بعد قرابة خمسة أشهر من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة برا وبحر وجوا بمشاركة قوات أمريكية وفرنسية وبريطانية وعدد كبير من المرتزقة والخبراء من جنسيات مختلفة يقف العالم متفرجا على آخر أطوار المذبحة الكبرى. ليست هذه المرة الأولى التي ترتكب فيها المذابح والمجازر المفتوحة خاصة في حق العرب والمسلمين لكنها المرة الأولى التي تكون فيها المذابح منقولة بشكل فوري صوتا وصورة أمام العالم أجمع.
أخطر من كل هذا ذاك الصمت المريب والعجز القاتل من قبل الشعوب العربية وخاصة مصر والإمارات والأردن التي تشارك بقوة في حرب الإبادة وفي محاصرة القطاع وتجويع أهله حدّ الموت وصولا إلى فرض رشاوى وإتاوات تصل إلى مبلغ عشرة آلاف دولار للعبور نحو مصر.
رغم بشاعة الجريمة التي تتجاوز حدود الوصف فإن أخطر ما يواجه المشهد العربي وخاصة الجزء الشعبي منه هو العودة إلى ما قبل المجزرة بنفس الوعي ونفس ردود الأفعال ونفس المواقف. ما حدث في غزة أمر معتاد عربيا لكن توحش المذابح ودموية القتل والتنكيل هذه المرة فاقت كل الحدود وهو ما شكّل صدمة عنيفة للرأي العام العالمي والعربي.
الإطار العام
كُتبت تقارير كثيرة عما سيكون عليه الوضع ما بعد غزة وهي في العموم تقارير تستند إما على توجيه سياسي بمعنى أنها معلّلة سياسيا وتفتقر إلى الموضوعية أو هي ضرب من المراهنات الفكرية التي تقوم على مبدأ الإسقاط دون الاستناد إلى بنية تحليلية أو إلى معطى تجريبي. أما الذين يملكون فعلا رؤية حقيقية ممكنة لما بعد مذبحة غزة فهي أجهزة المخابرات العالمية وأذرعها العسكرية عبر وحدات التحليل والتشفير التابعة لها.
الأرجح أن تشهد الساحة العربية والإسلامية طفرات جديدة قادرة على استيعاب ما حدث وتحويله إلى بوصلة توجه مجمل موجات التغيير القادمة لا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فحسب بل خاصة ما يتعلق بضرورة الحسم مع أحزمة الاحتلال الممثلة في منظومات الاستبداد العربي والنخب المرتبطة به.لكن حتى هذه الوحدات الاستشرافية التنفيذية في آن فإنها تواجه مخاطر المتغيرات الثابتة والمتحركة أي الوقائع والمعطيات غير المتوقعة أو غير المنتظرة أو الانعكاسية. من أمثلة ذلك تنظيم الانتخابات في غزة وفوز حماس في 2006 هناك هو أحد هذه المتغيرات الانعكاسية وكذا ثورات الربيع العربي غير المتوقعة.
لكن الأحداث التي عرفتها المنطقة منذ قرنين تقريبا هما عمر الطور الاستعماري العسكري المباشر بإرثه الاستبدادي تؤكد أن المشاريع الاستعمارية في البلاد العربية تملك قابلية قصوى للتنفيذ لسببن أساسيين . أولها توفر الأدوات التنفيذية الداخلية من أدوات صلبة وناعمة عسكرا وشرطة ونخبا ورجال أعمال. أما السبب الثاني فيتمثل في انعدام القوى القادرة على إفشال هذه المشاريع الخارجية. ما يحدث من إبادة جماعية اليوم في غزة دليل صارخ على تورط النخب العربية في المجزرة وصمت الشعوب عنها.
لكن رغم صعوبة النفاذ إلى جدول المشاريع الخارجية للتحكم في المنطقة ما بعد طوافان الأقصى فإنه يمكن توقع النسبة الأكبر منها بناء على معطيين : أما الأول فيتمثل في التأسيس على الوقائع السابقة في سوريا والعراق واليمن ولبنان مع مراعاة خصائص السياق فقط. ويتلخص المعطى الثاني في معرفة أداوت البرنامج المجهز لغزة سواء الداخلية منها ممثلة في سلطة أوسلو أو في الأدوات الإقليمية وخاصة محور التطبيع العربي وقوى الإسناد الغربية.
الوعي الشعبي بجسامة المذبحة
رغم حالة الشلل التي أصيب بها الفاعل الشعبي العربي خلال المذبحة مقارنة بالفاعل الشعبي الغربي مثلا فإنّ الصدمة كانت قوية جدا ولا يمكن التنبؤ بارتداداتها المستقبلية. إذ من الصعب جدا حتى مع أكثر المواقف تشاؤما أن يبقى الوعي الشعبي العام على الحالة التي كان عليها قبل عملية طوفان الأقصى وذلك في ثلاثة اتجاهات:
يُترجَم الأول بنجاح المقاومة في تعرية جزء كبير من الطيف السياسي والنخبوي والإيديولوجي العربي والغربي أيضا بعد سقوط مقولة التضامن الاقليمي ومنظومات حقوق الإنسان والقانون الدولي وكل المساحيق والشعارات التي كانت تملأ الصحافة العربية والعالمية.
أما ثانيهما فيتمثل في وعي الجماهير بقدرة المقاومة المسلحة وحدها على استرداد الحقوق وتراجع كبير لفكرة السلام والتعايش وحل الدولتين لأن الوجود الصهيوني في فلسطين قائم على فكرة إبادة الآخر صاحب الأرض ومحوه من الوجود. وهي أهم خلاصات الجريمة التي نسفت كل التبريرات المقدّمة من قبل النخب المدافعة عن التطبيع مع الكيان المحتل باعتباره أمرا قائما لا بديل عنه.
إن التراكمات التي أرستها ثورات الربيع إضافة إلى القناعات التي رسختها الانقلابات عليها وعيا بتوحش الاستبداد ودموية القمع تمثّل اليوم مع بشاعة ما يحدث في غزة أضلع المثلث الذي سيتأسس عليه مسار التغيرات الاجتماعية القادمة.يتجلى الاتجاه الثالث في انكشاف الدور الخطير الذي ينهض به النظام الرسمي العربي في حماية الكيان المحتل وفي توفير شروط الحياة له كما ظهر ذلك جليا من خلال المشاركة في الحصار والإمداد بالغذاء والدواء وكل مستلزمات الحياة عبر الجسر البري من الأردن.
هذه المعطيات الثلاثة خاصة هي التي ستقود مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر وهي التي ستشكل الحاضنة الفكرية لكل ردود الأفعال الفردية والجماعية مستقبلا. لأن عودة الوعي العربي فكرا وممارسة إلى ما كان عليه قبل عملية طوفان الأقصى سيكون مؤشرا خطيرا على شلل حقيقي في بنيته ووظيفته وهو أمر مستبعد إلى حدّ كبير.
لكن الأرجح أن تشهد الساحة العربية والإسلامية طفرات جديدة قادرة على استيعاب ما حدث وتحويله إلى بوصلة توجه مجمل موجات التغيير القادمة لا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فحسب بل خاصة ما يتعلق بضرورة الحسم مع أحزمة الاحتلال الممثلة في منظومات الاستبداد العربي والنخب المرتبطة به.
إن التراكمات التي أرستها ثورات الربيع إضافة إلى القناعات التي رسختها الانقلابات عليها وعيا بتوحش الاستبداد ودموية القمع تمثّل اليوم مع بشاعة ما يحدث في غزة أضلع المثلث الذي سيتأسس عليه مسار التغيرات الاجتماعية القادمة. إن الموجات القادمة التي ستنفجر بفعل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الشامل الذي تشهده بلاد العرب ستكون محمّلة بالوعي بأضلع المثلث القائم مثقلة بإدراك عميق بأن تحرير الأرض لا يكون إلا بعد تحرير الفرد من ربقة الاستبداد بما هو أخطر حراس الاحتلال وأشدهم ضراوة وبطشا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة حرب فلسطين فلسطين غزة رأي حرب تداعيات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة اقتصاد اقتصاد مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ما یتعلق فی غزة ما بعد
إقرأ أيضاً:
هل يهدد الحشد الشعبي هيبة الدولة؟ تصريحات الولائي تثير الجدل!
ديسمبر 23, 2024آخر تحديث: ديسمبر 23, 2024
النمستقلة/- في تصريح مثير للجدل، أكد الأمين العام لكتائب سيد الشهداء، أبو الاء الولائي، اليوم الاثنين، موقفه الثابت من موضوع الحشد الشعبي وسط الأحاديث المتزايدة حول إمكانية حله. مع تزامن تصريحاته مع تطورات سياسية حاسمة في العراق، يتوقع أن تثير تصريحاته ردود فعل واسعة من مختلف الأطراف السياسية والمجتمعية. فما الذي يريده الولائي من هذه الرسائل؟ وهل تعكس تحديات حقيقية لهيبة الدولة؟
الحشد الشعبي: حلٌ لا حل له؟في التغريدة التي أثارت الكثير من الجدل، أكد الولائي أن “الحشد هو حل لما لا حل له، ولا حل له”، في إشارة إلى أن الحشد الشعبي يعد جزءًا أساسيًا من قوة العراق الأمنية والسياسية، ولا يمكن التفكير في حله. هذه العبارة قوبلت بانتقادات حادة من قبل معارضي الحشد الذين يرون في هذا الكيان قوة موازية للدولة، وهو ما يضعف المؤسسات الرسمية ويهدد استقرار النظام السياسي.
العراق القوي في العقدين الأخيرينوفي النقطة الثانية من رسالته، قال الولائي “لم يمر على العراق يوم خلال العقدين الماضيين كان فيه قويا كما هو الآن”، في تصريح يبرز قوة الحشد الشعبي وتأثيره المتزايد في السياسة العراقية. هذه العبارة تحمل في طياتها تحديًا واضحًا للحكومة العراقية والجيش النظامي، مما يعكس نزاعًا مستمرًا بين القوة العسكرية الموازية والسلطة المركزية. هل يعني ذلك أن الحشد الشعبي أصبح اللاعب الأقوى في العراق؟
“رسائل الاطمئنان” و”الندم”في النقطة الثالثة، شدد الولائي على أن “إرسال رسائل الاطمئنان للعدو تصريحًا أو سلوكًا حرام شرعًا”، ما يراه البعض تهديدًا واضحًا لأي محاولات لتقليل نفوذ الحشد أو التقارب مع القوى الإقليمية والدولية. هذه التصريحات تعكس مواقف متصلبة قد تؤدي إلى تفاقم الأزمة السياسية، في وقت حساس للغاية بالنسبة لعلاقات العراق مع دول الجوار والمجتمع الدولي.
ماذا بعد هذه التصريحات؟لا شك أن تصريحات الولائي ستؤدي إلى تفاعلات سياسية مثيرة للجدل. هل سيراعي الحشد الشعبي الدعوات إلى تحجيم دوره في الحكومة العراقية، أم سيواصل تعزيز وجوده العسكري والسياسي؟ كما أن التصريحات حول “رسائل الاطمئنان” تثير تساؤلات عن موقف الحكومة العراقية والأطراف السياسية الأخرى حيال تلك التصريحات، وكيف يمكن أن تؤثر على الاستقرار الداخلي والعلاقات الخارجية.
هل يمثل الحشد الشعبي خطرًا على الدولة العراقية؟بالتأكيد، ما قاله أبو الاء الولائي يفتح الباب على مصراعيه لتساؤلات حول مستقبل الحشد الشعبي في السياسة العراقية. هل يمكن للحشد أن يصبح قوة سياسية عسكرية تهدد هيبة الدولة؟ أم أنه سيبقى عنصرًا موازنًا لا غنى عنه في معادلة الأمن الوطني؟ مع تصاعد ردود الفعل من مختلف القوى السياسية، سيكون المستقبل القريب كفيلًا بالإجابة على هذه الأسئلة.