منذ أربعين عاما وأنا أمارس المحاماة، أحببتها وشربت من كأسها، أرهقتني وأتعبت قلبي ولكنها كانت معشوقتي، ولقد عشقتها وأنا بعد صغير حينما قرأت كتاب “المحاماة فن رفيع” للمحامي والأديب شوكت التوني، ثم جذبني إليها العظماء الذين وضعوها في موضع “الرسالات” فقد كانت المحاماة هي مهنة “سيسرون” أفصح فصحاء روما، والمهاتما غاندي، وإبراهام لنكولون، وفرنسوا لاكارد، وبيرييه، وروبسبير، ودانتون، وجاك فرجاس، وسعد زغلول، والهلباوي، ومرقص فهمي، وعبد الكريم رؤوف، ومصطفى النحاس، ومصطفى مرعي، ومكرم عبيد، وشوكت التوني، وأحمد الخواجة، هى مهنة الرؤساء والأدباء والشعراء والفنانين، هى الفن والعلم والموهبة والنجدة والمروءة، هى الشجاعة والإقدام.

ولكن ما هى الصورة التي يتخيلها الناس عن المحامي؟ في أزمنة سابقة كان المحامي له قيمته في عيون الناس، وما ذلك إلا لأنه كانت له قيمته في عين نفسه، فكنت تراه أديبا، وفيلسوفا، ولغويا، وفقيها، وخطيبا مفوها، وسياسيا حصيفا، وبصفة عامة كان يأخذ من كل علمٍ سببا، لذلك كانت المحاماة تتربع على القمة، فما قيمة المحاماة مهما كان رونقها؟ ما قيمة المحاماة إلا من قيمة المحامين، وعندما هان المحامون في معارفهم هانت المحاماة في عيون الناس، فأصبح معظمنا يراه ظالما، يُعين الظالم على ظلمه، آكلا للحقوق، يستغل ثغرات القانون ليحصل على البراءة لموكله المجرم، وقد بدأ هذا التصور يظهر في الدراما المصرية منذ الستينيات حيث كنت تجد قلة من الأفلام التي ظهر فيها المحامي بصورة فاسدة أو كارتونية، مثل ذلك المحامي الفاشل في فيلم (30 يوم في السجن)، ولكن تلك الصورة المهتزة لم تكن تظهر إلا في الأفلام الكوميدية التي تبحث عن الضحك ليس إلا.

ثم ظهرت في أوائل الثمانينات شخصية المحامي حسن سبانخ في فيم (الأفوكاتو)، وقد أداها الفنان عادل إمام بشكل هزلي، ويبدو أن المؤلف الذي كتب هذا الفيلم ورسم شخصية هذا المحامي لم يكن لديه أي قدر من المعرفة بالنظام القضائي المصري، لذلك كانت شخصية المحامي حتى في صورتها الكوميدية ليس فيها أي ملمح من ملامح المحامي الحقيقي، سواء كان محاميا ضعيفا أو متمكنا، وقد تحجج بعضهم بأن هذا الفيلم كوميدي، ولذلك فإن رسم الشخصيات قد يكون بينه وبين الحقيقة مسافة كبيرة لأن الهدف هو الإضحاك والسخرية من نظام العدالة، ولكن هذا غير صحيح، فحينما قامت فاتن حمامة بأداء شخصية المحامية في فيلم (الأستاذة فاطمة) كانت تؤدي دورها كمحامية بشكل كوميدي في بعض الأحيان ولكنه أقرب إلى الواقع بلا ابتذال ولا إسفاف.

وسأترك هذا الركام من الجهالة الدرامية التي لحقت بالمحاماة حينا من الدهر، ولن أتحدث عن أن معظم كتاب الدراما لم يكونوا على دراية بطبيعة النظام القضائي في مصر، أو طرق المرافعات، أو طريقة القضاة والمحامين في توجيه الأسئلة للشهود، حتى أنني كتبت ذات مرة أن الأنظمة القضائية في العالم هى: نظام القضاء الأنجلو سكسوني، وهو المتبع في أمريكا وإنجلترا وعدد كبير من دول العالم، والنظام الروماني اللاتيني المتبع في فرنسا ومصر وعدد كبير من دول العالم، ثم النظام القضائي الدرامي المتبع في السينما والمسلسلات المصرية، وهذا النظام القضائي الدرامي لا مثيل له في أي أنظمة في العالم، ولا علاقة له أيضا بأي نظام قضائي آخر، إذ هو في الغالب تشكيلة خيالية كتبها بعض المؤلفين قديما وهم يجهلون ما القضاء وما المحاماة، فاتبعهم باقي كتاب الدراما بعد ذلك بلا أي تعمق أو فهم.

نعم كانت كثيرٌ من الأخطاء الساذجة الخاصة بشخصية المحامي المترافع تُرتكب في السينما المصرية القديمة، إلا أن ذلك كان لدواعي الحبكة الدرامية، أو التشويق، ولم تكن المسافات تبتعد كثيرا عن الواقع الحقيقي وقتئذ، ولكن من خلال تاريخ السينما والمسلسلات التلفزيونية لم يبرع في أداء شخصية المحامي الفذ المبدع على وجهه الحقيقي إلا المحامي (عادل بك) في فيلم (هذا جناه أبي) والذي أداه أستاذ الأستاذة زكي رستم، والعمل الآخر هو (أوبرا عايدة) والذي أدى فيه دور المحامي الفنان الكبير يحي الفخراني.

دور المحامي عادل بك الذي أدى دوره باقتدار الفنان العبقري زكي رستم عليه رحمة الله كان علامة من علامات الفن، وقدم لنا قيمة من قيم المحاماة، وكان مما عرفته في بداية حياتي المهنية أن عددا من كبار المحامين في مصر شاهد هذا الفيلم في حفل الافتتاح، وكان منهم (محمود بك فهمي جندية) نقيب المحامين وقتئذ، ومكرم عبيد باشا، وكلاهما تم دعوته من الفنان زكي رستم بسبب أنه استشار مكرم عبيد في أداء شخصية المحامي، كما أن صلات قوية كانت تربطه ونقيب المحامين (فهمي جندية بك).

وكان هناك أحد تلاميذ المدارس الثانوية يحضر أيضا ذات الحفل، ويجلس في مقعده يشاهد المحامي “زكي رستم”، ويراقب كبار المحامين الجالسين في البنوار في صالة السينما، ووصل بهذا التلميذ الانفعال حد البكاء وهو يشاهد المرافعة الختامية للمحامي، وقد كان هذا الفيلم، مع شخصية زكي رستم الذي أدى دور المحامي هي السبب الرئيسي الذي غيَّر فيه هذا التلميذ طموحاته، فالتحق بكلية الحقوق، ثم أصبح في مستقبل الأيام أحمد الخواجة نقيب المحامين، وأحد أكبر المحامين في مصر والعالم العربي، وقد روى لي النقيب أحمد الخواجة تلك القصة وأنا في بداية حياتي المهنية، ناصحا إياي أن أشاهد زكي رستم وهو يترافع كي اتعلم أصول المرافعة على حق، وقال: بعد أن انتهى زكي رستم من مرافعته ضجت قاعة السينما بالتصفيق، وقام مكرم عبيد باشا يصفق بحرارة، فكتب محمد التابعي في مجلة آخر ساعة عنوانا براقا هو: الباشا يصفق للباشا.

وحينما شاهدت هذا الفيلم غابت عني شخصية زكي رستم تماما، ولم أر إلا المحامي عادل بك، رأيته وهو في قمة الحقارة والدناءة، ثم رأيته وهو في قمة الرجولة والكرامة والشرف، رأيته وقد اعتدى على فتاة وهو في مقتبل حياته، وكانت ثمرة هذا الاعتداء بنت، فتهرَّب من نسبها بكل خسة، فماتت الفتاة بحسرتها وتركت ابنتها يُربيها من أهل الخير امرأة طيبة، ورجل كريم، وتكبر الابنة، وتتكرر القصة معها، فيعتدي عليها شاب أخرق، وتحمل الفتاة المسكينة من جرَّاء هذا الاعتداء جنينا في بطنها، فيتهرب الشاب الأخرق، فلم يكن أمامها إلا أن ترفع دعوى أمام القضاء الشرعي بإثبات النسب، ولا يكون أمام والد الشاب الأخرق إلا أن يلجأ لأحد أكبر المحامين في مصر لكي يوكله من أجل المرافعة عن ابنه، وكان هذا المحامي هو عادل بك “زكي رستم”!!.

ولك أن تشاهد عادل بك لكي تعرف كيف يترافع المحامي، وإذا كان التاريخ يذكر أن إبراهيم الهلباوي كان هو أبرع المحامين المترافعين في تاريخ مصر الحديث، فإن أداء زكي رستم كان يتفوق عليه، إذ لا أظن أن أحدا بلغ هذا المبلغ من قوة الحجة، ونصاعة البيان، والقدرة على التأثير، نعم انهال المحامي عادل بك على الفتة المسكينة، وكال لها الاتهامات، وأفقدها كل تعاطف وهي تقف مغلوبة على أمرها، وأعترِف لكم أنني كرهت هذا المحامي كراهية كبيرة، ثم كرهت زكي رستم نفسه، ولكن المعجز في الأمر أن هذا المحامي اكتشف الحقيقة، وعرف أن تلك الفتاة المسكينة هى ابنته التي لم يرها من قبل، وحينها تنحى عن القضية، ثم إذا به يقف أمام المحكمة ليترافع مرافعة تاريخية، فيُدين نفسه، ويدافع عن تلك الفتاة المسكينة وهو يرجوها أن تصفح عنه، ويصف نفسه بالحقارة والخسة، كل ذلك بأداء مبهر يعجز بياني عن وصفه، أو توصيف قدرته على التأثير، فهو ينفعل في موضع الانفعال، فيعلو صوته بحرفية شديدة بحيث لا تمجه الآذان، ويهدأ وهو يأسى على ما فات، ثم يغالب دموعا كادت أن تنسال من عينيه، وربي إن هذه المرافعة من أروع المرافعات على قِصر وقتها، ولكنني لا أستطيع أن أقول إلا إن الذي أداها كان محاميا بالفعل، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصل ضبط المرافعة إلى هذا الحد من الإتقان، إلا من خلال نص رفيع صاغ مرافعة بليغة، أعطت للفنان مساحة كاملة لكي يبدع، ويقيني أن مشهد المرافعة الأخيرة هو من أعلى المشاهد التي قدمها زكي رستم في حياته، كما أن ضبط العمل من الناحية القانونية، كان له الدور الأكبر في تلك البراعة، إذ أن مؤلف هذا الفيلم هو الأديب يوسف جوهر الذي تخرج من كلية الحقوق وعمل في المحاماة لفترة في بداية حياته.

هذه هى المحاماة الحقيقية التي غابت عن حياتنا العملية فغابت عن حياتنا الفنية، جهلها كتاب الدراما والمخرجون والفنانون، فقدموها بشكل هزلي حتى ولو كانت الأدوار جادة، وما أسخف أن نقدم للناس الفن الجاد في صورة هزلية ممسوخة لا حياة فيها، وما أتفه أن نقدم الفن الساخر الكوميدي في صورة مشوهة.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: المحاماة مهنة المحاماة ثروت الخرباوي هذا المحامی المحامین فی هذا الفیلم زکی رستم فی مصر

إقرأ أيضاً:

16 مفقودا و12 جنسية وتفتيش في مارس.. تفاصيل غرق قارب سياحي في مصر

تواصلت طوال ساعات، الاثنين، عمليات البحث عن 16 مفقودا بحادث غرق المركب السياحي "سي ستوري" جنوب مدينة مرسى علم المصرية، على ساحل البحر الأحمر، فيما تم الإعلان عن إنقاذ 28 شخصاً آخرين كانوا على متن القارب.

ووقع الحادث على بعد 46 ميل بحري من شاطئ مرسى علم، بحسب ما أفاد مراسل "الحرة"، علما بأن المركب يمتلكها مصري الجنسية، وطولها 34 مترا وعرضها 9.5 متر، وإجمالي عدد الركاب الذين كانوا على متنها 44 راكبا ( 13 مصري و31 من جنسيات مختلفة (أميركية، ألمانية، بريطانية، بولندية، بلجيكية، سويسرية، فنلندية، صينية، سلوفاكية، إسبانية، وإيرلندية).

البحث جار بفرقاطة وطائرات.. 17 مفقودا بغرق قارب سياحي في مصر أعلن محافظ البحر الأحمر، عمرو حنفي، الاثنين، العثور على بعض الناجين من حادث غرق القارب السياحي "سي ستوري" في منطقة الغدير بوادي الجمال جنوب مرسى علم، مؤكدا استمرار عمليات البحث المكثفة بالتنسيق مع القوات البحرية والقوات المسلحة.

وتم آخر تفتيش من السلامة البحرية للمركب في مارس الماضي، حين حصل على شهادة صلاحية لمدة عام، ولا توجد أي ملاحظات أو عيوب فنية فيما يتعلق بالمركب.

واستمرت، بحسب محافظ البحر الأحمر، عمرو حنفي، عمليات التحقيق من قبل الجهات المعنية مع طاقم المركب لمعرفة أسباب الحادث.

وقال حنفي إنه تم إنقاذ 28 راكبا بواسطة جهود القوات البحرية، كما تمكن مركب سياحي تصادف وجوده بالقرب من الموقع وقت الحادث في إنقاذ آخرين.

وتواصل الجهات المعنية المختلفة بالتنسيق والتعاون مع القوات المسلحة ورجال القوات البحرية البحث عن 16 آخرين (4 مصريين و12 أجنبيا).

والسبب المبدئي للحادث، وفقاً لروايات الأجانب والطاقم المصري، هو موجة ضخمة، صدمت المركب مما أدى لانقلابه، فيما كان بعض الركاب داخل الكبائن مما منعهم من الخروج بسرعة.

البحث مازال جاريا عن المفقودين

وأوضح حنفي مواصلة التنسيق والتواصل مع كافة السفارات والقنصليات والجهات المعنية، لتقديم كافة التسهيلات ولاستخراج كافة الأوراق المطلوبة للركاب، مشدداً على أن فرق الإنقاذ تعمل على مدار الساعة لضمان سرعة إنجاز المهام.

يذكر أنه، ورد بلاغ إلى مركز السيطرة بمحافظة البحر الأحمر في الساعة 5:30 صباحاً بالتوقيت المحلي من غرفة عمليات النجدة، يفيد بتلقي إشارة استغاثة من أحد افراد المركب، الذي كان في رحلة غطس انطلقت من ميناء بورتو غالب بمرسى علم في الفترة من 24 وحتى 29 نوفمبر الجاري، وكان من المقرر عودته إلى "مارينا الغردقة".

مقالات مشابهة

  • المحامي سيمو: استعمال المشرع لأول مرة مصطلح "الاعتداء المادي" لشرعنة الاعتداء على عقارات المواطنين يشبه تداول العامة لعبارة "التشرميل"
  • 16 مفقودا و12 جنسية وتفتيش في مارس.. تفاصيل غرق قارب سياحي في مصر
  • 16 مفقودا و12 مفقودا وتفتيش في مارس.. تفاصيل غرق قارب سياحي في مصر
  • اتحاد الدواجن: تراجع أسعار الفراخ في الأسواق بنسبة 30%.. فيديو
  • والدة الاستاذ المحامي بشر الخطيب في ذمة الله
  • مجلس الدولة يعفي المركزي للمحاسبات من سداد أتعاب المحاماة مقدما
  • مجلس الدولة يعفي «المركزي للمحاسبات» من سداد أتعاب المحاماة مقدما
  • الدكتور سلطان القاسمي يكتب: القذيفة القاتلة
  • أيام معدودات.. موعد شهر رمضان المبارك 2025
  • محمد ثروت يرثي الملحن محمد رحيم بكلمات مؤثرة: «هتفضل في قلوبنا»