على نحوٍ اعتبر مراقبون أنه "يتقاطع مع النزعة القومية التي عُرفت بها ولاية الجزيرة بوسط السودان"، تصاعدت مؤخرا دعوات بصورة مكثفة إلى "ضرورة تكوين قوة عسكرية شعبية، تعمل على طرد قوات الدعم السريع، ثم تخطط لحكم الولاية ذاتيا".

وبسطت قوات الدعم السريع سيطرتها على مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، في 18 ديسمبر الماضي، بعد انسحاب الجيش من المدينة التي تقع على مسافة 180 كلم جنوب الخرطوم، قبل أن تتمدد في معظم مدن وقرى الولاية.

وأصدر قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، قرارا بتكليف القائد الميداني بالدعم السريع، أبو عاقلة كيكل، الذي ينتمي إلى ولاية الجزيرة، حاكما على الولاية، بعد أن كانت تدار بحكومة داعمة للجيش السوداني.

وكون الجيش السوداني، في 19 ديسمبر الماضي، لجنة للتحقيق في ملابسات وأسباب انسحاب قواته من مدينة ود مدني، لكنه لم يعلن نتائج التحقيق حتى الآن.

انتهاكات وتعديات

أفرز دخول قوات الدعم السريع إلى ولاية الجزيرة، موجة من الانتهاكات طالت عددا من المدن والقرى، وأجبرت النازحين الذين وفدوا إلى الولاية من الخرطوم، للنزوح مجددا إلى ولايات أخرى، بحسب لجنة محامي الطوارئ السودانية.

وعلقت وكالات الأمم المتحدة والمجموعات الإنسانية الرئيسية، عملها في مدينة ود مدني الاستراتيجية، التي كانت ملاذاً لمئات الآلاف من النازحين، إذ نزح إليها نصف مليون شخص وفق أرقام الأمم المتحدة.

ويرى عضو غرفة الطوارئ في مدينة الحصاحيصا، منذر عثمان، أن "معظم مواطني ولاية الجزيرة يشعرون أن الجيش السوداني تركهم يواجهون مصيرا قاسيا، ولم يعمل على طرد مليشيا الدعم السريع التي ارتكبت عمليات نهب وسلب وقتل في عدد من مناطق الولاية".

وقال عثمان في اتصال هاتفي مع موقع الحرة، عبر خدمة "ستار لينك" من مدينة المناقل، إن "معظم قرى ولاية الجزيرة تعرضت للنهب والانتهاكات بواسطة الدعم السريع، مما أضطر غالبية المواطنين إلى النزوح إلى مدينة المناقل".

ويسيطر الجيش على مدينة المناقل الواقعة جنوب غرب مدينة ومدني. وتحولت المدينة إلى وجهة جديدة لآلاف النازحين من جحيم الحرب، بحسب لجنة محامي الطوارئ.

وتابع عثمان "أنا مثل غيري، وصلت إلى المناقل هربا من انتهاكات مليشيا الدعم السريع. وحينما نذهب إلى قيادة الجيش في المدينة ونطلب منهم التحرك لمواجهة المليشيا، يقولون إنه لم تصلهم توجيهات من قادتهم بالقتال".

وأضاف "ربما لذلك تصاعدت الدعوات بضرورة تكوين قوة شعبية لمواجهة مليشيا الدعم السريع وطردها من الولاية".

وبحسب مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، فر ما لا يقل عن 250 ألف شخص مؤخرا من ولاية الجزيرة وعاصمتها.

وأعلن المرصد المركزي لحقوق الإنسان، في السودان، أن "قوات الدعم السريع اجتاحت 53 قرية في ولاية الجزيرة، مما أدى لمقتل 46 من المدنيين، وإصابة أكثر من 90 آخرين، ونهب مئات الممتلكات والسيارات، تزامنا مع استمرار انقطاع الاتصالات عن الولاية لنحو شهر".

حملات إعلامية

ونشر ناشطون في منصات التواصل الشبكي، دعوات "لتكوين قوات درع الجزيرة"، وحثوا أبناء الولاية العاملين في خارج السودان "للمساعدة في توفير الدعم المالي، للعمل على طرد مليشيا الدعم السريع من الولاية".

وبرأي محمد الزين، وهو أحد مواطني المناقل، فإن "عمليات تكوين درع الجزيرة بدأت فعليا، مشيرا إلى أنه "جرى تشكيل كتيبة باسم الزبير بن العوام، برعاية زعيم قبيلة الكواهلة، لمواجهة مليشيا الدعم السريع، ولتحديد مصير الولاية في المستقبل، سواء بالحكم الذاتي أو حتى الانفصال".

وقال الزين لموقع الحرة، إن "هناك حالة من الغبن وسط مواطني الجزيرة، بعد أن تصاعدت انتهاكات المليشيا، تجاه المواطنين العزل الذين لا يملكون أي سلاح ولا يعرفون التعامل معه أصلا".

وأضاف "وجدت الحملة تفاعلا كبيرا على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة لدى المغتربين بالخارج، كما تفاعل معها الشبان في الداخل، مما سهل الشروع فعليا في تدريب الراغبين في التطوع لقتال المليشيا".

وروج أعضاء في متلقى نهضة مشروع الجزيرة، وناشطون في منبر أبناء الجزيرة، وكيانات أخرى، دعوات على صفحات رسمية بمنصات التواصل الاجتماعي "لأهمية تكوين قوات درع الجزيرة".

تمّ تدشين درع الجزيرة بالمناقل و تعاون وتنسيق فعال بين قوات العمل الخاص، هيئة العمليات، المقاومة الشعبية والمستنفرين، وسلاح الجو بالمناقل. يحذر أمير الكواهلة، الأمير عوض الجيد عبدالله مليشيا الدعم السريع الارهابية pic.twitter.com/rtGDZWp8Bf

— Makkawi Elmalik (@Mo_elmalik) March 1, 2024

وحاول موقع "الحرة" الحصول على تعليق من الناطق الرسمي باسم الجيش، العميد نبيل عبد الله، ولكن لم يصلنا أي رد حتى نشر هذا التقرير.

في المقابل، استغرب الخبير الاستراتيجي، عمر جمال، صدور الدعوات المنادية بتكوين قوات شعبية منفصلة عن الجيش، وأشار إلى أن "ذلك سيضع الولاية أمام مخاطر كبيرة في المستقبل"، على حد تعبيره. 

وقال جمال، وهو ضابط سابق بالجيش السوداني، لموقع الحرة، إن "قائد الجيش فتح الباب رسميا أمام الشباب الراغبين في التطوع بالقتال إلى جانب الجيش، وهذا يعني أنه لا حاجة إلى تكوين قوة منفصلة، وعلى الراغبين في التصدي للمليشيا أن ينخرطوا في المسعكرات التي خصصها الجيش لهذا الغرض".

وأضاف "الدعوات لتكوين مثل هذه القوات الشعبية المقاتلة ستقود لبروز أصوات تنادي بالحكم الذاتي أو الانفصال، ولو في المستقبل، وهذا ليس من مصلحة الولاية المشهود لها بأنها جامعة لكل المكونات القبلية في السودان".

وأشار الخبير الاستراتيجي، إلى أن "الجيش لم يترك مواطني الجزيرة نهبا لتعديات مليشيا الدعم السريع، ويقوم بعمليات قصف جوي مركزة على مواقع تمركزها في الولاية، مما أدى لتدمير عدد من عرباتها القتالية، ومقتل أعداد ضخمة من منسوبيها".

وأضاف: "الجيش يحاصر المليشيا في ولاية الجزيرة من جهات مدينة سنار "جنوب" ومن اتجاه المناقل "جنوب غرب"، ويعمل بتخطيط دقيق لتنفيذ عملية برية شاملة لطرد المليشيا من ولاية الجزيرة".

وكانت السفارة الأميركية حذّرت في ديسمبر الماضي، من أن "التقدم المستمر لقوات الدعم السريع يهدد بوقوع خسائر هائلة بين المدنيين وتعطيل كبير لجهود المساعدة الإنسانية".

وأشارت إلى أن تقدم قوات حميدتي "تسبب بالفعل في عمليات نزوح واسعة النطاق للمدنيين من ولاية الجزيرة، وأدى لإغلاق الأسواق في ود مدني التي يعتمد عليها كثيرون".

اتهامات محلية وقلق دولي.. ماذا يجري في ولاية الجزيرة السودانية؟ مع استمرار انقطاع خدمات الاتصالات بشكل كلي عن ولاية الجزيرة بوسط السودان، تصاعدت الشكاوى عن انتهاكات ضد المدنيين، ونقص حاد في المواد الأساسية والضرورية، بجانب خروج بعض المرافق الصحية من الخدمة.

من جانبه، نفى عضو المكتب الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع، إبراهيم صديق، "تورط قواتها في الانتهاكات الممنهجة على المدنيين"، واتهم في الوقت ذاته "عناصر نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير بالضلوع في تلك الانتهاكات".

وقال صديق لموقع الحرة، إن "هناك بعض التجاوزات التي حدثت من متفلتين داخل صفوف الدعم السريع، وتم التعامل معها وحسمها بعد توجيهات القائد حميدتي، وما يحدث في الجزيرة من صنائع عناصر نظام البشير البائد".

ولفت إلى أن "قوات الدعم السريع تلقت بلاغا من المواطنين بمنطقة كترة، الواقعة جنوب مدينة أبو قوتة بولاية الجزيرة، تفيد بوجود مجرمين يمارسون النهب والسلب، وأرسلت قوة اشتبكت مع المجرمين".

وأضاف "أدت الاشتباكات التي جرت يوم الثلاثاء، إلى مقتل 20 من المجرمين، بينما فقدت قواتنا قائد القوة واثنين من عناصر الدعم السريع، وهذا أكبر دليل على أن قواتنا ليس لها أي علاقة بما يجري في الجزيرة من انتهاكات". 

ونددت هيئة شؤون الأنصار، المرجعية الدينية لحزب الأمة القومي، في بيان الاثنين، "باجتياح قوات الدعم السريع لعدد من قرى ولاية الجزيرة"، وأشارت إلى "أن هجمات الدعم السريع تسببت في مقتل عدد كبير من المدنيين".

ووصفت الهيئة "العدوان على الرجال والنساء والأطفال والممتلكات في قرى ولاية الجزيرة بالبشع".

وبدوره، يرى أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، عز الدين المنصور، أن "ولاية الجزيرة تعرضت لأسوأ موجة انتهاكات بواسطة عناصر قوات الدعم السريع الذين لا يفرقون بين رجل إو امرأة أو طفل".

وقال المنصور لموقع الحرة، إن "حجم الانتهاكات لا يوصف، وعدد القتلى من المدنيين يفوق المئة، بينما يكتفي الجيش بالقصف الجوي على قوات الدعم السريع، دون تنفيذ أي عملية برية، على الرغم من مرور شهرين على دخول الدعم السريع إلى الولاية".

وأشار إلى أن "أي اتجاه لتشكيل قوة شعبية خارج إطار الجيش، سيجعل السلاح ينتشر بكثافة في أيدي المواطنين، وستصعب السيطرة عليه، مما يهدد الاستقرار مستقبلا في الولاية".

ولفت أستاذ العلوم السياسية إلى أن "أفضل خيار لإنهاء الحالة التي تتعرض لها ولاية الجزيرة وكل السودان، يكمن في تعجيل التفاوض لإنهاء الحرب"، وقلل "من الأصوات الداعية إلى الحكم الذاتي بالجزيرة".

وأضاف أن "طبيعة ولاية الجزيرة لا تسمح بالانفصال أو حتى الحكم الذاتي، لكونها ولاية وسطية، ولا تطل على أي منفذ بحري، كما أنها لا تجاور أي دولة خارجية".

ووفق أرقام الأمم المتحدة، أدى الصراع بين الجيش والدعم السريع إلى مقتل أكثر من 12 ألف شخص، وأجبر أكثر من 7 ملايين على الفرار من منازلهم، بينهم 1.5 مليون لجأوا إلى تشاد ومصر وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا.

وفي السابع من فبراير، أطلقت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، نداء لتقديم دعم دولي بقيمة 4.1 مليار دولار للمدنيين المحاصرين في السودان، وسط مؤشرات على أن البعض ربما يموتون جوعا، بعد ما يقرب من عام من الحرب.

وقالت وكالات الأمم المتحدة إن نصف سكان السودان، أي حوالي 25 مليون شخص، يحتاجون إلى الدعم والحماية، وإن الأموال المطلوبة ستخصص لمساعدة ملايين المدنيين في السودان وغيرهم ممن فروا إلى الخارج.

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: ملیشیا الدعم السریع قوات الدعم السریع الأمم المتحدة ولایة الجزیرة لموقع الحرة درع الجزیرة فی السودان ود مدنی إلى أن

إقرأ أيضاً:

الانتحار السوداني ... متى يتوقف وكيف؟!

عندما اندلعت المواجهات المسلحة بين قوات الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان قائد مجلس السيادة السوداني، وبين قوات الدعم السريع بقيادة نائبه اللواء، محمد حمدان دقلو حميدتي، في منتصف أبريل من العام الماضي على خلفية شروط دمج قوات الجيش وقوات الدعم السريع معا تحت قيادة واحدة وبعض خلافات أخرى نالت من الثقة بينهما، خاصة وأن الظروف السودانية المحلية والإقليمية لا تتحمل خسائر وتبعات مواجهات مسلحة تتجأوز قدرات وإمكانيات السودان وظروفه، فإن الواقع هو أن الحرب في السودان وجدت من يغذيها - يغذي طرفيها، بالمال والسلاح لخدمة مصالح ذاتية لتلك الأطراف في المقام الأول بغض النظر عن أية ادعاءات لا يمكن أن تخدم مصالح الشعب والمجتمع والمصلحة الوطنية السودانية وعلى نحو حافظ على استمرار المواجهات بل وتوسيع نطاقها لتمتد إلى معظم أقاليم السودان الشقيق ولتتحول المواجهات المسلحة إلى اقرب ما يكون إلى الانتحار الذاتي بسبب ازدياد أعداد الضحايا بين المدنيين بشكل تجأوز بالفعل كل التوقعات حتى الآن. وبينما ادى القتال إلى خسائر مادية تتجأوز 12 مليار دولار ونهب نحو مائة بنك فقد انهارت العملة السودانية وانخفضت الإيرادات الحكومية بنحو 80 % حسبما أشار وزير المالية السوداني جبريل إبراهيمن ومن جانب آخر فقد قتل أكثر من 15 ألف سوداني ونزح أكثر من 4.6 مليون شخص وفقا لوكالة الأمم المتحدة للهجرة منهم 3.6 مليون نازح في الدول المجأورة وحوالي مليون نازح في داخل السودان. وقد حذر مارتن جريفيث منسق المساعدات الإنسانية بالأمم المتحدة مؤخرا من أن نحو خمسة ملايين سوداني يعانون من جوع كارثي، وأن نحو 250 ألف طفل يهددهم الجوع بشكل يفوق أية حالة أخرى في العالم، وانه بسبب معاناة الأطفال السودانيين تم إدراج كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ضمن قائمة العار الدولية في الأمم المتحدة بسبب الممارسات التي يتعرض لها الأطفال وهو ما يزيد من الإساءة التي تتعرض لها الأطراف السودانية المتورطة في عمليات القتال والتدمير المتعمد التي يتعرض لها السودان الشقيق منذ اكثر من أربعة عشر شهرا مضت.

وإذا كانت قد ضاعت أكثر من فرصة لوقف القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وآخرها ما تم الحديث والتحرك بشأنه في شهر رمضان الماضي وهو ما يتجدد الآن سودانيا وإفريقيا ودوليا، ولعله ينجح، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها: أولا، أنه ليس من المبالغة في شيء القول بأن بيئة الحرب في السودان هي بيئة معقدة إلى حد كبير ليس فقط بسبب تقاطع مصالح الأطراف السودانية الداخلية والأطراف المنتفعة من الحرب واستمرارها سواء كانت إفريقية آو دولية بدا لها إمكانية توسيع مصالحها المباشرة وغير المباشرة في منطقة جنوب البحر الأحمر الاستراتيجية والوصول منها إلى عدة دوائر متقاطعة ومؤثرة في السودان ومصر والمحيط الهندي ووسط وشرق إفريقيا وانتعاش اطماع وتطلعات بعض الأطراف الإقليمية والدولية في فترة تتسم بالتقلب وعدم الاستقرار السياسي وفورة الأطماع الإقليمية على مستويات متعددة. ومما يزيد من عبء ذلك ومخاطره أن أطرافا إقليمية عدة دخلت أو تحأول دخول ساحة النفوذ والتأثير الإقليمي حديثا، بل وحديثا جدا اعتمادا على الأرجح على عكاز واحد فقط لا يكفي بالتأكيد وهو التمويل المالي والإمداد بالسلاح بشكل أو بآخر وافتقاد تلك الأطراف في الواقع إلى الرؤية الاستراتيجية أو عدم القدرة على امتلاكها يجعل تحركاتها أقرب إلى العاب الطاولة منها إلى خطط التحرك الاستراتيجي المدروسة وهو ما يجعلها تتسم بالتقلب والتغير السريع ورد الفعل والانتقال من جانب إلى آخر بين الأطراف المتصارعة وللأسف هناك أمثلة محددة في هذا المجال. من جانب آخر فإن هذه السمات للصراعات الداخلية ومنها الصراع في السودان وليبيا وعدد من دول المنطقة المنكوبة للأسف ببعض قياداتها يجعل من الممكن استمرار الصراعات وتضخم الخسائر المادية والبشرية وتبريرها للأسف بأنها تضحيات ضرورية لمصلحة الشعب ومستقبله وهي لا تخدم إلا قيادات تعمل أولا على خدمة مصالحها الخاصة بغض النظر عن أية ادعاءات كاذبة حولت دولة السودان من سلة غذاء للمنطقة إلى دولة تعاني من أسوأ صور المجاعة في العالم في هذه الفترة وخلال الأشهر القادمة. من جانب آخر فإن من أهم أسباب التدهور الداخلي هو أن حالة الصراع المسلح جعلت اليد العليا لتلك التي تحتكم بالفعل إلى السلاح أو تستطيع تأمين الحصول عليه بأية طريقة ولو بالتحالف مع الشْيطان بشكل ما وبالتخلي عن المصالح الوطنية للدولة والشعب بمبررات مزعومة وهو ما يضر بالدولة وحاضرها ومستقبلها مهما كانت المبررات براقة وهو ما لن يعفي القيادات المتورطة من مسؤوليتها الوطنية ومحاسبتها في النهاية حتى لو طال الزمن، ومن هذا فإن ادعاء أي طرف الانتصار على الطرف الآخر لن يغطي ولن يقلل من حجم الخسائر في المجالات المختلفة والتي يدفع الشعب ثمنها اليوم وغدا وبعد غد كذلك.

ثانيا، أنه إذا كانت السودان من أكثر الدول العربية المعروفة بثقافتها وديناميكيتها السياسية، ومن ثم حيوية القوى المدنية السودانية التي حاولت التأثير بشكل يقلل قدر الإمكان من دور القوات المسلحة وقوات الدعم السريع اللتي تمتلك السلاح بحكم دورها الوطني المفترض في حماية الدولة ومؤسساتها ومواردها الوطنية وهو ما أدى إلى تشكيل حكومة عبدالله حمدوك المدنية والتي لم تستطع أن تكمل مهامها في بناء سلطة مدنية كمخرج من حالة الصراع أو بالأحرى بين البرهان وحميدتي، كشخصيتين متنافستين على قيادة السودان، خاصة وأن البرهان اتهم حميدتي علنا قبل عدة أيام بالرغبة والعمل من أجل السيطرة على السودان، ورد حميدتي على ذلك باتهام البرهان بنشر الكراهية والانسحاب من المفاوضات. وإن قوات الدعم السريع مستعدة للتفاوض كما أعلنت من قبل ودون شروط مسبقة. ومع أن الدكتور عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني السابق يؤيد قيام القوى المدنية السودانية بدور رئيس إلى جانب مختلف القوى السودانية، وأنه عمل على تشكيل «تنسيقية تقدم» المدنية للقوى التي تتعاون مع مختلف القوى السودانية القادرة والراغبة في العمل في هذا الاتجاه، إلا أن استمرار القتال بين قوات الجيش والدعم السريع من ناحية، وتعدد الخلافات بين القوى السودانية حول أنسب سبل الحل وامتداد ذلك إلى قيادات عليا داخل الجيش وكذلك تعدد وزيادة أعداد التشكيلات المسلحة من ناحية ثانية، هذا فضلا عن اتساع وتنوع التدخلات الخارجية الإفريقية وغير الإفريقية قد أضعف في الواقع بشكل أو آخر دور القوى المدنية بوجه عام وتنسيقية تقدم بوجه خاص برغم أنها تحظى بتأييد ملموس بين السودانيين والمؤسسات السودانية التي بات لها مآخذ عديدة حول ممارسات القوى المتصارعة والخسائر التي تسببها للسودان مع كل يوم، بما في ذلك ما تردد حول لجوء قوات الدعم السريع إلى استخدام جمهورية إفريقيا الوسطى لتجنيد مرتزقة يعملون في صفوفها حيث يستغل حميدتي علاقاته مع قادة إفريقيا الوسطى لتجنيد قوات يستعين بها في القتال في دارفور وفي مناطق وولايات سودانية أخرى مما يفاقم الصراع ويطيل أمد الحرب. وفي الأيام الأخيرة احتدمت المعارك بيت الدعم السريع وقوات الجيش حول سلاح المدرعات وفي الخرطوم وأم درمان وفي الفاشر في دارفور. وبينما اتهمت قوات الدعم السريع قوات الجيش بقصف محطة كهرباء «بحري» الحرارية مما أدى إلى احتراقها، فإن قوات حميدتي أعلنت قبل أيام قليلة سيطرتها على مدينة « سنجة» في ولاية «سنار» جنوب شرق السودان، غير أن ذلك يدخل على الأرجح في إطار الحرب الإعلامية بينهما ومحاولة قوات الدعم السريع إظهار قدر من القدرة على التماسك أمام قوات الجيش التي تعزز قواتها بالاستعانة بمسيرات إيرانية في الأسابيع الأخيرة.

ثالثا، إنه برغم تعدد محاولات التدخل الإقليمي والدولي والعربي لمحاولة التوصل إلى أسس تحافظ على وحدة وسلامة السودان التي أصبحت مهددة أكثر من ذي قبل، والتوصل بالفعل إلى اكثر من مقترح يتم العمل في إطاره منها مقترحات جدة في 11 مايو 2023 وخارطة الطريق الإفريقية في العام الماضي أيضا، وأكثر من قرار لمجلس الأمن الدولي، ومحاولات منظمة «الإيجاد»، ومجلس السلم والأمن الإفريقي فضلا غن جهود ثنائية مع أطراف الصراع، إلا أنه من المؤسف أنها تعثرت في الوصول إلى نتائج عملية لضعف اهتمام الأطراف المعنية أو لانشغالها بصراعات أخرى في المنطقة أو في محاولة منها لإلقاء مسؤولية الفشل على عاتق أطراف الصراع التي انشغلت بدورها في البحث عن مصادر تمويل وإمدادات سلاح وافتقدت لأرادة الحل بسبب تركيزها على المصالح الضيقة لها. وبينما بحث مجلس الأمن الدولي الوضع في السودان في 25 يونيو الماضي حيث قدم أكثر من مسؤول دولي إحاطات للمجلس فإن هناك شعورا متزايدا بخطورة ترك الأوضاع في السودان لحالة أقرب إلى الانتحار الذاتي بكل تبعاته، والمأمول أن تنجح محاولات الاتحاد الإفريقي في الجمع بين البرهان وحميدتي من خلال اللجنة التي تم تشكيلها برئاسة الرئيس الأوغندي موسيفيتي قبل أيام ولعل تلويح المبعوث الأمريكي في السودان بإمكانية التدخل يساعد على الاستجابة ولكن المؤكد أن النجاح يتطلب إرادة سياسية ورغبة حقيقية في الحل بعيدا عن المحاصصة والتقسيم ... فهل تنجح القوى المدنية والمخلصون السودانيون في انتشال السودان من حالة الانتحار الذاتي ووضعه على طريق الحل؟.

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري

مقالات مشابهة

  • الجيش السوداني يعلن صد هجوم للدعم السريع على منطقة الميرم بولاية غرب كردفان
  • الجيش السوداني يعلن صد هجوم للدعم السريع بغرب كردفان
  • الجيش السوداني يحدد 4 شروط للتفاوض مع الدعم السريع
  • البندقية التي تقتل السودانيين.. ماذا تريد من الأرض؟
  • ناشطون: قوات الدعم السريع تضاعف الحصار على قرى بالجزيرة
  • قيام كيان بـ«الجزيرة» لإيقاف القتل والتهجير وانتزاع الحقوق
  • الانتحار السوداني ... متى يتوقف وكيف؟!
  • ولاية سنار.. معركة حاسمة في حرب السودان
  • «الدعم السريع» تهاجم قرية «بجيجة» بالحصاحيصا
  • ما حقيقة زيارة قائد الجيش السوداني لجبهات القتال في ولاية سنار؟