السودان: مشاهدات من واقع الحرب والنزوح والمعاناة
تاريخ النشر: 5th, March 2024 GMT
لم يكن هناك خيار متاح سوى النزوح، بعد ستين يوما من المعاناة في ولاية الجزيرة وسط السودان بعد أن استحالت أبسط مقومات العيش الحياة.
ولاية الجزيرة: التغيير
شهران بالتمام والكمال قضيتهما رفقة أسرتي بمدينة ود مدني حاضرة الجزيرة عقب دخول قوات الدعم السريع للولاية، في جو مشحون بالخوف والحزن والمعاناة وتردي الخدمات وصولا إلى انقطاع شبكات الانترنت والمكالمات الهاتفية.
توقف خدمات الاتصالات كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير لقطاع عريض من المواطنين الذين باتوا يعتمدون على التحويلات البنكية لتسيير إمورهم.
شبح المجاعةشبح المجاعة بات يهدد الكثيرين الذين فكروا جديا بمغادرة المدينة والنزوح إلى مناطق أخرى أو اللجوء إلى الأقطار المجاورة.
حسمنا أمرنا وقررنا الخروج، فقط مجرد الخروج من ود مدني والجزيرة بلا هدى أو هدف محدد، هربا من جحيم قوات (الجاهزية) وشبح الجوع وتذبذب الكهرباء وشح المياه وانقطاع الاتصالات.
المعضلة الأولى تمثلت في عدم وجود النقد الكافي للسفر بعد أن حبست الأموال في التطبيقات البنكية، الشيء الذي جعلنا نبيع بعض مقتنيات المنزل والمواد الغذائية بأثمان بخسة للحد البعيد لمن يشترونها مستغلين حاجة البائع.
قبيل شروق الشمس قصدنا جسر حنتوب بحثا عن مواصلات لمدن شرق السودان، تحركنا راجلين فالسيارات لا يقودها أحد سوى الدعامة، وعربات الكارو باهظة التكلفة.
وقتذاك انتشرت تمركزات مكثفة لقوات الدعم السريع في معظم المحطات الرئيسة بالمدينة، قال منشؤوها أنها أقيمت للحد من ظاهرة (المتفلتين).
عند أول ارتكاز وبعد أن تخطيناه بخطوتين فوجئنا بأحد الجنود ينادي علينا ويسأل بصوت جهور عن الوجهة وحينما اخبرناه أننا سنغادر الولاية قال: إن شاء الله ما نكون اتلومنا معاكم؟
أحزان وحقائبمضينا مثقلين بالأحزان والحقائب التي لم نلو على حملها فتارة نتوقف وتارة نجلس على جانب الطريق الخالي من المارة إلا لمامًا.
تمركز الأفراد زاد بصورة ملحوظة في الأحياء الراقية التي تحتوي على العمارات على غرار حي الزمالك والمطار وغيرها.
ويشاهد أفراد القوات وهم يتحلقون أمام هذه البيوت صباحا، في وقت نصبت فيه مضادات الطائرات في قمة المباني العالية.
اعيانا المسير فأنقذتنا سيارة دفع رباعي طلبنا من قائدها التوقف لتوصيلنا ففعل، بعد صمت طويل سألنا عن مقصدنا وحينما ذكرنا له أننا متوجهون إلى ولاية القضارف تطاير الشر من عينيه وقال مهددا: سوف نقنحمها بعد أسبوع.
ترجلنا قبيل جسر حنتوب، أوقفنا تمركز آخر ومضى شاب عشريني يتفحص الأوجه والهويات، قبل ان يسمح لنا بالمرور.
قطعنا الجسر مشيا على الأقدام، في تلك الجمعة، ونحن نشاهد أناسا قادمين إلى مدني وآخرين مغادرين.
وجدنا الحافلات المتجهة إلى القضارف، واخرى نحو مدينة الفاو فاخترنا الأخيرة.
بعد أن تحركت الحافلة بدأت رحلة المعاناة مع نقاط التفتيش التي بلغت ثمانية، لا يفصل بينها سوى أمتار قليلة.
عند كل ارتكاز يصعد جندي نحو الحافلة يتفحص الوجوه، يطلب من الرجال الترجل للتفتيش مع إبراز الهويات وأحيانا يقوم بمراجعة المستندات داخل المركبة.
تتفاوت المعاملة من نقطة تفتيش لأخرى، لكنهم يتفقون جميعا في عدم تفتيش النساء.
أسئلة وأسلحةتكثر الأسئلة عما إذا كان هنالك ضباط في الحافلة أو جنود يتبعون للشرطة أو الجيش، مع مفاجاة الشباب بنزع القميص من جهة الكتف لبحث اثر محتمل لحمل السلاح.
استغرقت نقاط الارتكاز اكثر من ساعة، والركاب يحتملون في خوف وضجر سخافات الجنود والإجراءات البيروقراطية.
آخر تمركز لقوات الدعم السريع كان شرقي مدينة ود مدني بين قريتي الشبارقة وحفيرة، دون وجود مظاهر عسكرية واضحة إذ لا توجد سوى سيارة دفع رباعي واحدة وعدد قليل من الجنود.
ذات الوضع ينطبق على أول نقطة تمركز للجيش قرب منطقة الخياري، التي قلت فيها اجراءات التفتيش من قبل أفراد الاستخبارات مقارنة بإجراءات الدعم السريع.
بعد توغلنا في مناطق سيطرة القوات المسلحة السودانية بدأت تظهر بعض المقاتلات المرتكزة هنا وهناك مع حركة حرة للمواطنين والسيارات والدواب.
وفي منطقة الشواك بولاية القضارف ازدادت إجراءات التفتيش دقة في نقطة العبور للمدينة، مع مراجعة للهويات والأمتعة.
بحلول الساعة الثانية والنصف دخلنا مدينة الفاو التي استقبلتنا بعدد من ارتكازات التفتيش حتى وصلنا الخيمة الرئيسية التي قضينا فيها اكثر من أربعين دقيقة قبل ان نبلغ السوق الشعبي.
بعد التزود بالماء والطعام استغلينا سيارة صغيرة نحو القضارف، فالحافلات ممنوعة من المغادرة لجهة انها ستصل بعد السادسة مساء وهو موعد حظر التجول.
غادرنا الفاو لنقابل ارتكازات عادية في الطريق تسأل فقط عن الوجهة مع نظرات روتينية للحقائب والوجوه.
دخلنا مدينة الفاو في السادسة تماما ووصلنا إلى سوقها الشعبي لنقضي ليلتنا تلك مع أحد الركاب الذي أصر على أن نبيت بمنزله.
وداخل المدينة نصبت عشرات الارتكازات التي يشرف عليها المستنفرون بمعاونة أفراد القوات النظامية الذين يوقفون السيارات العامة والخاصة، في مشهد فوضوي خلق ازدحاما عظيما أعاق حركة المرور.
بعد احد عشر يوما من انقطاع الانترنت فتحنا هواتفنا في لهفة بمدينة القضارف بعد ان وصلنا للمنزل، أخرجناها من مخابئها التي أودعناها فيها خوفا من السرقة، انهالت الرسائل المشفقة والسائلة عن احوالنا، قمنا بالرد على بعضها وغلبنا النعاس على أمل أن نصحو غدا للبحث عن منزل للإيجار، وهذه معاناة أخرى.
الوسومآثار الحرب في السودان حرب الجيش والدعم السريع ولا ية الجزيرةالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: آثار الحرب في السودان حرب الجيش والدعم السريع الدعم السریع بعد أن
إقرأ أيضاً:
معتقلون يكشفون عن إعدامات وتعذيب على أيدي الدعم السريع السودانية
نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية تقريرًا، ترجمته "عربي21"، استعرض شهادات مروعة لمعتقلين سابقين لدى قوات الدعم السريع السودانية كشفوا فيها عن عمليات إعدام وتجويع وتعنيف وحشية في مركز احتجاز تم اكتشافه حديثًا، مما أثار دعوات لإجراء تحقيق في جرائم حرب محتملة.
وذكرت الصحيفة قصة المعتقل "آدم" الذي يعتقد أنه قتل تحت التعذيب في أحد مراكز الاحتجاز التابعة للدعم السريع، في ولاية الخرطوم بالسودان، وعثر على مرتبة مضرجة بدمائه في منشأة عسكرية نائية.
وبعد ما يقارب عامين على اندلاع الحرب الأهلية الكارثية في السودان، يعكس رحيل آدم المحتمل الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها والتي تُطرح في جميع أنحاء البلاد، حيث يتميز الصراع بعمليات قتل غير مسجلة، واختفاء قسري، وعائلات تبحث عبثًا عن أحبائهم المفقودين.
كان المبنى الذي عثر فيه على آثار "آدم" يضم مركز تعذيب واضحًا تحت قيادة قوات الدعم السريع شبه العسكرية. ومع بدء الدعوات لإجراء تحقيق في حجم ما حدث في الداخل، من المأمول أن تبدأ محاولات التعرف على الجثث داخل مئات المقابر المجهولة القريبة.
قد توجد أدلة محتملة حول من قد يرقد في القبور المحفورة على عجل في دفتر ملاحظات بحجم A3 عثرت عليه صحيفة الغارديان على الأرض القذرة لمركز التعذيب. في كل صفحة مكتوبة بعناية بقلم حبر جاف، توجد قائمة بـ 34 اسمًا باللغة العربية بعضها مشطوب.
أيًا كانت هوية هؤلاء المعتقلين فقد عانوا وتعرضوا للضرب بشكل متكرر، وكانت الحياة اليومية مروعة بلا هوادة. تم حشر العشرات في غرف لا يزيد حجمها عن ملعب اسكواش. يصف الناجون أنهم كانوا محشورين بإحكام لدرجة أنهم لم يتمكنوا إلا من الجلوس وركبهم مطوية تحت ذقونهم بينما كانت زاوية من الغرفة مرحاضًا. عندما زارت الغارديان المكان، كان الهواء مليئا بالذباب والرائحة الكريهة لا تطاق. تغطي الكتابات الجدران. بعضها يتوسل الرحمة وإحداها يقول "هنا ستموت".
خلف باب شبكي تتدلى منه الأصفاد توجد عدة غرف بدون نوافذ بمساحة مترين مربعبن كانت تستخدم كغرف تعذيب، على حد قول ضباط عسكريين سودانيين. ووفقًا للإفادات التي أُدلي بها للأطباء، تعرض المعتقلون للجلد بشكل متكرر بالعصي الخشبية من قبل حراس قوات الدعم السريع. وأُطلق النار على آخرين من مسافة قريبة.
في منطقة يستخدمها حراس قوات الدعم السريع، خلفت ثقوب الرصاص ندوبًا في السقف. أولئك الذين لم يتعرضوا للتعذيب حتى الموت واجهوا مجاعة تدريجية.
وفي حديثه في قاعدة عسكرية في مدينة شندي، قال الدكتور هشام الشيخ إن المعتقلين كشفوا أنهم كانوا يتلقون كوبًا متواضعًا من حساء العدس، حوالي 200 مل، يوميًا. كانت هذه الإعاشة توفر حوالي 10% من السعرات الحرارية اللازمة للحفاظ على وزن الجسم. لذلك أصابهم الهزال بسرعة.
إلى جانب الانهيار الجسدي، كان المعتقلون محطمين نفسياً أيضاً. بعد أن حوصروا في مكان ضيق – وعدم وجود مساحة للتحرك – أصبح العديد منهم صامتين تقريبًا بسبب صدمة وجودهم. يقول خبراء الفظائع إن حجم موقع الدفن المؤقت غير مسبوق من حيث الحرب السودانية المستمرة. حتى الآن، لم يقترب أي شيء من حجمه.
تقول مصادر عسكرية فحصت الموقع إنه تم تحديد مكان كل جثة بكتلة خرسانية كشاهد قبر. عدد من القبور محاطة بما لا يقل عن 10 كتل خرسانية.
حثّ جان بابتيست غالوبين، من هيومن رايتس ووتش، الجيش السوداني على منح "وصول غير مقيد" للمراقبين المستقلين، بما في ذلك الأمم المتحدة، لجمع الأدلة. تعكس تجارب المعتقلين أيضًا الحرب الأوسع نطاقًا. منذ البداية، اتسم الصراع في السودان بهجمات ذات دوافع عرقية، وأفاد المعتقلون بتعرضهم لإساءات عنصرية في مركز التعذيب.
يقول الشيخ: "لقد تعرضوا للإساءة العنصرية كثيرًا. لقد عانوا من التحرش اللفظي والعنصرية". تم الاستهزاء بهم جميعًا على أنهم ينتمون إلى "دولة 56" في إشارة إلى العام الذي حصلت فيه السودان على استقلالها، وهو هيكل قال حراس قوات الدعم السريع للسجناء إنهم يريدون "تدميره".
ومما يؤكد بؤس وضعهم حقيقة أن جميعهم احتُجزوا على ما يبدو لأسباب بسيطة وتعسفية.
وحسب ما ورد، احتُجز معظمهم بعد منع قوات الدعم السريع من نهب منازلهم. ويقول الشيخ إن البعض اعتُقل بعد رفضه تسليم هاتفه الذكي. وعلى الرغم من أن جميع الذين عُثر عليهم في المركز كانوا من المدنيين، إلا أنه خلال الزيارة عثرت الغارديان أيضًا على العديد من بطاقات الهوية العسكرية السودانية الرسمية بين الحطام في أرضية المنشأة.
وكان من بين الحطام أيضًا علب من الحقن وعلب أدوية مهملة، بعضها يمكن أن يجعل المستخدمين يشعرون بالدوار والنعاس. وتعتقد مصادر عسكرية أن قوات الدعم السريع ربما استخدمت المخدرات للهروب من الواقع الرتيب لواجب الحراسة. وهو ادعاء تؤكده التقارير المتكررة عن مقاتلي قوات الدعم السريع المخدرين، فضلاً عن اكتشاف حديث على بعد ثمانية كيلومترات جنوب مركز التعذيب.
قبل عدة أسابيع، وبالقرب من مصفاة النفط الرئيسية في السودان، عثر ضباط مخابرات الجيش السوداني على مصنع على نطاق صناعي ينتج عقار الكبتاغون المحظور، قادر على إنتاج 100 ألف حبة في الساعة. وتم العثور على دليل على أن الأمفيتامين كان يستخدم محليًا ويُهرب إلى الخارج.
يثير اكتشاف مركز التعذيب التابع لقوات الدعم السريع ومصنع الكبتاغون القريب على نطاق واسع مقارنات غير مواتية مع سوريا، التي حولها رئيسها السابق بشار الأسد إلى أكبر دولة مخدرات في العالم. وبالمثل، يبدو أن الاكتشافات المروعة في القاعدة العسكرية شمال الخرطوم هي جزء من شبكة من مراكز التعذيب التابعة لقوات الدعم السريع حول العاصمة.
وقالت مصادر عسكرية إنهم عثروا مؤخرا على مركز آخر في جنوب الخرطوم. وهناك، كان المصريون من بين الذين تعرضوا للتعذيب، وبعضهم حتى الموت.
ومع اشتداد المعركة من أجل العاصمة ومع إحراز الجيش – المتهم نفسه بجرائم حرب وانتهاكات لا حصر لها – تقدمًا مطردًا ضد عدوه اللدود، فإن المزيد من الاكتشافات المروعة أمر لا مفر منه. ببطء، وبشكل صادم، سيظهر الحجم الحقيقي لأسرار السودان الرهيبة.