الجبل والكهف: هل السودان قابل للقسمة؟ «2- 2»
تاريخ النشر: 7th, March 2024 GMT
الجبل والكهف: هل السودان قابل للقسمة؟ «2- 2»
د. عبد الله علي إبراهيم
أنفقنا شفقة كثيرة، وحدساً مجازفاً، ومقارنات غير مدروسة في الإجابة على سؤال هل السودان قابل للقسمة أكثر مما أنفقنا في النفاذ إليه بفكر نقدي غير رحيم. وأكثر ما حجبنا عن هذه الفكر النقدي هو اقتصارنا على توزير الحكومة (المركز)، في جعل السودان آيلاً للقسمة دائماً وأبداً.
فصح، إذا كانت الأمة، في قول المؤرخ الفرنسي أرنست رينان، هي إرادة العيش معاً، أن نخضع فكر حركات الهامش وممارستها لمعيار امتثالها لهذه الإرادة. وسنجد أنه اعتور إرادة هذه الحركات عوارض قدمت فيها الهوية الإثنية والمناطقية على هوية الوطن الجامعة مما أوقعها في ما نطلق عليه، جرياً وراء الفيلسوف الأميركي مارك ليلا، بالتراجع عن الجبل، الوطن، إلى الكهوف، أي الهويات الأصاغر فيه.
وسنأخذ فيما تبقى من حديث اتفاق سلام جوبا الموقع في أكتوبر 2021 بين غالب حركات دارفور المسلحة والحكومة السودانية كشاهد عيان على استعصامه، بتركيزه على الهوية المناطقية، بالكهف دون الجبل.
من الدلائل على كهفية اتفاق جوبا أنه قضى، وهو المستمد من الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية (2019-2022)، بأنه إذا تعارضت مادة منه مع الوثيقة الدستورية الحاكمة لفترة الحكم الانتقالي صحت تلك المادة وأزيل نقيضها الذي في الوثيقة. فمن علو العين على الحاجب، والكهف على الجبل، خضوع الدستور لنوازل اتفاق للسلام كان قد أخذ شرعيته منه.
ولا يسفر الاتفاق عن كهوفيته في مثل إلغائها المركز نفسه في مسعى قوى الهامش اقتسام الثروة الوطنية مع المركز. فانته إلى إلغاء المركز في حين كان يكفيها تفكيك قبضته على الثروة بما يأذن لها بتلك القسمة. فألغى الاتفاق وزارة المالية فالجمعية التشريعية فالدولة نفسها.
فبمقتضى الاتفاق ستقوم هيئتان بالقوامة على المال العام. فالهيئة الأولى هي الصندوق القومي للعائدات (المادة 22 من الاتفاق) وستودع فيه “كافة الإيرادات والعائدات المالية القومية وينظم بالقانون ويكون هو المؤسسة الوحيدة لإيداع العائدات”. أما الهيئة الأخيرة فهي “المفوضية القومية لقسمة وتخصيص ومراقبة الموارد والإيرادات المالية” (المادة 23). وهذه المادة ملزمة ضمان الشفافية ومعالجة أوجه الخلل في تخصيص وتوزيع الإيرادات القومية بعدالة بين أقاليم السودان المختلفة، سيما الولايات المتضررة من الحرب والمظالم التاريخية.
استدعى الاتفاق، الصندوق والمفوضية، نصاً من اتفاق السلام الشامل بين الإنقاذ والحركة الشعبية الجنوبية في 2005. غير أن ما جاء في اتفاق جوبا اختلف عما جاء في نظيره الذي جرى عام 2005 بوجوه مهمة. فالأخير أقر بوجود وزارة خزانة أو مالية مركزية في حين تغاض اتفاق جوبا عنه، أو دلس.
قال اتفاق 2005 بوجوب إيداع كل العائدات المتحصلة في الصندوق القومي للعائدات “الذي تديره الخزانة العامة”. أما اتفاق جوبا فبدأ بالنص بأن الصندوق هو الذي ستودع فيه كافة العائدات وانتهى بقوله إن الصندوق هو “المؤسسة الوحيدة” لإيداع العائدات. وبدا أن هذا الصندوق ربما اسم آخر لوزارة المالية حتى نرى تلاشيها فيما سيرد.
من جهة أخرى، نجد اتفاق 2005 قضى أن تكون عمليات الحكومة المالية، تخصيصاً وصرفاً، في إطار الموازنة العامة العلنية، أي تلك التي تجيزها مؤسسة تشريعية، في حين صمت اتفاق جوبا عن دور المؤسسة التشريعية في أي من صورها في عمليات الدولة ومعاملاتها المالية.
ليس المفوضية القومية لقسمة وتخصيص ومراقبة الموارد بدعة. فهي ما تواثقت عليه دول كثيرة لرد ظلامة أقوام في الأمة فاتهم قطار التنمية زماناً. فهذه الدول تتواضع عند نسب مدروسة من المال الوطني تخصص لهذه الجهة أو تلك استدراكاً لما فاتها. وتضطلع المفوضية بمراقبة إن كانت الهيئة التشريعية ووزارة المالية التزمت بتلك النسب وحولت أنصبة تلك الجهات في وقتها.
أما مفوضية اتفاق جوبا فلم تكتفِ بتحديد نسب أنصبة ولايات البلد ومراقبة التزام الدولة بها فحسب، بل قضت أن تقوم هي نفسها أيضاً بتوزيع الأنصبة المقررة. وبدا من بعض واجباتها أنها الكفيلة حتى بتحديد نصيب الدولة المركزية وضمان صرفه لها. فجاء في الاتفاق، “كما تضمن المفوضية عدم حرمان الحكومة الاتحادية، أو أي طرف آخر، من التمتع بمستحقاته المالية، وضمان انسيابها في المواقيت المتفق عليها”.
فبعد استبعاد وزارة المالية والمؤسسة التشريعية من اختصاصاتهما المالية صارت المفوضية ولية المال عن الدولة نفسها تنفق عليها. وهكذا انتهى من أراد اقتسام الثروة مع المركز القابض إلى إلغائه.
وفي طلب أمن الكهف اعتدت قوى الهامش في اتفاقية جوبا على الحقوق الديمقراطية لغيرها. فصادرت الحق في المدينة لأهل عاصمة القطر. فرتبت لها إدارة خاصة يراعى فيها التمثيل العادل لأهل السودان. فتشترك بالنتيجة أطراف اتفاق سلام جوبا في أجهزة إدارة العاصمة القومية. فقضت بأن ينعقد بعد التوقيع عليها مباشرة مؤتمر يتواثق على طبيعة هذه الأجهزة وفقهها.
حجة أطراف جوبا على هذا التمدد لإدارة العاصمة أنها قومية ومتنوعة فيها من كل جنس جوزين. وجازت لهم إدارتها بحظهم هذا منها. وبهذا التطفل على إدارة العاصمة يقع طلاق بينونة بين السلام والديمقراطية. فأرادت أطراف اتفاقية جوبا الاستئثار بالشراكة في إدارة العاصمة لنفس السبب الذي من شأنه أن يكفها عنه. فتنوع العاصمة وقوميتها سبب لديمقراطية إدارتها اقتراعاً من قبل سكانها المسجلين في قوائم الانتخابات بها، ودافعي الضرائب لخزائنها، والأعرف بدخائلها وحقوقهم عليها وواجباتهم لها. ففرض إداريين عليها سواء من أهلها، أو مستوردين بإرادة مسلحي الهامش، فشطط.
صرفنا مداداً كثيراً بليغاً في نقد المركز لتفريطه في الوحدة الوطنية السودانية. وأعفينا قوى الهامش التي سعت لاقتسام السلطة والثروة معه من الحساب عن هذا التفريط. فيكفي أن الحركة الشعبية لتحرير السودان (العقيد قرنق) دعت بقوة إلى سودان جديد إرادة منها للعيش المشترك. ولكنها انتهزت أول سانحة لتغادر الجبل إلى كهفها باستخدامها حق تقرير المصير الذي كفله لها اتفاق السلام الشامل. ورأينا من اتفاق جوبا كيف رتب الهامش الدارفوري وحلفاؤه بحذق، وربما بإهمال، للعيش في كهفهم العرقي والإثني والمناطقي، لا جبل الوطن.
IbrahimA@missouri.edu
الجبل والكهف: هل السودان قابل للقسمة؟ «1- 2»
الوسومأرنست رينان اتفاق سلام جوبا الجبل السودان الكهف الهامش الوحدة الوطنية السودانية جوبا عبد الله علي إبراهيمالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: اتفاق سلام جوبا الجبل السودان الكهف الهامش جوبا عبد الله علي إبراهيم إدارة العاصمة اتفاق جوبا
إقرأ أيضاً:
كاميرون هدسون: لا يوجد مؤشرات تلوح في الآفق بشأن اتفاق للتهدئة في السودان
مع استمرار الحرب في السودان تزداد معاناة ملايين المدنيين من انعدام الأمن الغذائي، بينما لا تلوح في الأفق أي مؤشرات لحل سياسي ينهي القتال الدائر في البلاد منذ 15 أبريل 2023، الدبلوماسي الأميركي السابق ومدير الشؤون الأفريقية الأسبق في مجلس الأمن القومي، كاميرون هدسون أكد أنه لا يوجد مؤشرات تلوح في الآفق بشأن اتفاق للتهدئة في السودان.
ويرى أن تركيز الجهود الدولية حاليا يتعلق بإيصال المساعدات الإنسانية، ولا جهود تتعلق بالعملية السياسية في السودان، مشيرا إلى أن مساعي واشنطن في جمع الأطراف المتحاربة في السودان لم تنجح.
وأعلنت واشنطن الخميس عن تخصيصها مبلغا إضافيا بقيمة 200 مليون دولار لمواجهة الأزمة الإنسانية في السودان، ليرتفع بذلك إجمالي المساعدات الأميركية إلى 2.3 مليار دولار.
وأضاف هدسون أن واشنطن أيضا لم تنجح في وضع حدود للقوى الدولية التي تغذي الصراع في السودان، لافتا إلى أن الولايات المتحدة "في وضع صعب" فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمة في السودان، خاصة مع تبقي شهر واحد لإدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن.
ولا يعتقد أن الأزمة في السودان تتصدر أولويات إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب.
منذ أبريل 2023، يشهد السودان حربا بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب حميدتي.
وقال هدسون إن تقديم المساعدات لوحدها للسودان غير كافية، ولكن ما نحتاج إليه هناك هو حل سياسي للأزمة، مشيرا إلى أن واشنطن لم تستخدم كل الأدوات المتاحة لها للضغط في هذا الإطار، إذ لم تفرض عقوبات، ولم يتم إيقاف تغذية الصراع من قوى إقليمية.
والخميس، حذر برنامج الأغذية العالمي من أن السودان قد يشهد أكبر مجاعة في التاريخ الحديث، مع 1.7 مليون شخص في البلد إما يعانون الجوع أو هم معرضون له، إضافة إلى ذلك، يعاني حوالي 26 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي في البلد.
القتال في السودان تسبب في أكبر أزمة إنسانية عالمية حسب الأمم المتحدة
واشنطن تحذر من تفكك السودان أو تحوله إلى "دولة فاشلة"
حذر المبعوث الأميركي الخاص للسودان، توم بيرييلو، من تداعيات الحرب في السودان، قائلا إنها تفاقم الأزمة الإنسانية وتعطلُ فرص السلام.
وأوضح هدسون أنه تم فرض عقوبات على بعض الأفراد في قوات الدعم السريع، والتي لم تكن فعالة لتغيير سلوكيات هذه القوات، وفي الوقت الذي ظهرت فيه دلائل على تقديم دولة الإمارات لأسلحة في السودان إلا أن واشنطن لم تتحدث بصرامة معها بهذا الشأن، تم الاكتفاء بنفي أبو ظبي إرسال أسلحة، وهذا يعني أن الولايات المتحدة تفضل علاقاتها مع الإمارات وإن كان ذلك على حساب مقتل العديد من المدنيين في السودان.
وقال هدسون إن رد وكالات الأمم المتحدة لم يكن كافيا في السودان، وهذا يعود للتمويل وللأولويات التي تفرضها الدول الأعضاء على المشهد، إذ أنها لا تحظى بذات الأولوية مثل ما يحدث في حرب أوكرانيا، أو حرب إسرائيل في غزة.
وتسيطر قوات الدعم السريع بشكل شبه كامل على إقليم دارفور ومساحات واسعة من منطقة جنوب كردفان ومعظم وسط السودان، بينما يسيطر الجيش النظامي على شمال وشرق البلاد.
وحتى الآن، لم يتمكن أي من المعسكرين من السيطرة على كامل العاصمة الخرطوم التي تبعد ألف كيلومتر شرق مدينة الفاشر.
وأودت الحرب بحياة عشرات الآلاف وشردت أكثر من 11 مليون شخص وتسببت بما تعتبره الأمم المتحدة أسوأ أزمة إنسانية في الذاكرة الحديثة.
ويتهم الجيش وقوات الدعم السريع باستهداف المدنيين والمرافق الطبية بشكل عشوائي، وبقصف مناطق سكنية عمدا.
الحرة الليلة