(1) قطع الإتصالات فى السودان ولمدة طويلة كشف وقائع جديدة وأكد أفتراضات كانت مجرد أحاديث ونظرية ، وحاولت هنا رصد بعض تلك المظاهر ، وسأختم بإذن الله بنقطة ذات طابع أكاديمي عن مناهج (البحث الكيفي والكمي)..

وأول تلك الملاحظات هو هذا الإرتباط عميق لحياة الناس بالإتصالات ، فهى لم تعد وسيلة إتصال ، بل وسيلة تبادل منافع ودخلت فى كل مظاهر الحياة ، وخاصة التطبيقات ، فهى ليست تحويلات مالية وإنما منصات للدراسة وللتطبيب وللتجارب.

.
عندما صدر كتاب :
The Internet in every day life
بمشاركة كارولين هايثورن وهاري ويلمان عام 2002م ، كنا نظن ذلك نوعا من الخيال ، وفجأت ظهرت كتب :
The Internet of things
وتعددت صور تأثير الانترنت حتى اضحت جزءا من حياة الناس وتفاصيلهم اليومية..
اما الملاحظة الثانية ، فقد جلبت الانترنت وايقاع الحياة المتسارعة (اللهفة) ، وعايشت ذلك ، و مع أن الإتصالات لم تنعدم كليا ، فقد عادت شبكة سوداني بعد خمسة أيام للخدمة واصبح متاحا معرفة الأخبار ، فإن هناك حالة كبيرة من الإشفاق وخاصة لدي المغتربين ، وضجت منابرهم بالشكوى والضجر ، والمجتمع الذي كان ينتظر الخطاب لأكثر من شهر والبريد العاجل لإسبوع ، هو اليوم مشفق وقلق من إنعدام التواصل لأيام.. ولهذا تفسير مقلق ، وهو إنعدام الطمأنينة والأمن على البلد .. وشعور المغتربين بعدم الامان ، ولئن كان ذلك كذلك لأبناء الوطن ، فكيف هو شعور الآخرين (دول وشركات ومنظمات ومجتمعات ورجال اعمال) ، بالتأكيد أشد قتامة..

(2)
ثلاث نقاط جديرة بالتوقف عندها فى تفاصيل النت والشركات ، وأولها: هو مركزية الخدمات فى الخرطوم ، مع أن لبعض الشركات أكثر من (مقسم) ، ولكنها محصورة بين الخرطوم وبحري وحتى أمدرمان لم تحظ بواحد ، ولا نستطيع لوم الشركات ، فهذه تدابير عقل استراتيجي ، عندما كان الحديث عن شمول الإتصال ، لم نهتم بالقرب أو بالكيفية..
ثم كيف توسع الشركات إنتشار مقسماتها مع ظروف خدمات وطيران وكهرباء غير مناسبة ؟ ، علينا أن نخطط بعقل اكثر فاعلية ، كيف نؤسس وحدة ادارية فى اكثر من مكان (واقصد هنا دولة مصغرة أو عاصمة مصغرة) ..
والنقطة الثانية : هو المبادرة ، فمنذ بداية الحرب فى 15 ابريل 2023م ، كان الوقت كافيا لترتيب خيارات بديلة دون الوقوع فى المحظور ، وما تم فى 15 يوما ، كان يمكن إنجازه فى 9 شهور سابقة بطريقة أفضل

والنقطة الثالثة : هى ضعف العلاقات التبادلية بين الشركات والمؤسسات ، وسيادة مبدأ التنافس غير الحميد ، وهو نوع من إرث السياسات (الإحتكارية) و (التكويش) ، فبدلا عن المنافسة على تطوير الخدمات وتعدد الخيارات ، فإن الشركات فى بلادنا تتنافس على قدرة (تقليل فرص نجاح بعضها البعض) ، ومثلا شركة سوداتل تحتكر خدمة الألياف الضوئية بنسبة 90% ، وناضلت ضد أيلولة 10% إلى شركة زين (صفقة شركة كنار) ، وشركة زين كانت ضد الرقم الموحد ، وتبادل الخدمة فى مناطق ضعف انتشار الشبكات الاخرى لإنها أكثر انتشارا ولإنها تملك جيلا حديثا ، وهكذا ، ولذلك لا يملك المواطن سوى خيار شبكة واحدة.. وهو ما كشفته هذه الأزمة بوضوح..
(3)
صورة أخرى لا تقل بؤسا عن سابقاتها ، وهو عدم الإهتمام بحياة الناس ومصالحهم ولا بالبنيات الأساسية ، لقد كشفت هذه الحرب عن عقم التفكير وضعف الولاء للوطن أو المواطن ، وبصورة ادق فإن مجموعة من الاشخاص يحملون أسلحة وقرروا حرمان المواطنين من حقهم فى الإتصال وتبادل المنافع (فقط اوقفوا مولدات الطاقة بالمقسم الرئيسي لشركة زين بجبرة) وتوقفت حياة الناس بهذه البساطة.. و كذلك فعلوا فى سوداتل ، ثم جلسوا بالخارج يرتشفون الشاي..

لقد ظلت الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية تناضل من أجل تقنين حق الإتصال ، بإعتباره مظهرا لحق التعبير وإبداء الرأى ، ومنذ سبعينات القرن الماضى تعالت أصوات العالم الثالث من اجل عدالة (الإتصال) ، حتى تأسس شعار (عالم واحد وأصوات متعددة) ، وحين أتسعت الفضاءات وتقارب العالم ، وفى غمرة مجادلات سياسية ، يتم بكل بساطة معاقبة جماعية للسودانيين كافة..
ومع كثرة الإنتقادات لهذه الخطوة ومع عظم تأثيرها على المواطنين وعلى إقتصاد البلاد فإنهم لا يأبهون ، فهم من عالم آخر ، جاءوا من (لا شىء ويريدون إحالة البلاد إلى لا شىء)..
(4)
وفى خاتمة ، هذه الإشارات ، اود أن أختم بقضية منهجية وإشارة عابرة ، والنقطة المنهجية هو إعتمادنا فى دراساتنا العليا على المنهج الكمي (نموذج العينة) ، وتجاهل كليا المنهج الكيفي (الذي يستند على المعايشة والمشاهدة) ، مع أن هذا الخيار الاخير أكثر مصداقية وموثوقية من العينة ومؤثراتها ، وأقرب للحس الإنساني ، ومثلا تأثير الإتصالات هذه يمكن أن يروى تفاصيلها مواطن بسيط فى اطراف البلاد ، عن انقطاع مصاريفه أو تأخير جواز سفره أو فقدان خبر مريضه..الخ.. وذلك شأن يتطلب سعة فى الطرح..

أما الإشارة العابرة فهى منصات التواصل الإجتماعي ، ورغم انقطاع الإتصال ، فإن (التايم لاين) لم يتأثر بذات الحجم ، واقصد بها الفيسبوك وتويتر ، وظلت الوتيرة عالية ، ولكن حدث غياب للمحتوي الإخبارى ، وهذا معناه أن (تطبيق واتساب) هو منصة تبادل الأخبار أو المطبخ ، بينما الفيسبوك وتويتر هى منصات نشر ، وهذا جدد قناعتى بان (الواتساب) ليس محل بناء القناعات ، وإنما تبادل المعلومات ، فلا تكثروا الجدل العقيم فيه ، هناك منتديات أوسع وجمهور اوسع بالخارج..

وأختم بالقول ، إن هذه فجيعة كبيرة وإنتهاك عظيم لحقوق الناس ، ولا يمكن إعتبارها هدفا عسكريا ، لم تغير فى ميدان المعركة أو تعطي ميزة تفضيلية ، ولابد من تقديم شكوى ضد هؤلاء الرعاع من مليشيا الدعم السريع وقادتهم ، وهى الجريمة الأكثر ألما بعد تهجير المواطنين من بيوتهم وإحتلالها وسرقتها..
حفظ الله البلاد والعباد..


د.ابراهيم الصديق على
4 مارس 2024م ..

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

القرآن..البوصلة الحقيقة للأمّة

الانشغال بالقران في شهر القرآن هو تجديد العهد بأيام نزوله

المجتمعات المسلمة بحاجة ملحّة إلى العودة إلى القرآن الحكيم كمنهج وطريقة حياة، لهذا وجب لنا فقه "قراءة القرآن" بمعنى أن نفطِن أو ندرِك حقيقة الفضل والثواب لقارئ القرآن، وفضل من رزِق العمل به، وما ينتظره في الآخرة من عاقبة طيّبة وحسن مآب، لأنّه من أعظم الطّاعات، وأجلّ القربات، فيجب تعويد النفس- قبل رمضان- قراءة القرآن، فهو حبل اللّه المتين، وحامله من أهل اللّه وخاصّته، ويأتي القرآن شفيعًا لصاحبه، الذي يجيد فهم القرآن وتلاوته مع السّفرة الكرام البررة، وتنزل عليه السّكينة، وتغشاه الرّحمة، وتحفّه الملائكة، وله به في كلّ حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ويقال له يوم القيامة اقرأ واصعد في درجات الجنّة فمنزلك عند آخر آية تقرأها من القرآن، وكثير من الفضائل الجليلة.
كما وصف الله القرآن بأوصاف عديدة هي أسماء لها دلالات ومغزى تدلّ على عظيم فضل القرآن وعلوّ منزلة قارئه وعاقبة التلذذ بتلاوته، وهي أنفع الطرق لصلاح القلب وذهاب القسوة عنه، ولا بد من وقفة أو لحظات متأنّية متأمّلة ومتدبرة كي نهّذب نفوسنا ونزكّيها ونطهرها، وتتجسد ذواتنا في هذه الخصال والمناقب، وصف اللّه القرآن بأنه "روح" "وبشرى"، وبأنّه" نور" و "حق"، ويهدي إلى "الرشد"، والتي «هي أقوم» أي أعدل وأصوب الطرق، وصفه بأنه "شفاء" و"هدى" و"بصائر" "كتاب عزيز" كلّ هذا الوصف الحافل الجامع لفضائله لحث المسلم على تعظيمه والاهتداء بآياته، والالتفات إلى أحكامه، والتفكر في محكم بيانه، والالتزام بما اشتمل عليه من تعاليم .
والاحتفاء بهذه النعم الجزيلة والشكر عليها لا يكمل إلا من خلال الإجادة أو القراءة -هناك قلم مصحح للتلاوة- والاعتماد على تفسير واضح وسهل؛ لتحقيق التدبر والإنصات، وإتقانه أو فهمه حتمًا عبادة كاملة، والالتفات إلى العلوم والمعارف المعاصرة لتحقيق فهم عميق للقرآن ليشمل الإعجاز التشريعي والأخلاقي والعلمي أو شتى ميادين العلوم.. الخ أصل الذكر تلاوة القرآن، فحين نفهم القرآن ونتعلمه ونتدارس أحكامه ورسالته سنقوّي صلتنا بالله تعالى، وأنّ القرآن ميسّر لمن أراد أن يحفظه أو يفهمه أو يسترشد به، من قرأ القرآن ليتذكر ويتفكر به ويتدبر وينصت لآياته سهل عليه ذلك، أفلا نعتبر ونتعظ وقد يسر الله القرآن للذكر؟ بدليل قوله: { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ {.
قراءة القرآن وشهر رمضان احتفاء بشهر انزل فيه القرآن، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه وأضاعه اللّه، لهذا فإن الانشغال بالقران في شهر القرآن هو تجديد العهد بأيام نزوله، كي نرزق العمل به، والشكر على نعمه وأفضاله أن أنزل علينا كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومن ليس في قلبه شيء من حفظ القرآن كالبيت المهجور الخرب، الخالي من الخير والصلاح، أو القلب الفارغ يحتاج إلى ملء جوانبه بالنور والحق كي يستنير القلب، وينشرح الصّدر ليصل إلى مرحلة التذوق والتلذّذ بذكر الله، وهو علاج لأمراض العصر مثل: الوحشة والقلق والاكتئاب، ويشكّل عقلية الإنسان المسلم ويصوغ حياته حاضرًا ومستقبلًا.
لهذا ذمّ الله الذين لا يتدبّرون مواعظه وآياته ويتفكرون في معانيه ومحكم تنزيله، بأنها "قلوب مقفلة" لا تقبل الخير وفهم آياته ( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالهَا ) بمعنى أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون، ويؤكّد هذا الزركشيّ بقوله: "مَن لم يكن له علمٌ وفهمٌ وتقوى وتدبر، لم يدرك من لذّة القرآن شيئاً".
ما يحدث الآن في مجتمعاتنا الإسلامية من الفتن والنزاعات والحروب الدمويّة، ملزم للمسلم بالرجوع إلى القرآن، هناك أئمة الضلال الذين يبغون الفتنة وفيهم سماعون لهم، ويتبعون متشابهه بتأويلات محرّفة ابتغاء الإيقاع بالشباب في تديّن معوّج يحمل شعارات حزبيّة وسياسيّة تتستر تحت مظلّة الدين، فيوقعونهم في شراك الضلالة تحت مسمّى أنه طريق الجهاد والجنة والصلاح، للنجاة من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحل لهذه الإشكالية هو بالرجوع إلى البوصلة الحقيقة للأمّة "القرآن الكريم" والاستهداء بنوره لتمييز الحق من الباطل والهدى من الضلال، وفي الحديث: (ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم(.

مقالات مشابهة

  • وزير خارجية السودان: لابد من التوصل إلى حل سلمي للقضاء على النزاع القائم في البلاد
  • وزير الخارجية السوداني: بلادي تواجه ظروفًا معقدة وأطماعًا خارجية في مواردها
  • القرآن..البوصلة الحقيقة للأمّة
  • جنوب السودان يقصف مسلحين في شمال شرق البلاد
  • السودان: استقرار نسبي في درجات الحرارة مع ارتفاع طفيف في الشرق والجنوب
  • حاكم دارفور يؤكد عدم وجود تجنيد مسلح في الإقليم
  • مناوي يشدد على ضرورة مقاومة دعوات انفصال دارفور
  • "الحقيقة" الأمريكية
  • مناوي ينفي وجود تجنيد للحركات وينادي بمقاومة دعوات انفصال دارفور
  • السودان: ارتفاع طفيف في درجات الحرارة واستقرار الطقس ليلاً