رموز ملهمة بعد عشر عجاف أصابت العقل العربي
تاريخ النشر: 6th, March 2024 GMT
خاضَت العديد من الدول حروبًا، ودفعت أثمانًا باهظة لأجل مساحات جغرافيّة لا تشكّل بالضرورة موقعًا فريدًا في الجغرافيا السياسية ولا منبعًا للثروات الطبيعية، وإنْ تمتّع بعضها بتلك المزايا فالثمن البشري والمادي الذي دُفع من أجلها شكّل أحيانًا حالة استثنائية في تاريخ الصراع بين الدول، ما منحها رمزية وطنية في ذاكرة الشعوب.
فمعركة فردان بين ألمانيا وفرنسا عام 1916 استمرّت 10 أشهر، أودت بحياة نحو 700 ألف إنسان مناصفة بين الألمان والفرنسيين الذين تصدّوا للاحتلال الألماني، ومعركة ستالينغراد بين روسيا وألمانيا بين عامي 1942 و1943، راح ضحيّتها 2 مليون إنسان، لتشكّل إحدى أهم محطات صناعة التاريخ، والتغيير في مسار الحرب العالمية الثانية.
وعلى بُعْد سنة من الزمن، تابعنا تفاصيل المعارك الشرسة في مدينة باخموت الصغيرة (عدد سكانها نحو 70 ألف نسمة) في إقليم دونباس شرق أوكرانيا، بين أوكرانيا وروسيا التي احتلتها الأخيرة في مايو/ أيار 2023، بعد نزوح 90% من سكانها، وتدمير معالمها بالكامل، وسقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى بين الجانبين خلال 6 أشهر من المعارك الطاحنة.
فالصراعُ على المدينة الصغيرة والانتصارُ فيها أخذا منحًى رمزيًا في الصمود والتحدّي وإنفاذ الإرادة الوطنية بين طرفي النزاع، ومحطّة مهمّة لرفع الروح المعنوية للجيشَين المتقاتلين، بأنظمة تسليح متنافسة بين موسكو والأطلسي، على أرض محروقة لم يبقَ فيها زرع ولا مسكن ولا مصنع إلا وأتت عليه القذائف ودمّرته.
تحوّلت معركة باخموت من قيمة مادية إلى قيمة معنوية إستراتيجية لها عظيم الأثر على نفسية الجيشين المتقاتلين، وكان يُراد لها أن تكون فاتحة لما بعدها من المعارك، فبَذَل كل طرف فيها ثمنًا باهظًا على قاعدة النصر المعنوي والرمزي.
غزة والأقصى والسابع من أكتوبر: اسم وتاريخوعلى صلة بالتاريخ الغابر، وفي انعطافة تاريخية من الحرب العالمية الأولى، وبعد هزيمة الدولة العثمانية، عَمِلت بريطانيا العظمى على إنشاء دولة إسرائيل المحتلة (1917-1948)، وتولّت واشنطن رعايتها ودعمها بعد أن غابت شمس الإمبراطورية البريطانية، فكانت إسرائيل، شبيهةَ الغرب في قيمه وثقافته، وامتدادًا لحركته الاستعمارية التي اجتاحت الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه.
طوال 75 سنة، تباهت إسرائيل، بِقيَمها الحضارية الغربية وديمقراطيتها اليهودية، الناشئة على تهجير 70% من الشعب الفلسطيني، واحتلال أرضه، وتدمير نحو 500 مدينة وبلدة وقرية فلسطينية، وقد مُنحت إسرائيل حَصَانة غربية، واكتسبت رهبة وخشية في نفوس أعدائها، وصنعت من نفسها قلعة من الردع القاتل بالقوة العسكرية بعدما هزمت الدول العربية التي جابهتها في النكبة والنكسة، فتحولتا؛ أي النكبة والنكسة، إلى رمز من رموز الهزيمة والألم والاغتراب والقهر الوطني والقومي.
على حين غرّة، وفي ساعات الفجر الأولى، تلقّت إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ضربة أمنية عسكرية نوعية، وهي نائمة على عرش قوّتها، فانهارت فرقة غزّة ذات الصيت والخبرة، على أيدي ألف من المقاتلين القسّاميين، الجناح العسكري لحركة حماس، فقُتل من جنودها وضباطها العشرات، وأُسر منهم أكثر من مائة آخرين، أُخذوا من معسكرات الجيش، ومن قلب الدبابات المحصّنة، في أقل من خمس ساعات، ما شكّل صدْمة وجودية عميقة لدى قيادة الاحتلال وجمهوره.
زادت الصدمة وتعمّقت، وما زالت تُلقي بثقلها على الاحتلال وجيشه الذي أعلن الحرب على غزة وحركة حماس، وفشل في تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية المعلنة: (القضاء على حركة حماس والمقاومة، وإطلاق سراح الأسرى بالقوة، وإعادة رسم مستقبل قطاع غزة)، طوال 5 أشهر شكّلت استنزافًا معنويًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا له بمقتل نحو 590 جنديًا وضابطًا، وإصابة نحو 3 آلاف منهم، حسب إعلان الاحتلال، ناهيك عن عشرات الآلاف من المرضى النفسيين، وهجرة نحو 800 ألف إسرائيلي خلال العدوان على غزة الذي ما زال مستمرًا بلا سقف زمني.
معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تحوّلت بشكل سريع إلى جرس إنذار وجودي للاحتلال، ومبعث تفاؤل وأمل عند الفلسطينيين والشعوب العربية المُثقلة بالقهر، فلأوّل مرّة يشاهد المواطن العربي معركة انتصار كالخيال، من شبابيك الهزيمة المتّشحة بسواد العجز العربي.
تلك المعركة وما تبعها من صمود أسطوري للشعب الفلسطيني، ومقاومته التي ما زالت تستنزف الاحتلال وتتصدى له بقوّة في كافة مدن وقرى قطاع غزة – رغم آثار الحصار المستمر منذ 17 سنة، والتجويع والتعطيش، والدمار الذي طال نحو 80% من قطاع غزة، واستشهاد وجرح نحو 100 ألف فلسطيني خلال الخمسة أشهر الأخيرة من المعارك والعدوان على غزة (5% من السكان بين شهيد وجريح)، ونزوح معظم سكان قطاع غزة الذين فقدوا بيوتهم – صنعت من هذه العجينة العجيبة من البشر، وفي أعين الكثير من الشعوب، رمزًا للصمود والتحدّي؛ رمزًا لقدرة الإنسان وتغلّبه على المادة المتوحّشة، رمزًا للإرادة التي تنتصر على القوة العسكرية الطاغية، رمزًا للحرية ومقاومة الظلم والاستبداد، رمزًا للإيمان والتمسّك بالحقوق والقيم الإنسانية.
فتحوّلت الكوفية الفلسطينية في العالم، وفي واشنطن والعواصم الغربيّة، إلى رمز للحرية والنّضال الثوري، وأصبح اسم فلسطين والحرية لفلسطين قاسمًا إنسانيًا مشتركًا عابرًا للحدود، وأصبح المثلّث الأحمر المقلوب رمزًا لضرب الظلم واستهداف الاحتلال وآلته العسكرية القاهرة.
غزّة باسمها العظيم وجغرافيّتها الصغيرة وإمكاناتها المتواضعة، صنعت لنفسها موضعًا مرموقًا في تاريخ المقاومة للظلم والاحتلال والاستبداد، كما صنعت من الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول، رقمًا فارقًا في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، بنكهة الانتصار، فتحوّلت غزة والأقصى والسابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى أنموذج إنساني مقاوم، وإلى أيقونة، وإلى رمز من رموز الحرية.
غزّة والعقل العربي الباحث عن الحريّةشفافية القضية الفلسطينية، ووضوح الحق فيها إلى جانب الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال والذي انحازت له ولحقوقه السياسية والإنسانية قرابة الـ 900 قرار دولي، وانكشاف الاحتلال الإسرائيلي بأهدافه الاستعمارية الرامية للسيطرة على كل فلسطين التاريخية، وإلى تهجير من تبقى من الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وانتهاجه سياسة الأرض المحروقة في قطاع غزة، والإسراف في القتل والتدمير وسياسة العقاب الجماعي، وانتهاكه للقيم الإنسانية، وارتكابه جرائمَ حرب ضد الإنسانية إلى حد النّظَر في ارتكابه إبادةَ جماعية أمام محكمة العدل الدولية؛ وَضَع كل ذلك العالمَ أمام استحقاقات إنسانية وسياسية خطيرة.
فالمنظومة الغربية- وخاصة واشنطن، التي تتحكّم بالسياسة الدولية، وتدّعي حمايتها للقانون الدولي وقيم حقوق الإنسان- أصبحت أمام امتحان عسير وسقوط أخلاقي مدوٍ في ظل معاييرها المزدوجة، وانحيازها للاحتلال، رغم حجم الكارثة التي صنعها ويصنعها في الشعب الفلسطيني أمام أعين الكاميرات، وعبر الشاشات، وشبكة الإنترنت التي يتابعها مليارات البشر على مدار الساعة، ما يُؤْذن بسقوط شرعية المنظومة الدولية العاجزة عن وقف المجزرة والإبادة الجماعية التي ترتكب بأسلحة أميركية غربية، ويعدّ مقدّمة لتفكّك الهياكل الدولية القائمة بعد أن فشلت في حماية الإنسان والإنسانية أمام تغوّل الظلم والاستبداد.
في ذات السياق، تقف المنظومة العربية الرسمية، أمام استحقاق سياسي وطني وقومي، وديني وأخلاقي بحكم منطق الأمّة العربية التي لا تفرّق بينها إلا حدود سايكس بيكو، وأنظمة مُغتصِبة للسلطة برعاية أميركية.
فواشنطن الساعية لاستمرار هيمنتها وسيطرتها على المنطقة وجغرافيتها السياسية الفريدة – التي تتمتع بها بدءًا من البحر الأبيض المتوسّط، والبحر الأحمر، وبحر العرب، والخليج العربي، وانتهاءً بقناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز، وما تمتلكه المنطقة العربية من طاقات هائلة من النفط والغاز – نَشَرت أكثر من 60 قاعدة عسكرية في المنطقة العربية، وعملت على تأمين إسرائيل الحليف الموثوق للمنظومة الغربية ككيان متفوّق اقتصاديًا وأمنيًا وعسكريًا، وقامت بحماية أنظمة عربية متحالفة معها بصفتها راعية لها وداعمة لاستمرارها في الحكم، بمنحها الشرعية الدولية؛ تعويضًا عن شرعية شعوبها المحليّة المنقوصة.
في هذا السياق؛ غزّة والسابع من أكتوبر/تشرين الأول ومعركة "طوفان الأقصى"، وما شكّلته من رمزية مُلهمة للشعوب في نيل الحرية ومقاومة الظلم والاستبداد، تحوّلت إلى تحدٍ كبير لسياسات المثلّث المكوّن أضلاعه من الولايات المتحدة الأميركية، وإسرائيل المحتلة، وأنظمة عربية صديقة لهما، لا سيّما مع استمرار صمود الشعب الفلسطيني وقدرته على مواجهة أعتى قوّة عسكرية في الشرق الأوسط (إسرائيل)، واستنزافها في فارقة تاريخية، رغم الخلل الواضح في القوة العسكرية والمادية الهائلة لصالح إسرائيل، مقارنة بالإمكانات الضعيفة للشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال.
صمود غزة في مواجهة العدوان والاحتلال الإسرائيلي المتوحّش في العام 2008-2009، مثّل موجة من النضال الذي أعقبه انبعاث ثورات وحراكات جماهيرية غاضبة انطلقت في العام 2011، بعد أن احتجّ بوعزيزي المواطن البسيط على الظلم والاستبداد وأشعل بجسده نار الثورة في تونس، فحاكتها مصر، وامتدت إلى العديد من الدول العربية.
بعد 12 سنة من انتكاسة ما يُسمّى بثورات الربيع العربي، وعلو شأن أنظمة الدولة العميقة، أتت غزّة لتعيد نبض الحياة الثورية في عروق الشعوب العربية، بمبادرتها في الهجوم على أعتى قوة عسكرية أمنية احتلالية، وإنزالها الهزيمة بها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وصمودها الأسطوري في مواجهة احتلال فاشيّ طوال خمسة أشهر مضت لم يُبْقِ الاحتلال فيها شكلًا من أشكال الجريمة والقتل للمدنيين والأطفال إلا واستخدمها للنيل من عزيمة الشعب الفلسطيني، وصمود مقاومته التي لم يُفلح – هي الأخرى – في هزيمتها أو القضاء عليها.
الاحتلال الذي يحظى بدعم غربي ويتكئ على صمت الرسمية العربية وعجزها وخذلانها الفلسطينيين، حرّكت جرائمه وبشاعة مجازره شعوب العالم من اليابان إلى كندا، ودفعت الطيار الأميركي آرون بوشنل إلى إشعال النار في جسده أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن؛ احتجاجًا على المجازر ورفضًا للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل المحتلة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بدعم مباشر ومفتوح من إدارة الرئيس بايدن، واعتراضًا منه على قتل الإنسان ظلمًا بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه، ما يعيد الذاكرة إلى حادثة بوعزيزي التونسي الذي أشعل بجسده نار الثورة قبل عقد من الزمن اعتراضًا على الظلم والاستبداد، في مقاربة جمعت بين رفض الاحتلال ورفض الاستبداد.
تتقدّم الرمزيات والنماذج لتكون وقودًا ملهمًا للشعوب وحراكها؛ طلبًا لإنسانية الإنسان وحريّته وكرامته.
وإذا كانت الأنظمة المستبدّة والاحتلال يتقاربون في سياساتهم لتقويض تلك الرمزيات ولإفشال تلك النماذج، لئلّا تكون تجارب ناجحة تُحاكيها الشعوب في مواجهتها الظلم والاستبداد، فإن غزّة والأقصى والسابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاها من صمود أسطوري في مواجهة الاحتلال، تجاوزت برمزيتها حدود الاغتيال المعنوي في العقل العربي، لأنها أصبحت فكرة ناضجة المعالم، معبّرة عن مكنونات النفس العربية التوّاقة إلى الحرية بطعم النصر المفقود.
فالشعوب لن تخطئ في قراءتها لما يجري في فلسطين كشكل من أشكال الثورة والتمرّد الناجح على الاحتلال والظلم والاستبداد، رغم حجم الضريبة الباهظة والكارثة الإنسانية اللتين صنعهما ويصنعهما الاحتلال منذ نشأته.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات من أکتوبر تشرین الأول الشعب الفلسطینی ة العربیة ت إسرائیل ة العربی قطاع غزة ة عسکریة
إقرأ أيضاً:
الديمقراطية العربية التي يجب أن نبني
عندما نتساءل أي مستقبل للعرب، لنقل من هنا لمنتصف القرن، يتبادر للذهن ثلاثة سيناريوهات كبرى:
الأول: تواصل الاستبداد – أكان علمانيًا أم دينيًا- بتشبِيبه وتأقلمه واستعماله المحكم تقنيات التضليل والمراقبة، مما يعني تواصل الوضع الكارثيّ للشعوب والدول. الثاني: صراع مُتزايد الحدّة والوتيرة بين الثورات والثورات المضادّة، مما ستنتج عنه حالة من الفوضى قد تصل لمصافّ الانتحار الجماعي للمجتمع والدولة (السودان والصومال إنذارًا). الثالث: نجاح المشروع الديمقراطي في التمكن والبقاء والتطور.لقائل أن يقول أين الإسلام السياسي في هذه السيناريوهات التي تلغي وجوده، والحال أنه اليوم المنتصر في سوريا، المقاوم في غزة، والمستعدّ للعودة في أكثر من بلد بعد الفشل المخزي للثّورات المضادّة؟
قناعتي أن تيارًا منه سيعود لجولة استبدادية عبثية جديدة؛ لأنه سيواجه بمقاومة المكوّن الثابت الآخر للمجتمع؛ أي المكون العلماني، وأن تيارًا آخرَ سينخرط في المشروع الديمقراطي ليثريه وينعشه بالقيم المتجذرّة في ثقافة المجتمع. مما يعني أننا لن نخرج، حتى بإقحام الإسلام السياسي، من السيناريوهات الثلاثة.
أي من هذه السيناريوهات سيتحقق؟رغم استحالة التنبّؤ، هناك احتمالات محدودة قد تكون هي مصيرنا. يمكن أن تتجاور داخل الفضاء العربي – بغض النظر عن الحدود- مناطقُ يحكمها الاستبداد، ومناطق سيدتها الفوضى المدمرة، أو مناطق فوضى، ومناطق تحكمها ديمقراطية متفاوتة النجاح، أو واحات ديمقراطية بجانب قلاع استبدادية، أو مناطق فوضى فظيعة بجانب مناطق فوضى أفظع.
إعلانما علّمنا التاريخ، هو أن المستقبل قلّما يتمخّض عما نأمل، أو عما نخشى، والعادة أنه يتمخّض عما يفاجئنا ولم نتوقعه لحظة.
لكن الثابت أنه لا شيءَ مقدرًا أو مكتوبًا، فانتصار الديمقراطية -ونهاية التاريخ حسب فوكو ياما- ليس أكثر حتمية من انتصار الشيوعية، كما كانت قناعة الماركسيين في القرن العشرين. وفي نفس الوقت لا شيء يمنع من هذا الانتصار.
السؤال هو: لماذا يجب أن نتشبّث بهذا الخيار رغم ما يعاني في عالَمنا المعاصر من أزمات، وما شروط ثباته ثبات البذرة الطيبة في أرض قاحلة وجفاف مخيف؟
لنبدأ بالتأكد من وجود تصوّر جامع للديمقراطيين العرب، إذ كيف نناضل من أجل شيء مبهم أو غير متّفق على أبجدياته.
للبتّ في فهم مشترك للديمقراطية، عقد المجلس العربي مؤتمرًا في سراييفو في أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2024، ناقشَ فيه أكثر من مئة من السياسيين والمثقّفين والإعلاميين من مختلف الأجيال، ورقةً تحضيريةً أعدتها قيادة المجلس، وانتهوا بعد ثلاثة أيام بالاتفاق على تصوُّر ضُمّن في وثيقة سُمّيت العهد الديمقراطي العربي (موجودة على موقع المجلس).
إنها الوثيقة التأسيسية لشبكة الديمقراطيين العرب، وخارطة الطريق لنضالات الأجيال المقبلة، وتبدأ بالعودة إلى أهمّ سؤال: لماذا الإصرار على الديمقراطية وهي اليوم كاليتيم على مأدبة اللئام؟
تُختزل الديمقراطية عند أغلب الناس في الحريات الفردية والحريات العامة والقضاء المستقل والانتخابات الحرة والنزيهة. لكن هذه وسائل وآليات الديمقراطية وليست لبّها وهدفها.
أحسن مدخل لفهم هدفها هو تصوّر غيابها المطلق، كما هو الحال في أقسى الدكتاتوريات: النظام السوري الأسدي نموذجًا.
الظاهرة الأساسية في كل مجتمع منكوب بمثل هذا النظام: خوف المجتمع من الدولة، وخوف الدولة من المجتمع.
إنه خوف المحكومين من الحيطان التي لها آذان، من زوّار الفجر، من مراكز الشرطة، من غرف التعذيب، من السجون والمنافي.
إعلانإنه خوف الحكام من المؤامرات الصامتة، من الثورات الصاخبة، من اكتشاف فضائحهم وجرائمهم ربما الخوف الأكبر اكتشاف أنهم ليسوا أشخاصًا استثنائيين كما يدعون، وإنما أشخاص عاديون وأحيانًا حتى أقل من العاديين.
هذا الخوف العام هو أبرز مظاهر الحرب الصامتة والمتفجرة دوريًا بين الدولة والمجتمع في شكل انقلابات وثورات.
أما السبب الأول، فمصادرة شخص أو عصابة، مدنية أو عسكرية، طائفية أو أيديولوجية، الثروةَ والسلطة والاعتبار، بالعنف والإذلال والحكم على الأغلبية بالعيش على فتات هذه الثلاثية في ظلّ الخوف والمذلّة.
لهذا يقول العهد الديمقراطي:
"الديمقراطية ليست فقط نظام حكم، بل هي عملية تحرير شاملة من الخوف والإذلال الجماعي".
إن عبقرية الديمقراطية في قدرتها على تحرير الحاكم من ضرورة التخويف والإذلال للبقاء في الحكم وحتى على قيد الحياة.
هي أيضًا في تحرير المحكوم من ضرورة الخنوع للخوف والمذلة لمواصلة العيش التعيس.
لا يحدث هذا بإلغاء سبب الحرب الأهلية الصامتة، حيث لا قدرة لأحد بين عشية وضحاها على توزيع عادل للثروة والسلطة والاعتبار، وإنما بقدرة الديمقراطية على نقل الصراع من العنف الجسدي إلى العنف الرمزي.
هكذا تنظم آلياتُها الأربع المعروفة الصراع السلمي بين جيوش رمزية هي الأحزاب السياسية والسلاح هو الكلمات لا اللكمات. تأتي الانتخابات الحرة والنزيهة للتداول السلمي على السلطة كمعركة تفصل مرحليًا بين المتنازعين فيعلَن منتصرًا من صفف أكبر عدد ممكن من الجنود على ساحة المعركة.
بعد إعلان الفوز يُتوج الفائز الجديد وينصرف القديم إلى بيته محافظًا على رأسه. لا يبقى على المهزومين إلا قبول وضع يعرفونه مؤقتًا؛ لأن اللعب مفتوح، وثمة دومًا أمل بالانتصار في المعركة السلمية المقبلة.
من أحوج منا -نحن العرب- لمثل هذا النظام لكي ننتهي من الصراع الدموي على السلطة الذي نعاني منه منذ معركة الجمل، حتى يعيش الحكام بلا خوف من المحكومين، والمحكومون بلا خوف من الحكام، حتى ننهي حربًا أزلية بين دولة قامعة ومجتمع مقموع، لا انتصار فيها إلا وكان عابرًا باهظ الثمن للجميع؟
إعلانلقائل أن يقول: بهذا المفهوم كل المجتمعات بحاجة لنَفَس الديمقراطية كما هي بحاجة لنفس الهواء النقي والغذاء الكافي، فما الداعي لإضافة "العربي" لتوصيف العهد؟ هل للتعريف الجغرافي أم لإفراغ المصطلح من فحواه، كما حدث من قبل بتسميات من نوع: ديمقراطية اشتراكية، وديمقراطية مسؤولة، وديمقراطية شعبية؟
لا هذا ولا ذاك. نحن – العرب- بحاجة ككل الشعوب للديمقراطية، لكن لنا فيها بحكم وضعنا الكارثي أربعة مآرب أخرى، هي أيضًا الشروط الأساسية لنجاحها وبقائها.
لماذا ديمقراطية اجتماعية؟كان ولا يزال مدخل الانقلابيين والشعبويين للإطاحة بكل الأنظمة الديمقراطية الجنينية، هو السخرية من الحريات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والوعد بتحقيق الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. النتيجة – كما جرّبنا على امتداد سبعين سنة في أكثر من بلد- هي مصادرة الحرية دون تحقيق العدالة، أكانت سياسية أم اجتماعية.
هكذا تعلمنا من تجربة المعارضة والحكم، أن ديمقراطية لا تحمل في طياتها التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، هي مجرد فاصل بين جولتين استبداديتين.
لذلك يقول العهد الديمقراطي: "نحن ندرك من خلال التجربة في أكثر من بلد عربي أن الديمقراطية التي تركز فقط على شكل النظام السياسي، والمهووسة بفكرة الحرية، كما تروّج لها الأنظمة الليبرالية الغربية، لا حظوظ لها في ربح معركة العقول والقلوب في منطقتنا.
أولوية الأولويات بالنسبة لنا، هي الخروج من الفقر، والتصدي للفساد، وبناء التنمية المستدامة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الجماعية".
لماذا ديمقراطية اتحادية؟إن الأزمة السياسية الخانقة في بلداننا، ليست فقط أزمة النظام السياسي وإنما أزمة الدولة القُطرية، فباستثناء أربع دول بترولية، لا قدرة لثماني عشرة دولة عربية أخرى على تلبية الحاجيات الاقتصادية لأغلبية سكانها، حتى ولو حكمتها أحسن الأنظمة وأقلها فسادًا.
إعلانهذا ما فهمه باكرًا الوحدويون والقوميون العرب، لكن ما لم يفهموه أن النظم الاستبدادية التي يقدّسون لا تتّحد، والدليل صراع البعثيين الذين حكموا سوريا، والعراق في سبعينيات القرن الماضي.
النموذج المعاكس هو قدرة الأوروبيين على بناء الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الدكتاتوريات الشيوعية والنازية والفاشية، وحكم فرانكو في إسبانيا. لهذا يقول العهد :"نحن أمة عظيمة، فخورة بتاريخها وهويتها وحضارتها العريقة ومساهمتها في تاريخ البشرية.
لكننا اليوم نشهد في عجز تام التنكيل بالشعب الفلسطيني، أشجع شعوبنا، نتيجة تفرّق الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة ضعيفة، تابعة، ومتناحرة، عاجزة عن التعاون حتى في أبسط المجالات، فما بالك بتشكيل وحدة صلبة تستطيع حماية الأمن القومي للأمة أو لشعب من شعوبها.
هذا العجز سببه طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تتحد فيما بينها أبدًا، بل تتنازع على النفوذ. لذا نرى أن الديمقراطية، كما أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي، هي السبيل الوحيد لبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة، القادر وحدَه على الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة".
لماذا ديمقراطية سيادية؟المستبدون في العالم العربي تبّع، يدينون ببقائهم في السلطة لتبعيتهم لهذه الدولة الخارجية، أو تلك، ومنها دول غير غربية مثل إيران، أو روسيا، وإسرائيل.
الديمقراطية، إذن، ليست الضمان الأكبر لتمتُّعنا بالحريات الفردية والجماعية فقط، وإنما أيضًا بالاستقلال الوطني الذي أصبح في ظل تبعية الاستبداد مجرد شعار أفرغ من كل مضمون.
لهذا يقول العهد الديمقراطي: "نرى في الديمقراطية، ليس فقط وسيلة للتحرّر من الاستعمار الداخلي الذي هو الاستبداد، بل امتدادًا لمعارك الاستقلال الأول التي خاضها آباؤنا وأجدادنا. هدفنا هو تحقيق السيادة الحقيقية، وقطع كل أشكال التبعية المهينة، حيث إن الاستبداد ليس إلا وكيلًا ووريثًا للاستعمار".
إعلان لماذا ديمقراطية مواطنية؟لأنها الشرط الضروري للعيش المشترك في مجتمع سليم وفعّال. هذه المواطنية التي يجب أن تفرضها الدولة الديمقراطية وتتعهدها عادات وتقاليد وثقافة المجتمع، هي في نفس الوقت حق وواجب.
أما الحق فهو مساواة كل أفراد المجتمع أمام القانون فلا فضل لرجل على امرأة، لغني على فقير، لطائفة على طائفة… إلخ، في التمتُّع بكل الحقوق التي ضمنها الإعلان العالمي، وأساسًا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. أما الواجب فضرورة اضطلاع تلقائي حرّ لكل الأفراد بمسؤولياتهم تجاه الآخرين.
هكذا يمكن أن نعرّف المواطنية بأنها المواقف والتصرفات لأشخاص أحرار يتمتعون بكل حقوقهم، لا يتخلون عن أي منها مهما سُلط عليهم من قمع، ويضطلعون بمسؤولياتهم تلقائيًا دون أدنى إكراه.
مجمل القول:
أن تكون اليوم مواطنيًا أي وريثًا عنيدًا لحُلم الحقوقيين بمجتمع كل أفراده يتمتعون بنفس الحقوق ويضطلعون بنفس الواجبات، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
أن تكون تقدميًا اشتراكيًا، وريثًا عنيدًا لحُلم العدالة الاجتماعية، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
أن تكون سياديًا استقلاليًا، وريثًا عنيدًا لحُلم الآباء والأجداد بدولة غير مستعمرة غير تابعة، غير "محمية"، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
أن تكون عروبيًا وحدويًا وريثًا عنيدًا لحُلم أمة عربية واحدة ذات رسالة إنسانية خالدة، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
خلاصة الخلاصة: لا أمل لهذه الأمة في مستقبل واعد إلا إن استطاعت بناء ثلاثية العهد الديمقراطي العربي: دول قانون ومؤسسات، شعوب من المواطنين، اتحاد شعوب حرة ودول مستقلة، والأداة الوحيدة القادرة على تحقيق المشروع العظيم: (ديمقراطية اجتماعية، اتحادية، سيادية، مواطنية).
إعلانلقائل أن يقول: مشروع جميل لكن ما حظوظه من التحقيق، خاصة في ظل انحسار الديمقراطية في العالم والتهاب الشعبوية في كل مكان، ومتانة الأنظمة الاستبدادية التي قد تشكل الثورة التكنولوجية طوق نجاتها بما توفر من إمكانات غير مسبوقة للتحكم في العقول وفي الأجساد؟
هذا ما يحملنا للتحول من مستوى التنظير إلى المستوى العملي.
لكي ينجح أي مشروع سياسي عظيم، لا بدّ من قوى اجتماعية وازنة تجد فيه ضالتها ومن مناضلين صادقين يجاهدون طوال حياتهم لفرضه وسياسيين حكيمين يفعلون كل ما في وسعهم لتعهده وحمايته.
أين نحن من هذه الشروط الموضوعية التي قد تعطي للديمقراطية العربية -كما حددها العهد- بعضَ حظوظ الفوز في سباقها مع الاستبداد المخيف والفوضى المرعبة؟
وللحديث بقية
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline