مخصصة. وأذاع الحزب الشيوعي في ديسمبر 1985 مشروعاً لإصلاح الانتخابات جعل للقوى الحديثة 110 مقاعد في برلمان منتظر من 360 مقعداً، وجعل للعمال 35 مقعداً وللمثقفين المهنيين 15 مقعداً. واقترح التحالف النقابي الوطني الذي قاد الانتفاضة في 1985 برلماناً من 225 مقعداً جعل للعمال منها 19 مقعداً. ووقف “الحزب الاتحادي الديمقراطي”، المشكّل من القوى الإرثية، بقوة ضد أي مشروع لتمثيل القوى الحديثة. ولم تقوَ لجنة الانتخابات على بتّ الخلاف الذي نشأ حول المسألة. واجتمعت مع المجلس العسكري الذي رفض فكرة تمثيل هذه القوى بترتيب غير الانتخاب بصوت لكل مواطن.
الثورات والتغيير
إذا كان التغيير الجذري شرط بعض نخبتنا لتسمية الحراك الذي أسقط نظاماً قديماً ثورة، فواضح من عرضنا أن الثورات السودانية لم تخلُ من رؤية للتغيير، أو همة لتنزيله كسياسات للدولة بعد سقوط النظام. فلا يجوز نزع صفة الثورة من ثورات السودان إذا بدا لهؤلاء الكتّاب أنه لم يتغير شيء بعد سقوط النظام، والأحرى بهم تحري الأسباب التي أدت إلى “إجهاض” ذلك التغيير لا قبوله ضمن طبائع الأشياء. فقد كان الصراع حول مشروع التغيير الانتخابي الذي طرحته القوى الكسبية صدامياً، لا كما وصفه الأكاديمي عبدالوهاب الأفندي الذي قال إن حصيلة ثورة أكتوبر، مهما قلنا عنها، تطور طبيعي “في إطار تفاهمات وتنافس نخبة صغيرة تتشارك في الرؤى والمصالح، جرت في جو حميمي أقرب إلى الاسترخاء منه إلى الانفجار”. فيكفي أن القوى الإرثية التي كرهت مشروع القوى الكسبية الانتخابية وغيرها، روعت الخرطوم بتحشيد جماهيرها من الريف في شوارعها في الـ18 من فبراير (شباط) عام 1965 لتُسقط حكومة ثورة أكتوبر الأولى التي غلبت فيها القوى الكسبية على الإرثية. فاستقال سر الختم الخليفة، رئيس الوزراء، ولم يمضِ في الحكم سوى أربعة أشهر، حرصاً، في قوله، “على مصلحة البلاد وسلامتها وعلى تجنيب أبنائها الشقاق والخلاف الحاد”.
اشتراط وقوع التغيير بالثورة ضربة لازب وإلا انتفت عنها صفة الثورة، وجه آخر من وجوه قلة حيلة علم السياسة عندنا في دراسة الصراع في الفكر والممارسة على بينة من صدام الإرادات والمصالح والرؤى. فالثورة التي قصرت دون التغيير في رأي هذا العلم ليست من الثورة في شيء. وهذا الحكم عقوبة وليس تحليلاً ترحل بالمسألة لضبط المصطلح لا لدراسة معينة في ديناميكية إجهاض الثورة.
محمد هاشم عوض كتابه البلوتوكرسي شخص فيه باكراً أزمة الطبقة الكسبية مع الديمقراطية الليبرالية