#مصير #الكوكب على متن #الشراع_الشمسي
بقلمي/إبراهيم أمين مؤمن
وانتهى أخيرا جاك من تصميم الجهاز الشامل، وقام بتجربته عشرات المرات، ونجحت كل تجاربه، سواء في قدرته على تخليق الأكسجين أو الماء أو الغذاء اللازمين لرواد الرحلة الفضائية المتوجهة إلى ثقب سحابة أورط.
فقرر أن يخرج ليحدّث العالم عن كل ما يختص بأمر الرحلة ولاسيما بعد أن تأكد أن خبراء العالم الموجودون على سطح القمر شارفوا على الانتهاء من بناء محطات الليزر السبعة العملاقة.
وأعلنت وكالة الناسا نقلا عنه موعد البث المرتقب عبر قناة ال CNN
***والتف البشر من كل أنحاء الكوكب حول الشاشات، وأمسك فوق ما يربو عن أربعة مليار فرد هواتفهم انتظارا لكلمة جاك التاريخية عبر قناة ال CNN، أهم كلمة بالنسبة لهم عبر تاريخ البشرية، حيث يدركون أن مصير كوكب الأرض متوقف على رحلة جاك.
كان أكثرهم ينتظرون شغفا ووجلا بسبب خوفهم بأن يعلن جاك عن عدم توفير الدعم اللازم لانطلاق الرحلة أو عدم قدرته على الخلاص من الثقب الأسود.
***وممن تملكهم الشغف البالغ لترقب كلمة جاك هم الفلسطينيون.
فهم لم ينسوا كلمة جاك التي وجهها للرئيس الأمريكي بشأن مغبة هدم الأقصى والتي كان لها كلمة الفصل في إعراض يعقوب إسحاق عن هدمه.
كما كان للشعب الفلسطيني أثر بالغ في دعم رحلة جاك من الجانب المعنوي رغم أنه شعب يعيش تحت القهر والظلم والفقر بسبب نير الاحتلال الإسرائيلي الذي يسعى دائما للخلاص منهم أو تشريدهم عبر طردهم من بلادهم.
ورغم الألم الذي يعتصر قلوبهم بعد هزيمة المقاومة بسبب حصول جيش الاحتلال على مادة مكنتهم من تحطيم حقول القوى التي كانت تحصن الأنفاق، إلا أنهم كانوا أكثر همة من شعوب الأرض جميعا في دعم رحلة جاك المعنوية.
كذلك ممن تملكهم الشغب البالغ لترقب كلمة جاك بعض الشخصيات المؤثرة، مؤثرة في مصير الكوكب كمتشو كاجيتا أو مؤثرة في حال الدول كرئيس الوزراء الإسرائيلي يعقوب إسحاق.
***وقبل البث بساعة دخل جاك القاعة في قناة ال CNN، كان كل شيء مُهيِّئٌ آنذاك، ورغم ذلك رفض إلقاء كلمته بسبب العنصرية.
حيث لاحظ وجود العلم الأمريكي منصوبا على يمين الواقف لإلقاء كلمته فأبى أن يلقيها إلا بعد أن يزيلوه وينصبوا مكانه خريطة العالم.
وقد تم بالفعل له ما أراد بيسر رغم عدم قناعة أكثرهم بوجهة نظر جاك.
***وفي قاعة قناة ال CNN يجلس لفيف من علماء الناسا وبعض العلماء من شتى الدول المختلفة فضلا عن حضور الرئيس الأمريكي ومعظم رؤساء أوروبا وبعض الرؤساء من القارات السبع.
وشرع في إلقاء كلمته وهو ينظر إلى الرؤساء، وتمنى في قرار نفسه أن تصفوا قلوبهم لشعوبهم بإقامة الحب والعدل والخير فيهم، كما تمنى أن يتحدوا معا لإعالة الفقير منهم، وإيواء المشردين كذلك.
لم يكترث بالترحيب للجالسين أمامه من رؤساء العالم، لأن كلمته لأولئك المكلومين في كافة بقاع الأرض، وليرسل رسالة إلى أولئك المقهورين الخائفين بأنهم مصدر اهتمامه، وبأنهم يمثلون له شغاف قلبه.
***وبدأ البث، وبعد أن سلم على الغائبين عن المؤتمر في كافة بقاع الأرض سلم على الرؤساء الذين أمامه واستهل كلامه بقوله: أيها الناس، رسالتي لم تكن موجهة للبشر فحسب، بل لكل كائنات كوكب الأرض.
أيها الناس، أتعرفون من أنا؟
كل ما تعرفونه أنني رائد فضاء، ومعجزة الزمان كما يدّعي بعض علماء الفضاء في كافة أنحاء العالم.
أنا الرجل الثاني لهذا الزمان يا أحبائي، فالرجل الأول هو الشاب المصري فهمان فطين المصري.
كثير منكم لا يعلمه، هو يحبكم، يكفي أنه عاش من أجلكم.
ستتساءلون الآن: أين هو الآن؟ ولماذا لم يأت معي؟
والله ليس السائل بأعلم من المسئول، كل ما أستطيع قوله إنني كنت معه في مختبر FFC-2، وساعدته من أجل عبور جسر الشيطان، لكن لا أدري عنه شيئا بعد ذلك.
ربما كان أعوان إبليس من الجن والعفاريت والمردة انتظروه عند البوابة وقتلوه أو أسروه، أو ربما تمكّن الملك محرز من الإمساك به ليجنبه شر إبليس وأعوانه.
أعلم أن الدهشة تملكتكم، وستتساءلون الآن لم غامر بحياته؟
أجيبكم بأنه غامر من أجلكم، من أجل أن يقطع عنكم تلك الوساوس التي تقرع آذانكم وتغزو قلوبكم منه أو من خلال أعوانه، فعمّ بينكم القتل والحقد والكراهية.
قد يكون الآن بين جنود الملك محرز يحاول صنع قنابل الثقوب السوداء من خلال مختبر جني كالذي في الوادي الجديد كي يتخلص من إبليس وأعوانه.. ربما.
توقف فجأة وأجهش بالبكاء قبل أن يقول قوله هذا: وكلكم يعرف ماذا حدث للأساطيل الأمريكية بسبب تلك القنابل اللعينة.
هل علمتم الآن أني الرجل الثاني؟
***أنا الرجل الثاني، الذي ما فشل قط في حياته، ولن أفشل بقدرة الرب على دحر هذا الثقب الأسود.
وكما أنه بذل نفسه فداء لكم فإني الرجل الثاني فداء لكم أيضا.
سوف أدحره لا ريب لكن المشكلة أني سوف أهلك معه، لكن لا بأس، لا بأس بأن يضحي واحد منا من أجل إحياء كوكب الأرض بأكمله.
أود أن أعرفكم بنفسي أكثر كي تطمئن نفوسكم.
هل تذكرون حريق جامعة كاليفورنيا منذ نحو عشر سنوات تقريبا؟
بعض الناس يذكرها ويعلم من أطفأها، لكن الغالبية العظمى لا يعرف أني من أطفأها، ولولا فهمان ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
لقد تمكن هذا المصري من صنع مادة قادرة على إطفاء الحرائق بسرعة كبيرة، وما سجل له براءة اختراع وما سعى إلى ذلك. كان همه الأوحد أن تنزعوا من قلوبكم الشر.
كنت أدور بالسيارة الطائرة حول الحريق وأسعى بجانبه ولا أخشاه حتى أطفأته، وإني قادر أن أدور حول الثقب وأعلم نقطة ضعفه وسوف أدحره هو الآخر.
كذلك، تذكرون بركان كاليفورنيا، وتذكرون الطفل الإسرائيلي والطفلة الفلسطينية اللذين كانا وسط نيران البركان.
كلكم طبعا لم ينس قط فتى البركان الملثم الذي تمكن من اجتياز النيران والوصول إليهما.
إنه أنا، أنا فتى البركان الملثم الذي تكلم عنه الناس جميعا لأكثر من عقد من الزمن، وكشفت عن هويتي إليكم في هذا الوقت بالأخص لأعلمكم أني قادر على التغلب على الثقب، سوف أتخلل روحه وأمزق أمعاءه فقروا عينا واطمئنوا.
سكت لحظات، وتنفس سويعات ثم قال: ربما بعضكم لا يزال قلقا، فاعلموا أني أنا الوحيد في هذا العالم الذي قال إن هذا النجم الصغير سوف يسلك سلوك النجوم الكبار وينفجر متحولا إلى ثقب أسود مخالفا بذلك علم النجوم والثقوب السوداء. ربما علينا الآن أن نراجع أنفسنا بشأن علوم الفلك.
وقلت ولم يصدقني أحد؛ حتى إن بعض علماء الفضاء والفلك كادوا أن يجنوا، وأكثر العلماء الآن يقولون إني غير قادر على تدمير ثقب أسود، وأنا أقول لهم بأني سوف أحطمه، وإن كتب لي العودة فسوف أخط علم فيزياء الفلك من جديد.
هو يتربص بكم، فحسب يريد أن يزداد حجمه ليكون قادرا على جذب الأرض من خلال زيادة أفق حدثه، وأنا أقول له إن شراعي الشمسي سوف يصله قبل أن يحقق مراده، وسوف أعبر جسر أينشتاين وبالداخل..
سكت برهة وأدار جهة الحوار نحو الثقب وخاطبه بثبات وإصرار بقوله: سوف أفجر أمعائك أيها الوحش المفترس.
سوف أدخل من خلال ثقبك الدودي، نقطة ضعفك وضعف كل الثقوب السوداء، كبيرها وصغيرها، قديمها وحديثها، سوف أدحرك، وسوف أذهب معك، فنفسي فداء لكم أيها الناس.
نفسي فداء لكلّ أمريكيّ وأوربيّ وأسيويّ وعربيّ واستراليّ، فداء لكلّ مسيحيّ ومسلم وبوذيّ ويهوديّ، نفسي فداء للبشرية جمعاء، فاطمئنوا ولتقرّ أعينكم.
***ويا ليت بيدي أدفع عن البشر تلك الحروب التي دارت بينهم، ويا ليت أستطيع أن أطرد إسرائيل من أرض فلسطين.
وأأسف لكلّ نسمة تخطّفتها يدُ ردى الحروب.
لن تنتهي الحروب إلا إذا نقت نفوسنا من الأطماع، وحب السيطرة على الآخرين ونبذ السادية والعنصرية بكافة أشكالهما، ورضينا بما قسمه الله لنا، وإن اختلفنا فالكلمة من المفترض أن يكون فيها حكم الفصل وليست النيران.
وأود أن أخبركم بأننا سوف نصل إليه بعد حوالي عشر سنين، ونجاحي في الوصول إليه ومن ثم دحره ليس متوقفا عليّ ومن معي فحسب بل عليكم أيضا، فإن تنازعتم فلن تنجح الرحلة.
أتعلمون لماذا؟ لأن هذا الثقب أرسله الله إليكم، بسبب حروبكم، ولن يزول إلا إذا غيرتم ما بأنفسكم من شر.
***والآن ندائي ليس إلى رؤساء الدول ولا إلى علمائها وشعوبها؛ وإنما ندائي إلى القارات السبع.
لتعتصم دول القارة، لا أحب أن أسمع عن دولة بعينها، لن تصغي أذناي إلا لكلمة القارة، وأرجو أن يأتي يوم عليكم وتتوحد القارات، صدقوني، لو عاش العالم أسرة واحدة لن يكون هناك جائع أو متشرد؛ ولن تكون هناك جريمة.
لابدّ أن تدركوا وتفقهوا أنّ العالم كلّه على متن سفينة واحدة، وأنّه مكلّف بالحفاظ عليها وعلى خطّ سيرها، كلُّ واحد منكم له وظيفة لابدّ أنْ يؤدّيها كي لا تضرّ بها عواصف الأهواء، لكلٍّ منكم دوره حتى لا تُخرق فتغرقكم جميعًا، لابدّ تظلّ أشرعتها ترفرف دائمًا لتُعلن عن بقائنا، بقاؤنا أحياء.
ندائي إليكم أن ترسلوا المزيد من خبرائكم وربوتاتكم إلى سطح القمر، أريد الانتهاء من تصميم محطات الليزر العملاقة بأقصى سرعة، فلم يبقَ على اكتمال إنشائها إلّا القليل.
بعد الانتهاء من بنائها بإذن الله، توزع أعلام القارات السبع على المحطات السبع، لترفرف أعلامكم عليها، لا أريد أيّ علمٍ يسقط لأنّ إخفاقَه هو إخفاق لنا.
وبمجرد الانتهاء من بناء هذه المحطات سوف نبدأ الرحلة.
وإليكم المسار الكلّى إجمالاً بدون تفاصيل.
سنبدأ الانطلاق بعد شهرين من الآن، وهذا الموعد بالتحديد حددته وكالات الفضاء العالميّة لأنّه الموعد الأنسب لتقليل زمن الرحلة.
سنجتاز المجموعة الشمسيّة، ثمّ نتوجه بعد ذلك إلى حزام كايبر ثمّ القرص المبعثر ثمّ ندخل السحابة حيث يوجد الثقب الأسود، وهنا يبدأ الصراع.
ولا تنسوا كما قلت لكم، نجاحي في تدمير الثقب متوقف عليكم، فإن عمّ السلام بينكم نجحت الرحلة.
***حنق يعقوب إسحاق من بيان جاك التاريخي الذي ألقاء في المؤتمر وانتهى منذ لحظات، على مدار الكلمة وهو يصغي سمعه إليه، ويرى أن جاك ضربه ضربة قاسمة ولاسيما بعد كلمته الأخيرة بأن نجاح رحلته متوقف على نقاء القلوب من الحروب.
وأشد ما يخشاه أن يفقد الدعم العالمي ولاسيما أمريكا لتهجير بقية الفلسطينيين من أراضيهم كي يتفرغ بعدها لوضع حجر الأساس لقيام دولة إسرائيل الكبرى.
وقد قرر هدم الأقصى وتصفية القضية الفلسطينية تماما فور قيام جاك برحلته.
ورغم أنه فقد الأمل الأخير بحصوله على قنابل الثقوب السوداء برحيل جاك إلا أنه يرى في رحيله نقطة انطلاق نحو هدم الأقصى وتصفية القضية الفلسطينية.
***في الوقت الذي يدرك فيه الشعب الفلسطيني أن رحيل جاك عن الأرض سوف يتسبب في عواقب وخيمة عليهم بقيام جيش الاحتلال بانتهاكات واسعة منها هدم الأقصى كانت المقاومة تلملم ما تبقى من أشلائها لتعاود الجهاد مجددا ضد جيش الاحتلال.
فقاموا بضم عناصر جديدة إليهم واستطاعوا الحصول على أسلحة من حلفائهم وقرروا مواجهة جيش الاحتلال في عقر معسكراته كما فعل الاحتلال بهم وهاجمهم في أنفاقهم بعد أن تمكن من تدمير حقول القوى التي تحيط بها.
***أما ميتشو كاجيتا فكان في قمة السرور بعد أن تأكد من قيام جاك برحلته، حيث إنه يمكنه التواصل مع كون الآلات لتسهيل مهمتهم لاجتياز ثقب سحابة أورط ومن ثم السيطرة على البشر.
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
ما الذي يكشفه طعن نجيب محفوظ عن السلطة في مصر ؟
قبل ثلاثين سنة، وتحديدًا في الرابع عشر من أكتوبر سنة 1994، تعرض الروائي المصري الشهير الحائز على جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ للطعن في العنق وهو جالس في سيارة صديق على الضفة الغربية لنهر النيل في طريقه إلى لقائه الأسبوعي بمقهى في وسط القاهرة، ونجا محفوظ -البالغ آنذاك من العمر اثنين وثمانين عامًا- بأعجوبة من محاولة الاغتيال لكنه بات شبه عاجز عن الكتابة لما تبقى من حياته، وكان مرتكب الهجوم عضوًا في حركة إسلامية متشددة تعرف بـ«الجماعة الإسلامية»، وكانت متورطة آنذاك في أعمال عنف بشتى أرجاء مصر بهدف زعزعة النظام السياسي في مصر، وباستهداف الكاتب المرموق، كان مرتكب الهجوم يتحرك بتحريض من عالم متطرف يدعى عمر عبدالرحمن ويعرف أيضًا بـ«الشيخ الأعمى»، وكان آنذاك هو الزعيم الروحي للجماعة.
وقبل سنوات قليلة من ذلك، كان المرشد الأعلى لإيران آية الله روح الله الخميني قد أصدر فتواه الشهيرة الداعية إلى اغتيال الروائي البريطاني سلمان رشدي، وانتهز عبدالرحمن فرصة تجدد جدل ديني قديم حول أشهر روايات محفوظ وهي «أولاد حارتنا»، فقال الشيخ الأعمى تعليقًا على فتوى الخميني: إن محفوظ أيضًا مرتد مثل رشدي، مضيفًا إنه لو كان محفوظ قد قُتل قبل ثلاثين سنة لما اجترأ رشدي على كتابة روايته «الآيات الشيطانية»، وفي حين أن كلمات عبدالرحمن ليست بفتوى في شكلها، فقد فسرها أتباعه بأنها أمر بوجوب قتل محفوظ.
وصدرت «أولاد حارتنا» للمرة الأولى مسلسلة في صحيفة الأهرام المصرية المؤثرة سنة 1959، قبل عقود من محاولة اغتيال محفوظ، ومنذ ظهورها الأول وهي محط نزاعات دينية بسبب محتواها التجديفي المزعوم، ولم تنشر الرواية كتابًا في مصر إلا بعد وفاة محفوظ سنة 2006.
وإذ نعيد النظر في تاريخ الكتاب المضطرب بعد ثلاثين سنة من استهداف حياة محفوظ، يبدو أن الجدل الديني في وقت صدور «أولاد حارتنا» الأول كان في واقع الأمر ستارًا ملائمًا للنظام العسكري للرئيس المصري آنذاك جمال عبدالناصر، فمن خلال إتاحة المجال لاحتدام الجدل ولقيام المؤسسة الدينية بإعاقة نشر الرواية، استطاع نظام عبدالناصر أن يجتنب تناول الحجة الأساسية الكامنة في صلب الرواية، وهي الانتقاد السافر للمنحى القمعي الذي نحاه الحكم العسكري منذ انقلاب 1952، دونما مهاجمة صريحة للكاتب الذي كان قد حاز بالفعل على قدر معتبر من الشهرة وكان محبوبًا للغاية حتى من عبدالناصر نفسه.
ويقوم بناء الرواية على سلسلة نوفيلات [روايات قصيرة] تلمح إلى الأديان الإبراهيمية الثلاث، أي اليهودية والمسيحية والإسلام، وتدور أحداثها جميعًا حول وقف الجبلاوي، ذلك الأب النائي المعزول ذي الهالة الإلهية الذي يتجاوز عمره حدود الطبيعة، وفي حدث يذكرنا بطرد آدم وحواء من جنة عدن، يطرد الجبلاوي ذريته من أملاكه، ويحكم على أبنائه بحياة الشقاء في ظل قسوة حكامهم الطغاة والفتوات.
وتهون على الحارة محنتها بين الحين والآخر بظهور شخصيات عبر الأجيال تضاهي رمزيًا [الأنبياء] موسى وعيسى ومحمد، الذين يصورهم قلم محفوظ الشعري في سمات شديدة البشرية، فالأنبياء جميعًا لهم ارتباط وثيق بالجبلاوي، ومباركة الجبلاوي نفسه لهم تتيح لهم هداية أبناء الحارة واستعادة العدالة مؤقتًا في إدارة الوقف، غير أن تعاليم الأنبياء -بمرور الوقت- تتحول إلى عقائد جامدة قمعية يسيء استغلالها حكام وفتوات جدد، فيحكمون على مواطني الحارة مرة أخرى بحياة المذلة والحرمان، وفي القسم الأخير من الرواية، يحل العلم محل الشرائع الدينية الثلاث باعتباره عقيدة العصر الحديث الراسخة، ويرتكب مجسِّد العقلانية الحديثة دنس قتل الجبلاوي لكنه، شأن جميع أسلافه من قبله، يكون منذورًا للفشل في مسعاه إلى تحرير الحارة من الشقاء.
وفي الرواية العديد من الثيمات والعناصر التي كان من شأنها أن تثير غضب المؤسسة الدينية المصرية في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، منها «قتل الإله» والإيحاء بأن الإسلام محض دين من أديان كثيرة تفشل في النهاية في تحرير الإنسانية من شقائها، ومشهد للشخصية المجسدة أدبيًا للنبي محمد وتسمى بقاسم في الرواية إذ يدخن الحشيش على الجوزة، ومثلما روى محمد شعير بالتفصيل في كتابه «الرواية المحرمة» (2022)، فقد استفزت الرواية فعلًا غضب شخصيات دينية كثيرة في تلك الحقبة، ومن هذه الشخصيات من كان منتميًا لجامعة الأزهر في القاهرة، وهي من أبرز مؤسسات التعليم الإسلامي في العالم.
غير أن شعير يذكر حوارين ذهب فيهما محفوظ إلى أن الجلبة المحيطة بـ«أولاد حارتنا» بدأت بالفعل على يد كتَّاب آخرين، وفي حكيه للواقعة، يبدو أن شعير يشير إلى احتمال أن يكون الشاعر صالح جودت -لأغراض شخصية أو سياسية- قد كتب رسالة باسم مستعار اتهم فيها الرواية بالتجديف، فلفت إليها أنظار علماء الأزهر، وفي حين أننا لم نعرف مطلقًا من الذي كان أول من أثار زعم تجديف نجيب محفوظ، فإن نقادًا كثيرين في تاريخ «أولاد حارتنا» المعقد يتفقون على أن الجدل الديني قد طغى على جوهر الرواية السياسي الذي لا يزال بعد خمسة وستين عامًا يمثل اتهامًا قويًا لجميع أنظمة الحكم القمعية.
وكتب محفوظ الرواية بعد فترة انقطاع طويلة، وكانت أعماله قبلها -في مرحلته الواقعية- قد بلغت ذروتها بـ«الثلاثية» التي حظيت بثناء واسع، وبعد تحقيقه الشهرة الأدبية، فقد محفوظ بوصلته بعد انقلاب 1952 الذي أطاح بالملكية المصرية، لكنه أطاح بالليبرالية أيضًا وبحمية العشرينيات والثلاثينيات الفكرية، وقد تجسد فقدان البوصلة ذلك في توقف دام خمس سنوات بين «الثلاثية» و«أولاد حارتنا»، بل لقد فكر خلالها محفوظ في التوقف عن الكتابة، ثم عاد إلى فنه بأسلوب مختلف تمامًا، فكتب أكثر أعماله سياسية.
لم يغب محتوى الرواية السياسية عن فطنة رئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل، وكان هيكل -المقرب من عبد الناصر- قد قال لشعير: «إنه أدرك رسالة الرواية وأهميتها الهائلة»، وبعد مشاورة عبدالناصر، مضى هيكل ونشر العمل مسلسلًا، برغم تصاعد الجدل في الدوائر الدينية.
وفقا لقراءتي، وقراءة كثير من النقاد المذكورين في كتاب شعير، تشكل «أولاد حارتنا» شهادة سياسية على إيمان محفوظ بالمساواة وتحرر الإنسان أكثر مما تشكل تمثيلًا أدبيًا لموضوعات دينية، فوفقا لسرد محفوظ الفاتن والمبدد للأوهام، ليس بوسع العقائد الدينية أو التطورات التكنولوجية في نهاية المطاف أن ترفع الشقاء عن الحارة -وهي تمثيل لمصر إن لم تكن تمثيلًا للإنسانية-، ويبقى قصر الجبلاوي الفخم المنيع الذي تعيش خارجه حشود المحرومين والبائسين سالمًا ومهيمنًا، في حين يبدو أن عِبَر الأجيال الماضية وتعاليم الأنبياء السابقين قد طواها النسيان، فـ«آفة حارتنا النسيان» مثلما يتكرر في كل قسم جديد من الرواية.
وتقوم شهرة الرواية بالدرجة الأساسية، في مصر وخارجها، على اتهامات التجديف والجدل الديني الذي أثارته، وكثيرًا ما يرتبط محفوظ برشدي بوصفهما مثالين للكاتب العلماني المستهدف من المتطرفين الدينيين، غير أن هذا قد لا يعدو الجانب الإثاري الأكبر في الموضوع، ففي الواقع، يجسد مأزق «أولاد حارتنا» كيف استطاع نظام حكم استبدادي علماني أن يستغل جدلًا دينيًا لكبت صوت كاتب مؤثر كان يعبر عن سخطه على الوضع السياسي في مصر في ظل حكم عبدالناصر.
ولقد تبنى محفوظ نفسه هذا التفسير صراحة، ففي عام 2001 نقلت عنه مجلة أدبية مصرية قوله: إن «أولاد حارتنا» في المقام الأول رواية سياسية، والذين كنت أفكر فيهم وأنا أكتبها فهموا معناها، فعرفوا من أعني بالفتوات، لذلك أعتقد أنهم ربما كانوا وراء المنعطف الديني الذي مضت إليه الأمور، وكان محفوظ شديد الوعي بأن الجدل الديني أدى إلى سوء فهم عام حيال رسالة الرواية الأعمق؛ لأنه أكَّد في مناسبات عدة أنه في أثناء كتابة الرواية قد تأثر بأسئلة عن السلطة السياسية وكيفية تحديها، وفي حديث إلى جريدة كويتية سنة 1975، أعرب عن أسفه «لعدم فهم رسالته»، موضحًا أن الدافع الحقيقي لتأليف الرواية جاء من «وقوع هوة بينه وبين المجتمع» بعد أن شاهد مصر متألمة في أعقاب 1952 إذ اعترتها «تناقضات وأخطاء مفزعة... وبخاصة ما تعلق بالتعذيب والاعتقال»، وبعد أن رأى «بعض الناس ينتفعون من الثورة انتفاعًا هائلًا إلى أن أصبحوا أغنى من الإقطاعيين» الذين صودرت أراضيهم على يد عبدالناصر.
وعلى مدار الرواية، كان محفوظ يسائل الحكام العسكريين الجدد: «في صف من أنتم؟ الفتوات أم الأنبياء؟»، وكان هذا السؤال الصريح شديد الإشكالية في مصر في أواخر الخمسينيات، في ظل إحساس عظيم بالإثارة تجاه النظام العسكري، وبخاصة بعد نجاح تأميم قناة السويس سنة 1956، ووسط كل تلك الضجة، كتب محفوظ رواية مليئة بالإشارات المستفزة، والواضحة أيضًا، إلى الوضع السياسي آنذاك، بما كان يعني أن الحارة في نهاية المطاف «لا تزال هي الحارة نفسها، والفتوات هم الفتوات أنفسهم».
وتمثل «أولاد حارتنا» أيضًا أول وأهم لحظة في سلسلة من الحلقات التي وضعت محفوظ في مرمى النظام بسبب موقفه الانتقادي، إذ استهلت الرواية فترة تجريب أدبي دامت طوال عقد الستينيات وأوائل السبعينيات، وتظهر في روايات من قبيل «السمان والخريف» و«اللص والكلاب» و«ثرثرة فوق النيل» التي يتضافر فيها الإحباط والسخط من النظام السياسي الاستبدادي مع مختلف ثيمات فقدان الاتجاه والاستياء والسخرية العدمية، وحدث في تلك الفترة أن تعرضت روايات محفوظ لحذف مقاطع منها على أيدي رقباء الحكومة، وحدث أن كان هو نفسه على شفا التعرض للاعتقال فلم ينقذه منه إلا تدخل عبدالناصر الشخصي.
ظلت تداعيات الجدل الديني حول «أولاد حارتنا»، بجانب التوترات مع المؤسستين السياسية والثقافية في تلك الحقبة، مستولية على محفوظ حتى بعد حصوله على جائزة نوبل في الأدب سنة 1988، فقد تجددت اتهامات الردة في الدوائر الدينية المتطرفة بعد إعلان الجائزة، وتعرض محفوظ لاستهداف من بعض البلاد العربية بسبب تأييده لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979 ومحاباته فكرة حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بموجب حل الدولتين، وفي كتاب «قصة الرواية المحرمة»، يذكر محمد شعير واقعة مثيرة مزعومة عن عرض أحد موظفي منظمة التحرير الفلسطينية على محفوظ قرابة نصف مليون دولار -أي قرابة ثلاثة أمثال قيمة جائزة نوبل- ليرفض الجائزة المرموقة بسبب تعاطف لجنتها المفترض مع إسرائيل.
وبرغم نشأته أصلًا في عائلة متدينة، كانت أخلاقيات محفوظ السياسية نتاجًا لتربيته السياسية في حقبة ليبرالية بعض الشيء -أي حقبة القومية المصرية والنضال من أجل الاستقلال عن الاحتلال البريطاني- وتنشئته على يد المثقف العلماني التقدمي سلامة موسى، ونجيب محفوظ، على احترامه للسلطات الدينية في مصر، كانت لديه قناعات راسخة بأن الدولة الحديثة لا يجب أن توالي دينا أو عقيدة، وكان مقدرًا لهذه الرؤية العلمانية للمجتمع والسياسة أن تدفع بمحفوظ إلى الصدام مع أغلب الأطراف المتشددة في المؤسسة الدينية، وقد حدث هذا على الرغم من حقيقة تبدو بأثر رجعي منطوية على مفارقة، وهي أن من أوائل من التفتوا إلى مواهب محفوظ الأدبية سيد قطب وليس غيره، وهو منظِّر الإخوان المسلمين المرموق ومؤلف كتاب في الجهاد، وكان لفترة من الزمن صديقًا مقربًا من الكاتب.
توشك محاولة اغتيال محفوظ سنة 1994 أن تكون واقعة منسية استعادتها الذاكرة أخيرًا إثر محاولة اغتيال رشدي في 2022، وهذه الواقعة توجز الدور الإشكالي للإسلام الراديكالي في مصر المعاصرة وعلاقته المعقدة بالحكم العسكري في البلد الذي لجأ على مدى عقود إلى قمع الإسلاموية في بعض الأوقات وإلى تشجيعها في البعض الآخر، غير أن الأهم، من منظور معاصر، هو أن هذه الواقعة تلقي الضوء أيضًا على إيمان محفوظ بالديمقراطية والمساواة المنبوذتين اليوم تمامًا في مصر، وكما في عالم «أولاد حارتنا» الأدبي، يبدو أن مصر الحقيقية اليوم قد نسيت دروس الماضي وتعاليمه، وأحدثها دروس وتعاليم ثورة 2011 التي أطاحت بنظام حسني مبارك البالي، ويبدو قصر الجبلاوي بكل هيلمانه الطاغي أقرب إلى مخطط لمعمار المجتمع المزدهر في مصر، متجسدًا في العاصمة الإدارية الجديدة، الشاسعة والمعزولة، وفي العديد من المجمعات السكنية الراقية التي تغير وجه القاهرة.
وبرغم مضي خمسة وستين عامًا، لا تزال الرواية إذن عدسة استثنائية الوضوح يرى المرء من خلالها ويفهم قضايا مصر البنيوية السياسية والاجتماعية، وكذلك مأزقها الراهن، فلقد أقام الحكم شرعيته على استئصال الأصولية الدينية، وإذا به يقيم على أطلالها نظام قمع زاد من تفاقم الأوضاع الخطيرة التي كان أغلب المصريين يعانون منها في ظل أنظمة الحكم الغابرة.
لقد كتب محفوظ «أولاد حارتنا» في لحظة استنارة من منحنى مساره ككاتب ومثقف عام، لكنه ينهي الرواية برؤية مشرقة مشجعة: «ولنرينَّ في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب»، وقبل أكثر قليلًا من عقد، أدى التجاهل والإعراض عن محنة جموع المحرومين في مصر إلى أن ثارت «الحارة» وأطاحت بنظام، ولم يكن ذلك بأقل من معجزة، وفي الوقت الذي انمحى فيه ذلك الاضطراب التاريخي تقريبًا من الذاكرة الجمعية النسَّاءة، فإن أسبابه الكامنة لا تزال حاضرة إلى حد كبير، وكذلك لا تزال حاضرة وكامنة بذور انتفاضة مستقبلية، ومثلما استغرق نشر «أولاد حارتنا» في مصر خمسين سنة، فقد تلزم فترة أطول من الزمن لظهور رسالتها أخيرًا، كاملة، بوصفها قوة تحرير ووضوح.
جابرييل كوسنتينو أستاذ مساعد في قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكية في القاهرة
ذي نيو لاينز