أظن أنه يجوز لي أن أتحدث عن فن المقال الصحفي بعدما كتبت مئات من المقالات المنشورة بالصحف الكبرى في مصر وغيرها من بلدان العالم العربي. والواقع أن مفهوم «المقال الصحفي» يُنظَر إليه غالبًا باستهانة باعتباره مقالًا عابرًا هو وليد اللحظة التي يتحدث عنها؛ ومن ثم فإنه سوف يطويه الزمان مثلما يطوي اللحظات والأحداث العابرة التي تتغير باستمرار.
لا بد منذ البداية أن نميز بين المقال الصحفي والمقال العلمي الذي نكتبه في مجلة أو كتاب؛ لأن المقال العلمي يكون موجهًا إلى قارئ مخصوص، بينما المقال الصحفي يكون موجهًا إلى القارئ العام الذي لا ينشغل بالمفاهيم والمصطلحات العلمية إلا إذا كانت تضيف إلى معرفته شيئًا جديدًا يتعلق بثقافته العامة. ولا يعني هذا التقليل من شأن المقال الصحفي؛ لأن دوره بالغ الأهمية فيما يتعلق بالتنوير وتأسيس الوعي الثقافي العام. وربما يدعونا هذا إلى مزيد من التأمل في فن كتابة المقال الصحفي.
الحقيقة أن كتابة المقال الصحفي تأتي على نوعين رئيسين: النوع الأول هو تلك المقالات التي تتناول الأحداث الآنية أو الراهنة التي تجرى في بلد ما، وهذه المقالات قد تكون لها أهمية كبرى، فهي يمكن أن تقيم الدنيا وتقعدها من خلال التأثير المباشر في الجماهير بأن تؤجج مشاعرهم أو تخمدها إزاء أحداث معينة. ولذلك فإن بعض كُتَّاب هذا النوع من المقالات تستخدمهم السلطة من أجل أداء أدوار معينة تهدف إلى التأثير في الرأي العام وتوجيهه. ولكن هذا لا يسري سوى على بعض كبار الكُتاب ممن لهم قدرة على التأثير في جماهير القرَّاء أو لديهم حظوة عندهم، أما الأغلبية من كتاب هذا النوع من المقالات فهم يكتبون عن الأحداث الجزئية الآنية والعارضة التي سرعان ما يطويها الزمن ويطوي معها كتاباتهم. فمهما كانت براعة الكاتب في فن الكتابة بوجه عام، ومهما كانت مقالاته تنطوي على كثير من الكلمات «الطنانة» والعبارات «الرنَّانة»؛ فإن تأثير كتاباته سيبقى مرهونًا بأهمية الحدث الذي يتحدث عنه، فإن لم يكن للحدث الجزئي أهمية أو قيمة تاريخية؛ فإن كتاباته ستؤول إلى الزوال سريعًا، ولن تبق إلا في أرشيفه الخاص.
أما النوع الثاني من كتابة المقالات الصحفية فهو يتمثل في تلك المقالات التي تتناول الأفكار التي تتعلق بالسياسة والعلم والفن والدين والقيم بوجه عام، بهدف تنوير الوعي العام من خلال أسلوب واضح بسيط يمكن أن يصل بسهولة إلى القارئ العام. وحتى حينما يتناول الكاتب هنا حدثًا من أحداث الواقع، فإنه يستخدم هذا الحدث باعتباره مناسبةً لتأمل ومناقشة قضية فكرية أكثر عمومية من هذا الحدث الجزئي؛ وبذلك يصبح الفكر مطبقًّا في الواقع، ويصبح الواقع مدخلًا لتنوير الوعي. وهناك أمثلة عديدة على هذا النوع من المقالات، ومن ذلك مقالات أستاذنا زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا ويوسف إدريس، وغيرهم كثير ممن كانوا يكتبون بشكل منتظم في المجلات والصحف الكبرى، وعلى رأسها جريدة الأهرام المصرية. لا يمكن أن ننسى -على سبيل المثال- مقال زكي نجيب محمود بعنوان «حديث الذبابة» الذي كان يرُّد فيه على تغييب الوعي الديني، حتى إن جاء على لسان الشيخ الشعراوي الذي روَّج لحديث ضعيف مفاده أنه إذا سقطت ذبابة في كوب من اللبن فيمكن أن تشربه؛ لأن الله الذي وضع المرض في أحد جناحيها قد وضع الدواء في جناحها الآخر! ولا يمكن أن ننسى مقاله بعنوان «عين فتحة عا» الذي كان يرُّد فيه على أعداء العَلمانية التي ينطقونها بكسر العين باعتبارها مستمدة من كلمة «العِلم» لا «العَالم»؛ وبذلك فإنهم لا يفهمون أصلًا حقيقة ما يتحدثون عنه! ولا يمكننا أن ننسى مقال أستاذنا فؤاد زكريا بعنوان «ميكرفون الجامع» الذي يحلل فيه المظاهر الشكلية للدين من خلال رفع الأذان والمواعظ والأدعية من خلال الميكروفونات المكبرة للصوت لفترة طويلة في عمق الليل؛ وكان يهدف من وراء هذا المقال إلى الكشف عن استخدام منتجات العلم البدائية (وهي الميكروفون هنا) بشكل سيئ ومزعج ينافي الغرض الأصلي الذي أُنشِئت من أجله. وهذا هو المقال الذي أعدت نشره في مجلة «الفكر المعاصر» التي توليت رئاسة تحريرها في إصدارها الثاني.
هذا النوع الثاني من الكتابة الصحفية هو النوع الذي ارتضيت. حقًّا إن هذا النوع من الكتابة عسير، ولكنه يكون قادرًا على البقاء بعد زوال اللحظات العابرة التي تُنتِج معظم الكتابات الصحفية الأخرى، وبوسعي الآن أن أتأمل هذه الحالة بطريقة فينومينولوجية (أعني من خلال التأمل الانعكاسي لتلك الحالة نفسها)؛ فلعل هذا يضيء ما أود الإفصاح عنه:
في كل أسبوع أجد أنني ملزم بكتابة مقال تتراوح عدد كلماته بين سبعمائة وثمانمائة تقريبًا. في كل مرة أجد نفسي ملزمًا -بحكم نهج الكتابة الذي ألزمت نفسي به - أن أجد فكرة جديدة أكتب عنها، أو أن أكتب عن تطوير لفكرة سبق أن تناولتها من قبل. وتلك معضلة كبيرة؛ إذ كيف تكتب أفكارًا جديدة بعدما تناولت هذه الأفكار في مئات المقالات. وحتى بعد أن تأتيك الفكرة الجديدة، فإنك يجب أن تنسجها بشكل مقنع يجسدها بوضوح في جُمَل وفقرات، وهو ما يمكن أن يستغرق أيامًا. ثم عليك بعد ذلك أن تراجع مجمل ما كتبت، فتحذف سطرًا أو تضيف سطورًا أخرى هنا أو هناك. هذه هي قناعتي عن فن الكتابة الصحفية من دون أن يعني ذلك التقليل من شأن النوع الأول من الكتابة الصحفية التي تتناول اللحظي والعابر.
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا النوع من من المقالات یمکن أن من خلال مقال ا
إقرأ أيضاً:
اكتشاف جديد يفك لغز اختراع الإنسان الكتابة في العراق القديمة
حقق الباحثون خطوة كبيرة أخرى في فهم أصول الكتابة، واستطاعوا اكتشاف أن أقدم نظام للكتابة بدأ في بلاد ما بين النهرين، مهد الحضارة، منذ حوالي عام 3000 قبل الميلاد.
وبحسب صحيفة "اندبيدنت" البريطانية، نجح السومريون في تطوير الكتابة المسمارية وكتبوها على ألواح طينية، ويرجع أصلها إلى مدينة أوروك الحضرية، أو العراق الحديث.
كما نجح الباحثون في اكتشاف آلاف الألواح، فضلاً عن الأختام الأسطوانية الحجرية الصغيرة التي كانت تستخدم كتوقيعات.
وتمكن أكاديميون في جامعة بولونيا الإيطالية من تحديد الروابط بين التصميمات المنقوشة على هذه الأختام الأسطوانية التي يعود تاريخها إلى 6000 عام، والنقوش التصويرية بالخط المسماري البدائي - والذي جاء قبل الخط المسماري - والذي ظهر في العراق القديمة.
وقالت البروفيسورة سيلفيا فيرارا، الباحثة الرئيسية، لصحيفة الإندبندنت اليوم الثلاثاء: "أردنا أن نرى ما إذا كان التفسير التقليدي أن الكتابة نشأت لأول مرة في في بلاد ما بين النهرين في أوروك في الألفية الرابعة قبل الميلاد".
وقالت فيرارا إن هذه النتائج تضيف إلى الأبحاث السابقة، التي وجدت أن الرموز هي الأدوات الأولى التي ساعدت على التحول إلى الكتابة بمفهومها التقليدي.
وأضافت فيرارا إن هذه النقوش هندسية ولا تحتوي على صور أيقونية مثل هذه الأختام في حين أن علامات نظام الكتابة المسمارية البدائية تبدأ بأيقونات.
وقالت "لقد أدركنا أن عددًا من الصور الموجودة على الأختام الأسطوانية تشبه في الواقع علامات نظام الكتابة المسمارية البدائية الذي تم استخدامه بعد قرنين من الزمان".
اكتشاف كائن حي قادر على تنظيف منطقة كارثة تشيرنوبيل اكتشاف أول حالة تبديل أطفال عند الولادة منذ 50 عامًاوأردفت: "كانت الأختام الأسطوانية التي تشكل جزءًا من شبكة التبادلات بين أوروك والمدن الأخرى في منطقتها... آلية مسؤولة عن إنشاء الكتابة."
عمل المؤلفان المشاركان والباحثان كاثرين كيلي وماتيا كارتولانو جنبًا إلى جنب مع فيرارا، وأوضحت كيلي أنهما أرادا فهم ما دفع القدماء إلى التحول للكتابة بمفهومها البدائي.