أبجديات أهداف التنمية المستدامة وموقع السودان منها
تاريخ النشر: 7th, March 2024 GMT
الهدف الثالث عشر، العمل المناخي (13 من 17)
د. حسن حميدة – ألمانيا
تأتي أهمية الهدف الثالث عشر "العمل المناخي" من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة وحتى العام 2030، عندما يتعلق الأمر بحالة كوكب الأرض ومستقبله، في وقت يعتبر فيه تغير المناخ العالمي التحدي الأكبر في عصرنا هذا. وعليه يجب النظر هنا إلى تغير المناخ والاحترار العالمي في عدة مواطن، كالهواء واليابسة والماء، ليس فقط كمشكلة حاضرة، بل أيضا كأزمة مستقبلية ينبغي للعالم أجمع أن يتخذ التدابير اللازمة لمعالجتها.
ومن بين هذه الأهداف السبعة عشر التي يتعين تحقيقها في غضون ال 6 سنوات القادمة على نطاق عالمي، هناك 7 أهداف من أهداف التنمية ال 17 ترتبط مباشرة وبطريقة وثيقة بتغير المناخ العالمي والاحتباس الحراري المتفاقم. وتشمل هذه الأهداف: الهدف 6: المياه النظيفة والصرف الصحي، الهدف 7: طاقة نظيفة وبأسعار معقولة، الهدف 11: مدن ومجتمعات مستدامة، الهدف 12: الاستهلاك والإنتاج المسؤولان، الهدف 13: حماية المناخ والتكيف معه، الهدف 14: الحياة تحت الماء، الهدف 15: الحياة على الأرض. وبناءا على هذا تتضح لنا الرؤية عن أهمية هذه الأهداف الستة من أجل حياة أمثل على كوكب أرض يلمح بأنه في احترار متزايد، وربما توهج ذات يوم إذا لم يفعل ما يلزم لاخماد ناره المشتعلة وتوهجه.
نلاحظ هنا منذ العام 2015، وبداية انطلاقة تنفيذ هذه الأهداف أن الوقت يمر بسرعة ولم يتبق سوى أقل من عقد من الزمن حتى نهاية أجندة العام 2030 التي تبلغ الآن من العمر ما يفوق التسعة أعوام. الشيء الذي يفتح أبوابا عدة للتساؤل عن حقيقة وإمكانية وكيفية الوصول لأهداف التنمية المستدامة على بعد عالمي، في زمن الحروب والنزوح والهجرة. في ظل هذا يحدث تغير المناخ يوميا وعلى مدى فترة زمنية أطول ولا تقل في متوسطها عن ثلاثين عاما. ويتميز هذا التغير المناخي بالبرودة غير العادية في بعض مناطق العالم واحترار شديد في مناطق أخرى. وتظل أزمة المناخ مصاحبة بالاحتباس الحراري وارتفاع درجات حرارة هواء وأرض وبحيرات وأنهار وبحار ومحيطات العالم، هي المشكلة الأكثر أهمية على كوكب الأرض في الوقت الحالي والشاغل للناس في المستقبل.
وبما أن أزمة المناخ هذه، هي المؤثر الذي يؤثر على نظام الأرض بأكمله، إذ تمت ملاحظتها ولكنه لم يتم الاعتراف بها وبتأثيرها منذ عقود هنا على سبيل المثال الدول الصناعية الكبرى والدول المنتجة للوقود الأحفوري. وهذا بغض النظر عن الدول النامية أو الفقيرة التي تستخدم الوقود الأحفوري كطاقة لتسيير أمور الحياة الإنتاجية فيها لكي تواكب ركب التنمية والتطور. وبهذا الخصوص: لم يتم اتخاذ سوى القليل من الإجراءات الضرورية من قبل الدول المنتجة أو المستهلكة للطاقة الأحفورية صناعيا وإنتاجيا، لمعالجة أزمة المناخ العالمي هذه، أو حلها جذريا من قبل الدول التي تمثل السبب في ارتفاع نسبة غاز ثان أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، المؤدي من دون وجود حلول مثلى، لتدمير الطبيعة على الكرة الأرضية.
ورغم أن هذا الموضوع حظي باهتمام كبير في جميع أنحاء العالم، إلا أن جائحة كورونا أوقفته مؤقتا وأبعدته عن مسرح الأحداث تماما. ولكنه سوف يعود حتما وبكل قوة إلى مقدمة العرض، وعلى وجه الخصوص من قبل العلماء والباحثين في العلوم والتكنولوجيا والناشطين في البيئة والطبيعة. بل يأتي أيضا دور الأجيال الحديثة التي لا يستهان بها في الوعي وقياس الأحداث، والتي ترى عقبة كبرى تتجسم أمامها، وتحيل دون تحقيق أحلامهم المستقبلية، بعدم وجود عالم مثالي لعيشهم وحياتهم، يكون سببه تغير المناخ، وتأثير نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون من صنع الإنسان على الطبيعة.
مع استمرار أزمة تغير المناخ والاحتباس الحراري العالمي، حان الوقت الآن للتركيز على هذه المشكلة العالمية والمهمة والتفكير في وجود الحلول الممكنة لأصولها وعواقبها الطويلة الأجل. إن قضية "التغير المناخي" تحتاج أولا إلى الاعتراف بها كمشكلة يومية، وثانيا الوعي بها كمشكلة قائمة، وثالثا العمل المسؤول تجاهها للحد منها على سطر الكرة الأرضية. وما يهم هنا هو مساهمة كل شخص على وجه الأرض بغض النظر عن مكان وجوده، وبأشكال مختلفة، مثل السكن والتنقل وأسلوب الحياة وغيرها من السلوكيات الاستهلاكية اليومية. الشيء الذي ربما مهد ذات يوم للحد تأثير هذه الأزمة، وتحويلها من مجرى كارثي إلى مجرى معقول، يمكن التحكم فيه، بهدف الحد من الآثار التي تترتب عليه على المدى البعيد.
السبب الرئيسي لأزمة المناخ هو التأثير المباشر لسكان الأرض من البشر على الطبيعة وبعدة طرق. هنا على سبيل المثال التلوث البشري المنشأ للغلاف الجوي للكرة الأرضية بسبب الغازات الدفيئة، وفي المقام الأول انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من صنع الإنسان. والتي صارت الآن عبء ثقيل يفكر الإنسان في تخزينه في أعماق البحار والمحيطات. السؤال المهم هو " إمكانية تأثيره عليها وعلى كائناتها الحية على المدى البعيد". يجب على جميع الناس على وجه الأرض أن يدركوا أن الطبيعة لن تكون موجودة وكما يرغبون في ذلك، خصوصا إذا كانت تلك الرغبة مصحوبة بنوايا مدمرة لها. وإذا استمر البشر في تعمد تجاهل الطبيعة ولم يتم اتخاذ التدابير المسؤولة في أسرع وقت ممكن بهذا الخصوص، فسيكون لذلك عاجلا أو آجلا عواقب وخيمة على النظام البيئي للكرة الأرضية ككل.
إذا صح التشبيه المستعار هنا، أن تغير المناخ العالمي يفعل بكوكب الأرض في الوقت الحالي، ما يفعله التهاب ميكروبي بالمريض. الشيء الذي يترتب عليه ارتفاع درجات حرارة الكرة الأرضية بمتوالية رياضية، كما ترتفع درجات حرارة جسم المريض المصاب بالحمى تدريجيا. وربما لقي المريض الملتهب تدريجيا حتفه ذات يوم إذا لم يفكر له من حوله من أهله، يتفاعلون معه بإيجابية، لمعالجته بدواء أو مرطب يخفف الحمى. وعندما يظن الأهل أن المريض إذا مات سوف يموت لوحده، فسوف يكونون مخطؤون في تقديرهم وينسون أنفسهم، إذ إنهم أنفسهم سوف يكونون من أول الضحايا دون فعل شيء قبل المريض المحموم الذي يرقد الآن أمامهم.
ومن أجل تنفيذ الهدف 13 "العمل المناخي" من أهداف التنمية المستدامة بشكل أفضل وعلى نطاق شامل، من الضروري النظر في الركائز الأساسية الثلاثة التي تستند عليها جميع أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر. وهي الركيزة الاقتصادية والركيزة البيئية والركيزة الاجتماعية. وهذا لا يتطلب النظر فقط في سبل التنفيذ العامة لهذا الهدف، بل الإيفاء بالشروط الإطارية الملزمة للتنفيذ الجيد لغرض الإستدامة المنشود، وعلى المستويين المحلي والإقليمي. كما يجب الاستمرار في بذل جهود توفير التمويل الكافي للتكنولوجيات الحديثة والمكيفة إقليميا، وعليه تلزم الشفافية البحتة والمسؤولية الكاملة في التنفيذ.
ومن منظور اقتصادي، يتضمن التنفيذ الأمثل لهذا الهدف، اختيار المواقع المناسبة التي تتأثر بشدة من تغيرات المناخ، والمشاريع المستدامة المتعلقة بالمناخ والمشاريع المناسبة وإدارة موارد التمويل المتاحة للتنفيذ المستدام والتغيير الإيجابي. ولا بد هنا من حل آثار تحديات السنوات الأخيرة بسبب جائحة كورونا وعواقبها. علاوة على ذلك، ينبغي إيجاد حلول سلمية للتحديات الحالية المرتبطة بالأمن والصراعات والحروب والنزوح والهجرة والقيود العالمية على إمدادات الغذاء والطاقة. كما يأتي الوصول إلى المعرفة والتكنولوجيا وشراء الأنظمة القانونية فيما يتعلق بالشفافية لتمويل أهداف التنمية المستدامة، ودعم التجارة العادلة لجميع القوى الاجتماعية، وتعزيز النظم المالية العامة وتشجيع الاستثمارات المستدامة في البلدان.
يلي ذلك التنفيذ من منظور اجتماعي الذي يهدف إلى دعم الأشخاص في المناطق المتضررة بتغيرات المناخ. وتشمل هذه تعزيز المناطق الضعيفة، والتوزيع العادل للموارد والثروات من أجل تحقيق توازن مجتمعي أفضل في تنمية الناس في هذه المناطق التي يعيشون فيها، وتحديث مساحات وحقول المعيشة، وبناء السدود والجدران الواقية للفيضانات وكوارث المياه بعد دراسات شاملة ومتأنية، والاستخدام المستدام للموارد المتاحة، والاستثمارات، والإعانات النهضوية الصديقة ودعم التنمية المستدامة. ولا بد من وضع حد للتهديدات في قطاعات منتجة ومهمة، مثل الزراعة التقليدية وتربية الماشية وصيد الأسماك، بالإضافة إلى العمل التعليمي والإعلامي حول موضوعات تغير المناخ والاحتباس الحراري، وسبل درئها محليا.
ومن منظور بيئي، بالإضافة إلى التحول إلى الطاقات المتجددة والنظيفة، يجب الحد من العواقب الطويلة الأجل لتغير المناخ من خلال وضع تدابير معينة ومواكبة، تؤثر إيجابيا على أنماط حياة الناس في المجتمع الحديث، ريفيا كان أم مدنيا. ومن الأمثلة دلالة على ذلك: تقليل البصمة البيئية "التأثير الشخصي السلبي على البيئة" من خلال أسلوب حياة ملائم في مجالات الاستهلاك والمعيشة والتنقل والنفايات وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وتطوير أنظمة الإنذار المبكر لتجنب الظواهر الجوية الكارثية والحد من الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ. كما يجب أن نضع في الاعتبار في هذه المرحلة البنائية الحساسة هذه أن البصمة البيئية لكل شخص، بغض النظر عن عمره أو مكان تواجده، لها أهمية قصوه. ومن المهم أيضا أن نفهم أن تدابير تغير المناخ هي أيضا تدابير لتأمين مستقبل الأجيال القادمة، لكي تعيش في سلام وعدل وطمأنينة وراحة.
عن موقع السودان من هذا الهدف "العمل المناخي": تأتي في المقدمة إدانة هذه الحرب القائمة في البلاد كمعطل أولي للتنمية المستدامة ككل هذه الحرب الشعواء لها تأثير بيئي كبير على الإنسان والحيوان والنبات في مواطنها الأصلية. بالحرب تم أولا تشريد الإنسان في بلاده ومن بلاده وتركته نازحا في الداخل وغريب في الخارج. وهذا بجبر المواطنين للمغادرة منازلهم قسرا وإرغاما من جراء وابل الرصاص والقنابل المتفجرة في كل مكان. لقد أثرت هذه الحرب على الحيوانات في مساكنها، والطيور في أعشاشها. لقد أثرت هذه الحرب على ما توفر من أشجار فقدت خضرتها وجفت عروشها وحط عليها رماد البارود متناثرا، ليخفي حلتها الجميلة، ويظهر بدلها وجهها العبوس. تأثير هذه الحرب وقع على كل كائن حي بصور متشعبة ومتشابكة، لا يكفي كتاب لحصرها. ولنختصر هنا أن هذه الحرب أجرام في حق شعب مسالم، ولا بد من تلافيه دوليا بعد أن فشلت كل المحاولات والمبادرات في وجود حلول ترضي الأطماع الشخصية، ليكون شعب السودان هو الضحية.
ضوضاء الطائرات، أصوات القنابل وفرقعة الطلق الناري. تأثير كل ذلك على بيئة الإنسان والحيوان، وحتى النبات يحس بها، ويتفاعل سلبيا معها. لقد دمرت هذه الحرب كل ما تم بناؤه من العدم من مصانع ومؤسسات وبنية تحتية أحسن من عدمها، في محاولة للوصول للاستدامة في التنمية، واللحاق بركب دول العالم المتحضر في المواكبة والرقي. إذا نظرنا هنا فقط إلى نزوح الإنسان، تهجيره عن موطنه، صغيرة وكبيرة، ضعيفه وقوية، محدودية ماء الشرب والغذاء، وانعدام والعلاج والتعليم، وغياب الإنتاج والعمل والرواتب الشهرية أو الأجر اليومي، نجد أننا في الوقت الحالي بعيدين كل البعد عن الوصول لهذا الهدف المنشود باستمرار هذه الحرب اللعينة والقتال الوحشي بسببها. الحرب التي تعني في المقام الأول فقدان الأرواح التي تمثل القوة البشرية المحركة للإنتاج والتنمية والتقدم، والمحتاج إليها بإلحاح في بلد كالسودان.
ولنلقي نظرة في المناطق المهجورة بعد الحرب من وقرى وحضر، التي صارت كلها مكتبات للنفايات، وباتت تغطي شوارعها كلابا ضالة تنهش في جثث الموتى على مدار اليوم، والمجتمع الدولي على مرأى ومسمع، ينظر متكيف لذلك وهو مستكين. وهذا بعد التعدي على ممتلكات المواطنين من أثاثات ومركبات وغيره من ممتلكات شخصية وقيمة لا تقدر بثمن. لقد تم التعدي حتى على مجوهرات النساء باسم الديمقراطية. والتي تمثل لهن مدخر للغد في يوم القحط من أجل أساسيات كالأكل والشرب والعلاج والتعليم. وكما هو حال المرأة في دول العالم الفقيرة، التي لا تملك حسابا بنكيا، بل حسابها البنكي هو ما تملكه من خاتم أو سلسل أو غيره من مجوهرات متواضعة، تزين أصبع أو جيد، وقد يكون أحيانا اسمها أكبر من قيمتها، ولكنها تبقى حقا فرديا وملكا شرعيا مهما صغرت قيمته. كلها نهبت باحترافية ممنهجة وجشع وغل وشره، وانتهك من عرض المرأة ما انتهك. كل هذا يحدث يوميا في أرض السودان باسم الحكم الديمقراطي الذي يسوق لمواطن السودان المسالم بكل ظلم وجهل وصلف وكبرياء.
يبقى أساس الوصول لهذا الهدف كما ورد هو إنهاء هذه الحرب في أسرع وقت ممكن. أن تعاد للمواطن السوداني المشار إليه ممتلكاته المنهوبة، وأن تبنى له دياره بعد تدميرها من قبل الدول التي ساعدت المتحاربين في إضرام نار الحرب والنفخ برغبة مفرطة في ألسنتها، مؤججة لها ومنتشية للاقتتال والدمار بين أبناء الوطن الواحد. ونقول لسيادة المجتمع الدولي هنا: العمل المناخي في السودان يتطلب أولا تعويض مواطن السودان تعويضا كاملا عن كل ضرر لحق به، والذي كان وما يزال ساعد التغيير الأيمن في البلاد. الأمر يتطلب أولا تعويض الأرواح المفقودة بديات تدفع بالدولار لذوي المقتولين "إذا وافق أهل المقتولين بالديات" من قبل هذه الدول الجائرة على أمن السودان استقراره، والطامعة في ثرواته وموارده. وهذا حتى لا يتكرر الحدث مرات أخرى في دول أخرى. ومن بعدها يتحقق حتما "العمل المناخي"، الذي يمثل إنسان السودان "كثروة بشرية لا يستهان بها" إلا جزءا لا يتجزأ منه.
(نواصل في الهدف الرابع عشر: الحياة تحت الماء...)
E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de
المصدر: ترجمة معدلة من أوراق ومحاضرات للكاتب.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: أهداف التنمیة المستدامة تغیر المناخ العالمی أکسید الکربون العمل المناخی هذه الأهداف أزمة المناخ لهذا الهدف هذا الهدف هذه الحرب فی الوقت من أجل من قبل
إقرأ أيضاً:
رؤية استشرافية لمستقبل السودان بعد سيطرة الجيش على العاصمة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
سيناريوهات الحرب في السودان ربما تذهب إلى الأسوأ بعد أنّ نجحت القوات المسلحة السودانية في تحرير العاصمة الخرطوم، وما تبعها من السيطرة الكاملة على القصر الجمهوري، في 21 مارس من العام 2025.
صحيح سيطرة القوات المسلحة السودانية مازالت رمزية، بعد أنّ نجح الجيش في السيطرة على بعض المؤسسات الحيوية داخل العاصمة، منها مبنى المخابرات العامة وبعض الوزارات، إلا أنّ السيطرة على القصر الجمهوري حمل دلالة رمزية فهو مركز الحكم، ويُعبر عن رمز القوة والسيطرة والحكم في آن واحد.
صحيح هناك طرف ربما حسم جزءً من الصراع لصالحه بهذه السيطرة، إلا أنها سوف تظل رمزية في ظل الصراع الدائر بين الفريق عبد الفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس السيادة، ومحمد حمدان دقلو والمعروف بـ "حميدتي"، نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع، لكن هذا لا يُعني الاستقرار السياسي في السودان ولا يُعني بالتبعية حسمًا عسكريًا كاملُا للجيش!
المتأمل للخلاف ما بين الخصمين الكبيرين في السودان يُدرك صعوبة التقارب بينهما، ولهذا فشلت كل مراحل التقارب السعودي بينهما؛ خاصة وأنّ الخلاف حول خطط المرحلة الانتقالية نحو حكم مدني، أو ما يُعرف بالاتفاق الإطاري، خاصة وأنّ الجيش أزاح حكومة عبد الله حمدوك من السلطة في أكتوبر من العام 2021، وهو ما ترفضه قوات الدعم السريع أو على الأقل ما أعلنت عن رفضة علنًا.
قوات الدعم السريع أعلنت عن رفضها إزاحة حمدوك من السلطة رغم أنها كانت مشاركة في القرار أو على الأقل كانت راضية عنه، وهي تتحمل جزءًا منه.
أما نقطة الخلاف الأبرز بين قوات الجيش والدعم السريع فهي على البرنامج الزمني المقرر لدمج قوات الدعم في صفوف الجيش النظامي؛ فالجيش يضع عامين كإطار زمني، بينما يضع الدعم السريع 10 سنوات كإطار زمني؛ وهنا الجيش يُريد ابتلاع القوة العسكرية المرادفة له والمنافسة لوجوده، بينما ترفض الأخيرة وترى نفسها بديلًا له.
دلالات المواجهة العسكرية وانتصارات الجيش
هناك معادلات ربما ساعدت في تحقيق انتصارات عسكرية للجيش خلال الفترة الأخيرة بعد أنّ تم دعمه بالمسيرات والأسلحة من قبل الثلاثي، روسيا وإيران وتركيا؛ لكن المؤشرات تؤكد أنّ انسحاب قوات الدعم السريع من العاصمة الخرطوم كان تكتيكًا عسكرية، وأنه سوف يُعاود شن هجمات بمسيرات بهدف تشتيت قوات الجيش وتحميها خسائر فادحة.
وهنا يطرح خبراء عسكريون أنّ الانسحاب ليس بسبب قوة الجيش ولا لتراجع قوات الدعم السريع عسكريًا، ولكن لأنّ الأخيرة أرادت استنزاف الجيش على المدى البعيد عبر ضربات توجهها له من خلال وجودها في المقاومة، وهنا ترفع عن نفسها عبئ حماية العاصمة وتحمل تبعات المواجهة العسكرية على عتبات الخرطوم.
وهنا أدركت قوات الدعم السريع أنّ استمرار تمركزها في العاصمة بات عبئًا عسكريًا، فأرادت أنّ تتحرر من ذلك وتنتقل من فكرة المدافع إلى المهاجم، وهنا سوف تنقلب المعركة لصالحها بعد انهاء فترة تدريب مقاتليها على المسيرات التي تم دعمها بها.
وبحكم بنية قوات الدعم السريع وطبيعة عملها الميلشياوي، فقد تنجح في شن هجمات سريعة وخاطفة ربما تنهك قوات الجيش السوداني المنهك بفعل الحرب الدائرة قبل عامين، وهذا ما تعول عليه قوات الدعم وداعموها.
باتت المدن والولايات المحررة على يد قوات الجيش السوداني تمثل عبئًا على كاهل قوات الدعم السريع، فإضطرت للإنسحاب التكتيكي من بعضها، بينما تتواجد بعض قواتها بصورة متخفية داخل العاصمة وتنتظر شن عدد من الهجمات على أماكن تمركز قوات الجيش في إطار سياسة الإنهاك.
كما أنّ خطة الدعم السريع تتمركز في التركيز على تشتيت قوات الأمن السودانية وتكبيدها خسائر فادحة في مدة زمنية قصيرة، ثم الدخول لاسترداد ما سبق تحريره من العاصمة وبعض المباني الحيوية.
يتم تدريب قوات الدعم السريع على استخدام بعض الأسلحة الثقيلة والمسيرات، للبدء في حرب استنزاف لقوات الجيش السوداني، ثم الانتقال إلى تعزيز المواقع العسكرية من جديد، وفق خطة أعدت لها قوات الدعم السريع سلفًا، خاصة وأنّ الأخيرة أعلنت عن قيام حكومة موازية، وهو ما يدخل أيضًا في باب الاستنزاف السياسي طويل الأمد.
هناك تحول في لغة الحرب بعد عامين، منذ أنّ أندلعت في 15 إبريل من العام 2023؛ لكن المؤشرات العسكرية والاستراتيجية بعيدة عن فكرة حسم أحد الطرفين للصراع، ولكن الحسم قد يذهب إلى سيناريو التقسيم، حيث يُشكل كل طرف متنازع حكم ذاتي على الأراضي التي يُسيطر عليها.
السودان مقسم ما بين قوات الجيش التي تُسيطر على شرق وشمال السودان وما بين قوات الدعم السريع التي تُسيطر على إقيلم دارفور وأجزاء من الجنوب وغرب السودان، فضلًا على ما حققته قوات الدعم السريع من انتصارات في منطقة المالحة في شمال دارفور.
نجح الجيش الفترة الأخيرة في تحقيق بعض الانتصارات العسكرية بعد دعم الدول المشار إليها، روسيا والصين وإيران، فضلًا عن تميزه في سلاح المدفعية والطيران والمسيرات، فضلًا عن عودة قائد قوات درع السودان إلى صفوف الجيش بعد تمرده على قوات الدعم السريع، وهو ما ساعد في استعادة الجيش لولاية الجزيرة.
لا يمكن للسودانين الذين نزحوا قبل عامين العودة إلى بلادهم في الوقت القريب بسبب انهيار البنية التحتيّة والصحيّة وانتشار الكوليرا والملاريا والحصبة الألمانية، مع توقف تام للأنظمة الصحّية الحيوية، ويُضاف لهذا المواجهة العسكرية لكل طرف من طرفي النزاع على الطرف الآخر، وهو ما يُؤدي إلى مقتل المدنين وعدم تحقيق الاستقرار الاجتماعي أو الحياة الطبيعية.
سيناريوهات الحرب الأهليّة وشبح التقسيم
سيناريو التقسيم مازال يفرض نفسه على الساحة السودانية حتى بعد أنّ حسم الجيش معركة العاصمة لصالحه؛ خاصة وأنّ قوات الدعم السريع سبقت بالتوقيع على ميثاق سياسي لتشكيل حكومة موازية في 22 فبراير الماضي.
السودان لا ينتظر سيناريو التقسيم فقط ولكن ينتظر سيناريو الحرب الأهليّة، فقد باتت أقرب إليها من أي وقت مضى، ولعل قراءة السيطرة على العاصمة الخرطوم هو الأقرب لهذه القراءة.
القوات المسلحة السودانية نجحت في تحرير بعض المدن والولايات التي كانت بحوزة قوات الدعم السريع على مدار عامين كاملين، لكن هذه القوات مازالت تُسيطر على مناطق داخل العاصمة والجانب الجنوبي من مطار الخرطوم، على الأقل حتى كتابة المقال التحليلي، فضلًا عن سيطرتها على ولاية دارفور ومنطقة المالحة.
عدم حسم المعركة عسكريًا من قبل أحد الطرفين يطرح بقوة سيناريو الحرب الأهلية والتقسيم في آن واحد، خاصة وأنّ هناك معادلا مهما في القضية يرتبط بوجود الإخوان المسلمين أو الكيزان في بنية الجيش السودان، الذي اعتمد عليه في هذه الحرب.
الكيزان هم من أطلقوا شرارة هذه الحرب قبل عامين، وهم أصحاب المصلحة في استمرارها، فحزب المؤتمر الوطني يُريد أنّ يعود إلى المشهد السياسي في السودان مرة أخرى، وهذا لن يتأتى إلا عبر مسارين، أحدهما مرتبط بخلط الأوراق ومن ثم استمرار الحرب، والمسار الثاني مرتبط بدور المؤتمر الوطني وعناصرة من خلال دعم الجيش السوداني في هذه الحرب، وبالتالي تكون ضريبته أنّ يُحافظ الأخير على وجوده السياسي والعسكري.
وهذا قد يُشكل خطرًا على أمن السودان والمنطقة العربية، من زاوية استمرار التقسيم، ومن زاوية عودة الإخوان أو الكيزان للمشهد السياسي، بعد الانتصار العسكري الذي حققه في العاصمة الخرطوم.
الاتهامات المتبادلة بين الجيش وقوات الدعم السريع، يُحمل فيها الأخير الجيش بأنّ الإخوان يتركزون في جزء من بنيته، وهو ما يمثل خطرًا على مفهوم الدولة الوطنية أو شعارات الثورة التي رفعتها القوى المدنية قبل عامين.
قد ينظر البعض لهذه الاتهامات على أنها مكايدة سياسية وعسكرية، هدفها تشويه الآخر، ولكن الحقيقة أنّ الإخوان مازالوا يتنفسون من رئة المؤسسة العسكرية في السودان، وهو ما يُشكل خطرًا على أمن المنطقة والعالم، ويتطلب تقدير موقف أقرب للواقع قبل أنّ تضيع السودان ما بين شبح التقسم وعودة الإرهاب من جديد.
انعكاسات الحرب على أمن المنطقة والعالم وانتشار الإرهاب
استمرار الحرب وهو وارد بصورة كبيرة يُعني تهديدًا لأمن المنطقة والعالم وانتشار الإرهاب والتطرف، خاصة وأنّ هناك ما يُؤكد أنّ نشاط الإخوان المسلمين مازال قائمًا، صحيح النظام السياسي تغير ولكن النظام نفسه مازال يتمتع بحيويته، وهنا نقصد بنية هذا النظام من خلال وجود الإخوان المسلمين في جزء كبير من بنية الجيش السوداني.
وفي حال حسم الجيش لهذا الصراع وهو أمر مستبعد سوف يُهدد ذلك أمن المنطقة والعالم، لأنه يُعني ببساطة شديدة عودة الإخوان المسلمين إلى المشهد السياسي، النظام الذي وفر حماية لتنظيم قاعدة الجهاد، كما أنه وفر حماية للميلشيات التابعة للإخوان المسلمين المصريين، ومنها حركة ما يُعرف بـ سواعد مصر.. حسم، وهذا لا يُعني أن سيناريو سيطرة فوات الدعم السريع هو الأفضل، فهي قوات ميلشياوية لا يمكن التعامل معها وغير قادرة على تحقيق الأمن في المنطقة أو في الداخل السوداني.
وهنا يمكن القول إنّ السودان قد يكون في طريق الذهاب إلى سيناريو الحسم لقوات الجيش المدعومة من عدد كبير من الدول المحيطة بالسودان أو الدول الكبرى، وهو ما سوف يُودي إلى نفس النتيجة.
وهنا لابد أنّ ينتبه العالم لأهميّة الموقف السياسي والعسكري واللحظة الراهنة التي تعيشها السودان، وضرورة مواجهة تبعات هذه المرحلة التي تُهدد أمن المنطقة والعالم، خاصة وأنّ المؤشرات كلها تذهب لانتشار الإرهاب والتطرف ليس فقط على الصعيد الداخلي ولكن إلى دول الجوار بل وتصديره إلى العالم.
ولابد أنّ تكون خطة المواجهة في خمس محاور،:
-الضغط العسكري على الطرفين في السودان، ومنع وصول الأسلحة إليها، وفق قرار أممي.
-تقريب وجهات النظر عبر حوار غير مباشر بين الجيش وقوات الدعم السريع، حتى الوصول إلى تسوية يمكن البناء عليها.
-مراقبة الحدود الجغرافية لدول الجوار مع السودان لمنع أي تسللات لقوى دينية مؤدلجة ربما تُهدد أمن هذه الدول أو أمن المنطقة.
-فرض عقوبات دولية على الدول التي يثبت عليها دعم أي قوة عسكرية سودانية، لإنهاء وتصفية الصراع والبدء في عملية سياسية تنهي الخلاف القائم.
-رسم مقاربات سياسية تجمع القوى السياسية مع المؤسستين العسكريتين عبر حوار يكون بداية لإنهاء الخلاف، ويا حبذا لو كانت هذه المبادرة من قبل الدول التي لم تتورط في دعم جبهة على أخرى.