إغاثة غزّة من الجو.. بروباغندا سياسية حاطّة لكرامة الإنسان
تاريخ النشر: 5th, March 2024 GMT
قامت عدد من الدول العربية والأجنبية بعمليات إنزال جوّي لإغاثة 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة، يتعرضون للتجويع والتعطيش بقرار إسرائيلي احتلالي، زاد وحشية عقب إصدار محكمة العدل الدولية قرارها (26 كانون الثاني/ يناير) بإلزام إسرائيل، كقوّة احتلال، باتخاذ إجراءات احترازية تمنع بموجبها الإبادة الجماعية؛ حيث تؤكّد التقارير الدولية بأن دخول مواد الإغاثة إلى غزة تراجع بنسبة 50 في المئة منذ كانون الثاني/ يناير من هذا العام، مقارنة بالأشهر السابقة، ما يشير إلى تعمّد إسرائيل وضع مزيد من العراقيل، عقب قرار المحكمة، أمام دخول المواد الإغاثية الشحيحة أصلا، عبر معبر رفح المصري الفلسطيني، وعبر معبر كرم أبو سالم المشترك.
لجوء بعض الدول العربية إلى عمليات الإنزال من الجو، بديلا عن الممرات البرية، تمكن مناقشته أو اعتباره طريقة المُقِل والعاجز عن مواجهة صلف الاحتلال وغطرسته ورعونته، ولكن لجوء واشنطن إلى ذات الأسلوب وهي الدولة الراعية والداعمة للاحتلال والشريك المفضّل له في الحرب على غزة، فهذا يوضّح أن أسلوب الإنزال مجرّد موضة سياسية وبروباغندا إعلامية تُنفّذ لأغراض سياسية، على حساب معاناة الأطفال والمدنيين الفلسطينيين الذين دخلوا مرحلة الجوع.
لجوء بعض الدول العربية إلى عمليات الإنزال من الجو، بديلا عن الممرات البرية، تمكن مناقشته أو اعتباره طريقة المُقِل والعاجز عن مواجهة صلف الاحتلال وغطرسته ورعونته، ولكن لجوء واشنطن إلى ذات الأسلوب وهي الدولة الراعية والداعمة للاحتلال والشريك المفضّل له في الحرب على غزة، فهذا يوضّح أن أسلوب الإنزال مجرّد موضة سياسية وبروباغندا إعلامية تُنفّذ لأغراض سياسية، على حساب معاناة الأطفال والمدنيين الفلسطينيين
من غير المقبول، ناهيك عن المعقول، أن تقف واشنطن عاجزة، ومن خلفها دول عربية وإسلامية، غير قادرة على فرض إدخال المساعدات الإنسانية عبر الطرق البرية وخاصة معبري رفح وكرم أبو سالم على الحدود المصرية، فواشنطن لديها العديد من الأوراق الضاغطة في هذا السياق؛ عبر مجلس الأمن الدولي، الذي حالت دون إصداره 3 قرارات لوقف العدوان على غزة لأسباب إنسانية، ناهيك عن قدرتها على وقف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل أو تقليصها، كما إعادة النظر في المساعدات الاقتصادية المباشرة والتي كان آخر دعم تل أبيب بـ14 مليار دولار.
في السياق السياسي؛ يمكن قراءة إنزال بعض الدول العربية المعنية للإغاثة من الجو، كخطوة لإخفاء تقصيرها أو عجزها أو "تواطئها" كما يحلو للبعض وصفه، بالإضافة إلى تنفيس احتقان الجماهير العربية لا سيّما قُبيل رمضان.
أما واشنطن فهي تعاني من سقوطٍ أخلاقي عالميا، والأهم تراجع شعبية الحزب الديموقراطي والرئيس بايدن قُبيل الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، فمنسوب عدم رضا الجماهير الأمريكية عن سياسية بايدن بشأن الكارثة في غزّة يرتفع؛ فحسب استطلاع أجرته وول ستريت جورنال نهاية الأسبوع الماضي، أعرب 60 في المئة من الناخبين الأمريكان عن عدم رضاهم على طريقة تعامل بايدن مع الحرب على غزة، كما أن 33 في المئة من الناخبين يعتقدون أن واشنطن لا تفعل سوى القليل لمساعدة الفلسطينيين.
بناء عليه، فإن واشنطن التي أسقطت 38 ألف وجبة جاهزة على 2.3 مليون إنسان، تهدف لذر الرماد في العيون للتغطية على شراكتها في جريمة إبادة الفلسطينيين في غزة قتلا بالسلاح الأمريكي أو تجويعا باستمرار إغلاق المعابر، وذلك في مسعى منها لإرضاء الرأي العام الأمريكي الرافض لسياسة بلده تجاه الحرب على غزة. ولعل قيام 100 نائب أمريكي تقدّمي بالضغط على الرئيس بايدن، عقب مجرز الطحين/دوار النابلسي غرب مدينة غزة والتي راح ضحيتها قرابة الـ120 شهيدا ونحو 800 جريح، لإدخال المساعدات، يشير إلى مستوى الأزمة الأخلاقية والانتخابية التي يواجهها الحزب الديمقراطي بقيادة الرئيس بايدن.
وفي سياق قراءة مفاعيل عمليات الإنزال من الجو على الفلسطينيين في غزة، يمكن الوقوف على عدة نقاط مهمّة على النحو التالي:
أولا: عمليات الإنزال جنوب مدينة غزة وخارجها جغرافيا، تتساوق مع فكرة الضغط على من تبقى في محافظات الشمال لدفعهم إلى النزوح جنوبا، حيث تصل بعض المساعدات على قلّتها عبر معبري رفح وكرم أبو سالم على الحدود المصرية، وهذا هدف عمل عليه الاحتلال منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة، إضافة إلى أنه أسلوب لمعاقبة 700 ألف فلسطيني رفضوا النزوح من الشمال وتحدّوا إرادة الاحتلال.
ثانيا: إنزال المواد الإغاثية على قلّتها جوا، يفرض حالة من الفوضى بين المدنيين، لعدم وجود آلية أو مؤسسات دولية كـ"الأونروا" لرعاية إيصال المساعدات بشكل منظّم إلى المدنيين، وهذا يعدّ طريقة حاطّة لكرامة الإنسان، فالشعب الفلسطيني أكرم من أن تُلقى عليه المساعدات ويسعى لها كالتائه بلا هداية، وفي ظروف أمنية وعسكرية خطرة وغاية في القسوة أفضت في كثير من الأحيان إلى استهداف الاحتلال لجموع المدنيين قصدا، كما حصل مؤخرا في مجزرة الطحين/دوار النابلسي جنوب مدينة غزة.
ثالثا: ما يجري هو انصياع لإرادة الاحتلال وسياساته باستمرار منعه دخول المساعدات عبر المنافذ البرية، وخاصة معبر رفح الذي يعدّ معبرا مصريا فلسطينيا مهما لإدخال المساعدات المتكدّسة في سيناء، وتكريس للمعاناة الإنسانية بدلا من حلها.
رابعا: عمليات الإنزال الجوي دون تنسيق مع السلطات الفلسطينية المحلية أو حكومة غزة، فيه تجاوز للمرجعيات الوطنية الفلسطينية، وترسيخ لفكرة تغييبها عن المشهد المدني داخل غزة، وهذا ما يريده الاحتلال ويسعى إليه من خلال رفضه لوجود حكومة فلسطينية في غزة إن كانت بقيادة فتح أو حماس على حد سواء.
ما يجعل تلك الخلاصات أقرب للواقع؛ تنسيق الدول المعنية بالإنزال الجوي مسبقا مع الاحتلال، وتحت سيطرته، إلا إذا تجاوزت تلك الدول رمزية الكميات الإغاثية وحوّلتها إلى جسر إغاثة جوّي يغطي الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية والدوائية، مع أن ذلك غير عملي ناهيك عن لوازم الوقود، وغطّت بها كافة مناطق القطاع جغرافيا، وبتنسيق مع حكومة غزة أو مؤسسات دولية معنية وفي مقدمتها وكالة "الأونروا" كأكبر مؤسسة دولية معنية بشؤون اللاجئين الفلسطينيين، لمنع الفوضى وتنظيم وصول المساعدات إلى كافة الفئات. وهذا يبقى برسم تلك الدول إن كانت جادّة وتريد أن تقوم بدور حيوي تُبْعد فيه شبح التجويع والإبادة عن الأطفال والمدنيين، مع أنه لا ولن يغني عن المعابر البرية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة المساعدات الإنزال الجوي غزة مساعدات إنزال جوي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عملیات الإنزال الدول العربیة الحرب على غزة من الجو
إقرأ أيضاً:
القس رفعت فكري: التسامح لم يعد واجبًا أخلاقيًا فحسب بل فريضة سياسية وقانونية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أكد الدكتور والقس رفعت فكري رئيس مجلس الحوار والعلاقات المسكونية بالكنيسة الإنجيلية، أمين عام مشارك بمجلس كنائس الشرق الأوسط أن التسامح لم يعد واجباً أخلاقياً فحسب، بل هو فريضة سياسية وقانونية في الوقت نفسه، مشدداً على أنه لن ينعم عالمنا بالسلام الحقيقي دون ترسيخ لمفهوم التسامح الذي أصبح وجوده حاجة ماسّة وليس ترفاً فكرياً
جاء ذلك خلال الصالون الثقافى والفكري الخامس بمناسبة اليوم العالمى للتسامح، بمؤسسة "فكر واعمل" بمنطقة شبرا، برعاية المهندس باسم فكري، مدير عام المؤسسة.
تنقل "لبوابة نيوز" نص الكلمة الافتتاحية للقس رفعت فكري، كالآتي:
منذ عام 1996 واستناداً إلى "إعلان مبادئ بشأن التسامح" ذلك الإعلان الذي اعتمده المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والعشرين، بباريس يوم 16 نوفمبر 1995, والأمم المتحدة تحتفل باليوم العالمي للتسامح، ومصطلح "التسامح" هنا يحتاج إلى تحديد وضبط, فلقد كان فولتير يقول دائماً: " قبل أن تتحدث معي حدد مصطلحاتك" وهذه المقولة الهامة يجب استحضارها هنا ونحن في إطار تعريف التسامح حيث تتداخل التعريفات وتتعدد كثيراً, فالتسامح "Tolerance"الذي نتحدث عنه هنا ليس هو الغفران "Forgiveness" وليس هو العفو عن الإساءة, ولكننا يمكننا أن نصل إلى المعنى المقصود من خلال بعض الإجابات التي تلقتها منظمة "اليونسكو" عن سؤالها الذي طرحته عام 1995: ما التسامح ؟
التسامح هو احترام حقوق الآخرين وحرياتهم .
التسامح هو اعتراف وقبول للاختلافات الفردية, وتعلم كيفية الإصغاء إلى الآخرين والتواصل معهم .
التسامح هو تقدير التنوع والاختلاف الثقافي, وهو انفتاح على أفكار الآخرين وفلسفاتهم, بدافع الرغبة في التعلم والاطلاع على ما عندهم .
التسامح هو الاعتراف بأنه ليس هناك فرد أو ثقافة أو وطن أو ديانة تحتكر المعرفة والحقيقة .
التسامح هو موقف إيجابي تجاه الآخرين دون استعلاء أو تكبر .
التسامح إذاً هو احترام وإقرار وتقدير التنوع الغني لثقافات عالمنا, ولأشكال تعبيرنا وطرق ممارستنا لآدميتنا, والتسامح ليس واجباً أخلاقياً فحسب ولكنه أيضاً متطلب سياسي وقانوني, ويتعزز التسامح من خلال التواصل وحرية الفكر وحرية العقيدة والديانة, إن التسامح هو الانسجام في الاختلاف, والتسامح ليس تنازلاً أو تعطفاً أو تساهلاً ولكنه قبل كل شيء هو الإقرار بحقوق الإنسان العالمية والحريات الأساسية للآخرين, ويجب أن يُمارس التسامح من قبل الأفراد والمجموعات والدول, ولا تعني ممارسة التسامح القبول بالظلم الاجتماعي أو نبذ أو إضعاف معتقدات المرء, بل يعني أن الشخص حر في تمسكه بمعتقداته وفي نفس الوقت يقبل تمسك الآخرين بمعتقداتهم, إنه يعني إقرار حقيقة أن البشر في تباينهم الطبيعي من حيث المظهر والحالة واللغة والسلوك والقيم لهم الحق في العيش في سلام وأن يكونوا كما هم, ويعني أيضاً أن آراء المرء لا يجب أن تُفرض على الآخرين.
واضح من كل هذه التعريفات أن التسامح يعني أن هناك تعدداً وتنوعاً في المجتمع أياً كانت طبيعته, وأن التسامح يعني قبول الاختلاف, وأن التسامح نقيضه هو التعصب الذي ينفي الاختلاف ويسعى للبحث عن التماثل وإنكار أي شكل من أشكال التنوع والاستقلال, فالتعصب هو اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً معيناً أو جماعة معينة أو موضوعاً معينا إدراكاً إيجابياً محباً, أو سلبياً كارهاً, دون أن يكون لذلك ما يبرره من المنطق أو الشواهد التجريبية, لذا فإن مناقشة موضوع التعصب أو التطرف بكل أشكاله السياسية أو الأدبية أو العنصرية أو الدينية، إنما هو سبر أغوار النفس الإنسانية بنشأتها وتكوينها، وهي محاولة لا يألوا الإنسان فيها جهداً لمصارعة ذاته بذاته، فإما أن ينتصر عليها ويخضعها لسلطان العقل, أو أن تفلت من عقال العقل وتنحدر نحو الحيوانية بعد أن خلقها الله بأحسن تقويم, فالتعصب هو اتخاذ موقف متشدد في الرأى تجاه فكرة يعتبرها المتعصب الأساس والحقيقة المطلقة الوحيدة, وتقف وراء التعصب أسباب عديدة, فالتعصب أولاً وقبل كل شيء نزعة ذاتية أنانية "نرجسية" كامنة في كل كائن بشري، ولكنها تطفو إلى السطح وتبرز إلى الواقع حين يتهيأ الجو الملائم لها، حين تواجه الذات "الأنا" بالآخر وتتصور أنه تتوقف على هذا الصراع مسألة الوجود من عدمه, فالمسألة إذن هي تصور لإيمان راسخ بأن "الآخرين هم الجحيم" كما يقول سارتر.
إن التعصب يبدأ بالكلام وينتهي بالإرهاب مروراً بالتجنب والاضطهاد والاعتداء البدني, والتعصب هو تقديس للأنا وإلغاء للآخر، فكل ما تقوله "الأنا" يدخل في حكم الصحيح المطلق، وكل ما يقوله الآخر يدخل في حكم الخطأ الفادح, ويقود هذا الى موت لغة التواصل والحوار، وحين يموت منطق الحوار تنطق الحراب والبنادق, وتُحفر الخنادق وتستباح الدماء, إن التعصب هو انغلاق وانكفاء نحو الداخل وارتداد على الذات, وتقوقع في زاوية ضيقة ورؤية قاصرة للكون .
إن الله لا يهتم كثيراً بالذبائح والقرابين ولكنه يهتم بالعلاقة مع الإنسان الآخر, إن شريعة الله هي: أن أحب أخي في الإنسانية قبل كل فروض الصلاة والصوم والقرابين, فما قيمة الصلوات والأصوام والطقوس وكل مظاهر العبادة إن لم تكن هناك محبة حقيقية للإنسان الآخر؟ فهناك فرق شاسع بين التدين والإيمان الحقيقي, فالتدين كثيراً ما يركز على المظاهر الخارجية وهي أمور جميلة وهامة بينما الإيمان الحقيقي هو موقف أخلاقي يقدس القيم ويحترم الإنسان الآخر أياً كان لونه أو دينه أو مذهبه, فما أسهل التعبد لله ورفع الصلوات والأصوام ولكن ما أصعب التسامح وقبول الآخر المغاير, إن الله سبحانه يريد أن يعيش البشر أسرة واحدة تربطهم رابطة المحبة, لذا فهو سبحانه لا يقبل عبادة مزيفة من قلب ممتلئ بالكراهية والتطرف والأنانية, إن العبادة الحقيقية التي تسر قلب الله هي التي تمر عبر الإنسان الآخر من خلال محبته وخدمته .
وقد حرر لوك «رسالة فى التسامح» نشرها فى عام ١٦٨٩، وبها أربع عبارات هامة هى: «ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية»، «فن الحكم ينبغى ألا يحمل فى طياته أية معرفة عن الدين الحق»، «خلاص النفوس من شأن الله وحده»، «الله لم يفوض أحداً فى أن يفرض على أى إنسان ديناً معيناً». ما مغزى هذه العبارات؟ إن مغزى هذه العبارات عند لوك، أن التسامح يستلزم ألا يكون للدولة دين حتى لو كان هذا الدين، من بين الأديان الأخرى، هو دين الأغلبية لأنه لو حدث عكس ذلك، أى لو كان للدولة دين الأغلبية فتكون هذه الأغلبية طاغية بحكم طبيعة الدين، وعندئذ يمتنع التسامح بحكم أنه نسبى لأنه من إفراز العقد الاجتماعي المؤسس على العَلمانية.
ومنذ عام 1996 والأمم المتحدة، استناداً إلى إعلان اليونسكو 1995، تحتفل باليوم العالمي للتسامح، الذي يعني فيما يعنيه أن المجتمع البشري بحاجة إلى نشر وتأصيل قيم التسامح كمنظور إنساني وأخلاقي، لا يمكن تقدّم المجتمع الدولي والإنساني من دونه، إذ لا يمكنه الخروج من غلواء التطرف والتعصب واللاتسامح، إلاّ بتعميم فكرة قبول الآخر.
إن التسامح لم يعد واجباً أخلاقياً فحسب، بل هو فريضة سياسية وقانونية في الوقت نفسه، ولن ينعم عالمنا بالسلام الحقيقي دون ترسيخ لمفهوم التسامح الذي أصبح وجوده حاجة ماسّة وليس ترفاً فكرياً، إن التسامح يعني اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخر في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية, وبهذا المعنى فهو مسؤولية قيمية وواقعية للإقرار بالحقوق والتعددية والديمقراطية وحكم القانون، وهو أمر ينطوي على نبذ الاستبدادية، خصوصاً بالإقرار بحق الإنسان في التمسك بمعتقداته، وهو إقرار ناجم عن أن البشر المختلفين في طباعهم ومظاهرهم وأوضاعهم وسلوكهم وقيمهم وقومياتهم ودياناتهم ولغاتهم وأصولهم، لهم الحق والمساواة في العيش بسلام، وإذا ما استعرضنا بعض العوامل المانعة لنشر قيم التسامح، فعلى الصعيد الفكري قد يوجد حجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير لدى الآخر، بفرض قيود وضوابط تمنع أو تحول دون ممارسة هذه الحقوق، وأحياناً تنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يتجرأون على التفكير خارج ما هو سائد أو مألوف سواءً عبر قوانين مقيّدة أو ممارسات قمعية تحت مبررات شتى.
وعلى الصعيد الديني فإن عدم التسامح يعني التمييز بحجة الأفضلية ومنع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حر، خصوصاً ضد ما هو سائد، وأحياناً تزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد عبر التعصب الطائفي أو المذهبي في محاولة لإلغاء الفرق والمذاهب والاجتهادات الأخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة.
واجتماعياً فإن عدم التسامح يعني فرض نمط حياة معينة بغض النظر عن التطورات العاصفة التي شهدها العالم، لأنماط متنوعة، مختلفة، متداخلة، متفاعلة، وأحياناً يتم التشبث بسلوك وممارسات عفا عليها الزمن وأصبحت من تراث الماضي.
يمكن القول إن كل المجتمعات البشرية تحمل قدراً من اللاتسامح سلبياً أو إيجابياً، لكن الفرق بين مجتمع وآخر هو في مدى اعتبار التسامح قيمة أخلاقية وقانونية ينبغي إقرارها والالتزام بها حتى وإن كان البعض لا يحبّها، أما الفرق الثاني بين المجتمعات المفتوحة التي توافق على التسامح وبين المجتمعات المغلقة التي ما تزال تتمسك باللاتسامح وبتهميش أو إلغاء الآخر، فإن بعض المجتمعات تستطيع إدارة التنوّع والتعددية الثقافية والدينية واللغوية والاجتماعية وغيرها، في حين تخفق أو تعجز فيها مجتمعات أخرى، ويوجد في العالم اليوم تعدديات وتنوعات دينية وثقافية واجتماعية.....الخ، الأمر الذي يستوجب أن تكون الدولة هي الحاضن الأكبر للتسامح، وهو يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الأنا والآخر على أساس المواطنة والمساواة الكاملة، ومن خلال التربية والاستفادة من المخزون القيمي للأديان وللفطرة الإنسانية، وهو ما ينبغي أن ينعكس على الصعيد الدولي أيضاً.
إن ما يحتاج العالم العربي أن يدركه بقوة في هذه الأيام, إن الآخر هو جزء من حياتي, جزء من عالمي الخاص, وهو في رقبتي على طول المدى, فلا يمكن أن أعيش بدون الآخر, ولا أستطيع حتى أن أمارس العبادة بدون الآخر, بل لا أستطيع الوصول إلى الله بدون الآخر أياً كان لونه أو دينه أو جنسه أو جنسيته أو عرقه أو معتقده.
إن الحضارة الإنسانية ازدهرت وازدهت بالتنوع، والأحادية لم تصنع إلا أفولاً وذبولاً, لذا فكم نحتاج لأن نختلف ونأتلف, ولنتيقن أن اللحن الواحد لا يمكن أن يعطي نغماً جميلاً, والعصفور الواحد لا يمكن أن يصنع ربيعاً, والزهرة الواحدة لا يمكن أن تصنع بستاناً!! .
قال محي الدين بن عربي أحد أشهر المتصوفين (25 يوليو 1165م – 8 نوفمبر 1240م)
قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني.