الخطاب الفلسطيني: مقاومة ومؤسسة ووطن
تاريخ النشر: 7th, March 2024 GMT
اهتم العديد من المفكرين بدراسة الخطاب الاستعماري، مثل إدوارد سعيد وفرانتز فانون وغاياتري سبيفاك، الذين اعتبروا دراسات الخطاب الاستعماري حاسمة لفهم هياكل سلطات الاستعمار والعمليات الكامنة وراء إنتاج "الآخر".
وتشرح هذه الدراسات استخدام المستعمر للممارسات الخطابية من أجل ترسيخ تفوق المستعمر، وهذا يفسّر الاختلاف في عدم الاستجابة المتماثلة مع الضحايا الفلسطينيين مقارنة مع الضحايا الغربيين والإسرائيليين.
دراسة الاحتلال الإسرائيلي كمرحلة متصلة مع حقبة الاستعمار خلال القرون الماضية تخفّف الاستغراب في تفسير دعم مراكز غربية للاحتلال الإسرائيلي بشكل فجّ، ففي تلك الحقبة لاحظت غاياتري سبيفاك (1985) أن إحساس أوروبا بالذات تمثل من خلال الجندي البريطاني في المستعمرات، من خلال إجبار المواطن الأصلي على تخصيص مساحة للآخر على أرض وطنه.
وتمحورت الخطابات في تلك الفترة لتعزيز هذا الإحساس. اتفق بيل أشكروفت (2014) مع سبيفاك، فهو يرى أن مراكز الإمبريالية مترابطة ومتجانسة. وأن المقاتل البريطاني حصل على تفويض بتمثيل هذه المستعمرات. وبعد عام 1948، استبدل هذا "المقاتل" البريطاني بـ"المقاتل" الإسرائيلي، الذي لم يفقد اتصاله مع المراكز الغربية.
يظهر هذا من خلال الخطابات، وكذلك انتماء أفراد جيش الاحتلال للغرب، فجيش الاحتلال هو الوحيد في العالم الذي يحوي أكبر عدد من الجنود الذين لديهم جنسيات أخرى غير الإسرائيلية. فهو أشبه بجيوش متعددي الجنسيات التي تشكلت خلال السنوات الماضية. فلو أراد الغرب تشكيل حلف عسكري استعماري، فلن يجد أفضل من جيش الاحتلال الإسرائيلي.
حرص الاحتلال وبعض داعميه في خطاباتهم على إظهار أن حرب ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول هي حرب ذات طابع حضاري، ما بين "دول الحضارة والتنوير" ضد "مجموعات الظلام والحيوانات البشرية".
هذا التصوير للمجتمع الفلسطيني، يمثل وجهة نظر استشراقية وإمبريالية فيكتورية، تشبه تصورات المستعمرين للثقافات الأفريقية على أنها عنيفة وشهوانية ومجنونة وظلامية، ليستمدّ قادة الاحتلال خطاباتهم من ذخيرة الرحالة، والحملات العسكرية والشركات التجارية لفترة حقبة الاستعمار لوصف الشعب الفلسطيني.
اتفقت بعض القيادات الغربية مع قادة الاحتلال في هذه المضامين، وهذا يظهر مقدار التوافق على التمثيلات الخطابية والتحديد الاصطلاحي.
منذ "طوفان الأقصى" تكثفت خطابات العديد من المؤسسات والأنظمة الغربية لمساندة الاحتلال، ولا يمكن التعامل مع هذا الكم من الخطابات باعتبارها مواقف وتوجهات سياسية فحسب، أو حملات دعائية تستهدف الرأي العام، وإنما إضفاء الطابع المؤسسي على الخطاب.
وهذه ظاهرة استعمارية ممتدة مارستها دول الحقبة الاستعمارية. وهي وسيلة لفرض الرسائل الأيديولوجية المتعلقة بهوية الذات الاستعمارية. وهذا ما عبر عنه إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، حيث يرى أنه بدون دراسة الاستشراق كخطاب، لا يمكن للمرء أن يفهم النظام المنهجي الذي تمكنت الثقافة الأوروبية من خلاله من إدارة وإنتاج "الشرق" سياسيًا واجتماعيًا وعسكريًا وأيديولوجيًا وعلميًا وخياليًا خلال فترة ما بعد التنوير. ويتفق ميشيل فوكو مع سعيد باعتبار أنه لا يوجد معرفة خارج الخطاب. والخطاب هو التكوين الثقافي والسياسي لـ "الموقف النصي".
على نفس النهج فيما يتعلق بفلسطين، منحت العديد من الأوساط الأكاديمية والمؤسسات والحكومات الغربية الخطابات سلطتها. ليكون لها القدرة على إنتاج معلومات تشكل المعرفة التي تدعي أنها تصف فلسطين.
تتراكم هذه المعرفة مع مرور الوقت لتشكل تقليدًا سياسيًا. ومن الأطر المعرفية التي شكلت خطابات المؤسسات الغربية تجاه فلسطين، ما اصطلح على تسميته: "معاداة السامية"، التي أصبحت تهمة توجه للمدافعين عن حقوق الفلسطينيين. وخاصة فيما يتعلق بعودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم التي هجروا منها. رغم أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت قرارًا عام 1948 يقضي بحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وأراضيهم التي طُردوا منها.
ممارسات خطابية لصدّ الطوفانرغم أن نصوص المؤسسات الدولية التي تعترف بحق تقرير المصير للفلسطينيين تخلو من آليات واضحة وملزمة، فإن الولايات المتحدة اتبعت ثلاث إستراتيجيات خطابية، لإبطال مفعول الخطابات المؤيدة للحق الفلسطيني، الأولى: التلاعب اللغوي دون مسار سياسي واضح، هذا التلاعب ساهم في إدامة الاحتلال الإسرائيلي، لا إنهائه.
الثانية: تضييق النقاط المرجعية للقضية الفلسطينية، والتشتيت عن المسار الرئيس بحق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم، مثل إشغال العالم بنقاشات ما بعد الحرب، وإصلاح السلطة، وشكل إيصال المساعدات… إلخ.
الثالثة: أصعب ما تواجهه الولايات المتحدة والدول الغربية الداعمة للاحتلال هي الخطابات الناتجة عن المؤسسات الدولية. فهي تدل على الإجماع الدولي من جهة، وتستند لمضامين مضادة لسرديات الاحتلال من ناحية أخرى. وتوفر إسنادًا للحركات ومؤسسات المجتمع الدولي لنقد سياسات الاحتلال. إلا أن الولايات المتحدة، أعادت هيكلة الخطابات لإدامة الاحتلال.
ومثال ذلك قرار مجلس الأمن رقم (242) الذي صدر بعد حرب "الأيام الستة" عام 1967، وكان الدبلوماسي البريطاني اللورد كارادون أحد صائغي القرار، والذي نسّق مع الولايات المتحدة لإخراج نص غامض بدون آليات تنفيذية ملزمة. وفي نفس الوقت يؤمّن قبول مجلس الأمن، نفس الآلية التي اتبعتها الولايات المتحدة في إصدار القرار (338) بعد حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، وقرارات لاحقة على نفس المنوال.
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ومن الممارسات الخطابية التي تسعى الولايات المتحدة لتحويلها تقليدًا سياسيًا، هو تكرار عبارة: "ما بعد الحرب على غزة"، وبعيدًا عن المضامين والتصورات السياسية التي تعبر عنها، فهي تفترض أن الفلسطينيين لا يستطيعون أن يقرّروا مصيرهم وممثليهم بأنفسهم، وتعتبر أن الحرب متمثلة فقط بالهجوم الناري على النحو الذي هي عليه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولا تشمل إنهاء الحصار والاحتلال، ومنح الفلسطينيين حقهم في العيش بحرية وكرامة.
وعملت هذه العبارة على بتر القضية الفلسطينية عن سياقها الاستعماري الكامل، بترها عن سياقات مركبة أخرى حالية، كممارسات الاحتلال في الضفة الغربية من الاستيطان وتهويد القدس والتهجير.
يسعى الاحتلال مع داعميه للهيمنة على فلسطين ليس فقط من خلال التفوق المادي والعسكري والتكنولوجي، ولكن أيضًا من خلال خطابات تتضمن تصورات خاصة عن الفلسطينيين. مثل أن المحتل يحق له الدفاع عن نفسه، وتصورات "ما بعد الحرب" التي تصادر فيها إسرائيل وحلفاؤها أي مساحة لتصورات الفلسطينيين أنفسهم، كأنهم بدائيون يحتاجون لأنظمة إدارة وتعليم تعيد تأهيلهم.
وقد شكلت السيطرة على تمثيلات الفلسطينيين في خطاب داعمي الاحتلال أداة فعالة للإكراه. ومن الأمثلة، التعاطي مع أرقام الشهداء والجرحى الفلسطينيين، فقد أنكر رئيس الولايات المتحدة جو بايدن هذه الأرقام، إما بالتجاهل أو النفي. وتم إيقاف الدعم لوكالة الأونروا بعد استناد محكمة العدل الدولية إلى بيانات الوكالة حول الأوضاع الإنسانية في غزة. كممارسة طمس لروايات الفلسطينيين حتى في القضايا المجردة، وهي الأرقام، كحالة مشابهة لنفي المجازر التي نفذها الاحتلال عام 1948.
وتغفل المؤسسات الإعلامية الغربية عن آلاف القصص الإنسانية للفلسطينيين في قطاع غزة. هذه الممارسات الخطابية وأنماط التمثيل يستخدمها الاستعمار منذ الحقبة الاستعمارية للحفاظ على الهيمنة، مركزها هو كتم أصوات المستعمَرين وجعلهم غير مرئيين.
يقدم بعض المسؤولين الغربيين خطابات ثقافية أكثر منها خطابات إعلامية، بافتراض أن الآخر مختل، وسهل التصنيف، ليس على المستوى الفردي، وإنما على مستوى الجماعات والمؤسسات. فمثلًا، أسرع مسؤول الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل في وصف العملية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بأنها "جريمة حرب"، في حين أراد أن يرجع لمرجعيته الثقافية ليعرف ما إن كانت تسمح له بوصف إسرائيل بذات الصفة.
المقاومة الخطابية الفلسطينيةولكن، وفي ظل ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كيف يمكن للفلسطينيين، أن يقاوموا بنية خطاب حقبة الاستعمار؟ مبدئيًا فإن عدم اندثار "الرواية الفلسطينية" يشير إلى القوة التاريخية لثقافات السكان الأصليين، ووجود ميراث ثقافي ثريّ، وأكثر تقدمًا من ثقافة الاحتلال وداعميه. تقاوم الرواية الفلسطينية سلطة رواية الاحتلال بافتراض أن الأخيرة متفوقة، وقابلة للاعتماد بدلًا من روايات الجنوب.
لكن ما يحتاجه الفلسطينيون حتى يكون خطابهم وروايتهم ذا تأثير سياسي فعال، أمران:
الأول: سياسات وإستراتيجيات خطابية، والتعامل مع الخطاب كإطار يعيد تجميع الفلسطينيين، ويشكل منصة للاتصال مع العالم. خاصة بعد الخطابات الناتجة عن أوسلو التي أربكت السردية الفلسطينية، وعجزت عن التعبير عن الكل الفلسطيني الذي تم اختصاره، وذلك من خلال التعبير فقط عن الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. مستثنية الشتات وفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948. والتعامل مع الخطاب كوطن معنوي يعبر عن الفلسطينيين ويجمعهم.
وكذلك الانفتاح في الخطاب على الفئات العالمية المتنوعة، والارتباط بحركات التاريخ والحركات الاجتماعية، والتآزر بين الخطابات الفلسطينية وخطابات الحركات الاجتماعية المنتقدة للعنصرية والتهميش وسياسات التفقير.
صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي أربكت خطابات الاحتلال وداعميه، وذلك من خلال كشف الجرائم، وإعادة نقاش القضية الفلسطينية من أصولها، ليتشكل ما يمكن أن نسميه المقاومة الخطابية، التي تستند إلى التشكيك في خطابات الاحتلال وداعميه باعتبارها أبعد ما تكون عن الموضوعية والأخلاق والحضارة، وهذا يقترب مع تصور هومي بابا (1995)، باعتبار أن الخطاب المناهض للاستعمار "يتطلب مجموعة بديلة من الأسئلة والتقنيات والإستراتيجيات من أجل بنائه".
خطابات الدول الداعمة للاحتلال بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تتطلب من الفلسطينيين التمترس أكثر خلف خطابهم وروايتهم، والدفع بها بأن تكون ذات حضور على المستوى الدولي، كآلية للتشكيك بالاحتلال برمته، ومقاومة خطابات التلاعب والسراب حول المسارات السياسية الوهمية، التي تهدف بشكل أساسي إلى إعادة تعويم الاحتلال في المنظومة الدولية.
الأمر الثاني، مؤسسات تمنح الخطاب السلطة والتأثير والنفوذ. وتكمن أهمية هذه الإستراتيجية بأهمية مقاومة الممارسة الخطابية لداعمي الاحتلال وعلاقتها بالسلطة والمؤسسات، ومن المحزن ألّا تُفعّل المؤسسات الفلسطينية كمنظمة التحرير في هذا الإطار.
تضامنُ الفلسطينيين مع مطالب الجماعات المهمشة والمضطهدة والأقليات، يدفع لتبني هذه الحركات المطالب الفلسطينية من خلال بناها الاجتماعية ومؤسساتها. وأحيانًا من خلال مؤسسات الدول، إن نجحت هذه الحركات في التأثير عليها.
تمثل محكمة العدل الدولية فرصة للفلسطينيين، ليس لأنها أعلى منصة قضائية أممية فحسب، بل لأنها تشكل إسنادًا مؤسساتيًا للخطاب الفلسطيني، وتوفر أيضًا إسنادًا لمؤسسات المجتمع المدني وحركات التضامن، خاصة أمام تغوّل الحكومات الغربية التي خفضت سقف الحريات فيما يتعلق بفلسطين، وقيدت نقد الاحتلال ومقاطعته.
التواصل مع العالم وإرباك الاحتلالحسنًا؛ فعلَ الفلسطينيون، فرغم ما تعرضوا له من اضطهاد وتهميش وخذلان دولي على مدار 75 عامًا، فإنهم وبتنوع أطيافهم لم يقطعوا الاتصال مع مضامين القانون الإنساني، باعتبارها لغة التواصل مع العالم، كلغة حضارية، تضعهم في مركز العالم. وتواجه المضامين الخطابية للاحتلال وداعميه وتربكها.
ونلحظ استياء الاحتلال من المؤسسات الدولية التي تدعو لحق الفلسطينيين، وتستنكر المجازر والانتهاكات المرتكبة بحقهم. باعتبار أن الفلسطينيين ليسوا جماعة إنسانية يمكن تطبيق المعايير الإنسانية عليهم، فالمؤسسات الدولية بنظر الاحتلال نشأت للشمال، وليس لغيره.
شاهدت قبل أيام تقريرًا مصورًا يسلط الضوء على تفاقم الجوع في قطاع غزة، وكان من ضمن من تمت مقابلتهم طفل فلسطيني من أمام خيمة ممزقة، يحمل وعاء فارغًا، ينتظر من يملؤه بالطعام، ويعتري وجهه التعب والجوع، وبتلك التفاصيل التي تعبر عن مأساة الفلسطيني عبر التاريخ، قال الطفل: "نريد أن نرفع قضية على الدول عشان يجبولنا طحين ويطعمونا، وعشان ندخل المساعدات على قطاع غزة".
اللافت للانتباه، أنه ورغم الواقع المرير الذي يعيش فيه هذا الطفل، إلا أنه لم يتطرّف، ولم يتوحش، بهدوء ورزانة، وبثيابه الممزقة، خاطب العالم بلغة حضارية. هذا هو سلوك أصحاب الأرض الأصليين. ففي حين يزيد الاحتلال من توحشه وتجويعه، يزداد تمسك هذا الطفل بلغة إنسانية رفيعة، وفي حين يزداد دعم الغرب للاحتلال، يزداد الاحتلال عنصرية وقتلًا وتدميرًا.
قيل في الأثر إن "الجوع كافر"، إلا أن هذا الطفل وعلى الرغم من جوعه، لم يكفر بالمبادئ التي ظل الفلسطيني ينادي بها منذ ما يزيد عن المئة عام، مبادئ الكفّ الذي يناطح المخرز.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات المؤسسات الدولیة الولایات المتحدة من خلال عام 1948 ما بعد
إقرأ أيضاً:
وفاة شيخ الأسرى الفلسطينيين ومهندس سفينة كارين إيه.. سجن 17 عاما
توفي الأسير المحرر والسياسي والعسكري الفلسطيني السابق وأحد أعضاء حركة فتح فؤاد الشوبكي، بمدينة رام الله بالضفة الغربية، عن عمر ناهز 84 عاما، بعد ما يزيد عن سنة من إطلاق سراحه من السجون الإسرائيلية، على خلفية اتهامه بالمسؤولية عن سفينة "كارين إيه" في البحر الأحمر في ذروة الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
وأكدت وكالة الأنباء الفلسطينية أن رئيس السلطة محمود عباس، نعى اللواء فؤاد الشوبكي الذي وافته المنية، والذي "أفنى حياته في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين وقضيتهم العادلة"، مضيفة أنه "أمضى 17 عاما في سجون إسرائيل، وأطلق سراحه في آذار/ مارس عام 2023، وكان أكبر الأسرى الفلسطينيين سنا".
ونعت مؤسسات الأسرى الشوبكي قائلة: "ننعى اليوم مناضلا وطنيا وأسيرا سابقا أمضى في سجون الاحتلال الإسرائيلي 17 عاما، وكان يُعد الأسير الأكبر سنا في سجون الاحتلال وكان يطلق عليه شيخ الأسرى".
ونعى رئيس المجلس الوطني الفلسطيني روحي فتوح، "المناضل الوطني الكبير، عضو المجلسين الوطني الفلسطيني، والثوري لحركة "فتح"، شيخ الأسرى اللواء فؤاد الشوبكي".
وقال فتوح في بيان، إن الشوبكي "نشأ في عائلة مناضلة لها صولات وجولات بالعمل الوطني، حيث تربى على قيم النضال وحب الوطن، وشارك في معارك الثورة الفلسطينية منذ بداياتها، ونال ثقة قادة فتح ومؤسسيها".
نعزي أنفسنا وشعبنا الفلسطيني
بوفاة اللواء الأسير المحرر فؤاد الشوبكي،
الذي أفرج عنه قبل عام بعد اعتقال دام 17 عامًا. كان سيادة اللواء رمزًا للنضال، حيث تتهمه قوات الاحتلال بقيادة عملية تهريب الأسلحة الشهيرة على سفينة ‘كارين إيه’ عام 2002. رحمة الله عليك يا رفيق الختيار” ???? pic.twitter.com/eSQU6LBKtW — جمـآل ???? ???????? (@xu_7l) December 19, 2024
ونعت حركة "فتح" الشوبكي، وأشارت في بيان إلى أنه "كان من طلائع المناضلين الذين التحقوا بالعمل الفدائي منتصف الستينيات من القرن الماضي، وتدرّب في معسكرات الثورة الفلسطينيّة المعاصرة، وشارك في معاركها".
واعتبرت أن "رحيل المناضل الوطنيّ (أبو حازم) شكل خسارة فادحة لشعبنا في الوطن والشتات ولأسرانا في معتقلات الاحتلال الذين رأوا فيه النموذج النضالي الذي يحتذى".
وأعلنت "فتح" أن مراسم جنازة الشوبكي "ستقام في مقر الرئاسة الفلسطينية (في رام الله وسط الضفة الغربية) صباح غد الجمعة، ثم ستقام صلاة الجنازة في مسجد العين بالبيرة (وسط) عقب صلاة الجمعة، وسيشيع جثمانه إلى مقبرة البيرة القديمة".
وعام 2006، قضت محكمة إسرائيلية بسجن الشوبكي 20 عاما، بتهمة المشاركة في قضية سفينة الأسلحة "كارين إيه" التي اتهمته "إسرائيل" بتمويلها وتم اعتراضها آنذاك، قبل تخفيض مدة الحكم لاحقا إلى 17 عاما.
وفي 3 كانون الثاني/ يناير 2002، نفذ جيش الاحتلال عملية سماها "سفينة نوح" بهدف السيطرة على سفينة "كارين إيه" في البحر الأحمر التي ادعت تل أبيب حينها أنها تحمل للفلسطينيين معدات عسكرية من إيران.
واعتبرت "إسرائيل" أن الشوبكي الذي كان يشغل منصب مدير المالية العسكرية في السلطة الفلسطينية آنذاك، العقل المدبر في تمويل وتهريب سفينة الأسلحة، فيما نفى الشوبكي مسؤوليته عن ذلك.
واعتقلت "إسرائيل" الشوبكي في 14 آذار/ مارس 2006، خلال عملية عسكرية نفذتها في مدينة أريحا شرق الضفة الغربية المحتلة، حاصرت خلالها السجن المركزي فيها.
وكان الشوبكي معتقلا في سجن أريحا تحت حراسة أمنية بريطانية أمريكية فلسطينية مشتركة عقب ضغوط دولية وإسرائيلية على السلطة الفلسطينية آنذاك لتسليمه بعد عملية "السور الواقي" التي نفذتها "إسرائيل" في آذار/ مارس 2002 وفرضت في وقت لاحق حصارًا على مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله.
وقبل 22 عاما، بدأت عملية إسرائيلية لـ"قرصنة" سفينة كانت تبعد نحو 750 ميلا بحريا، عن سواحل فلسطين المحتلة، حيث تمكن جيش الاحتلال من السيطرة على تلك السفينة بزعم أنها محملة بالسلاح.
ويستعيد جنرال احتياط يوسي كوبرفاسر ذكرياته في عام 2002، وهو رئيس دائرة البحوث في شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" في 2002، الذي كان في وقتها داخل غرفة العمليات بالطائرة التي حلقت فوق "سفينة السلاح" في البحر الأحمر بتاريخ 3 كانون الثاني/ يناير 2002، وقال: "فتشت عناصرنا "كارين إيه" ولم يجدوا شيئا"، بحسب مقال نشر في صحيفة "إسرائيل اليوم" العبرية للكاتب حنن غرينوود.
وتابع كوبرفاسر: "سأل موفاز ماذا يحصل، أجاب تشيني؛ لقد وجدوا سكين أرز، فنظر إليّ في الخلف وقال: يا كوبرفاسر ستعود لتل أبيب عبر نافذة الطائرة، فطلبت أن يواصلوا التفتيش، وعندها سألوا الكابتن أين السلاح، فرد: لماذا لم تسألوا؟ وأراهم، صخرة أزيحت عن قلبي".
وذكر الكاتب، أنه "قبل عشرين سنة بالضبط (نشر التقرير في 2022) خرجت إلى حيز التنفيذ عملية تكاد تكون غير مسبوقة تسمى "سفينة نوح"، وفي إطارها سيطرت الوحدة البحرية "13" التابعة للجيش الإسرائيلي على سفينة سلاح فلسطينية في زمن الانتفاضة الثانية، وفي آذار/ مارس 2002، بعد شهرين من السيطرة على السفينة قتل 81 إسرائيليا في 11 عملية، وفي نهاية ذاك الشهر بدأنا حملة "السور الواقي" العسكرية".
وقال: "السلطة الفلسطينية التي كانت عرضت نفسها قبل بضع سنوات من ذلك كمحبة للسلام، فعلت في تلك الفترة كل ما في وسعها كي تشجع تنفيذ المزيد من العمليات، ولهذا الغرض اشترت سفينة وحملتها بأسلحة إيرانية، ولو وصلت إلى المنطقة لغيرت وجه الصورة"، بحسب رواية الاحتلال.
وقال رئيس الأركان في حينه شاؤول موفاز: "أدركنا أن ياسر عرفات (الرئيس الفلسطيني الراحل) يبحث عن مصادر سلاح لأجهزة الأمن الفلسطينية وللتنظيم، وبعد بضعة أشهر من السيطرة على سفينة سلاح أخرى تدعى "سانتوريني"، بدأت الأنباء تصل في آب/أغسطس 2001 إلى شعبة الاستخبارات عن السفينة "كارين إيه"، وعندها فهمت أنه يجب فتح العين على البحر الأحمر".
وأوضح غرينوود، أن "السفينة حُملت في جزيرة "كيش" التي تقع في خليج عُمان بخمسين طنا من الوسائل القتالية وانطلقت صوب مصر، ومن هناك خططوا لتهريب الوسائل القتالية الخطيرة في حاويات إلى قطاع غزة"، منوها أن "الجيش الإسرائيلي شخّص تحرك السفينة، فقرر الخروج في عملية استثنائية في حجمها".
وتابع: "عهد بالجانب العملياتي إلى عناصر الوحدة "13" البحرية، الذين تدربوا سابقا على الهبوط من المروحيات بالحبال، وهي قدرة لم يتم استخدامها على الإطلاق في الجيش الإسرائيلي في ذلك الوقت، وفي الاستيلاء على السفن باستخدام زوارق سريعة، وإلى جانبهم كانت أيضا في قلب البحر سفن صواريخ وغيرها من السفن".
وأردف: "في الجو عملت مروحيات وطائرات قتالية، وكذا طائرات استخبارات، وبسبب الطبيعة الدراماتيكية والمعقدة للعملية، قاد عملية السيطرة (القرصنة) رئيس الأركان موفاز بنفسه، إلى جانب قادة سلاح الجو، سلاح البحرية وشعبة الاستخبارات، من خلال طائرة خاصة".
وذكر موفاز أننا "كنا ملزمين بأن نأخذ القرارات في الميدان، 500 كيلو متر عن شواطئ إيلات، مع قوة هائلة بحجمها وفي نافذة زمنية لساعة فقط من هدوء العاصفة، وصل عناصرنا مع أدواتهم الكثيرة إلى "كارين إيه"".