مكلَمَة لأطراف الحرب: قراءة في ديوان (شهود غزة) لعبد الله أبي شميس
تاريخ النشر: 8th, March 2024 GMT
في ديوانه "شُهود غزّة" الفائز بجائزة "فدوى طوقان" عام 2014، يَعمَد عبد الله أبو شميس إلى أطراف معادلة حرب غزّة عامَي 2008 و2009، فيُنطقُهم بما يرى أنّه يعبِّر عن مواقفهم من الحرب ووجهات نظرهم إزاء أحداثها. ولا أحبُّ أن أستخلص نتائج متعجّلةً، لكنّ مَن قرأ ديوانه اللاحق "كِتاب المنسيّات" الذي يُنطِق فيه نساءً لهُنّ مكانتهنّ المعتبَرة في سياق الديانات الإبراهيمية يُدرك أنّ ثمّة ملامح واضحةً لمشروعٍ شِعريٍّ يبتغي به صاحبُه الاقترابَ من الإنسان حيثما كان، والتماهي معه في موقفه الوجوديّ الفريد، فهو يضع نفسَه مكانَ مَن يُريدُ إنطاقَه، متلبّسًا ظروفَه وخلفيّاتِه، منطلِقًا من هذا التلبُّس إلى فضاءٍ تعبيريٍّ رَحبٍ، مُغايرٍ لتوقُّع المتلقّي – فيما أزعُم- ومُدهشًا في الوقتِ ذاتِه، ومُثريًا لخبرة رؤية الحياة في النهاية.
هكذا تبدأ القصيدة الافتتاحية "بَعدَ عام" لتصِف الحال المحبطة المُفضية إلى الصمت، فلا أحد يَرغب في الكلام عن الحرب إلا المراسل والصحفي، ومعهما (الكاميرا): "دارَت (الكاميرا) بشراهتِها في خَرابِ الجِهاتِ، دَنَت من حقول الرَّماد ومِن شَجَر الموتِ والتهمَت كلَّ شيءٍ ومازالَ يأكلُها جُوعُها للكلامْ!" هنا نلمِس المفارَقة بين اعتياد مَن اصطلَوا نارَ الحَرب أحوالَهم البائسة - حتى أصبحَ "لا أحدٌ راغبٌ في التذكُّرِ، لا أحدٌ راغبٌ أن يباغتَه مطرٌ في الكلامْ"، فهم إن تكلّموا سيغلبهم في كلامِهم ذلك المطرُ الذي يترُكُه شاعرُنا رمزًا مفتوحًا على تأويلاتٍ عِدّةٍ، فقد يكون دموع الضحايا، وقد يكون مطرًا من قذائف تعاجلُهم وهم منخرطون في الحديث عن الحرب، وقد يكون مَحضَ كلامٍ مُتتالٍ متسارعٍ من أنفُسِهم ومن وسائل الإعلام، لا يُفضي إلى شيءٍ ذي بال – وبين رغبة الإعلام في اجترار الحديث ومَطِّه دون طائل. ولعلَّ هذه المفارقة تصِف الحالَ الآنَ في حرب الإبادة التي تشنُّها دولة الاحتلال على غزّة، فنحن نتكلّم من خارج دائرة النار ونُفيض في الكلام، ومَن يصطلون نارَ الحرب لا يَخرجون بشيءٍ من كلامنا، ولا هو حتى يخفف عنهم عذابهم.
قصائد بألسنة الفئة الباغية:
العنصر الأشدُّ إدهاشًا في الديوان هو تقمُّص عقليّة العدوِّ ونفسيّته. يتجلّى هذا في قصيدة "أفيخاي أدرعي"، فنصطدم بدرجةٍ من الصدق تنطوي على خداع الذات فيما يقولُه المتحدث العسكريُّ بلسان جيش الاحتلال، إذ يقول مثَلًا: "نريدُ سلامًا طويلًا... سلامًا يعيشُ مئاتِ السِّنينْ" ويَنقُد أعداءه العرَب قائلًا عنهم: "يُريدون أن يَصنعوا من جماجمِنا سُلَّمًا للسَّماءْ... لِكَي يَصعدوا نحو غِلمانِهم في العَلاءْ/ وأعداؤنا يَكرَهون الحياةَ، يبيعوها فَرِحِينْ.. بحُورٍ وعِينْ!" فهنا يستنسِخ شاعرُنا خِطابَ أدرعي ويلخّصُ لنا كيفَ يَرى عمليّات الفلسطينيين الفدائية، إذ يَراها كراهيةً غير مبرَّرةٍ للحياة، وطمعًا في موعودات الجنّة عند المُسلِمين. والمهمُّ أنّ (أدرعيًّا) هنا يتناسى تاريخَ الانتهاك الإسرائيليّ ببساطةٍ وينطلِق من أرضيّةٍ مَمحُوّة الذاكرةِ تمامًا، ويريدُ شُركاءً في هذا السلام منطلِقين من الأرضيّة نفسِها، وإلّا: "فنحنُ نُريدُ سلامًا طويلًا، وإن لم نجد فيه من شُركاءَ سِوى المَيِّتِينْ!"
كما يتجلّى هذا التقمُّص رائعًا في "يهوديٌّ يتفقَّه في تاريخِه"، فكأننا إزاء صوت مؤرِّخٍ يهوديٍّ حقيقيٍّ لا يخلو من سخريةٍ من الذات، يستعرِض الملامح المشترَكة بين مَراحل علاقة اليهود بالأغيار عبر التاريخ، فمنها مَلمَح النَّفعيّة وتقديم المصلحة "ويَحميني لأحميَهُ الهِلالُ أو الصَّليبُ!"، ومنها القيام بدَور الشَّرقيّ المعقَّم ممّا يكرَهه الغَربُ في الشرق، حتى يَروق العينَ الغربيّة المهيمنة على المَشهد العالَميّ "مازلتُ في يَدِ (عائِلِي) إسفَنجَةً.. إسفَنجةً عصريّةً في وقتِنا، أمتصُّ ما في الشَّرق مِن حُلُمٍ لأُعصَرَ في جُيوبِ الغَرب أرقامًا"، ومنها الشعور العميقُ بالغُربة في العالَم، والذي يغذّيه المكوِّن العَقَديُّ الذي يَرى إله إسرائيلَ لإسرائيلَ وَحدَها "لا شأنَ لي بالعَدلِ أو بطبيعةِ الأربابِ، رَبٌّ للرُّماةِ مُضَرَّجُ النُّشّابِ أو رَبٌّ كثيرُ التَّمرِ للأعرابِ.. لي رَبِّي أنا، وعلى سَريرتِه وصُورتِه جُبِلتُ، أنا اليهوديُّ الغريبُ!"
ويتجلّى أيضًا في "حاخامُ الكتيبةِ يَخطبُ في الجُنود"، فنرى القصيدة ترتدي عباءة رجُل الدِّين المتحمِّس منذ مَطلَعها المحتفي بالأسلوب الإنشائيِّ ممثَّلًا في الاستفهام الاستنكاريّ، يعضِّده الجِناسُ الناقصُ، كما اعتدنا من خطابات رجال الدِّين "هل يستوي الأخيارُ والأغيارْ؟". كما نرى ذلك في آياتٍ من الإطناب تكرِّر المعنى بألفاظٍ مختلفةٍ أو تستولِد معانيَ متقاربةً من فكرةٍ بسيطةٍ بُغية السيطرة على أذهان المستمعين وتغطية المحتوَى الفكريّ المتهافت وصدّ أيّة محاوَلةٍ لنَقدِه، ومِثالُ ذلك قولُه "وقوارضُ الجِرذانِ في الأسوار؟" فالجرذانُ قوارضُ كلُّها بلا رَيب! إلا أنّ الحاخام يريد أن يُقِرَّ في أنفُس مستمعيه احتقارَ الجنس العربيّ، فجاء بهذه الإضافة "قوارضُ الجِرذان" من اللفظ إلى مُرادفِه. وكذلك قولُه "يا أيُّها المتلهِّبون على خُطوط النّارْ"، فلا أحد يتوقّع لمَن هم على خطوط النار ألّا يكونوا متلهِّبين، إلا أنّه أراد أن يؤبِّد فيهم إحساسَهم بخطورة الأمر. ثمّ إنّ الشاعرَ يتبنّى لُغةً توراتيّةً ليُوقع في أنفُسِنا أنّ المتحدّث حاخامٌ متعصِّبٌ لا محالةَ، فيقول "ُكونوا شُهودي بين أعدائي – يقولُ الرَّبُّ – كي أعلو على الأشباهْ!" فعلى الأقلِّ في التراجم العربية للتوراة وفي شُروحِها، يَرِد مَقولُ الرَّبّ قبل جُملة "يَقولُ الرَّبُّ"، فضلًا عن المعنى المتواتر توراتيًّا، ذلك المتمحور حول غيرة الإله من الأرباب المزيَّفين الذين يتخذهم الأغيار. وكأنّ أصداء العهد القديم قد سَرَت في القصيدة حتى إننا نجِد صدىً من نشيد الأنشاد في قوله "حتى تعودَ الأرضُ بِكرًا من جديدٍ: خَصرُها رَملٌ حنيذٌ، واليدانِ تُواريانِ نَبيذَها الفَوّارْ!" فالصورةُ سرياليّةٌ بالطبع، يشتبك فيها الرملُ بالنبيذ بالذِّبح الحنيذ، لكنّ مخطَّطها الذي ينتظمُ هذه المكوِّنات هو جسدُ الأنثى الخارجة من نشيد الأنشاد!
وفي (غولدستون) يتحدث بلسان القاضي الجنوب-أفريقي اليهودي الذي أدان "إسرائيل" بارتكاب جرائم حربٍ ضدّ الإنسانية رغم صهيونيّته. وهنا يتماهى شاعرُنا مع وجهة نظر الصهيونيّ الذي يسلِّم بأنّ أرض فلسطين هي المكان الذي فرضَه الأمرُ الواقعُ على اليهود، لكنّه يَرفض الاستخدام المُفرِط للقوّة في مواجهة العرَب، مستدعيًا تاريخَ اضطهادِ اليهود المريرَ مجسِّدًا إيّاه في أُمٍّ أرملةٍ، متبرّئًا في الوقت ذاتِه – لنفسِه وللأُمِّ الأرملة- من جرائم الحرب "أمُّنا أرملةٌ لكنّها لا تَطبخ الأطفالَ بالفُسفورِ،لا تصرُخُ نَشوَى عندما تُبصِرُ أمًّا أرملَةْ/ نحنُ لم نَختَر فلسطينَ ولا اختارَ الفلسطينيُّ إسرائيلَ، مضطَرُّون للعَيشِ هنا الآنَ معًا مهما ادَّعَت أوهامُنا المشتعِلةْ" ليَختم حديثَه بجُملةٍ تلخِّص موقفَه المتسامح مع الآخَر العربيّ، يرى فيها حتميّة الوجود المشترَك "أن يكونوا معَنا أو لا نكونْ. هيَ تلك المسألةْ".
لكنّ الشاعرَ يعود بقصيدة (غولدستون 2) ليعبّر عن موقف القاضي الذي أعربَ عن ندمِه على قرار الإدانةِ لاحِقًا، زاعمًا أنّ ما عرفَه من انتهاكات (حماس) وفدائيِّي فلسطين قد غيَّر رأيَه، فيقول: "لم أنَمْ تحت رُعب الصواريخِ لَو مَرّةً مِثلَ كُلِّ صِغارِ (سْديروتَ)، فكيف أُحاكِمُ آباءهم عندما يَغضِبونْ؟" ويستدعي صورة المُجاهِد الصهيونيّ الذي أقامَ وطنًا لليهود في صحراء فلسطين القاحلة قائلًا: "وكيف أُخاصِمُ مَن حفروا بأظافرِهم وأظافرِ أطفالِهم في الصُّخور لكَي يمنحوا حُلُمي منزلًا وحديقة؟"
قصائدُ بألسنة الضّحايا:
لدينا أوّلًا "عجوزٌ من غزّة"، وهي مقطوعةٌ عموديّةٌ في البحر المتقارب من أربعة أبياتٍ، جاءَت غريبةً في عموديّتِها وسط الديوان القائم على شِعر التفعيلة! والمقطوعةُ غاضبةٌ حانقةٌ، ثاكلةٌ في الوقتِ ذاتِه ويَفطِرُ الحزنُ قلبَ صاحبتِها: "لإيلافِ غَزّةً إيلافِها.. رَحيلَ الدماءِ بمِجدافِها/ إلى جهةِ الموتِ تدفعُها.. شتاءاتُها بعدَ أصيافِها/ فلا عبدَت غَزّةٌ ربَّ بيتٍ تضيقُ لديهِ بأوصافِها/ يساومُ بالخوفِ أبطالَها.. ويُولِمُ جُوعًا لأضيافِها". هكذا تناصَّت العجوزُ مع سُورة قُريشٍ تناصًّا مقلوبًا ثائرًا، فها هي ذي غَزّةُ قد ألِفَت سفك دماء أبنائها ورحيلَهم إلى الموتِ، وقُريشٌ ألِفَت رحلتَي الشتاء والصَّيف اللتَين كانتا تعودان بالخير على أهلها. وبدلًا من دعوة السُّورةِ قُريشًا إلى عِبادة ربِّ البيت الذي أطعمَها من جوعٍ وآمنها من خوفٍ، تنتفض العجوزُ الغَزِّيّةُ على مطلوب العبادة لأنّها ترى الخوف بضاعةً يُساوَم عليها أبطال مدينتها والجُوعَ وليمتَهم الدائمة! كلُّ هذا في إطارٍ إيقاعيٍّ منتظمٍ، يُضافُ إلى ما اتّفقنا عليه ضِمنًا مع الشاعر – مِن أنّ المتحدِّث عَجوزٌ- ليُشعرَنا بأننا أمام شيءٍ يُشبه سَجع الكُهّان والسّاحرات. ورغمَ أنّ مفردة (عجوز) لا تفرِّق بين رجُلٍ وامرأةٍ، إلا أنّي أميلُ إلى اعتبارها امرأةً، فذلك يجعلها أشدَّ تماهيًا مع (غَزّة) المدينةِ المؤنَّثةِ لفظًا ومعنىً، وأكثر تجاوُبًا مع حالة الثُّكل المسيطِرة على المقطوعة.
ولدينا "ألماظة السّمّوني" الطفلة الفلسطينية ذات الأعوام الإحدى عشرة التي فقدَت عائلتها في العدوان. إيقاعيًّا عَمدَ شاعرُنا إلى تفعيلة البحر الكامل "مُتَفاعِلُنْ" الرَصينةِ – عادلًا عن "فاعِلُنْ" المسترسِلة في نثريّةٍ، و"فَعُولُنْ" المشحونة بالعاطفة، وهما التفعيلتان اللتان لهما نصيبُ الأسَد من قصائد الديوان - ليُوحيَ إلينا بما تصطنعُه الطِّفلةُ من رصانةٍ وهي تُرسلُ إلى أمِّها الشهيدةِ رسالةً بعد عامٍ من استشهادِها، لتخبرَها فيها بأنها قد كبُرَت وتعاتبها على تأخُّرها عليها في زيارات الأحلام. لكنّها في الحقيقة مازالت طِفلةً لها همومُ الطِّفلة وأفراحُها وبراءتها رغم هذه الرصانة: "وأبي الذي ما كان يأكلُ غيرَ طَبخِكِ صار يَعشَقُ من يدي (رُزًّا وبامِيَةً) ويدعوني أمامَ رفاقِه: ماما الصغيرةْ!/ أصبحتُ يا أُمّي شهيرةْ/ وتَغارُ كلُّ بَناتِ صَفِّي حِينَ أطلعُ في الجَزيرةْ" وكذا في قول الشاعر بلسانها "لا تغضِبي منّي وزُوريني نهارًا.. راجِعي دَرسَ الحسابِ ولا تلوميني إذا أخطأتُ في (جَمعِ الكُسورِ) وفي مسائلِه العَسيرةْ". وفي (جمع الكُسور) معنىً ثانٍ يُضافُ إلى المعنى الرياضيّ، فهو إحصاءُ الانكسارات التي مرّت بالطفلة وعائلتها وشَعبها، فهي لابُدَّ مخطئةٌ إذا ما حاولَته لأنه فوق الإحصاء.
قادةُ العرَب والمقاوَمة:
بلسان (أبي مازنٍ) يتماهى شاعرُنا مع الرئيس الفلسطينيِّ، فيُعلن عن ارتباكِه وحيرته إزاء الأحداث، وعن رغبةٍ لابُدَّ أنها تُخالِجُهُ أحيانًا في التنحّي عن مركز الهَمِّ الفلسطينيّ وتَرك الأمانة التي احتملَها راضيًا مُرغَمًا: "يُخيَّلُ لي أنّني ما خُلِقتُ لهذا جميعًا وأنّي بلا سببٍ واضحٍ ههنا الآنَ أحرُسُ عَرشَ الظّلامْ" وهو يَنعي حظَّه العاثرَ من الرِّياسة على قطاعٍ من الفصائل المتناحِرة التي منها ما لا يعترف به رئيسًا: "أحدِّقُ في اسْمي وفي صِفَتي قَبلَه (سيِّدٌ) ورَعايايَ خمسةَ عَشْرَ فصيلًا إذا لَم يَخُنِّي العَددْ!/ لكلِّ فصيلٍ بهم سيِّدٌ/ سيِّدانِ وأكثرُ حَسْبَ الزَّبَدْ!/ ورئيسٌ لهذا الحُطامْ! ...إلخ"
وبلسان (إسماعيل هَنِيَّة) يتماهى مع سياسيِّ (حماسٍ) الأشهَر، فيبدأ القصيدة بدايةً جَهوَريّةً خَطابيّةً مفوَّهةً تليقُ بالرجُل، يستدعي فيها (شِعبَ عبد المطَّلِب) الذي قُوطِع فيه النبيُّ وآلُه صلواتُ الله وسلامه عليهم، مشبِّهًا حالَ (حماسٍ) ومَن معها بحال النبيّ ومَن معه، كما يستدعي نِطاق أسماء بنت أبي بكرٍ الذي كانت تحتملُ فيه الزّاد إلى الرسول وصاحبِه في غار ثَورٍ، استدعاءً مقلوبًا، ليقول إنّ حالةَ المحاصَرين في غزّة تفتقِر حتّى إلى نِطاقٍ كنطاق أسماء، وهذا كلُّه في ثوبٍ عَروضيٍّ من البحر البسيط الذي يُشعُّ خَطابيّةً بتاريخِ ما احتملَه من قصائد: "في شِعبِ غَزّةَ لا خُبزٌ ولا ماءُ.. ولا نطاقٌ يَشُقُّ الليلَ (أسماءُ) ...إلخ" وتنتهي القصيدةُ بجُملةٍ نلمسُ فيها أنّ الشاعرَ يَجِد بعضَ المَوجِدةِ على قادة (حماسٍ) في تلك الحرب: "لا شيءَ يَهزمُنا، وفي يدِنا مفاتيحُ السَّماءْ!" فامتلاكُ مفاتيح السّماء مرتبطٌ في الخِطاب المُعاصِر بالنظرة الإقصائيّة التي تُعادلُ ادّعاءَ امتلاكِ الحقيقة المُطلَقة.
في الأعالي – جرأةُ القريحة ونشوةُ التَّلَقّي:
على تعدُّد الذُّرى التعبيرية في الديوان، يبدو لي سقفُ الإبداع فيه متمثّلًا في قصيدة "في الأعالي" التي يتحدث فيها الشاعرُ بلسان الرَّبّ سبحانه. هنا نلمس تعاليًا إلهيًّا على الانحياز إلى فئةٍ دون أخرى، فيبدو أنّ حقيقة الأمر ليسَت كما يقولُ الشاعرُ في قصيدة (مُقاتِل): "فإنّ السماءَ معقَّدَةٌ مبهَمةْ/ يهوديّةً في المساءِ يَراها اليهوديُّ، حين أَراها على صُورتي مُسلِمةْ"، وإنما السماء هي الحَقُّ، ولا تنتصِر إلا للحَقّ، فهنا يقول: "أبوكُم أنا يا عِيالي/ فلا تحرقوا الأرضَ باسْمي، ولا تخنقوا العُشبَ باسْمي، ولا تجعلوا الدَّمَ قُربانَكم لجَلالي". كما يبدو أنّ ما وقع في نفس عجوز غَزّة مِن أنّ الرَّبّ يساوم الأبطال بالخوف ويُولِم الجوع للأضياف ليس صحيحًا تمامًا، وإنما هو الله الذي يُمهِل ولا يُهمِل، فهنا يقول: "تظنُّون أنَّ سحائبَ كانونَ تحجبُكم عن عيوني وأنّ ضجيجَ القذائفِ يَنزعُكم من خَيالي" كما يقول في الختام: "ولا تحسبوني إذا لم أُكسِّر مَجاذيفَكُم نائمًا في الأعالي".
وفي القصيدة جَدْلٌ وتضفيرٌ للُغتَي القرآن والكتاب المقدَّس في التقليد اليهودي المسيحي، فيقول شاعرُنا: "وأنا لا أنامُ، ولكنّكم مِثلَ عادتِكم تعشَقون الذي هو أدنى ولا تصبرون على سيِّدٍ واحدٍ.." متناصًّا مع آية سورة البقرة التي يعاتبُ فيها موسى بني إسرائيلَ: "أتستبدِلُونَ الذي هو أدنى بالّذي هُوَ خَيرٌ؟.."، ثمّ تناصٌّ مزدوجٌ مع الآية الأخرى بلسان القوم: "وإذ قُلتُم يا موسى لن نصبرَ على طَعامٍ واحدٍ.." ومع آيةٍ من الإصحاح السادس من إنجيل مَتَّى: "لا يَقدِرُ أحدٌ أن يَخدُمَ سيِّدَين...". ها هنا يعضِّد الشاعرُ الإيحاءَ بتَعالي هذا الحديث الإلهيّ الطويل، فهو يقول ما شاء بلُغةٍ تسافرُ مفرداتُها على راحتها فيما بين أيدي الفريقَين المتحاربَين من الكتُب المقدَّسة.
ورغم جَمال قصيدة "أبناء الغزالة" التي جاءت بلسان الفلسطينيين في الختام بعد "في الأعالي" مباشَرةً، إلا أنّ هذه الأخيرةَ كانت بحَقٍّ تتويجًا للحظات الديوان التي طوَّف فيها الشاعرُ بأطراف الحرب وأنطقَها بمكنونات نفوسِ أصحابها. وأرى أنّ مرَدَّ ذلك إلى أنّ في القصيدة تلبيةً لحاجةٍ يخلقُها الواقعُ من جهةٍ، وقصائدُ الديوان من جهةٍ، وهي حاجةُ المتلقّي إلى أن يَسمع كلمةً فصلًا تلمُّ شَعَث التفاصيل وتعلو فوقَها، وتنقّي رُوحَه من أدران مَن قالوا في الديوان وتزيح عن كاهله أوزارَ مَن صمتوا فيه (كالضحايا في قصيدة "بعدَ عام"). ولحُسن حظّ المتلقّي أنها كلمةٌ آتيةٌ من السماء، أو هكذا خَيَّل إلينا عبد الله أبو شميس، وأحسبُه قد وُفِّق في تخييلِه.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير ثقافة شهود غزة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی قصیدة ة التی الذی ی لا أحد إلا أن
إقرأ أيضاً:
قراءة إسرائيلية في إقالة غالانت.. 4 أسباب لقرار نتنياهو
سلطت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، اليوم الأربعاء، الضوء على أسباب إقالة وزير الحرب يوآف غالانت، وتعيين يسرائيل كاتس بديلا عنه.
وأشار المحلل رون بن يشاي في مقال نشرته الصحيفة، إلى أن هناك أربعة أسباب دفعت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى قرار إقالة غالانت، موضحا أن السبب الأول يتعلق بمعارضته لقانون تمويل التهرب من الخدمة "قانون المعاهد".
وتابع بن يشاي: "السبب الثاني مرتبط بالخلافات المتزايدة مع نتنياهو، والثالث يتعلق بالانتخابات في الولايات المتحدة، والرابع مرتبط بالقضايا التي تواجه مكتب نتنياهو وما تم تسريبه مؤخرا من معلومات أمنية".
وبيّن أن السبب الأول هو معارضة غالانت قانون التهرب من الخدمة، والذي يعد بمثابة محور التفافي لترسيخ إعفاء الحريديم من التجنيد بالجيش الإسرائيلي.
وأضاف أن "نتنياهو كان يخشى أنه إذا لم يُقر على الأقل أحد هذه القوانين، فسيقوم الحاخامات الحريديم، وعلى رأسهم الحاخام الأكبر من جماعة غور، بتنفيذ تهديداتهم والانسحاب من الائتلاف والتوجه إلى الانتخابات".
وذكر أن "نتنياهو شعر بضرورة إزالة هذا التهديد، ووقف غالانت في طريقه، لذا كان يجب أن يُقال"، منوها إلى أن "غالانت أمر الجيش قبيل إقالته بتجنيد 7 آلاف طالب حريدي، ما زاد من غضب الحريديم ومخاوفهم".
وأردف قائلا: "لذلك أدرك نتنياهو أنه يجب أن يتخذ خطوة، لذلك قرر إقالة غالانت بهدف الحفاظ على الائتلاف الحكومي"، مشددا على أن الإقالة غير مرتبط بالمطلق بإدارته للحرب.
ولفت إلى أن السبب الثاني في الأهمية هو الخلافات المتزايدة بين نتنياهو غالانت وكبار مسؤولي الأمن بشأن قضية الأسرى والقتال في غزة، موضحا أنه على مدار عام كانت هناك بالفعل خلافات عديدة بين الطرفين، لكنها كانت موضوعية وتم حلها.
واستشهد المحلل الإسرائيلي بأكثر من مقترح متناقض بين نتنياهو وغالانت، منها ما هو متعلق بمهاجمة لبنان منذ بداية الحرب على غزة، إلى جانب تأخير نتنياهو مسألة الحرب البرية على غزة، وكذلك اجتياح رفح.
وأكد أن الأمر المرتبط بقضية الأسرى مختلف ويعد من الخلافات الجوهرية بين نتنياهو وغالانت، مبينا أن نتنياهو لا يريد وقف الحرب في غزة لتنفيذ صفقة تبادل أسرى، بينما يرى غالانت ورئيس الأركان ورئيس الشاباك ورئيس الموساد، أنه يمكن وقف الحرب مؤقتا مقابل تحرير كل الأسرى الأحياء، على أن يتم استئناف الحرب في غزة لاحقا.
وذكر أنه في الأوساط الأمنية الإسرائيلية كان هناك إجماع أن الفرصة سانحة لتنفيذ ذلك عاجلا أم آجلا، لكن نتنياهو لا يقبل هذا الرأي ويريد الاستمرار حتى تحقيق "النصر الكامل".
وفيما يتعلق بالسبب الثالث، تطرق بن يشاي إلى الانتخابات الأمريكية، معتقدا أن نتنياهو استغل انشغال العالم بالانتخابات، لتمرير هذه الخطوة دون إثارة احتجاج شعبي كبير كما حدث في المرة السابقة.
وختم بالسبب الرابع والمتعلق بالوثائق السرية والقضية الإضافية التي جرى الكشف عنها مؤخرا، والمرتبطة بمكتب رئيس الوزراء وتورط نتنياهو فيها، معتبرا أن إقالة غالانت تُحول الأنظار حاليا عن هذه القضايا التي تصدرت العناوين في الأيام الأخيرة.