لا تزال القضية الفلسطينية هي المحور الأول الذي يشغل المسلمين وغيرهم من أنصار الحق والإنسانية، فعلى الرغم من أن العدو الصهيوني جاوز كل الخطوط، وبالغ في الطغيان والقتل والتجويع والتهجير، إلا أن العالم لا يزال ينظر إلى المظلومين نظرة المتفرج، على الرغم من أن هذه القضية هي قضية عقدية إيمانية عند المسلمين، وقد عرّج على ذلك فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان في محاضرته «القضية الفلسطينية من منظور ديني»، ذكر أن ارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى هو ارتباط إيماني فهو يقول: إذا أتينا إلى سنة رسول الله- صـلى الله عليه وسلم- سنجد أنها تتعلق بالأوصاف الإيمانية في رواية أبي ذر «سألت رسول الله- صـلى الله عليه وسلم- أي بيت وضع للناس أول؟ فقال البيت الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة وحيثما أدركتك الصلاة فصل» فهذا معنى إيماني، مسجد وضعه الله لا نتحدث عن البناء، عن الوضع وضعه الله تبارك وتعالى في هذه الأرض بعد المسجد الحرام بأربعين سنة والذي أقام البيت الحرام إبراهيم عليه السلام: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» وأغلب المفسرين والمؤرخين وعلماء الإسلام يقولون: إن الذي رفع قواعد بيت المقدس هو إبراهيم عليه السلام، وهذا سيمكننا من فهم مطلع سورة الإسراء «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

وقال: هناك تيارات داخل الفكر اليهودي تقول: إنه ليس لنا أن نرجع من الشتات، وإنه كتب علينا الشتات وأن نظل هكذا مفرقين في الأرض، وإن إقامة كيان واحد لنا في أرضنا فلسطين إنما هو إيذان بزوالنا. وهذه عبارة عن تيارات لكنها ليست تيارات مؤثرة نحن نريد أن نصنف أن التيارات المؤثرة تيارات إلحادية، تيارات علمانية، تيارات متصهينة، وهناك أيضا حركة صهيونية مسيحية، الحاصل أن الدين في صلب هذه القضية وأن هذه المستندات التي يستندون إليها، فلا بد أن نكون على دراية بها، وخرجت من مناقشة هذه القضية كما قلت ببناء معرفي نريد أن ندحض به هذه الدعوة من ذاتها ومن داخلها إلى آخر نقطة وصلت إليها تتعلق بأنه إن كنا نعترض عليهم بأن الله تبارك وتعالى لا يُقطِع أشخاصا هذه الأرض، وإنما الأرض هي مكان عبادة الله تبارك وتعالى، ومكان توحيده والعبودية الخالصة له وأن له جل وعلا سننا فإن هذه الدعوى إذا أريد أن ترفع ضد المسلمين فإن ما ذكرته إلى الآن يرد هذه الدعوى أيضا؛ لأن ما وصف به وما وصفت به تلك الأرض المباركة المقدسة، وما وصف به المسجد الأقصى بيت المقدس، هي كلها أوصاف دينية إيمانية روحية ليست أوصافا لأشخاص ولا أوصافا مادية مجردة الآن وسترون أن في آيات الكتاب العزيز أيضا من إبراهيم عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلـم الأنبياء والرسل الذين ارتبطوا ببيت المقدس كل الأوصاف التي وردت لبيت المقدس ولمن كان في بيت المقدس إنما هي أوصاف تتعلق بالإيمان بالله تبارك وتعالى وبالعبودية له فهذا الدين ليس دين تمييز عنصري، ليس دين قوميات، ليس دين عنصريات، وإنما هو دين عالمي، ولذلك قال باركنا فيها للعالمين.

المقاومة

وبيّن الخروصي أنه لا يمكن أن نتعرض للقضية الفلسطينية من منظور إسلامي دون أن نتعرض للمقاومة، طالما أن هؤلاء اغتصبوا هذه الأرض المباركة واعتدوا على بقعة مقدسة من بقاع المسلمين لها مكانتها وقدسيتها عند المسلمين ولها تاريخها عبر أكثر من أربعة عشر قرنا إذا قلنا من دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلـم، وأنا أقول: إن الوارد في كتاب الله- عز وجل- وهذا مما ذكره بعض الباحثين أن نبينا محمدا- صـلى الله عليه وآله وسلم- قد فهم ما ترمي إليه الآيات في سورة الروم وفي سورة الإسراء ولذلك في حياته عليه الصلاة والسلام لم يسيّر صوب بلاد فارس إلا سرية واحدة، وباقي السرايا خارج الجزيرة العربية كانت صوب الشام وفلسطين، وآخر ما كان صلى الله عليه وآله وسلـم يسأل عنه وهو في مرض موته صـلى الله عليه وآله وسلم عن بعث أسامة، فكان يشتد به الوجع فإذا هدأ عنه الوجع فإنه يسأل عن بعث أسامة وفي ذلك الوقت كانت فلسطين في يد النصارى، فسورة الروم سورة مكية، فالرسول صلى الله عليه وسلـم يأتيه الخبر وهو في مكة وهم جماعة، بخبر عن حدث عالمي وذلك للتهيؤ والاستعداد، في الوقت الذي تغلبت فيه فارس على الروم بنص كتاب الله عز وجل ينتصر قال: «الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» تغلب الروم على الفرس في الوقت الذي انتصر فيه المسلمون في بدر.

وإذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلـم في سيرته من بعد بدر إلى وفاته عليه الصلاة والسلام وسراياه وبعوثه العسكرية صوب الغالب المنتصر الأصل بموازيننا نحن أن يغتنم الفرصة للتوجه صوب فارس لكن بعوثه قلت سرية واحدة لدومة الجندل يعني كانت في يد فارس أما باقي السرايا والبعوث فكانت إلى بلاد الشام وفلسطين ولذلك كان يسأل عن سرية أسامة بن زيد لأهميتها، ولذلك اهتم الخلفاء الراشدون فسيدنا أبو بكر الصديق اهتم به مدة خلافته يعني سنتين وبضعة أشهر ومن بعده سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه والخلفاء من بعده وإذا بهم يحررون المسجد الأقصى من قوة لتوها تغلبت على فارس على أقوى إمبراطوريتين في ذلك الوقت ولمكانة المسجد الأقصى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يذهب بنفسه ويأمر قواد أجناده بملاقاته فهذا حدث كبير، فيدخل رضي الله تعالى عنه متواضعا كما رأيتم يعني في نص ابن كثير أنه دخل ملبيا وأنه ابتدأ بالصلاة بعد أن أزال النجس عنها.

هل هناك من يمكن أن يعارض في أن ما يفعله أهل الحق أهل الأرض هو مقاومة ودفاع عن الحق؟ لا أحد يجادل إلا أن يكون من صف الأعداء الظالمين. ما الذي يفترض في المقاوم المدافع أن يفعله؟ اسمه مقاوم واسمه مدافع فعليه أن يقاوم ويدافع إذا سكن وتوقف يحتاج إلى سبب أما إذا قاوم ودافع فلا يحتاج إلى سبب يعني لا يحتاج أن يقول لماذا طوفان الأقصى؟

فالواجب عليه أن يدافع ويقاوم فإذا توقف فعندئذ نسأل لماذا توقفت؟ ما الذي يمنعك؟ هل استسلمت؟ هل قبلت الذل والهوان؟ أما أن يكون فعل المقاومة مستمرا مداوما عليه فهذا هو الأصل، لابد أن يكون تكييفا صحيحا لنفرع عليه، لا أن نأتي ونقول بعد ذلك: لماذا فعلوا كذلك ولم يحسبوا للعواقب؟ فالأصل المقاومة والمدافعة.

هل فعلا باعوا أرضهم

وأشار إلى أنه: سيأتي أحد ويقول الفلسطينيون باعوا أراضيهم تسمعون هذا، وبدأ الآن في وسائل الإعلام في وسطنا العربي والإسلامي وحتى في بعض المجالس يقولون: «فما اشتغالنا بهم إذا كانوا قد باعوا أراضيهم؟» وجوابي عليهم أن الحاج أمير الحسيني مفتي القدس له كتاب اسمه «أسرار كارثة فلسطين» وتوجد نسخة إلكترونية من 1957 لدار الفضيلة، فيه أن هيئة علماء فلسطين أصدرت فتوى في ذلك الوقت في عشرينيات القرن الفائت أصدروا فتوى بكفر من يبيع أرضا لليهود وأن حكمه الردة، وكم تملك اليهود من أراضٍ أيام الدولة العثمانية، هناك أراضٍ تعرفون الدولة العثمانية فيها أوقاف، أراضٍ ملك للدولة تسمى الأراضي الأميرية، والحاصل أنه أيام الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد كانوا يعطونهم بدعوة التطوير والتثمير واستصلاح الأراضي والزراعة والصناعة كانوا من رعايا الدولة ثم الانتداب البريطاني بعد سقوط الدولة العثمانية على إثر الحرب العالمية الأولى وكان نسبة ما يتملكه اليهود في فلسطين 5% بحسب كلام الشيخ الحاج محمد أمين الحسيني ثم بعد ذلك تمكنوا من شراء ما نسبته 2% فأصبح ما يمتلكونه عند الانتداب في عام 1948، 7% يعني كم الذي تمكنوا من شرائه من بعض ملاك الأراضي في فلسطين الذين يسكنون خارجها في سوريا ولبنان وأغلب هؤلاء الملاك لم يكونوا من المسلمين يعني لم يكونوا من أهل فلسطين ولم يكونوا من المسلمين كانت هيئة علماء المسلمين تشتري الأراضي وتحولها إلى أوقاف، كانت تمول الملاك لتمنعهم من بيع أراضيهم التي وصلت قيمتها مئات الأضعاف، ومع ذلك رفض أهل الأرض بيع أراضيهم فلا تنطلي عليكم هذه الدعوى، وقد سمّى الكتاب بعض الأسر التي باعت كل شيء، فهو مدون معروف.

و الغريب أن مجمع الكهنة الأرثوذكس أيضا أصدر فتوى مشابهة، النصارى العرب الفلسطينيون الموجودون هناك أيضا أصدروا فتوى بذلك، فأغلب هذه المساحات ذكرها بالأراضي والمسميات والمساحات وكل شيء موجود في الكتاب.

حساب عواقب نكاية العدو

وأوضح أن الأصل في المقاوم أن يكون مقاوما مدافعا لكن يأتي البعض ويقول لماذا لم يحسبوا أن عواقب النكاية من العدو ستكون عظيمة والخسائر في الأرواح ستكون عظيمة؟

ولكن الرد موجود في كتاب الله عز وجل في مواضع كثيرة ففي معركة بدر كان عند المسلمين ثلاثة أفراس وعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ويقابلون جيشا مدججا بكل العدة والعتاد ويأتي المنافقون ويقولون: «إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» أي عزيز لا يغلب حكيم يضع الأمور في نصابها وفق مشيئته وقدرته بحكمته وعدله جل وعلا ومن يتوكل على الله تبارك وتعالى آخذا بالأسباب فلن يلتفت إليهم.

في الحديبية لما منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المسلمين وكان عددهم في الحديبية لما ذهبوا معتمرين 1400 تقريبا لما منعوهم وبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلـم يعد العدة، أن قريشا يمكن أن تواجه وتعتدي، فقد بايع هؤلاء المسلمون الذين كانوا معه لأجل مواجهة أهل مكة هم خرجوا معتمرين لكن الأخبار تأتي الآن والموقف بصدهم ومنعهم يكشف على أن أهل مكة راغبون في المواجهة ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيعة، هل تعرفون على ماذا كانت البيعة؟ كانت بيعة على الموت مع أنهم خرجوا معتمرين. وعندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، يعني أنا لا أملك لكم شيئا الآن إلا أن أُوصيكم بالصبر هل يعدهم بالنصر؟ لا فإنه يقول فإن موعدكم الجنة صبراً آل ياسر لذلك اليوم ستجد من يقول نعم تحثون الناس على الجهاد وتناصرون المقاومة وأنتم قاعدون في بيوتكم عند أولادكم، فالرسول الله صـلى الله عليه وسلم يقول لآل ياسر صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة. وفي القرآن الكريم يقول تعالى: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» فالنصر والفتح والانعتاق من الذل والهوان ورفع الظلم لا بد أن يكون لها ثمن، ولم يكن لأمة من الأمم متدينة أو غير متدينة لم يكن وصولها إلى حريتها وإلى ما وصلت إليه دون أثمان باهظة حتى دول الكفر فكيف إذا كانت القضية قضية عقيدة ودين وإذا كانت قضية عدل ورفع للظلم قطعا ستكون هناك أثمان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: رسول الله صلى الله علیه وآله صلى الله علیه وآله وسلـم الله علیه وآله وسلم الله تبارک وتعالى الدولة العثمانیة صـلى الله علیه المسجد الأقصى بیت المقدس أن یکون

إقرأ أيضاً:

حزب الله بين منع الحرب على لبنان ورفع كلفتها

تشهد الجبهة الشمالية لدولة الاحتلال مع حزب الله حالة تصعيدات كبيرة مؤخرًا، مع ارتفاع ملحوظ في احتمالات توسّع الحرب باتجاه لبنان. وقد كان الخطاب الأخير للأمين العام للحزب حسن نصر الله مختلفًا من حيث المضمون والأسلوب، في ارتباط واضح مع طبول الحرب التي تقرع بخصوص الجنوب اللبناني.

انخراط وتصعيد

في اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى"، أي في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فتح حزب الله ما أسماه "جبهة إسناد" للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، عبر قصف مزارع شبعا المحتلة، وهو ما يحسب له حيث انخرط في الحرب باكرًا جدًا، وقبل أن تتضح مساراتها فضلًا عن نتائجها ومآلاتها.

بيد أن هذه الجبهة بقيت لأسابيع طويلة محدودة الاشتباك والأثر وأقرب لرمزية التضامن وبعيدة جدًا عن إمكانية التأثير في سير العدوان على غزة والذي اتخذ شكل الإبادة بشكل واضح، ما عرّض الحزب للكثير من الانتقادات والمطالبات بما هو أعمق وأكثر أثرًا، رغم الخسائر الكبيرة في المقاتلين والمدنيين والتي فاقت وفق بعض التقديرات عدد شهداء حرب يوليو/تموز 2006م.

أحد التفسيرات لمحدودية انخراط حزب الله في بداية الحرب هو تفاجُؤُه بموعدها، وبالتالي عدم استعداده لاستحقاقاتها، ما دفعه لتمرير مدة من الزمن بالاشتباك المحدود لحين الوصول لنقطة الجاهزية المطلوبة، الأمر الذي يفسّر ارتفاع مستوى الانخراط، وتغير قواعد الاشتباك مع الوقت. لكن، ومن جهة أخرى، من الملاحظ أن مستوى التصعيد ارتفع بشكل ملحوظ بعد الرد الإيراني على قصف القنصلية في دمشق، وتزايد احتمالات الرد "الإسرائيلي" والحرب الإقليمية الواسعة بما قد يشمل استهداف لبنان. كما أن سقف التصعيد ارتفع بشكل كبير جدًا مؤخرًا مع تواتر التصريحات والتقارير "الإسرائيلية" عن هجوم محتمل على لبنان.

ذلك أنّ متابعة مستوى انخراط حزب الله في الحرب في الأسابيع القليلة الأخيرة، وسقف ضرباته في شمال فلسطين المحتلة، تكشف عن اختلافات واضحة في الوتيرة والعمق والأهداف المختارة والأضرار والتأثير عمومًا، ما يعني أنها تحمل رسالة واضحة للاحتلال.

أحد أهمّ خطوات الحزب في هذا الإطار، الفيديو الذي نشره تحت مسمّى "ما عاد به الهدهد"، وشمل أهدافًا كثيرة للاحتلال رصدتها المسيّرات، وهو ما فهمه الكثيرون كرسالة سياسية – أمنية تقول إن هناك أهدافًا أخرى – غير المنشورة – قد رصدها الحزب، وبعضها أهداف حساسة ومهمة، وإن القادر على رصدها قادر على استهدافها هي وغيرها في حالة الحرب الموسعة، وبالتالي فإن أي حرب قد يشنها الاحتلال على لبنان لن تكون نزهة أو دون ثمن، بل ستكون لها كلف كبيرة، وهو ما يعني ضمنًا كذلك أن الحزب يأخذ تهديدات الاحتلال على محمل الجِدّ.

وقد أكد الأمين العام للحزب حسن نصر الله في خطابه الأخير على هذا المعنى؛ أي أنه لا يريد الحرب، لكنه مستعد لها، وأنها إن وقعت ستكون "بلا ضوابط ولا قواعد ولا سقوف"؛ ما يعني أن هذه الخطوات: التصعيد وفيديو الهدهد والخطاب، هي محاولات جادة من الحزب لتجنب سيناريو الحرب الموسعة، والتأكيد على أنها إن وقعت ستكون مختلفة عما سبقها، بما في ذلك حرب 2006م.

احتمالات الحرب

يبقى السؤال الأهم الذي يشغل الجميع، هو: هل يستمر التصعيد في الجبهة الشمالية وصولًا لحرب موسعة؟ بيد أنه ليس ثمة إجابة سهلة أو جازمة له، رغم توفر الكثير من المعطيات.

في المقام الأول، ليس هناك مصلحة واضحة لأي من الطرفين: الاحتلال وحزب الله، في حرب واسعة. فالأخير أعلن من البداية عن جبهة إسناد لغزة، وعبّر أكثر من مرة عن عدم رغبته في حرب موسعة، والداخل اللبناني لا يساعده على اتخاذ قرار من هذا القبيل من حيث الأزمة الاقتصادية والانقسام السياسي. يضاف إلى كل ذلك أن الوضع الحالي في جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة لمصلحته إلى حدّ كبير، رغم ما تكبّده من خسائر وقدّمه من تضحيات، حيث عدّلت قواعد الاشتباك وهُجِّرَ المستوطنون من الشمال، وطوّر هو من جاهزيته لأي سيناريوهات مستقبلية.

في الجهة المقابلة، لم يحقق الاحتلال في قطاع غزة أيًا من الأهداف الكبيرة التي أعلنها للحرب، باستثناء المقتلة في المدنيين، وتحويل القطاع لمكان غير صالح للحياة الآدمية. ورغم أن بعض التقارير تدعي أن جيش الاحتلال قد يعلن قريبًا عن انتهاء العمليات العسكرية في رفح والانتصار على كتائب القسام وباقي فصائل المقاومة، فإن ذلك لن يتخطى حدود البروباغندا، ولن يقنع أحدًا بالانتصار. فإذا أضيف هذا للضغوط التي تواجهها حكومة نتنياهو داخليًا وخارجيًا، وحسابات الحرب المختلفة مع الحزب عن غزة وخسائرها ومآلاتها المحتملة، يصبح قرار من هذا القبيل مغامرة كبيرة.

ورغم عدم وجود مصلحة جوهرية في الحرب للحزب أو للاحتلال، فإن احتمالاتها تبقى قائمة وكبيرة مؤخرًا. فمن جهة، قد تندلع الحرب – أي حرب – على غير رغبة أطرافها؛ بسبب حسابات خاطئة، أو خطأ غير مقصود، أو تطور غير مرغوب به، أو تدحرج الأحداث تلقائيًا.

ومن جهة أخرى، فإن للاحتلال أولوية واضحة بإعادة الهدوء والمستوطنين للشمال، وهذا غير ممكن دون وقف التصعيد الذي يعلن حزب الله أنه لن يحصل إلا بوقف العدوان على غزة. كما أن حكومة نتنياهو ترى أن الأجواء الحالية موائمة لـ "تخليص الحساب" مع حزب الله، رغم الضغوط المشار لها، حيث إن ما تكبده في العدوان يصعّب عليه إطلاق حرب أخرى مستقبلًا ما يدفعه لفعل كل ما يريده دفعة واحدة ومواجهة هذه الضغوط: (السياسية والاقتصادية والقانونية والرأي العام) مرة واحدة.

الأهم من كل ما سبق أن الحرب لا تقوم دائمًا على أسباب منطقية ومصالح جوهرية، بل قد يكون العكس هو ما يحصل، كما حدث مع الاحتلال مرارًا في هذه الحرب. فعدوان واسع على لبنان قد يشكّل فرصة لنتنياهو – وحكومته – للهروب للأمام بعد الإخفاق العسكري في غزة، وأنه غير راضٍ عن قواعد الاشتباك الجديدة في جبهة الشمال، وأنه يريد أن ينتقم للمستوطنين المهجّرين كي يستطيع إقناعهم بالعودة.

إلى أين؟

لذلك، في الخلاصة، فاحتمالات توسّع المواجهة بين الاحتلال وحزب الله كبيرة وتصاعدت مؤخرًا بشكل ملحوظ. وبالتالي يمكن فهم رسائل الأخير المتكررة في إطار الضغط باتجاه منع الحرب من خلال توضيح كلفتها الضخمة على الاحتلال.

نظريًا، أمام التطورات الحالية ثلاثة مسارات أساسية: إما الاستمرار بالوتيرة الحالية، أو انتهاء التصعيد (باتفاق أو بدونه)، أو توسيع الحرب. ولأن الاستمرار بنفس وتيرة التصعيد وخسائرها للطرفَين ليس منطقيًا على المدى البعيد، قد يكون إعلان وقف إطلاق النار في غزة مخرجًا محتملًا، إذ طالما ردّد الحزب أن وقفه للاشتباك مرهونٌ بوقف الحرب على غزة. بيد أن ذلك، أي وقف التصعيد في جبهة الشمال دون اتفاق واضح مع الحزب يعيد تأطير قواعد الاشتباك، لن يكون مقبولًا "إسرائيليًا".

لذلك، من المتوقع أن يزداد الضغط الأميركي للتوصل لتفاهمٍ ما بين لبنان و"إسرائيل" مع توقف العدوان على غزة، لكنه مسار محفوف بالمخاطر وغير مضمون النتائج، ما يبقي توسع الحرب احتمالًا حقيقيًا – وربما يكون حتميًا من زاوية نظر "إسرائيلية" – حتى على المدى البعيد.

بهذا الفهم، يمكن وضع التهديدات "الإسرائيلية" والتصريحات الأميركية بخصوص احتمال الحرب على لبنان والدعم الأميركي المتوقع للاحتلال فيها، في إطار الضغط على حزب الله والتفاوض الساخن معه؛ لدفعه دفعًا نحو اتفاق أقرب للشروط "الإسرائيلية".

لكلّ ما سبق، تبقى كل الخيارات مفتوحة فيما يتعلّق بالمواجهة بين الحزب والاحتلال، لكن استمرار الوضع الحالي ليس منطقيًا. تأجيل العدوان على لبنان شهورًا لحين الانتهاء من حرب غزة والتفرغ أكثر لحزب الله يبدو منطقيًا وَفق المعطيات الحالية. لكن شنّ عملية عسكرية محدودة ضد حزب الله ولبنان بغية التوصل لاتفاقٍ ما هو الخيار الأرجح اليوم بالنسبة لنتنياهو، وبالتالي السيناريو الأوفر حظًا واقعيًا، مع بقاء عدد من الأسئلة التي تنتظر إجاباتها، وتحديدًا التوقيت والكلف والنتائج والتداعيات.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • اسأل نفسك – وشغّل دماغك
  • أمير المؤمنين ويعسوب المتقين وكره اليهود لشخصه
  • دار الإفتاء توضح بعض مظاهر حماية ورعاية الإسلام للبيئة
  • كيفية بر الزوجة بعد موتها.. الإفتاء توضح
  • كاتب إسرائيلي: لن يكون هناك تحقيق لأكذوبة النصر الكامل
  • حزب الله بين منع الحرب على لبنان ورفع كلفتها
  • حكم ترك العقيقة من المستطيع على أدائها.. «الإفتاء» تُجيب
  • الغدير بين منهج توحيد الكلمة وبين المنهج الصهيوني لتفريق الكلمة
  • قائد الثورة يتوّجه بالتهاني للشعب اليمني وكافة المسلمين بذكرى يوم الولاية
  • كام سبتمبر؟.. موعد المولد النبوي 1446