في الرابع من شهر أغسطس من العام 2020 انفجرت مئات الأطنان من نترات الأمونيوم (المخزنة سابقا) في مرفأ بيروت، ما أدّى إلى تدميره بشكل شبه كامل، مثلما دُمرت أجزاء وأحياء في المدينة التي كانت يومها واقعة في قبضة وباء كوفيد-19 (كما هي واقعة في قبضة العديد من المشكلات السياسية والأمنية والاقتصادية التي لا تنتهي، ولغاية الآن لم تُسفر التحقيقات التي أجريت عن أي بصيص أمل لمعرفة الجاني) ليخلّف ذلك أكثر من مائتي قتيل وآلاف الجرحى والمشردين.
على وقع هذا الانفجار تنتهي رواية جبور الدويهي الأخيرة، «سُمّ في الهواء» (دار الساقي)، ليرحل الكاتب بعد أشهر قليلة من تلك الحادثة، من جراء مرض، كان يعاني منه، في إحدى قرى هذا الجبل اللبناني (زغرتا، الواقعة في شمال لبنان) حيث وُلِد والذي لم يكف عن استحضاره طوال عمله الأدبي ورواياته المتعددة والتي استعاد فيها أيضا بيروت، المدينة التي عاش فيها وكتب عنها أجمل الصفحات.
قد تكون الأبخرة السامة التي انتشرت بعد الانفجار مجرد المظهر الأخير لسُم أكثر دقة غزا هواء لبنان منذ سنين عديدة والذي يحاول راوي الرواية الهروب منه بسجن نفسه في الصمت والعزلة.
تبدأ «سُمّ في الهواء»، بصورة عائلية التقطها في نهاية خمسينيات القرن الماضي أحد هؤلاء المصورين المتجولين الذين كانوا ينتقلون من منزل إلى منزل: امرأة أنيقة، متهالكة، على أريكة من الخيزران، وعلى الحائط فوقها صورة للجنرال ديغول وهو يلقي خطابًا. إلى يسارها، كان هناك صبي ذو شعر مبلل، وبينهما كلب نائم، ملتف على شكل كرة. يبدو أن كل شيء كان معلقا، سلميا. ومع ذلك، من خلال التركيز على المظهر، فإننا ندرك القلق والخوف. الكلب فقط هو الذي يستمتع بالهدوء الذي يلي الغداء في الموسم الحار. اسمه فوكس، وهو الوحيد من أبطال الرواية الذي يُشار إليه باسمه.
الشخص الذي يكشف خيط حياته في هذه الصورة التي لن يتخلى عنها أبدًا، يحافظ بعناد على عدم الكشف عن هويته بشكل عام حتى وهو يسعى جاهدًا لتسمية كلّ مكان من أماكن تجواله وكل شيء من هذه الأشياء التي تعيش فيه. يبدو راويا غريبا هذا الرجل - الطفل في الصورة - إذ إنه دائمًا على مسافة من نفسه، متعطش للقراءة ولكنه غير قادر على الكتابة، باستثناء بعض رسائل الحب التي كتبها في فصل الصيف الذي بلغ فيه التاسعة عشرة من عمره. في شخصيته بعض السمات «النفسية» التي تشبه رامبو (الشاعر الفرنسي، لا البطل السينمائي بالطبع). حين بدأ - وقبل أن يختفي هو نفسه أيضا - في إعادة قراءة الكتب التي أحبها أكثر من غيرها، قرر أن يحرقها بشكل منهجي؛ آخر كتاب ضحى به كان «الإشراقات» (لرامبو)، الذي كان يعده بمثابة حوليات صغيرة عن اضطراب المشاعر. يعيد قراءته مرة أخيرة، ثم يحتفظ به في جيبه لعدة أيام، وكأنه آخر رصاصاته، ليتلو منه بعض مقاطعه بصوت عالٍ وهو يتجول في غرفته.
قصة تاريخه، مثل قصة عائلته، عبارة عن نزوح متتال حسب التقلبات التي كان يمرّ بها لبنان (لغاية اليوم لم يتبدل أي شيء). فللهروب من القناصين والتفجيرات (زمن الحرب الأهلية)، يُقرر جميع أفراد العائلة أن يغادروا بلدتهم الساحلية إلى قريتهم الجبلية الهادئة. يأخذ الأب معه أدوات تصليح الأحذية كما أدوات تلميعها (يُقال عنه كندرجي باللهجة اللبنانية)، أما الأم فتحمل معها أواني الزهور والكتاب المقدس. أما العمّة - وهي السيدة التي تظهر في الصورة - فكانت ملكة جمال سابقة جمعت ثروتها في البرازيل، لم تتمكن من التخلي عن فساتينها وأحذيتها ومجوهراتها، ناهيك عن منتجات مكياجها. يكتفي الابن بمخزونه من الكتب دون أن يعلم أنه خلال هذا الصيف الغريب سيقع في مرجل الحب، ربما للمرة الأولى والأخيرة.
تمضي أسابيع الحرب الأولى، وعندما يصبح «شبه المنتجع» (منزل القرية) رتيبًا، ومع نزول المطر، يصبح المكان غير جذاب، فتقرر العائلة العودة إلى بيروت. البطل، شبح يتخلى عن القراءة ودروسه الجامعية، ويسافر بالمدينة في كلّ الاتجاهات. كأنه كان يتجول في حكاية عظيمة حررته من ألغاز الخيال. يقرأ كل ما يمكن قراءته في الشوارع: أسماءها المكتوبة على اللوحات، لافتات المتاجر، أوراق النعي المعلقة على الجدران، قوائم الطعام المعلقة على أبواب المطاعم. كما ينجذب أيضا إلى أشياء لا يمكن قراءتها، إلى ذكرياته، التي هي بلا شك ذكريات جبور الدويهي نفسه، التي تعيد الحياة إلى المدينة قبل الحرب الأهلية والكوارث التي تتابعت منذ ذلك الحين، إلى ألوان واجهات المباني الزاهية، الأسوار العالية التي ابتلعتها النباتات المتسلقة والزهور المجففة، والتي تخفي منازل قديمة كانت تعيش فيها عائلات قديمة، على وشك الانقراض، حياة صارمة وصامتة بقواعد من زمن آخر. ولكنّ عبقا من الحنين لا بدّ أن يشدّ إليه من عاش تلك الفترة من حياة مدينة، لم تعرف في النهاية سوى تدمير حلمها الذي اخترعته.
إنه زمن المغامرات السياسية الدموية، وفي بعض الأحيان البشعة والقبيحة. يحاول البطل المجهول، عددًا قليلًا من التجارب، لرغبته في اللعب والتسلية أكثر من كونه مقتنعا بذلك. والده، وهو عضو في أخوية القلب المقدس ويلتزم بمبادئ الكنيسة، يقدم نفسه على أنه شيوعي ويتحدث عن طيب خاطر عن تحويل قوة العمل إلى سلعة. أما خطة الابن للانضمام إلى الثورة الفلسطينية والفدائيين في وادي الأردن فقد فشلت فشلا ذريعا بسبب نوبة مغص في الأمعاء. بعد أن أصبح تروتسكيًا لبعض الوقت، بدأ ليلًا بخدش سيارات الجاغوار البهية وسيارات المرسيدس الرائعة ويكمل عمله بثقب إطاراتها انتقامًا لاغتيال أحد رفاقه. لكن لا نشاط خليته الثورية، ولا تكاثر الفتوحات الباسلة، ينجحان في انتشاله من حزن الموت وانبهاره. كأنه غائب عن نفسه منذ أن انتزع من جنّة الطفولة، لذلك يحاول هذا المتأنق الغريب أن يجرد نفسه تدريجيًا من كل ما يربطه بالحياة. تصبح قصة الزهد المأساوية هذه جميلة للغاية. كل التفاصيل الدقيقة لعالم يختفي - تأرجح قمة شجرة حور أو سرب من الحمام يهبط على سطح من القرميد الأحمر - تأخذ ارتياحًا غير عادي؛ إذ نستعيد من خلالها سيرة مدينة ذهبت عميقا إلى موتها. وما انفجار المرفأ، الذي يشكل المشهد الأخير، سوى هذه الستارة التي تنزل على خشبة المسرح لتخفي وراءها ذاك العرض الذي كان باهرا ذات يوم.
لن أقول إن «سُمّ في الهواء» هي بلا شك أجمل روايات جبور الدويهي، بل هي بمثابة إعلان حبه للحياة التي فارقته والتي غرقت في وطنه. وقد غرقنا معها كلنا. نحن جيل الحرب الذي عاش وأحب وقرأ وكتب على إيقاع الحروب. والتي يبدو أنها مرشحة لتعود قريبا.
إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
كيف سيتمكن لبنان من عزل نفسه عن الحرائق؟
كتبت روزانا بو منصف في" النهار": التحديات الاهم امام لبنان هي في انتقاله الى استكمال قدراته كدولة تمتلك ليس فقط قرار الحرب والسلم واستعادته من الحزب بل استعادة سيطرتها على كل مفاصل القرار اللبناني السياسي والامني والعسكري والاقتصادي. ولا تساهل ازاء ذلك في ظل تأن رسمي بقيادة مرحلة تنفيذ اتفاق وقف النار واظهار قدرات وعزم على القيام بذلك فيما ان الحزب ومن ورائه ايران ووفقا لما يعبر عنه مسؤولوها باستمرار لم تقتنع بعد بوضع حد لمفهوم "المقاومة" وهي لا تزال تضغط في هذا الاتجاه.
الرسائل من استمرار إسرائيل استهدافها مواقع لبنانية تقول انها للحزب فيما لا يصدر في المقابل اي دحض لهذا الادعاء على اي مستوى كان، كما استمرارها في استهداف عناصر للحزب توزع بعدها بيانا تفصيليا باسم المستهدف وزمن التحاقه بالحزب ومهامه تكشف الكثير.
من بين هذه الرسائل التي يضاف اليها سيف مسلط فوق رأس السلطات الرسمية في لبنان على مستويين على الاقل على غرار مشروع قانون امام مجلس النواب الاميركي يطالب لبنان بنزع سلاح الحزب خلال مدة قصيرة معينة فيما لا ضوابط فعلية امام صدور قوانين مماثلة تستهدف انهاء الحزب عسكريا او اشتراط اثبات الدولة حزمها السير بهذه الطريق من اجل مساعدتها على النهوض في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهها على هذا المستوى، اولا: ان اسرائيل تواصل قدراتها الاستخباراتية في اخضاع اي تحرك للحزب لمجهر دقيق يصعب الافلات منه راهنا على الاقل. ثانياً ان مواقفه المصرة على اعادة تأهيل نفسه تشكل سبباً رئيسياً للاستمرار في احتلال النقاط التي لا تزال تحتلها إسرائيل في الجنوب اللبناني ما لم تضمن هدوءا كليا على هذا المسار. بمعنى انها تقول ان بقاءها في هذه النقاط هي من بقاء الحزب كذلك فيما ان لا ضغط محتملا من اي جهة خارجية لمنعها من اضعاف الحزب اكثر فاكثر طمعا على الاقل من بعض دول الخارج باستعادة الدولة اللبنانية قدراتها وارغام الحزب على التحول الى حزب سياسي فحسب شأنه شأن سائر الاحزاب. وهذا الامر لم يعلنه الحزب بعد.
في السابق كان كثيرون يرون في اسرائيل عصا الولايات المتحدة في المنطقة، والعلاقة الراهنة بين اسرائيل والولايات المتحدة راهنا لن تدحض ذلك بل تؤكده اكثر. فيما ان الامور ليست مجرد ابيض او اسود لا سيما في ظل وجود عناصر كثيرة قد تخلط الاوراق او تعيد خلطها في المنطقة خصوصا مع الاستثمار السياسي لقوى اقليمية متعددة في ما يحصل في سوريا او تحريكها لما يحصل هناك والانعكاسات الكبيرة لذلك في اتجاهات متوقعة وغير متوقعة على حد سواء. والحرب الاهلية في سوريا قد تؤدي الى تغيير ومخاطر كبيرة بحيث تعمد اسرائيل الى تصعيد خرقها لاتفاق وقف النار في لبنان لا سيما تحت وطأة الحذر من توغل ايران مجددا وعودة تنظيم الدولة الاسلامية في سوريا، فيما ان الانعكاسات لن تلبث ان تهدد لبنان ودول الجوار السوري كذلك.
ولبنان بات ينظر بقلق شديد لكل ذلك ويخشى عبور الحرائق من حوله اليه فيما لا يزال هشا وضعيفا في هذه المرحلة المبكرة من بدء استعادته عافيته. والتهديدات التي تتصاعد حدتها من سوريا لا تخلو من ابعاد طائفية لا بل مذهبية مع اعدامات وانتقامات حصلت في الايام الاخيرة في المدن والقرى العلوية في اطار قمع محاولات التصدي للسلطات الجديدة ما ادى الى هرب الكثير من العلويين الى شمال لبنان. الامر الذي يضيف تعقيدات جديدة الى الواقع اللبناني المعقد ويربك امكانات وقدرات التعامل مع الواقعين القديم والمستجد منه كذلك. وكان لافتا التزام الحكومة صمتا مطبقا كليا ازاء التطورات السورية وطريقة مقاربة تداعياتها.