عودة لمحطة سفارة السودان بمسقط
تاريخ النشر: 5th, March 2024 GMT
محمود المدني
قرر أحدهم أن يعود لمحطة عُمان قادحًا في الجهد الذي يقوم به سفير السودان في عمان وطاقمه والذي شبهه بـ"الحواتي" الذي ينتظر فريسته منتقدًا وجوده في جروبات الواتساب والفيسبوك، وقد تلبب صوت المواطن السوداني الذي عادة ما يتلقفه كل صاحب غرض، والمواطن لا في العير ولا في النفير. ثم التوى إلى أنه تحدث إلى عدد من أصحاب الوكالات الخاصة بالاستخدام والاستقدام الخارجي بعد الحلقة الأولى -والتي لم أحظ بالاطلاع على ماجاء فيها ولكن الثانية تكفي- ومنذ متى كان مُقدم الخدمة هو صاحب المصلحة، بل هو محض قلب للحقائق.
ولسنا هنا في معرض الدفاع عن السفارة وطاقمها فلديهم قنواتهم التي يردون من خلالها، ولكننا نقول إنَّ أصحاب المصلحة الحقيقيين ليسوا أصحاب الوكالات الخاصة بالاستقدام واستخراج التأشيرات، لكن أصحاب المصلحة الحقيقيين- حسب علمنا- هم أولئك الفارين من جحيم الحرب طالبي التأشيرات إلى المملكة العربية السعودية، وجُل ما يهمهم هو أن تُقضى إجراءاتهم بأقل تكلفة، ولا يهمهم من الذي يُقدم لهم الخدمة. وقد تمَّ استغلالهم من بعض ضعاف النفوس وسماسرة التأشيرات في الأيام الأولى، حتى إن تكلفة استخراج تأشيرة الدخول إلى سلطنة عُمان وصلت إلى 200 ريال عماني، وهي التي لا تُكلف في حقيقتها وفي المنافذ الرسمية ربع هذا المبلغ، فإذا كان أصحاب الوكالات يريدون فعلا خدمة المواطن السوداني فلماذا يمتصون دمه بتكليفه كل هذه المبالغ الطائلة وإذا كانت هذه هي التكلفة الحقيقية فلماذا تراجعت بعد أن تدخلت السفارة مشكورة وعرضت الخدمة على النَّاس بسعر يناسبهم ووجدوا فيه ضالتهم ورحبوا به، ودليل ذلك تزمر أصحاب الوكالات الذين تحدث أحدهم في مقال، بلسانهم.
والحق أنَّ السفارة بتدخلها هذا قد قطعت الطريق على السماسرة، مع العلم بأنَّ المبلغ المتحصل من قبل السفارة يشمل إجراءات السفارة السعودية التي تكلف 70 ريالًا عمانيًا ولولا تدخل السفارة لما تنازل السماسرة وقلصوا تكلفتهم إلى 110 ريالات عمانية، متحججين بأنَّ زياراتهم مدتها شهر، علمًا بأنَّ إجراءات السفارة السعودية لا تحتاج إلى شهر، فعشرة أيام كافية وأقل في بعض الأحيان
وقد تواصلنا بدورنا مع عدد من المستفيدين من الخدمة وأكد عدد غير قليل منهم أنَّ السفارة قد سهّلت الإجراءات على السودانيين القادمين بغرض الحصول على تأشيرة الدخول للسعودية.. مؤكدين أنهم كانوا يصرفون مبالغ كبيرة تصل إلى 300 و400 ريال عماني في عملية استغلال واضحة رغم ظروف الحرب الصعبة.
كلمة ورد غطاها..
"الحواتي" ناظر المحطة يجوب المجموعات الواتسابية كي يصطاد مشاكل الناس ويقوم بحلها، وقد ضرب أروع الأمثلة كما جاء على لسان أحد أصحاب المصلحة في مسألة توفير فريق الجوازات الذين يعملون بجد ودون كلل في ظروف سيئة ووضع ليس بأمثل حتى ساعات متأخرة من الليل تسهيلاً لأمور النَّاس وخدمة لهم. ولهم منَّا الشكر والتقدير.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عودة النازحين السودانيين-مناورة سياسية فوق أنقاض وطن ممزق
شعارات براقة تُخفي حسابات القوة
في خضم الحرب الأهلية السودانية المستعرة، تتصاعد دعوات بعض الأطراف السياسية والحكومات المحلية لعودة النازحين إلى مدنهم المدمرة. إلا أن هذه الدعوات، عند تمحيصها، لا تمثل سوى محاولة لاستخدام الأزمة الإنسانية كورقة ضغط سياسي
وفق منطق "الريال بوليتيك"، حيث تكون الأرواح مجرد تفصيل في معادلة المصالح. ففي ظل تآكل الدولة، تتحول معاناة المدنيين إلى أداة تفاوضية بين الفصائل المسلحة واللاعبين الإقليميين.
الانهيار الهيكلي للدولة: مدن تحت أنقاض الحرب
مدنٌ مثل الخرطوم ونيالا والفاشر تحولت إلى أطلال بلا حياة. هذا الدمار الشامل لم يكن عشوائيًا، بل كان ثمرة استراتيجية ممنهجة تهدف إلى سحق مقومات الحياة المدنية:
تدمير البنية التحتية: المرافق الحيوية كالمياه والكهرباء تُستهدف عمدًا، لتجويع السكان وإجبارهم على النزوح أو الخضوع.
تسييس المؤسسات الخدمية: المدارس والمستشفيات تحولت إلى مقار عسكرية، في رسالة مفادها أن السلطة باتت بأيدي السلاح لا القانون.
انهيار الأمن: لم يعد الأمن غائبًا فقط، بل أصبح أداة تحكم. تنتشر الميليشيات بحرية، وتدار حياة المدنيين عبر الرعب المسلح، بينما تستغل بعض الأطراف مظاهر "استعادة الأمن" لتكريس سيطرتها.
تقارير الأمم المتحدة الأخيرة، التي حذرت بشكل واضح من أن الخرطوم لم تعد آمنة للعودة، تكشف زيف الخطاب الرسمي وتدين عمليًا غياب مؤسسات الدولة.
لعبة العودة: من المستفيد؟
خلف دعوات "العودة الآمنة" تتوارى حسابات سياسية بحتة:
تحسين الصورة أمام المجتمع الدولي: إظهار انخفاض أعداد النازحين يوحي بتحسن الأوضاع، مما يسهل استقطاب المساعدات الخارجية، التي غالبًا ما تُوظف لإدامة الصراع لا إنهائه.
ترسيم السيطرة الديموغرافية: إعادة توطين النازحين بشكل انتقائي يسمح للفصائل بفرض واقع ديموغرافي يخدم مصالحها، خصوصًا في مناطق الموارد كالذهب والأراضي الزراعية.
التخفيف عن دول الجوار: الضغوط المتزايدة على مصر وتشاد وجنوب السودان تجعلها تتغاضى عن أدوار بعض الفصائل المسلحة، وتقبل بها كأمر واقع في سبيل تقليل عبء اللاجئين.
اللاجئون- رهائن صراع إقليمي
دول الجوار تتعامل مع أزمة اللاجئين بمنطق المصالح:
مصر: تتبنى سياسات تضييق على اللاجئين لدفعهم للعودة رغم المخاطر، حفاظًا على استقرارها الداخلي وعلاقاتها مع القوى النافذة في السودان.
تشاد: توظف وجود اللاجئين كورقة تفاوضية لطلب الدعم الأوروبي، مقابل "ضبط الحدود" ومنع تدفقات الهجرة نحو أوروبا.
هذه السياسات توضح أن حق العودة ليس قضية إنسانية فحسب، بل ملف يُدار عبر حسابات معقدة ترتبط بالأمن الإقليمي والمكاسب الاقتصادية.
العودة الآمنة- شرط مستحيل في واقع الفوضى
وفق معايير السياسة الواقعية، تبدو شروط العودة، كما تطرحها المنظمات الدولية (وقف القتال، نزع السلاح، وجود قوات أممية محايدة)، أقرب إلى الأمنيات منها إلى الإمكانات:
نزع السلاح مستحيل- الفصائل تعتبر السلاح مصدرًا أساسيًا لقوتها السياسية والاقتصادية، ولا توجد قوة قادرة حاليًا على إرغامها على التخلي عنه.
إعادة الإعمار غائبة- في ظل انعدام سلطة مركزية معترف بها دوليًا، لا تجد الدول المانحة مبررًا لضخ أموال قد تقع في أيدي أمراء الحرب.
غياب الضمانات الدولية- المجتمع الدولي عاجز عن فرض حلول مستدامة في ظل انقسام مواقفه وتعدد أجنداته تجاه السودان.
الدم كعملة لشراء السلام
في ضوء هذه المعطيات، يصبح الحديث عن عودة النازحين اليوم أقرب إلى الخديعة السياسية. أطراف النزاع، ومعها بعض القوى الإقليمية والدولية، تدير الأزمة بهدف الحد من الخسائر وليس إنهاء المأساة.
السودانيون الذين نزحوا تحت وابل الرصاص والقذائف ليسوا فقط ضحايا الحرب، بل أسرى في لعبة مصالح تتجاوز حدودهم الوطنية.
الدرس الأشد قسوة أن السلام في السودان لن يتحقق عبر عودة متسرعة إلى مدن مدمرة، بل عبر إعادة بناء دولة عادلة حقيقية — وهو حلم ما يزال بعيد المنال، طالما ظل الدم أرخص من كلفة السلاح.
zuhair.osman@aol.com