كارثة الحرب والفقر المؤقت.. مداخل أولية للتكيف
تاريخ النشر: 6th, March 2024 GMT
كتب د. محمد عبد الحميد
فرضت الحرب اللعينة التي يعيشها أهل السودان حالة من الفقر على قطاعات عريضة من المجتمع السوداني. وإن إتسم هذا الفقر بأنه مؤقت أو عارض... غير أن أخطر ما فيه هو عدم الإعتراف به أو التعامل معه بأنه لم يحدث... فبرغم أن علميّ الإجتماع والاقتصاد لم يفردا مباحث معمقة في أدبياتهما على قضايا الفقر المؤقت Temporary Poverty إلا أن علم الحد من مخاطر الكوارث يُعني بهذا النوع من الفقر لإرتباطه المباشر بإقتصاديات الكوارث.
بنظرة عامة فقد أثرت الحرب على مجمل البناء الاجتماعي طبقياً وبصفة خاصة على الطبقة الوسطى لاسيما سكان المدن الكبرى خاصة في العاصمة الخرطوم ومدني والأبيض وكادوقلي ونيالا والفاشر والجنينة وغيرها من المدن فقد وجد معظم سكان هذه المدن أنفسهم بين نازح ولاجئ، وهذا الحراك السكاني المرتبط بالكوارث هو أهم عّرّض symptom للفقر المؤقت لإرتباطه مباشرة بفقد وسائل سبل كسب المعيشة، إن كانت رواتب على مستوى العاملين في الدولة أو في القطاع الخاص أو حتى في السوق على مستوى التجار وأصحاب المهن الحرة وعمال اليومية.
عادة ما تظهر أعراض الفقر المؤقت على فترة طويلة نسبياً من الزمن، وقد تصاحبه حالة من الإنكار النفسي والذهني Mental & psychological denial لذلك فمن يتعرضون له قد لا يدركون وضعهم الجديد كفقراء إلا بعد مُضي زمن طويل نسبياً.. وبما أنه نوع مؤقت من الفقر عادة ما يسترد هؤلاء حياتهم المعتادة بعد انقضاء الكارثة غير أن الأمر في ظروف حرب تتميز بحالات واسعة من النهب والسلب للأصول والممتلكات (الافقار المنظم) بأنها كارثة ربما تفوق الأوضاع العادية في أعقاب كوارث من صنع الطبيعة.. عموماً سوف يحتاج جل أو معظم المتأثرين بهذه الحرب لفترة طويلة للتعافي والخروج من الفقر المؤقت و يعتمد في ذلك على شرطين أساسيين الأول : ذاتي يرتبط بهم وبدرجة وعيهم الكلي بالوضع الجديد الذي يستلزم حالة صارمة من القدرة على التكيف adaptation capacity وهذا هو مربط الفرس. الشرط الثاني: القدرة على إعادة الأعمار Rehabilitation للبنى التحتية والمؤسسات الحكومية التي لحقها الدمار على مستوى الدولة وهذا في تقدير الكاتب شبه مستحيل في ظل ظروف السودان وما يكتنف الوضع الدولي والاقليمي حالياً من تعقيدات.. فبالرجوع للشرط الأول يلاحظ أنه لا يحدث من تلقاء نفسه، وإنما يستلزم مجموعة إجراءات تكيف خاصة وسط أبناء الطبقة الوسطى والذين إما نزحوا للمدن الكبرى أو عواصم دول الجوار أو الخليج، فهؤلاء لايزالون يعيشون تفاصيل حياتهم اليومية دون إدراك حقيقي بأنهم قد انزلقوا في مدارج الفقر المؤقت، فمعظمهم مازال يعيش حياته كأنه في سياحة قصيرة، فتفاصيل حياتهم لم يكد يطرأ عليها أي نوع من التكيف وربما وجدوا العون من الأهل والأقارب في الخارج الذين يمدون يد العون بالتحويلات البنكية لدعمهم أو اعتمادا على بقية مدخرات مالية أو مصوغات ذهبية وهذا ما يزيد الشعور الزائف بأنهم لم ينزلقوا بعد للفقر المؤقت، وأكثر ما يفاقم هذا الشعور الزائف بإنكار أو عدم الإعتراف بالفقر الجديد الطارئ أنهم يحلمون بعودة عاجلة لأوضاع ما قبل الحرب وأن بإمكانهم استئناف حياتهم السابقة حالما تضع الحرب اوزارها وتلك أماني تعشش في مخيلة معظم أبناء الطبقة الوسطى، فتراهم يتسقطون الأنباء بشعور رغبوي غير واقعي عن قرب انتهاء الحرب دون أن يقدموا على حالة تكيف مع الأوضاع الجديدة التي تتسم بالفقر المؤقت.
فمع صعوبة إسقاط نموذجاً واحداً على كل متضرري الحرب إلا أن نظرة عامة على مجمل أوضاع السودانيين المتواجدين في مصر على سبيل المثال، يمكن تقرير أن معظمهم غير مدرك لحقيقة كونهم قد ولوجوا في دائرة الفقر فمعظمهم - حتى من أخذوا صفة اللجؤ - يعيش حياة لا تتسق بأي حال ووضع اللاجئ الحقيقي كما أن معظمهم لا يتلقون عوناً مباشراً وكافياً من المؤسسات الدولية خاصة مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ومع ذلك فهم يمارسون كافة طقوس حياتهم الإجتماعية بذات التفاصيل التي كانوا يعيشونها. كما أن معظمهم مستأجرين لشقق بمبالغ قد تستهلك معظم أموالهم ولا تتناسب وأوضاعهم الجديدة كفقراء مؤقتين، كما أن معظم أبناءهم قد تم تسجيلهم في مدارس خاصة انتقلت من الخرطوم للقاهرة وبنفقات أعلى مضاف إليها رسوم المواصلات والأكل والشرب وحتى الترفيه.. هذا فضلا عن المجاملات الإجتماعية التي انتقلت معهم بذات التقاليد المرعية بقدرة وبدون قدرة.
على عموم الأمر يمكن إجمال المداخل العملية على التكيف مع أوضاع الفقر المؤقت في خطوات أهمها
أولا: الاعتراف بالدخول في دائرة الفقر المؤقت مهما شق ذلك على النفس، أو مهما انكرته النفس أو الوسط الاجتماعي. ثم التصرف وفقاً لمطلوبات حياة الفقر المؤقت.
ثانياً: ترتيب الأولويات، فطبقاً لخطوات الإدارة القائمة على النتائج RBM يجب وضع الأولويات كلها ثم إعادة ترتيبها حسب الأهمية القصوى لاوجه الصرف فعلى سبيل المثال اذا كانت الأولويات عشرة يجب أن تقلص لحدود الستة أو سبعة أولويات كحد أعلى معنى ذلك أن هنالك بعض الاحتياجات التي كان ينظر لها كاولوية لابد أن تسقط.
ثالثاً: ضرورة إشراك أفراد الأسرة في وضع وترتيب الأولويات بعد شرح الوضع الجديد والالتزام الصارم بالتقيد بالصرف ضمن ما استقرت عليه قائمة الأولويات مهما كانت صعوبة ومضاضة ذلك.
رابعاً : اللجؤ لإنشاء جمعيات خيرية إنسانية تعنى بحالات الدعم المباشر والضغط على المنظمات الدولية أن تضطلع بمهامها تجاه مجتمع اللاجئين أو النازحين بصورة أكبر ودعمهم بالمواد التموينية اللازمة للحياة اليومية.
خامساً: يتوجب على الحكومة السودانية عبر السفارات أن يكون لها دور إنساني أكبر من مجرد المعاملات القنصلية وأن تكف يدها عن إستخدام اللاجئين كمصدر دخل في معاملاتها الرسمية.
هذه مداخل أولية لإمكانية التكيف مع ظروف الفقر المؤقت أثناء كارثة الحرب التي أحدٌ لا يمكنه التكهن بنهايتها أو بالكيفية التي ستنتهي عليها. غير أن أمراً واحداً يمكن الجزم به واعادة تأكيده هو أن كل من تأثر بالحرب قد دخل في دائرة الفقر المؤقت أو العارض الذي يحتاج لوعي متقدم لتجاوزه حتى وإن وجد البعض العون من المغتربين، فربما تتسع دائرة الفقر لتشمل حتى المغتربين أنفسهم لأن ما يرسلونه من دعم لإسرهم دون التكيف مع أوضاع الفقر المؤقت سيكون بلا شك خصم على قدراتهم في التوفير والادخار مما سيشكل عليهم عبئاً على حساب عمرهم وصحتهم ورفاهههم وسيكونون كمن يحاول ردم بئر لا قرار لها بحقف صغير من الرمال.
د.محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث
wadrajab222@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: دائرة الفقر من الفقر أن معظم
إقرأ أيضاً:
نقابة المهندسين تُعلن خطتها العاجلة لإعادة إعمار غزة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أعلنت اللجنة الاستشارية لإعادة إعمار غزة بنقابة المهندسين، خطتها العاجلة لإعادة إعمار القطاع، وذلك خلال مؤتمرها الصحفي الذي عقدته اليوم، بحضور المهندس طارق النبراوي- نقيب مهندسي مصر، والمهندس محمود عرفات- أمين عام النقابة،واللواء المهندس أحمد زكي عابدين- رئيس اللجنة، وأعضاء اللجنة.، والمهندس كريم الكسار- الأمين العام المساعد، والدكتور المهندس عبدالقوي خليفة والدكتور المهندس محمد عبد الغني، عضوا اللجنة.
الخطة العاجلة لإعادة إعمار غزة
وخلال المؤتمر الصحفي أعلنت اللجنة التفاصيل الكاملة للخطة العاجلة لإعادة إعمار غزة، مؤكدة أنها خطة عاجلة وواقعية وعملية، تمتد على مدى ستة أشهر، وتستند إلى منهجية علمية وموضوعية، بهدف تلبية المتطلبات العاجلة للسكان، وفي مقدمتها الإيواء المؤقت وتأمين الاحتياجات والخدمات الأساسية لأهالي القطاع. وتتضمن الخطة المحاور الآتية:
أولًا: تأمين الإيواء المؤقت، ويتحقق ذلك من خلال:
1. إنشاء وحدات إقامة مؤقتة بطاقة استيعابية ملائمة.
2. إصلاح وترميم المباني المتضررة.
3. إزالة الحطام الناتج عن المباني التي دُمِّرت بالكامل.
4. هدم وإزالة المباني الآيلة للسقوط، وإزالة الحطام والركام وفتح المحاور والطرق الرئيسية وإعادة تأهيلها كليًّا أو جزئيًّا.
(30) تجمُّعًا للإيواء المؤقت من المقرر إنشاؤها
وقد تم تحديد عدد التجمعات المقرر إنشاؤها بـ (30) تجمُّعًا للإيواء المؤقت، يستوعب كل تجمع منها (25،000) نسمة، أي ما يعادل حوالي (4000) أسرة، لتصل الطاقة الاستيعابية الإجمالية المستهدفة إلى (750،000) نسمة. ويراعى في توزيع هذه التجمعات قربها النسبي من مناطق السكن الأصلية التي تعرضت للضرر، مع الوضع في الاعتبار خصوصية الجوانب الاجتماعية والثقافية، وقد تركز اختيار المواقع على أراضٍ ذات ملكية عامة شاغرة، تجنُّبًا للتعدي على الملكيات الخاصة.
ويشتمل كل تجمع للإيواء المؤقت على الآتي:
- وحدات سكن مؤقتة، حوالي (من 4000 إلى 4200 وحدة).
- مدارس ابتدائية (لاستيعاب نحو 30% من السكان) - مدارس إعدادية (لاستيعاب نحو 15% من السكان)- داخل منشآت خفيفة مؤقتة- مدرسة أو اثنتان (لاستيعاب 3% من السكان).
- مستوصفات صحية، وحدة لكل (8000 نسمة)، تشمل صيدليات.
- مركز خدمات صحية متعددة التخصصات على مستوى التجمع.
- مركز لتوزيع الإمدادات وخدمات الإغاثة، ومجمع أسواق.
- ساحات مفتوحة متعددة المستويات/ المساحات على مستوى التجمع:
المستوى الأول داخل الوحدة التجميعية الأولية (10 وحدات سكنية)، المستوى الثاني في مواقع وسيطة داخل الساحات الفرعية (240 وحدة سكنية)، وساحة رئيسية عامة على مستوى التجمع.
- مجمع صغير لخدمات الإصلاح والصيانة.
- عناصر البنية الأساسية والتحتية داخل كل تجمع، وتشمل (محطة توليد كهرباء/ وحدات طاقة شمسية/ خزانات مياه/ وحدة ضخ شبكة المياه/ وحدات لمعالجة مياه الصرف الصحي.. إلخ).
- المسجد الرئيسي للتجمع، ومساجد صغيرة ضمن كل وحدة تجميع (المستوى الثاني)، (منشآت مؤقتة).
- مركز إداري وأمني.
مواصفات الوحدات السكنية المؤقتة:
• منشأ خفيف بتصميم "تكعيبي" (يختلف عن شكل الخيمة التقليدية) ذو مسقط أفقي مستطيل، وارتفاع لا يقل عن 2.6 متر، مصنوع من مادة غشائية مرنة (Membrane) مثل البوليستر السميك المعالج أو ما شابهه، ذي الكفاءة العالية، بخصائص مقاومة للحريق وتسريب مياه الأمطار، مع عزل حراري مناسب.
• الغلاف الغشائي (الغلاف الخارجي أو السقف) يرتكز على هيكل معدني خفيف من أسطوانات الألومنيوم أو الحديد، سهل الفك والتركيب.
• المساحة التقديرية تتراوح بين (30) و(35) م²، لتناسب متوسط أسرة مكونة من 6 أفراد.
ثانيًا- إصلاح وتأهيل البنية التحتية لخدمة تجمعات الإيواء المؤقت:
يُعنى هذا المحور بتأمين الإمدادات المائية، وإنشاء نظم لتجميع الصرف الصحي، والإمداد بالطاقة الكهربائية، بما يخدم تجمعات الإيواء المؤقت على مستوى قطاع غزة.
ثالثًا- إعادة تأهيل شبكة الطرق:
ويشمل إعادة تأهيل وربط مسارات طرق تجمعات الإيواء المؤقتة بالمسار الإقليمي الرئيسي (محور صلاح الدين)، وبقية المناطق العمرانية في القطاع.
رابعًا- إدارة وتدوير الحطام على مستوى القطاع:
تهدف عملية "تدوير الحطام" إلى الاستفادة الاقتصادية من المُخلفات الإنشائية من خلال استخلاص "القيمة" منه، إما مباشرة عبر استخدامها في ردم الحفر الناتجة عن القصف، أو في تصنيع مواد بناء، مثل (الطوب المُصنع، الخرسانة... إلخ)، أو من خلال استخدامها في أعمال (ردم البحر... إلخ) لاكتساب أراضٍ جديدة مقتطعة من الساحل.
ختامًا، فإن الرؤية التي وضعتها نقابة المهندسين المصرية لإعمار قطاع غزة، بما تتضمنه من تفاصيل وتكامل بين الجوانب الفنية والاجتماعية والبيئية، تُعد خطة متكاملة وتمثل نموذجًا واقعيًّا، قادرًا على تحقيق نتائج ملموسة على الأرض، غير أنها تظل مشروطة بتوافر المتطلبات الأساسية، وعلى رأسها التمويل، وفتح المعابر، وضمان دخول المساعدات والإمدادات اللازمة لإعادة الإعمار.