أعجبني وأنا أهمّ بكتابة هذا المقال تعبير قيّم فيما يحمله من معان "العبادة الصامتة"؛ والذي يستصحب مفهوم العبادة الشاملة استنادا إلى الآية "وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ"؛ وإلى المغزى الذي تشير إليه الآية "إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ".

.

العبادة مسيرة حياة مستمرة؛ فالعبادة في اللغة الخضوع وقد تستعمل بمعنى الطاعة، وفي الاصطلاح هي اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. وإذا كانت العبادة شاملة للفعل والترك والواجب والمستحب والمباح، صح أن يقال: إن العبادة تشمل نظام الحياة كله.

بهذه النظرة الشاملة تقسم العبادة إلى قسمين: أولا: عبادة شاملة لأعمال الإنسان المشروعة جميعها، فكل عمل دنيوي يلتزم فيه المسلم بتقوى الله وبالإخلاص والصدق والأمانة يكون عبادة؛ ثانيا: عبادة مخصوصة تتمثل في الواجبات الدينية كالصلاة والصوم والزكاة والحج وتلاوة القرآن الكريم والأدعية والأذكار وغيرها، وهذا القسم هو المعروف لدى الناس بالعبادات والشعائر، ويظن البعض أن العبادات تنحصر بهذا القسم، ويتجاهلون القسم الأول من العبادة مع أن العبادة بمدلولها الشامل تعني الدين كله.

المقاطعة أوسع أنواع المقاومة المقاطعة من جنس النهي الشرعي، والمقاطعة عبادة معقولة صامتة، قام فيها الشيخ بالتأصيل الدقيق للفعل المقاطع المقاوم، بعلم عميق وعمل صحيح ورؤية كلية ومقاربة تجديدية لحقائق الشرع العالية، في سياقات تكامل أبعاد المقاومة للعزة والكرامة، وتعزيز الجهود والقصود بالممكن المتاح والمنجز المستمر
إن الله تعبّدنا بأنواع العبادات الظاهرة والباطنة والفعلية والقولية والبدنية والمالية والعامة والخاصة؛ فشرع هذا التنويع ليتحقق كمال التأله لله، وتنفتح أبواب الخير والفاعلية أمام المكلف، ويتجدد الاستنفار والرغبة العازمة في العمل؛ في الفعل والتفعيل. إن العبادة وارتباطها بالعقيدة التوحيدية أمر مستقر ومقرر؛ لا تكون إلا لله الواحد الأحد، لا شريك له. ويقول عز وجل: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا"، فالإسلام يحرم كل ما يؤدي إلى عبادة غير الله.

إن الباعث الأساسي للعبادة هو استحقاق الله تعالى لذلك، فنحن نعبد الله جل وعلا لأنه مستحق للعبادة تحقيقا للغاية التي من أجلها خلق الإنس والجن كما قال الله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، فهو المستحق الوحيد للعبادة لعموم سلطانه على الكون وعظيم فضله على الخلق أجمعين. وهذا المدلول الشامل للعبادة في الإسلام هو مضمون دعوة الرسل عليهم السلام جميعا، وهو ثابت من ثوابت رسالاتهم عبر التاريخ، فما من نبي إلا أمر قومه بالعبادة، قال الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون".

إن التساؤل المهم الذي طرحه الشيخ المجتهد الأستاذ نور الدين الخادمي؛ في سياق "شاهدُ الصيام" الذي يشتمل شواهد على "العبادة التركية" والتعبّد الصامت الكامن في أصالة الامتناع الشرعي؛ فهل المقاطعة والحال هذه من جنس العبادات الصامتة؟ والشيخ إذ يطرح هذا السؤال تقدّم ليقدم رؤية اجتهادية وتجديدية رصينة ومكينة..

المقاطعة أوسع أنواع المقاومة المقاطعة من جنس النهي الشرعي، والمقاطعة عبادة معقولة صامتة، قام فيها الشيخ بالتأصيل الدقيق للفعل المقاطع المقاوم، بعلم عميق وعمل صحيح ورؤية كلية ومقاربة تجديدية لحقائق الشرع العالية، في سياقات تكامل أبعاد المقاومة للعزة والكرامة، وتعزيز الجهود والقصود بالممكن المتاح والمنجز المستمر.

المُنطلق في هذا شاهدُ الصيام في دعوات المقاطعة ومتعلقاتها اقتصاديا ورياضيا وثقافيا وفنيا وأكاديميا وسياحيا. لاحَ في ذهني معنى مهم من معاني الصيام، وهو أنّه عبادة تَركية، أي أنّ الصائم يَتْركُ طعامه وشرابه وشهواته كامل النهار، والقصد الأوحد في ذلك هو امتثالُ أمر الله بالصيام لأجله سبحانه.

والذي وقفتُ عنده بالتحديد عبارةٌ في كلام العلماء، هي: عبارة "التَّرْكيةِ"، إنّ التعبير بعبارة "التَّرْكية" يُشيـر إلى العبادة الصامتة، التي يكون فيها الإنسان مُمتنعا عن المُفطرات ومقاطعا لأي فعلٍ قد يُفسد الصوم أو يُقلِّل فضله وأجره. ويُشير إلى أنّ هذا الامتناع يؤدى لوجه الله تعالى فقط وليس لحَظٍّ عاجلٍ أو رَغبةِ سُمعةٍ أو جلبِ منفعةٍ.. فهنالك إذن محدّدان للعبادة التَركية: الامتناع عن الفِعْل المُفطِـر، وأن يكون ذلك الامتناع لوجه الله تعالى. وعليه أحسبُ أنّ الصيام ضربٌ من ضُروب الجهاد، وأنّ هذا الجهاد جهادٌ صامتٌ، يترك فيه المُجاهد الصائم أفعالا تفسده وتـقـلّـل فضله وأجره.

المُنطلق في هذا شاهدُ الصيام في دعوات المقاطعة ومتعلقاتها اقتصاديا ورياضيا وثقافيا وفنيا وأكاديميا وسياحيا. لاحَ في ذهني معنى مهم من معاني الصيام، وهو أنّه عبادة تَركية، أي أنّ الصائم يَتْركُ طعامه وشرابه وشهواته كامل النهار، والقصد الأوحد في ذلك هو امتثالُ أمر الله بالصيام لأجله سبحانه
وليس الصيام فقط الذي يُشير إلى العبادة التركية أو الصامتة، بل هنالك عبادات أخرى صامتة يكون الأداء فيها غير ظاهر وغير مُعلَن، ويقتصر على القائم به في علاقة خاصة محضة مع الله تعالى، لا يداخلها رياء ولا مقدماته كإظهار عمله الذي قد يؤدي به إلى استحسان من يراه، فيُشكَـر على ذلك؛ ما يؤدي إلى غُروره وإعجابه بنفسه وإبطال عمله بناء على ذلك.

أصالة الامتناع الشرعي

لعل عُموم العبادات الصامتة كما بدت لي بعد تأملاتٍ في حديث الصيام ونظائره التي لم ينص عليها كما نُصّ على الصيام، يعودُ إلى أصل النّهي الشرعي الذي يأمر فيه الشارع الكـفّ عن الفعل، والكفّ هو الامتناع والترك، وليس فيه ما يدل على الفعل والممارسة كفعل الأمر الذي يُقْدم فيه الإنسان على حركة وقول وتصرّف، كفعل الصلاة التي فيها: الذهاب إلى المسجد والقيام والركوع والسجود ونحوه.

وفي الامتناع عن الداعمين للعدو تجاريا وفنيا وإعلاميا نواهٍ شرعـيّة كثيرة وردت في أفعال معينة، كفعل إعانة العدو بالكلمة: "من أعانَ على قتلِ مؤمِنٍ ولو بشطرِ كلِمَةٍ جاءَ يومَ القيامةِ مَكتوبٌ بينَ عينيهِ: آيِسٌ مِن رحمةِ اللَّهِ" (سُنن ابن ماجه)، "وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة: 2).. وإعانته بالصمت والسلبية واللامبالاة، "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المائدة: 79).. وإعانته بتصديقه وترويج أكاذيبه: "كَفى بالمَرْءِ كَذِبا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ" (صحيح مسلم).. ونحوذ لك.

هل المقاطعة من جنس العبادات الصامتة؟

العدو اسم لمن يصدر منه العدوان، والعدوان محرّم على وجه القطع، ومنه العدوان على الأنفس والأموال والمصالح الحيوية والكرامة والحقوق.. وحكم العدوان هو صدّه ومنعه، لحفظ الحقوق وجلب المصالح ودرء المفاسد، والدليل قوله تعالى: "فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ" (البقرة: 194).

والمقاطعة من وسائل الصدّ والمواجهة (المقاطعة للعدو ومتعلقاته)، والمقاطعة هي إضعاف العدو من جهة ما يُدعم به مما هو موضع مقاطعة، فالعدو يُدعم بالمال والاقتصاد والإعلام والسياسة والفنون.. فيكون مقاطعة ذلك الدعم إضعافا له وتقوية لمن يقاومه ويصد عدوانه. والفعل المقاطع هو وسيلة لمقصد الإضعاف والتهرئة، وحكم الوسيلة حكمٌ لمقصودها، و"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، و"الوسائل لها أحكام المقاصد"، والوسيلة هنا بشطرين: شطر إضعاف العدو، وشطر تقوية من يقاومه.

كما أن هذه المقاطعة هي مقاومة صامتة، وهي مقاومة ناعمة، ليست مقاومة عسكرية مثلا، وليست مواجهة مباشرة مع العدو، وإنما هي مواجهة غير مباشرة وغير ظاهرة بل هي صامتة. وفاعلية المقاطعة تظهر في آثارها الجسيمة على مستوى الجهات المقاطَعة كالشركات والمؤسسات والمناسبات وغيرها.

المقاطعة أوسع أنواع المقاومة، والمقاومة تسع أوسع الشرائح الاجتماعية وليس فيها مشاكل، فالمُقاطِع يفعل المقاطعة وهو في أمن وأمان، لا يخاف من المناوئين للحقّ المرجفين في المدينة المناصرين للعدو، على غرار من يتصدر مقاومة بلسانه أو باحتجاجه أو بدعمه وإسناده بما يُظهره أمام الناس وأنه منحاز للحقّ ومناصر لأصحابه.

المقاطعة من جنس النهي الشرعي هذا، فضلا عن أنّ المقاطعة هي من جنس الكف عن مساندة الظالمين والسكوت عن ظلمهم وكذبهم وتنكيلهم، فهي بناء على هذا تدخل ضمن جنس النهي الشرعي بنظر في الشرع فسيح وبرؤية كلية جامعة. فالأمر كما عرفه العلماء هو طلب الفعل، كطلب إقامة الصلاة، والنهي هو طلب الكف عن الفعل المحرم، كطلب عدم الركون إلى الظالمين: "وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ" (هود: 113).

المقاطعة من جنس النهي الشرعي هذا، فضلا عن أنّ المقاطعة هي من جنس الكف عن مساندة الظالمين والسكوت عن ظلمهم وكذبهم وتنكيلهم، فهي بناء على هذا تدخل ضمن جنس النهي الشرعي بنظر في الشرع فسيح وبرؤية كلية جامعة
كما أن المقاطعة ضربٌ من ضُروب الاجتهاد بمفهومه الواسع وآفاقه الرحبة المجددة بتجدد الزمان والحال، وهي من قبيل الجهاد الذي لا قتال فيه، وفي السُّنّة إشارة إلى نوع الجهاد الذي لا قتال فيه، وهو حج النساء بلفتة مقاصدية بديعة تتعلق بمساواة الرجل بالمرأة في الجهاد وفقا للمناسب والممكن والراجح والأولى، جريا على عامّة الشرع في التنصيص الصريح في مجال العبادات الشعائرية وفي التلميح المليح في مجال العبادات الاجتماعية والسياسية والحضارية، بما يُعرف بدلالة النص ومعقوله.

وهذا الجهاد بالمقاطعة في سياق المقاومة هو جهاد صامت بممارسة تَركية، يَمتنع فيها العابد المجاهد عن مقتنيات العدو وتقنياته ومتعلقاته وشبكاته، ويتجنّب فيها أذنابه وأذياله وأراذله، من المنافقين والمرجفين والمطبّعين.

اللهم عَلّمنا فقه التأويل وحسن التنزيل، في قضايا الصيام والقيام، ونوازل المدافعة والمقاومة، وباعد بيننا وبين من يفرّقون بين الصلاة والزكاة، وبين التعبّد بشعائر العبادة والتدين بمفاخر الحضارة وشهودها ونهوضها.. هكذا تبدو المقاطعة كمقاومة وجهاد يرتبط بالأمة؛ كامل الأمة؛ كفعل حضاري شامل وفعال يقع في قلب العبادة الصامتة التي تقوم على الترك والامتناع؛ فكان فعل المقاطعة والامتناع عن كل ما يدعم العدو والشروع في العمل الذي يدعم المقاومة وفعل الجهاد والمواجهة للعدو المحتل، وكل من عاونه وأعانه على احتلاله وغصبه وعدوانه؛ عبادة تَركية من الأمة وامتناع فيها وهو أقل ما يفرض على الأمة وعموم الناس؛ "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".


twitter.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العبادة المقاطعة المقاومة المقاومة المقاطعة العبادة مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المقاطعة هی الله تعالى هی الشرعی عبادة ت الذی ی

إقرأ أيضاً:

يموت القادة وتنتصر القضية.. عن الفكري والتاريخي والسياسي في مصير المقاومة

نال السيد حسن نصر الله الشهادة على طريق مقدس نبيل هو الدفاع عن غزة ونصرة المقاومة الفلسطينية، والدفاع عن بلده لو سقطت غزة، وسيسجل له التاريخ ذلك ويشهد خلق كثير عليه.

وسيدرك الصهاينة وشركاؤهم الأمريكيون والعملاء والموالون لهم، بأن قتل القادة لا يوقف المقاومة أبدا، وأن القادة الشهداء يُستبدلون وقضيتهم تستمر حتى تتحقق أهدافهم، طبقات قيادية من حركة حماس على رأسهم شيخهم الشهيد أحمد ياسين غُدر بهم واستشهدوا وهم في عز عطائهم وما زاد ذلك المقاومة الفلسطينية إلا قوة وانتشارا، واستشهد قادة النواحي العسكرية في الثورة التحريرية الجزائرية، بن مهيدي وبن بولعيد وعميروش وسي الحواس وديدوش مراد وزيغود يوسف فما زاد ذلك الثورة الجزائرية إلا زخما، وكذلك الثورة الفيتنامية والكوبية وغيرها.

إن الاغتيالات التي قام بها الكيان لن تنقذه من مصيره المحتوم في الزوال القريب، إذ لن يحسم المعركة بالقصف من بعيد، وأنه سيبقى يتلقى الضربات في المواجهة غير المتناظرة التي سينهيه فيها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، كما هو مصير كل احتلال مهما كانت قوته وكثرة حلفائه.  

إن المعركة القائمة اليوم في لبنان مصيرية لا يمكن أن تنكسر فيها المقاومة، لأنها لا تدافع عن فلسطين ولبنان فقط بل تدافع عن الأمة كلها، فالجنون الذي يبين عليه الصهاينة سيمتد إلى الأردن وسيناء لإنجاز مخطط التهجير ثم التحكم في رقاب كل الحكام العرب والمسلمين.

لقد آن الأوان أن يحاسب الجميع نفسه، أفرادا وجماعات وحكومات، ما الذي يقدمونه فعليا في هذه المعركة التاريخية العظيمة لدعم من يقاومون الإجرام الصهيوني وللانخراط التام في هذه الموقعة التاريخية، وأن ينظر كل واحد في الأمة الإسلامية إلى الموقع الذي يقف فيه بالنظر للخطر الداهم الذي يمثله الخطر الصهيوني، ولا شيء غير ذلك.

ماذا لو اتجهت الصواريخ لضرب الصهاينة من العديد من الدول العربية والإسلامية؟

قرأت في 2010 دراسة أوروبية رسمت مشهدا استشرافيا  لنهاية الكيان على الشكل الذي رأيناه هذه الليلة، وتؤكد الدراسة بأنه حينما تُحاط "إسرائيل" بمنظومة صاروخية من كل جانب (ولا يشترط أن يكون الهجوم من جيوش نظامية حسب الدراسة)، ويوجه إلى العمق "الإسرائيلي" موجة مكثفة من الصواريخ تجعل أعدادا هائلة من السكان اليهود يهربون إلى دول أوروبية وأمريكا، فتصبح الإدارة بلا ظهر فتسقط، ويتحول الجيش " لإسرائيلي" إلى ميليشيات.

إن المعركة القائمة اليوم في لبنان مصيرية لا يمكن أن تنكسر فيها المقاومة، لأنها لا تدافع عن فلسطين ولبنان فقط بل تدافع عن الأمة كلها، فالجنون الذي يبين عليه الصهاينة سيمتد إلى الأردن وسيناء لإنجاز مخطط التهجير ثم التحكم في رقاب كل الحكام العرب والمسلمين.كنت ذكرت هذا السيناريو في الجامعة الصيفية للحركة في 2010 بتلمسان، ولملتقى التميز الأول لأكاديمية جيل الترجيح في نفس السنة بنفس المكان.

لم يكن هذا السيناريو منطقيا في ذلك الوقت، ولكن ما يحدث اليوم صورة عملية لهذا السيناريو، يكفي فقط أن تدخل الدول السنية في المعركة، وما أسهل أن يزول الكيان عندئذ، ولن تنفعه لا أمريكا ولا أوروبا يومئذ.

"حين تبنى الرؤى الطموحة يقال عنها إنها مجنونة ولكن حين تتحقق يندم المتخاذلون أن لم يتوقعوا ذلك" والتاريخ يعيد نفسه.. أمّا إن اتسعت الحرب وتحالفت بعض الدول العربية والإسلامية مع الكيان وأمريكا ضد ايران والمقاومة الفلسطينية واللبنانية فإن الواجب الشرعي والوطني على شعوب هذه الدول أن تتحرك بكل ما تستطيع  لمنع هذه الخيانة العظمى، وإن لم تفعل فهي شعوب ميتة ولا غرابة أن يسلط الله عليهم  حكاما أكثر ظلما وبطشا لهم، يسومونهم  سوء العذاب، على نحو ما ذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى: "وكذلك نولّي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون".

الحرب في لبنان.. الفهم والواجب

كلما تطورت أحداث الحرب التي أشعلها طوفان الأقصى يتعمق الاختلاف بين فئتين في الأمة، فئة تعد الطوفان حالة سننية ربانية انطلقت لكي لا تتوقف حتى التحرير، كما هي الثورات التحريرية في الشعوب، يطلقها وطنيون صادقون مع أوطانهم، متوكلين على الله، قرروا إما النصر أو الشهادة، وفي أغلب الأحيان هي مجموعة  قليلة شرفها الله بالسبق، لم تستشر أحدا للقيام بالواجب،  على نحو ما قام به مجموعة الاثنين والعشرين في الثورة التحريرية الجزائرية، وبعد صعوبات جمة يلحق بهم قادة آخرون والجموع. وفئة يهوّلها الرد العنيف للاحتلال ويخيفها جنون قادة العدو وتكسر أهوالُ الخسائر إرادتَها، تصرف أهوالُ الميدان عقول هؤلاء عن القراءة السننية والتمعن في تاريخ البشرية، فلا ينتبهون بأن التضحيات هي طريق النصر، وأن هيجان العدو دليل بأنه شعر باقتراب النهاية.

إن أسباب تهور نتنياهو ثلاثة: أقلها أهمية ما يقوله الكثيرون بأنه لو تتوقف الحرب يدخل السجن، وثانيها أنه يزج بجيشه وكل كيانه في حرب مدمرة من أجل إنقاذ مجده إذ كان يعد نفسه في نفس مرتبة “بن قوريون” و لا يوجد في من جاؤوا، من قادة الكيان، بعد التأسيس اللعين  من هو في مقامه، وثالث الأسباب أهمها، وهو أنه أدرك بأن المعركة نهائية صفرية، إما تنتهي بتصفية القضية الفلسطينية أبدا، والسيطرة على المنطقة كلها، أو بزوال دولة الكيان، وزوال كل الأنظمة العميلة والاستبدادية في المنطقة.

وهكذا يجب أن نفهم الحرب القائمة، إن طوفان الأقصى الذي فجره أبطال غزة معركة مقدسة نبيلة اندلعت على عين الله سبحانه، لتشمل الأمة كلها. ولئن كان الفضل قد سبق إليه حزب الله وجماعة الحوثي وكل محور المقاومة فإن الأمة كلها ستنخرط في المعركة لتكون حربا شاملة غير متناظرة تنخرط فيها الأمة كلها بكل مذاهبها وطوائفها، إذ سيفهم الجميع بأنها معركة مصير، ليس لفلسطين وحدها بل لكل المسلمين، إما هوان الأمة الأبدي وإما العودة الحضارية الشاملة، ووالله الذي لا إله إلا هو لن يكون إلا هذا الأخير ، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر..

ليس هذا الحديث حديثا عاطفيا، بل هو عين العقل لمن يتأمل في عمق التطورات ويرفع بصره عاليا لينظر إلى الأفق البعيد. إنه ليس شرا ألّا تدخل إيران الحرب كدولة الآن،  بل في ذلك الخير،  ومن يتكلف في إظهار غضبه على إيران لأنها لم تدخل الحرب، أو يزعم أنها تخلت عن حزب الله فهو يتحدث بنفَسٍ طائفي انتقامي، متوقف في اللحظة التي أجرمت فيها إيران والميليشيات المحسوبة عليها إجراما عظيما في سوريا والعراق، إجراما وجب إدانته بلا مواربة، أو أنه لم يوفق للنظر في المآلات في ما ينفع فلسطين والأمة، وكم من أمم تقاتلت ثم تحالفت ضد عدو يهدد مصير الجميع. كما أن من يستعجل حزب الله للدفع بكل مقدراته في بداية المعركة لم ينتبه إلى ما يريده الصهاينة والأمريكان.

إن أسباب تهور نتنياهو ثلاثة: أقلها أهمية ما يقوله الكثيرون بأنه لو تتوقف الحرب يدخل السجن، وثانيها أنه يزج بجيشه وكل كيانه في حرب مدمرة من أجل إنقاذ مجده إذ كان يعد نفسه في نفس مرتبة “بن قوريون” و لا يوجد في من جاؤوا، من قادة الكيان، بعد التأسيس اللعين من هو في مقامه، وثالث الأسباب أهمها، وهو أنه أدرك بأن المعركة نهائية صفرية، إما تنتهي بتصفية القضية الفلسطينية أبدا، والسيطرة على المنطقة كلها، أو بزوال دولة الكيان، وزوال كل الأنظمة العميلة والاستبدادية في المنطقة.لا يختلف إثنان أنه حين أُسست دولة الكيان من طرف البريطانيين أُسست لتكون دولة وظيفية كثكنة عسكرية في موقع متقدم في جبهة الصراع الأبدي بين العالم الإسلامي والاستعمار الغربي، صُممت وتعهدها الأمريكان من بعد لتكون متفوقة في كل شيء، ولكن مع مرور الزمن أتاحت المساحات المفتوحة لليهود في الدول الغربية في كل المجالات لدولة الكيان أن تتطور طبيعتها لتصبح  جزءا أساسيا في المنظومة الغربية بشراكة كاملة في الاستراتيجيات والقرار، فصارت الآن أمريكا وأغلب الدول الغربية هي إسرائيل وإسرائيل هي أمريكا وأغلب الدول الغربية، ثم جاء طوفان الأقصى فأكد هذه الحقيقة وبيّنها في أوضح صورة. فمن يحارب إسرائيل اليوم سيجد نفسه يحارب أمريكا وأغلب الدول الغربية أو كلها، بشكل مباشر وليس بالوكالة فحسب.

على هذا الأساس، لو استشارني الإيرانيون في دخول الحرب لقلت لهم لا تدخلوا، إلا أن يقدروا قربها لهم، ولحدثتهم عن البديل الواجب الأهم لنصرة المقاومة في غزة ولبنان. لا يمكن لإيران أن تدخل الحرب لمواجهة أمريكا وحدها. وذلك سيكون قرارها ولا شك، لن تدخل الحرب وحدها، لن تقرر ذلك بغير اتفاق مع روسيا ومن ورائهما الصين، ولو دخلت روسيا والصين الحرب مع إيران معنى ذلك أننا ولجنا حربا عالمية ثالثة، ولا أظن أن روسيا والصين يريدان ذلك حاليا، ولا حتى أمريكا تريد ذلك، مع أن الحروب تتدحرج أحيانا لتصل إلى حدود لم يرغب فيها صانعو الأزمات.

ستتوسع الحرب ولا شك ولكن شيئا فشيئا، سيتحمل حزب الله وكل لبنان عبئا كبيرا، والضمان لصمود حزب الله أن لا يُطعن من الخلف من قوى مسيحية وسنية لا يخفى على متابعٍ علاقتها بأمريكا وبعض دول الخليج.

إن الحرب مستمرة والسبيل لتحقيق الانتصار فيها أن تبقى الحرب غير متناظرة إلى أمدٍ طويل يتم فيه استنزاف الكيان والأمريكان على نحو ما حدث في الجزائر والفيتنام قديما وما حدث غير بعيد في العراق وأفغانستان. وواجب الدول العربية والإسلامية كلها (إيران وتركيا والدول العربية)، أن تدعم المقاومة في هذه المعركة المصيرية، وذلك هو الشرف وذلك هو الواجب، فإن لم تفعل فمن حق الشعوب أن تتجاوزها.

إن المعركة اليوم في لبنان، إنها في بلد شقيق ذي سيادة عضو في الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي. والكيان الصهيوني لا يفرق مرة أخرى في جرائمه بين عسكري ومدني، وشيعي وسني ومسيحي، وعلماني وإسلامي، يقتل الأطفال والنساء ويدمر المنشآت المدنية والعسكرية والدينية على السواء. ولئن كان الحكام يقولون لا نستطيع دعم غزة بسبب الحصار وغلق المعابر، فها هي لبنان مفتوحة فلتهب الدول العربية والإسلامية إلى دعم الدولة اللبنانية ودعم المقاومة وإغاثة المدنيين، فليظهر لنا الحكام بأننا كنا مخطئين في اتهامنا لهم وفي إساءة الظن بهم.

إن جيش الاحتلال سيحاول دخول جنوب لبنان بعد القصف، وسيعمل على ترحيل سكان الجنوب، وربما سيحاول الوصول إلى بيروت. فليفهم الحكام العرب بأنه إن سقطت لبنان ستسقط بعدها الأردن، إذ يراد لها أن تكون الدولة البديل للفلسطينيين في الضفة الغربية، وستسقط كذلك سيناء لأنه يراد لها أن تكون الوطن البديل لأهل غزة، وبعدها ستسقط كل الدول العربية بإرادة حكامها الخانعين، ليبقوا هم وشعوبهم يعيشون الذل والمسكنة لعقود طويلة مقبلة.

لن يحدث هذا السيناريو المرعب بحول الله، لأنه إن تخلى الحكام عن واجباتهم، ستُحّولُ الشعوب، بكل مذاهبها وطوائفها،  لبنان إلى أرض معركة مصيرية ضد العدو الصهيوني، لا أدري كيف سيحدث ذلك، ولكن هذا الذي يفهمه كل دارس لحركة الشعوب حين يبلغ فيها اليأس مداه، وتنكسر في مخيالها القدوات وتسقط قيمة الزعامات، إلا من بقي من هؤلاء القادة صامدا ثابتا تدعمهم التيارات الشعبية بأجيال جديدة من الزعماء يستبدل بهم الله من أقعدهم العجز والآفات .

ولن يتوقف الأمر في لبنان فقط، ستُسقط العنجهية الصهيونية الدولة الأردنية، وتتحول الأردن كلها إلى أم الساحات شرقي نهر الأردن، وينهض شام الوعد الميمون، ولا ندري ماذا سيحدث في مصر هذا العملاق النائم، الذي حين ينهض تنهض الأمة كلها، والأمل كل الأمل في هذا البلد العظيم في قادة مخلصين موجودين ولا شك في الدولة والمجتمع، ثم سيأتي من غرب الأمة أمثال أبي مدين الغوث صاحب ساحة المغاربة الخالدة، ويأتي من أقصى شرق الأمة أحفاد من سارعوا إلى نجدة الخلافة وهي تتهاوى لو لا الأحداث الأليمة يومذاك  المتسارعة.

هذه هي الرؤية التي يجب استشرافها، وهذه المعركة التي يجب أن تنخرط فيها كل القوى الحية في الأمة. إنه لم يصبح ثمة شيء تستطيع أن تفعله هذه القوى الحية في أقطارها ودولها إذ سيطر الاستبداد على كل شيء وجعل كل شاردة وواردة تحت يده الباطشة، بل أصبحت حياة ونمو المنظمات والأحزاب والمؤسسات والشخصيات تحت رحمته المخادعة، وبعضهم حشروا أنفسهم في أزقة الطائفية الضيقة، يتهجمون على من يقاوم الصهاينة، وهم لا يقاومون، ولو قاومنا واشتبكنا بمجموعنا مع العدو نصرة لغزة  لحلت المشكلة إذ نحن السواد الأعظم في الأمة، بل فيهم من يتشفى في قتلى من يقاوم في جنوب لبنان بلا حياء، ويغالي في تفسيرات يدحضها الواقع وشلال الدماء من القادة والجنود والمدنيين في لبنان.

إن  الأجدر  بنا جميعا أن نحول البوصلة اتجاه فلسطين ولبنان وحيث توجد فرصة لمواجهة العدو، ففي ذلك حياتنا جميعا وسؤددنا ونهضتنا، من طنجة إلى جاكرتا.

*الأمين العام لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة
الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم

مقالات مشابهة

  • السيد خامنئي: المقاومة لن تتراجع باستشهاد رجالها والنصر حليفها
  • ما فقه المقاومة في الإسلام ودور المرأة والشباب في نصرة الأمة؟
  • قيادي في حماس: شعبنا لن يترك مقاومة الاحتلال حتى نيل حريته
  • يموت القادة وتنتصر القضية.. عن الفكري والتاريخي والسياسي في مصير المقاومة
  • صنعاء تشهد فعالية تأبينية لشهيد الأمة السيد حسن نصر الله
  • العاصمة صنعاء تشهد فعالية تأبينية لشهيد الأمة سماحة السيد المجاهد حسن نصر الله
  • تدرُّج دبلوماسية النار.. تدحرُج ملح السياسة
  • العاصمة صنعاء تشهد فعالية تأبينية لشهيد الأمة السيد المجاهد حسن نصر الله
  • لجنة نصرة الأقصى تبارك عملية الوعد الصادق (2) في عمق الكيان
  • صنعاء تقيم فعالية تأبين للشهيد القائد السيد حسن نصرالله